2000  تشرين الاول

1421  رجب  

  العدد

مجلة  

الإمام علي(ع)  ونظام الحكم

حامد السعيدي

الرؤية السياسية في الحكم

علاقة الحاكم بالشعب

الشريعة ونظام الحكم

الخطوط العامة في حكومة الإمام(ع)

المعارضة ونظام الحكم

فصل الجهاز القضائي عن الأجهزة الأخرى

الحكومة ومشروع السلام

الخطوط العامة في حكومة الإمام علي(ع)

إن الوقوف على أرضية لفهم ابعاد حكومة الإمام علي(ع) ورصد ستراتيجيته وايديولوجيته وفق المعطيات التاريخية يوقفنا على حقيقة أن الحكومة في عهده كانت حكومة دينية متكاملة تعتمد على الرؤية الإلهية الشمولية لابعاد الكون والإنسان والحياة وانه لا مجال لحكم العقل النظري والعملي بدون الرجوع إلى النص القرآني والنص النبوي وهذا لا يعني بالضرورة عدم إعمال الاستشارة والخبروية البشرية من قبل المتخصصين في تلك الدولة وخصوصاً في المجال العسكري والاداري حـــيث تضمنت الوثيقة التي بعث بها الإمام علي(ع) إلى مالك الاشتر (رض) والي  مصر) أهم الأفكار والمفاهيم السياسية والاقتصادية وشؤون الحكم والإدارة بل من أهم الركائز الفكرية والسياسية والادارية التي بعث بها رئيس دولة إلى أحد ولاته(1) وقد تضمن هذا العهد رسم الخطوط العريضة للسياسة العامة التي يجب أن ينتهجها الحكام في كل عصر على أساس المنطلقات الإنسانية الإسلامية التي تهدف إلى تنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تنظيماً دقيقاً وبناء العلاقات الداخلية في المجتمع الإسلامي على أساس العدل والحرية والمساواة سواءاً كان تعامل الحاكم مع الشعب أو مع رجال السلطة وفق سياسة تكفل للجميع الاستقرار والتقدم، وكما يوضح أسس العلاقات الخارجية مع العدو والصديق بشكل يحفظ للأمة كرامتها وعزتها واستقلالها التام. والذي يمكن ملاحظته في الدولة التي تشكلت في عهد الإمام علي(ع) هي دولة قائمة على النظام المركزي وهو خضوع المرؤوس للرئيس وتلقي تعليماته وتنفيذها من جهة أخرى (2) لكن طبيعة الدولة في ذلك الوقت لم يكن يشبه الدولة كما هي عليه الآن نظراً لأن الإقليم الممتد عبر مئات أو آلاف الكيلومترات لم يكن من السهل إيجاد وحدة متماسكة في الدولة الكبيرة ولأن النظام الجديد والاتصالات وانعدام الوسائل المطلوبة كان أحد الأسباب الرئيسية مما لم يمكّن الحكومة من إعطاء تعليماتها في كل لحظة للمرؤوسين والولاة والموظفين الحكوميين، لذا فقد كانت الدولة الإسلامية تعتمد (نظام اللاحصرية) أو (عدم التمركز) بحيث يتمتعون العمال الموظفون بصلاحيات واسعة جداً تخولهم اتخاذ القرار السياسي ولكن الخليفة يستطيع أن يتدخل في كل وقت في هذه الصلاحيات ومن هنا فهي - الدولة - تختلف عن (نظام اللا حصرية الحديثة) (deconcentation) تكون صلاحيات السلطة المحلية أوسع بكثير مما هي عليه اليوم ثم هي غير ثابتة لأن الخليفة يستطيع التدخل فيها عندما يشاء(3) فالدولة كانت أشبه بالكونفدرالية لكنها وحدوية تخضع لنظام تشريعي مركزي من قبل الحكومة الموجودة في العاصمة التي يقيم فيها الإمام علي وهي الكوفة آنذاك وكذلك يوجد تراتب هرمي تسلسلي فالسلطة تتمثل في خليفة المسلمين وهو الإمام علي(ع) الذي يصدر القرارات التشريعية ثم تنزل إلى السلطة التنفيذية والقضائية ثم إلى بقية المؤسسات والأدنى فالأدنى.

وإن من أهم الصعوبات التي تواجه الحاكم بعد توليه زمام الأمور هي مسألة تشكيل الوزارة وتوزيع الحقائب الوزارية في الدولة وتطعيم مؤسسات الدولة بالعناصر الكفوءة المختلفة والقادرة على تصريف الأمور(4) لذلك كان على الإمام علي(ع) أن يغير البناء السياسي والتشكيلة الوزارية التي كانت من قبله. فاعتمد على عزل العناصر الفاسدة واستبدل مكانها العناصر المؤمنة واصحاب السمعة الجيدة في الوسط الاجتماعي والسياسي والذين كان لهم بعد ذلك دور كبير في دولته وحكومته أمثال مالك الاشتر وعمار بن ياسر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الوجوه المعروفة بالورع والإيمان. ثم انه من الركائز الأخرى التي انتهجها هو عدم انحجابه عن الناس والمؤمنين والجلوس لسماع مشاكلهم مع السلطة والموظفين مما يكون ذلك سبباً للمتابعة فضلاً عن وضع شرطه سرية ترصد حركات الموظفين والعمال الحكوميين مما يساعد الإمام على سياسة العزل والتنصيب وأيضا التأمين الاجتماعي للعاطلين والعاجزين عن العمل بحيث يصرف لهم من بيت المال راتباً شهرياً وانعاش الاقتصاد عبر نظام اقتصادي يتيح للفرد التملك ضمن سياسة إحياء الأراضي فكان الإمام علي(ع) يشجع على التنمية الاقتصادية والزراعية فضلاً عن إلغاء المحسوبية والرشوة والطرق الملتوية في نظام الحكم الجديد واعتماده على المساواة وإلغاء الحواجز العنصرية في سبيل مجتمع متكامل.

الشريعة ونظام الحكم

إن جدل الدين والدولة كان قديماً قدم الإنسان بحيث لم تكن هناك فترة من الزمن خلت من هذا الصراع والجدل حول طبيعة الحكم في الدول هل الدين منفصل عن الدولة أو أن الدين والدولة مندمجان معاً يقول أحد الباحثين: فالاتجاهان الاساسيان هما الاتجاه البشري والاتجاه الإلهي، الأول يرى أن التشريع يضعه البشر بينما الثاني يرى أن التشريع يجب أن ينزل من عند الله عز وجل(5) ومن المعروف أن حكومة علي(ع) كان شكلها هو دمج الدين والدولة وعدم فصلهما فالدين هو المحرك للدولة وهو الذي يحدد سياستها الداخلية والخارجية، وكذلك النظام الاقتصادي والقضائي والعسكري والاجتماعي لأن طبيعة الدين الإسلامي هو دين ودولة وليس مجرد دين منعزل عن الممارسة السياسية لأن ذلك يبدو واضحاً من حاكمية الرسول(ص) على الناس وبناء الدولة الإسلامية التي كانت تنطلق من رؤية سياسية عالمية ويدلنا على ذلــك أن الصراع العسكري والحروب والغزوات والاسر، والعهود، والمواثيق، وجبي الاموال، وغير ذلك ما يدل على أن الفكر الديني هو فكر سياسي ديناميكي وليس مجرد طقوس ومراسيم فردية، وهذا يدل على أن الدين لا ينفصل عن الدولة والدولة لا تنفصل عن الدين وكل منهما يتحرك نحو الآخر كذلك في حكومة الإمام(ع) حيث أن كل أمر أو نهي صادر عن الخليفة (الشرعي) يمثل امراً أو نهياً مولوياً لانه يدور مدار الحكم الشرعي ويرى الإمام(ع) أن المشرّع الوحيد هو الله عز وجل وقد انزل دينه كاملاً إلى رسوله(ص) فجاء القرآن شاملاً لكل ما يلزم البشرية التي لم يتركها الله مهملة وقد بلغ الرسول(ص) عن ربه كل ما كلفه بتبليغه فلم يقصر(6) وقد جاء عنه(ع) في نهج البلاغة (إن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدى ولم يدعكم في جهالة ولا عمى وانزل عليكم الكتاب تبياناً لكل شيء وعمر فيكم نبيه أزماناً حتى أكمل له ولكم فيما انزل من كتابه دينه الذي رضي لنفسه وأنهى إليكم على لسانه محابه من الأعمال ومكارهه ونواهيه وأوامره وألقى اليكم المعذرة واتخذ عليكم الحجة وقدم إليكم بالوعيد وأنذركم بين يدي عذاب شديد)(7) فمن هذا النص نستطيع أن نستنتج أن الحكم ينطلق من رؤية قرآنية إلهية معتمدٌ على النص القرآني والسنة النبوية التي وفرت للإنسان كل ما يحتاجه بعلاقته مع الله والإنســان والطبيعة فكانت رؤية الإمام هو أن الدولة الإسلامية تحقق للإنسان سعادته الدنيوية والأخروية لأنها منسجمة مع نظام الكون الكلي الذي ينساب من الأفق الأعلى لسد حاجة الإنسان فالشريعة توفر القواعد العامة والخطوط الرئيسية عن أصول الحكم مع القابلية على انسجامها مع الزمان والمكان. فقد جاء الإسلام كما يقولون بشريعة، أي بعدة أحكام قانونية تنظم شؤون الحياة الدنيا (من أحكام مدنية وجنائية وأحوال شخصية... الخ) لذلك كان طبيعياً أن يعنى باقامة دولة وحكومة تعنى بتنفيذ تلك الأحكام القانونية ولقد قال تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)(8) (9).

فالحكومة الإسلامية في عهد الإمام علي(ع) هي انعكاس عن الشريعة وهي (أي الشريعة) انعكاس عن الله فالله متمثل في حكم الدولة والدولة تمثل الله هكذا كانت رؤية الإمام في الحكم وانه لا يتخذ قراراً أو حكماً إلا ويقدم أمر الدين على كل حساب ولذلك ربما يوصف بأنه غير سياسي كما جاء قبل عن بعض الكتاب بقوله: كان الإمام علي بطلاً شجاعاً مظفراً في جميع المعارك التي قادها أو خاضها قبل خلافته أما في خلافته فقد فارقه الحظ في الحرب وكذلك لم يكن الإمام علي(ع) موفقاً في السياسة. إن السياسة أمر دنيوي مبني على الدهاء والمكر بعيداً عن المرؤة والصدق وكان من سوء حظ الإمام علي(ع) أن كان خصومه وخصوصاً معاوية وعمرو بن العاص رجالاً دنيويين لا يبالون امراً ولا نهياً من أوامر الدين ونواهيه ولقد كان الإمام علي يعرف ذلك من نفسه ومن خصومه ويعد ذلك سبباً لقلة نجاحه في السياسة والحكم(10). إذن فالسياسة التي تتعارض مع مفهوم من مفاهيم الدين لا يكون لها أي اعتبار في نظر الإمام لانه كان يريد أن يحقق ظل الله في الأرض واقامة العدل والحرية وهي تتنافى مع قيم الفساد والرذيلة والخبث والدهاء والمكر والوصولية على حساب الدين والإنسان، فمعاوية كان يصل إلى اهدافه وغاياته عبر منظومة سياسية جوهرها مفهوم الغاية تبرر الوسيلة مع عدم عنايته بقيم الدين لأنه رجل دنيوي بخلاف الإمام علي(ع) فانه كان يرى أن الحكومة الإسلامية لابد أن تصل إلى غايتها بوسيلة شرعية شريفة معتمدة على الأخلاق والقيم العليا وانه لا يعتمد في سياسته على المنطق البراغماتي (الذرائعي) الذي يبرر الوسائل من اجل الوصول إلى الغاية مثلما اعتمده خصمه معاوية بن أبي سفيان في حكومته ولذلك نرى أن الإمام ينتقد هذا المبدأ بشدة ويقول: (ليس معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر)(11). أي أن معاوية يتبع سياسة تبرير الوسائل وهو ما يتنافى ورؤية الإمام لأنها تختلف مع المفاهيم الإسلامية إذ يعتقد أن الدين هو غاية الغايات وأن السعادة الحقيقية للمجتمع البشري تكمن في التمسك بمبادئ الدين الحنيف.

علاقة الحاكم بالشعب

إن علاقة الحاكم بالشعب في حكومة الإمام علي(ع) كانت تنطلق من رؤية أن الحاكم هو أحد أفراد المجتمع واحد منتسبيه بل أحد اكثر المجتمع مسؤولية وواجبية لأنه مسؤول أمام الله وأمام المجتمع بأكمله وبذلك تلغى كل الحواجز والاعتبارات التي تحول دون الاتصال بالشعب وتفهم مشاكله ومسؤولياته ولم يكن منصبه في الدولة يمثل له شيئاً ما لم يحقق الهدف منه وهو العدالة بين المجتمع واقامة الحق بينهم وهو بذلك يمثل الطراز الأعلى والأمثل من الحكام الذي نادى الحكماء والفلاسفة به ويحدثنا ابن عباس عندما لقي الإمام علياً(ع) في الكوفة وهو يخصف نعله فقال له الإمام: يابن عباس ما قيمة هذا النعل فقال لا قيمة له فقال الإمام علي: إن هذا النعل أفضل من خلافتكم عندي إلا أن اقيم حقاً أو ادفع باطلاً(12) ورغم المصاعب التي لاقاها الإمام من شعبه وخذلانهم له إلا انه لم يكن سبباً في عدم الرأفة بهم والتودد إليهم، رغم دعائه بان يستبدله الله بغيرهم ويستبدلهم بغيره إلا انه كان مثالاً في كل الميادين سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل حتى مع المعارضة كما في معركة الجمل والخوارج أمثال الزبير وطلحة وعائشة زوج النبي(ص) حيث قادوا حملة عسكرية ضده متهمينه بقتل عثمان ورغم كل ذلك نجده يتعامل معهم بمنطق انساني بحت ولم يستخدم نفوذه السياسي عليهم فحاورهم والقى الحجج عليهم ولم يبدأ بقتالهم حتى بدأوا بقتاله وبعد انتصاره عليهم تجاوز عنهم وارجع عائشة مع اخيها في عدة من النساء(13). إن الإمام كان ينطلق من رؤية أن البشر متساوون في الخلقة فهو لا يفرق بينهم في المعاملة والحقوق على أساس اللون أو القومية أو الغنى والفقر وكلهم سواء أمام القانون ولم يستثنِ نفسه من الدستور حيث ما نراه اليوم في الحكومات من امتيازات وحصانات خاصة للرئيس أو الحاكم، فهو يعتبر نفسه مسؤولاً أمام القانون في حالة تقصيره وعدم أدائه للحكم بصورة صحيحة بل يعتبر ذلك خيانة عظمى كما جاء في نهج البلاغة وعند اقتراح الناس عليه أن يميز في العطاء بين الكبير والصغير يقول (لو كان المال مالي لسوّيت بينهم فكيف والمال مال الله)(14) ويعقب أحد الكتاب على هذا المقطع فيقول: ومن هذا الاعتبار كان موقفه من طلب عقيل وعبد الله بن جعفر المساعدة، وكان موقفه عند ما أبلغ أهل الكوفة انه لن يأخذ حصته من العطاء حيث قال: (يا أهل الكوفة إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن)(15) إنها كلمة عظيمة تستحق الوقوف عندها والتأمل في هذا الرجل العادل الذي لم يخرج من الدنيا إلا بمدرعته التي طالما كان يستحي من ترقيعها ويؤكد على انه غير مستبدٍ وليس مرتشيا ولا يرضى بالفساد والخيانة مطلقاً. ونراه مع (عبد بن زمعة) عندما أتاه يطلب مالاً إذ قال له: إن هذا المال ليس لي ولا لك إنما هو فيء للمسلمين(16).

فهو يرى انه موظف مسؤول أمام أموال المسلمين وأنها مسؤولية مقدسة لا يمكن التفريط بها وأن التقصير خيانة وجريمة كبرى والحفاظ على أموال المسلمين واجب مقدس. والوثيقة التي بعثها الإمام علي(ع) إلى مالك الاشتر تشعرنا بأنه كان ناذراً نفسه لخدمة الشعب فيقول فيها (واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم فانهم صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على ايديهم في العمد والخطأ فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فانك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فانه لا يَدَيْ لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته) في هذا المقطع من عهد الإمام(ع) لمالك الاشتر نجد معاني سامية وعظيمة قلما توجد في حاكم من الحكام. إن هذه الوثيقة هي اعلان عن حقوق الإنسان والمواطنة تجاه السلطة أو الحكومة بشكل عام واعطاء الحقوق للفرد تجاه الحاكم والحاكم تجاه الفرد وتحديد مسؤوليتهما تجاه الآخر وبهذا تحكي الوثيقة مدى العلاقة الإيجابية التي تربط الرعية بالحاكم والعكس وهذا عين ما نراه من الممارسة العملية التي كان الإمام علي(ع) يمارسها تجاه أفراد شعبه من الرأفة والحنو والتودد حتى مع الد اعداءه بل مع قاتله عبد الله بن ملجم. وكان يشارك الناس في طعامهم وشرابهم وكان يتفقد الأرامل والأيتام والمعوزين ليلاً حاملاً كيس الدقيق على ظهره وطائفاً بين الازقة ليتفقد من لا عهد له بالقرص ولا طمع له بالشبع كان يعطف عليهم كالأب على أولاده بل أكثر، وهم ربما لا يعرفون انه الخليفة ولكن كل ذلك من أجل أن يكون واقعياً في خطابه وكلماته وإيمانه بالله ورغم كل سلبيات الرعية وتقصيرها تجاهه إلا انه لم يكن سبباً ليحول دون الرأفة والرحمة بهم وإن رجلاً مثل الإمام علي ينزل من علياء سلطته إلى بيوتات الناس ليسأل عنهم وعن أحوالهم ويتفقد صغيرهم وكبيرهم حريٌ أن يكون قدوة ومثالاً لباقي الحكام ولكل الإنسانية إذ أن قائد دولة عظمى بل أعظم دول الأرض في عهده الذي يتحمل مئات المسؤوليات الثقيلة في إدارة بلاده يشعر بمسؤوليته إلى هذه الدرجة بحيث يخرج إلى شيخ مقعد اعمى ويدير شؤونه بنفسه الشريفة ويضع ذلك جزءاً من برنامجه اليومي وبعيداً عن كل أنواع التكبر والاستنكاف يطهر وينظف ذلك الشيخ ويستبدل اثوابه كل يوم بغيرها ويطعمه حتى يشبع. نعم لا وجود لهكذا معاملة وسلوك في تاريخ كل القيادات إلا القيادات الإلهية فقط.(17)

الرؤية السياسية في الحكم

إن الرؤية السياسية التي تبناها الإمام(ع) في دولته كانت ذات آليات متطورة تبعاً للمنهج الإسلامي وتصوراته ولما يمتلك من خبرة دينية وعسكرية واجتماعية جعلته مؤهلاً لأن يكون صاحب منهج متميز في إدارة شؤون الدولة عسكرياً واجتماعياً لذا (يرى أمير المؤمنين أن بقاء القيادة السياسية الأولى للدولة في العاصمة وعدم خروجها للحرب اصلح فبقاؤها لإدارة شؤون الجنود والعسكر في الولايات وإدارة بيت المال واقتصاديات الدولة وبسط العدل والقضاء والعمل لاستقرار الدولة والمجتمع وتقدمهما بينما تذهب القيادات العسكرية لمحاربة العدو وقتاله)(18) لذا ربما عورض على هذه السياسة من قبل مجتمعه الذي يرى انه لابد من الخروج معهم لتعزيز موقفهم الميداني في الحرب لكنه كان يردهم ويوبخهم عن رفضهم لسياسته التي يراها الاصلح في تطور مجتمعهم خصوصاً والدولة عموماً فيقول (ما بالكم لا سددتم لرشد ولا هديتم لقصد أفي مثل هذا ينبغي لي أن اخرج وإنما يخرج في مثل هذا رجل ممن ارضاه من شجعانكم وذوي باسكم ولا ينبغي لي أن ادع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين ثم اخرج في كتيبة اتبع أخرى اتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ وانما أنا قطب الرحا تدور علي وأنا بمكاني. إلى أن يقول: هذا لعمر الله الرأي السوء)(19) إن رئيس الدولة لابد أن يقيم في العاصمة لأنه يمثل هرم النضوج السياسي الذي إذا ما تعرضت الدولة لحادث لابد أن يجد حلاً سياسياً سريعاً للخروج منه. وهذا ما هو عليه الآن الدول المتقدمة والحديثة في أن الرئيس يعتبر الموظف الأعلى وتناط به مسؤولية الإدارة العامة للدولة. ويلخص أحد الكتاب أهم الركائز الأساسية لسياسة الدولة الإسلامية عند الإمام علي(ع):

أولاً: إدارة كل شؤون الدولة.

ثانياً: منع الاضطراب السياسي للدولة في حالة الهزيمة وانتقال السلطة عند موت رئيس الدولة.

ثالثاً: منع التمرد والعصيان والانقضاض على الدولة وحفظها على ذلك.(20) هذا ونجد أن الإمام كان موضع استشارة الخلفاء في الدولة الإسلامية حيث استعان عمر بن الخطاب إبان خلافته على المسلمين برؤية الإمام السياسية حينما أراد قتال الفرس فقال الإمام له: (فكن قطباً واستدر الرحا بالعرب واصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من اطرافها واقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك) وكذلك مشاورة عمر بن الخطاب له في الخروج إلى غزو الروم فيقول (إنك قد تسر إلى هذا العدو بنفسك فتقلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفه - عاصمة - دون اقصى بلادهم ليس بعدك رجع يرجعون إليه فابعث لهم رجلاً محرباً واخفر معه أهل البلاء والنصيحة فان اظهر الله فذاك ما تحب وإن تكن الأخرى كنت رداءً للناس ومثابة للمسلمين.(21) وهذا يدل على أن نظرة الإمام للدولة كانت تتحرك وفق معطيات سياسية دولية رشحته أن يكون قائداً للدولة رغم كثرة المعارضين على سياسته ومنهجه ورغم عدم وعي القاعدة الجماهيرية بالمشروع السياسي الذي رسمه الإمام للدولة الإسلامية الكبرى.

إن الإمام علي(ع) كان من الممكن أن يمارس الاوتوقراطية أو الحكم الواحد ضد الشعب كما مارسه بعده الحكام والملوك ضد شعوبهم حتى ينبسط له الحكم والإدارة بصورة اكثر لكنه كان يرى أن الحكم لابد أن ينطلق من رؤية انسانية بحتة اساسها العدل وأن لا يتجاوز الثوابت الإسلامية للحاكم مهما كانت العقبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فكان من اللازم أن تحصل اخفاقات سياسية أو عسكرية نتيجة عدم نضوج الوعي الجماهيري ولذلك نرى أن الإمام اعلن عن ذلك بصراحة بعد اتهامه بأنه عديم الخبرة بالحرب قائلاً: (وافسدتم عليّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش أن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب لله ابوهم وهل أحد منهم اشد لها مراساً واقدم فيها مقاماً مني لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا قد ذرفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع)(22). وهكذا نرى الإمام في اكثر من موقف أن رؤيته السياسية تنطلق من معرفة جيوسياسية تجعل رأيه لا يجانب الصواب، وأن أفقه المعرفي جعله قادراً على استيعاب مجمل القضايا التي كانت تمس الدولة على المستوى الخارجي والداخلي كما نرى ذلك في قضية غزواته وحروبه في صفين والبصرة والنهروان وكيف انه وصلت بشائر الانتصار عندما اقترب القتال إلى رواق معاوية ولكن الدهاء السياسي لمعاوية ورفع المصاحف جعل من المقاتلين ينقسمون فيما بينهم ويوقفون القتال ويؤثرون على قرار الإمام(ع) ومثل هذه الوقائع والهزائم كثير مما يؤكد قصور القاعدة الجماهيرية وعدم النضوج الفكري السياسي.

الحكومة ومشروع السلام

إن قضية السلام لم تكن غائبة عن حكومة الإمام علي(ع) بل كانت حاضرة في كلماته وخطبه وممارسته في الحكم نظراً لما يمثل السلام من أهمية عالمية في الإسلام السياسي وتأثيره على الشعوب وتقدمها فشغلت باله وهمه في تحقيق هذا المشروع ضمن متطلبات الدولة وأهدافها. فالامام لم يكن يرى من الحرب إلا وسيلة لتحقيق هذا المشروع لتسود قيم الإنسانية والعدل في المجتمع الإسلامي وليحقق اكبر قدر ممكن من عزة وكرامة الأمة الإسلامية واستخدم لغة الحوار السياسي الذي يخلق جواً من الود والرحمة مما يذيب حواجز الخلافات والتشنجات فعالج قضية التحكيم بين الدولة الإسلامية ومعاوية على أساس الرضا بميثاق السلام الذي عقده بالرغم من عدم قناعته الشخصية بالتحكيم بالرغم من قناعته كذلك من خديعة معاوية لهم فيجيب الإمام على الجبهة التي تعارض الموافقة على قبول التحكيم بأنه - التحكيم - وثيقة سياسية صدرت من القائد الأعلى للدولة مفادها الوفاء لهم بعدم قتالهم وتأجيل ذلك إلى اشعار آخر ومستدلاً بقوله تعالى (وافوا بالعقود) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم وكيلاً إن الله يعلم ما تفعلون). وأبى أن يرجع وخرجت عليه الخوارج بسبب خلافهم حول الصلح ورغبتهم في فسخ وثيقة التحكيم وعدم احترامها فلم يغير من مبدئيته ذرة(23) فلم يكن من الممكن أن يخالف القانون الذي يؤمن به وينطلق به في رؤيته السياسية ولأن تداعيات الأحداث السياسية والاجتماعية ومدى تأثيرهما على سيسيولوجيا المجتمع جعلت من الإمام يتعامل مع الأحداث بواقعية مع ما يمتلكه من صعوبات حقيقية تجاه مجتمعه الذي كان يراهن على فشله وعدم قدرته على استيعاب مشروعه الذي انفق عليه الغالي والنفيس ويلخص بعض الباحثين في هذا الصدد أهم الآراء التي تدور حول السلام عند الإمام(ع) استناداً إلى الوثيقة التي بعثها إلى مالك الاشتر:

اولاً: الموافقة على السلام والصلح وعدم رفضه بشرط أن يكون فيه رضا الله سبحانه وتعالى فهذا الشرط الرئيسي.

ثانياً: أهمية قبول السلام والصلح تزاد بالمنافع التي يوفرها هذا السلام من راحة للجيش والجنود والارتياح النفسي والاطمئنان للحاكم واستقرار الوضع الأمني للبلد.

ثالثاً: الحذر الشديد من العدو بعد الصلح.

رابعاً: الوفاء بالمعاهدات وبنود واتفاقيات السلام وعدم نكثها.

خامساً: عدم نكث ومكر وخداع وخيانة العدو وإنّ احترام المعاهدات والمواثيق والعمل بها مشترك بين كل الناس ولا يختص بها المسلمون.

سادساً: يجب أن تكون المعاهدات ومعاهدات السلام صريحة وواضحة ودقيقة وإحكام بنود الصلح حتى لا تؤوّل، والالفاظ يجب أن تكون معينة ومقطوع ما تعنيه.

سابعاً: عدم تأويل بنود والفاظ الصلح والمعاهدات بالتأويلات الخفية لصالحك من جانبك.

ثامناً: عدم فسخ العقد والمعاهدة بغير حق بسبب ازمات الدولة.(24)

وهذه المبادئ هي ما تضمنته الوثيقة المبعوثة إلى والي مصر مالك الاشتر مبتدئاً بقوله(ع) (لا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك لله فيه رضا فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك ولكن الحذر الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليتغفل فخذ بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن إلى آخره...).(25)

فصل الجهاز القضائي عن الأجهزة الأخرى

إن من يقرأ حكومة علي(ع) قراءة موضوعية يرى فيها من التطور والتحديث ما هو موجود في الدول الحديثة التي جاءت عبر تراكم خبرات بشرية على مدى مئات أو آلاف السنين ويقول أحد الكتاب: (درج القدماء في الشرق والغرب على تولية القضاء رجالاً ذوي صفات تعنيها مصالح هؤلاء الحكام بأوسع معانيها ومصالح الطبقات التي تتبادل مع حكام هذه المصالح حتى إذا ساوى القانون بين طبقات الناس عطل القاضي هذه المساواة وحكم بهوى الحكام وأصحاب الامتيازات وتاريخ أوربا في القرون الوسطى يفيض بأخبار هذا النوع من القضاة وكذلك تاريخ الشرق العربي أيام الأمويين والعباسيين والمماليك والأتراك وغيرهم وأن الجرائم التي ارتكبها القضاة والمنحرفون هنا وهناك باسم العدالة لَمِمَّا يخزي جبين الإنسانية وليستوجب اللعنة على رؤوس أولئك القضاة(26) إن ما فعله الإمام(ع) هو فصل الجهاز القضائي عن السلطة وتأمين الحصانة الكاملة للقاضي بحيث لا يتأثر بحكمه القضائي أي جهة أخرى وهذا بالضرورة يعطي للقانون صفة النزاهة والموضوعية في الأحكام الصادرة من ذلك الجهاز ويؤمن للمجتمع الحقوق المدنية الكاملة وكانت السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية موحدة غير منفصلة في زمن علي فإذا به يخطو خطوة مبدئية إلى فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية كي يكسب القضاة حصانة ويؤمنهم من عقاب السلطة(27) وهذا ما نراه في الوثيقة المبعوثة لمالك الاشتر بقوله(ع) (واعطه - القاضي - من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من حاجتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك وانظر في ذلك نظراً بليغاً)(28) وبهذا يكون الإمام أحد المؤسسين للدولة المدنية الحديثة التي تكون فيها الحريات مكفولة مع حماية القانون. وهذا ما نراه بالضبط في الدولة الحديثة عند (مونتسكيو) قبل الثورة الفرنسية التي دعا فيها إلى المناداة بمبدأ الفصل بين السلطات حتى لا تتأثر كل سلطة بالأخرى ولم يقصد (مونتسكيو) الفصل التام بين السلطات وانما الفصل المرن بمعنى أن يكون هناك توازن وتعاون بين السلطات الثلاث في تحقيق الصلاح العام(29) وبذلك دعا إلى أن القانون هو الوحيد القادر على حماية الأفراد من السلطة التي تمثل الجهاز التشريعي والتنفيذي وحماية من الأفراد أنفسهم وبذلك يكون المؤسس الأول لدولة القانون وهو ما نراه من سيادة المساواة والعدل في دولته التي لم يشهد التاريخ مثلها وهكذا يكون علي(ع) قد سبق إنسان العصور الحديثة.(30)

ولما كان الجهاز القضائي له من الأهمية بمكان كان علي(ع) يوليه عناية خاصة لأنه يعتقد أن العدل بين أفراد المجتمع هو المنطلق الأساسي في إيصال المجتمع إلى تحقيق الأمن والسعادة الحقيقيتين فترجم ذلك عبر وقوفه أمام المحكمة بوصفه متهماً من قبل بعض الرعية والذي زرع بذلك الثقة في نفوس الناس بالعدل وعدم المحسوبية في حكومته (سلام الله عليه) وعدم ممارسة سطوته ونفوذه بوصفه حاكماً ورئيساً ليدشن بذلك بعد الرسول(ص) سيادة القانون وفصله عن بقية الأجهزة في الدولة واعطاءه كياناً خاصاً مقدساً لا يجوز التعدي عليه، ولو كان الرئيس أو الخليفة وكذلك ممارسته العملية في المجتمع بوصفه قاضياً يساعد القوة القضائية على حل المشاكل القانونية والجنائية لأن عليا اشتهر على لسان الرسول(ص) والأصحاب في انه اقضاهم وبذلك كان القضاء قوة حقيقية لضبط المجتمع في عهده وفض النزاعات وحل المشكلات والتأزمات الاجتماعية ورغم ذلك كان متسامحاً هو بالذات عند التعرض لقضية الحكم القضاء فنراه لم يقض في أية حادثة مطلقاً دون تحقيق وحتى بعد التحقيق لم يظهر رأيه بصورة فورية بل كان يؤخر إظهار رأيه قدر المستطاع رأفةً ورحمةً بالمتهم(31).

المعارضة ونظام الحكم

كان الإمام علي يتعامل مع مفهوم المعارضة بوصفه حالةً طبيعية ضرورية في المجتمع الإسلامي من منطلق انساني بحت فحرص على محاورتهم وبحث أسباب معارضتهم له مع تأمين الحماية الكاملة لهم ولأسرهم فنحن نرى تعامله مع معارضيه في حرب الجمل وحرب الخوارج حيث كان يذهب مع وفد من الصحابة أمثال عبد الله بن عباس أو مع مالك الاشتر أو غيرهم لفض النزاع والوصول إلى حل يضمن لهم ممارسة حياتهم الطبيعية داخل مجتمعهم فنرى ذلك في حرب الجمل عندما أراد الإمام علي قتالهم قال لطلحة عندما كان يريد قتاله: أولم تبايعني يا أبا محمد طائعاً غير مكره قال طلحة بايعتك والسيف على عنقي قال ألم تعلم اني ما أكرهت أحداً على البيعة ولو كنت مكرهاً أحداً لأكرهت سعداً وابن عمر ومحمد بن مسلمة أبوا البيعة واعتزلوا فتركتهم(32). النص هنا يوضح لنا أن الإمام كان لا يسلب من أحد إرادته أو مواطنته أو عطاءه رغم معارضته له وعدم الرضا بحكومته وهذا يدل على أن حكومته كانت حكومة شعبية منطلقة من آراء الأغلبية بالحكومة وأنه يتعامل بما نسميه اليوم (بالديمقراطية) (democracy) وهي حكومة الشعب وليس حكومة (اوتوقراطية) كما كان يحكمها معاوية مثلاً فحكومة علي(ع) كانت على طرفي نقيض من الحكومات التي سبقته وكذا حكومة معاوية التي كانت تتعامل مع المعارضين بالقتل والسجن والتعذيب كما هو الحال مع حجر بن عدي وجماعة من شيعة علي(ع) عندما قتلهم معاوية. وهكذا نرى أن توفير الأمن والحماية والسلام لأفراد الدولة والمنتسبين إليها يعد ضرورة حتمية فمهما كان المواطن معارضاً أو كارهاً للحكم ليس للحكومة عليه من سبيل إلا اللهم بأن يقود حرباً مسلحة ضد الحكومة فحين ذلك يجب على الحكومة ردع المتمردين وحفظ كيان الدولة وسيادتها الذي هو حق طبيعي لكل حكومة وبذلك كان المعارضون يلجأون إلى معاوية أو يذهبون إلى أقطار أخرى كالمدينة واليمن إلا أن معاوية حاول اغراء الكثير منهم وضمهم إليه عن طريق المال مما سبب بعض الضعف في حكومة الإمام علي، وقد انضوى تحت لواء معاوية كل من كان حاقداً على الإمام(33) ومن الذين التجأوا إلى معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب عندما خاف من إجراء القصاص والعقوبة بحقه من قبل الإمام لقتله الهرمزان غلام أبي لؤلؤة قاتل عمر وكذلك مصقلة بن هبيرة الشيباني عامل علي في إحدى خطط فارس وسبب ذلك أن مصقلة كان قد اشترى اسرى الخوارج من جماعة بن راشد السامي ولكنه التوى بما شرطه على نفسه من ثمنهم فلما طالبه بن عباس بأداء الدين قال لو طلبت اكثر من هذا المال إلى ابن عفان ما منعني إياه(34). وهكذا نرى صلافة المعارضين على الحكومة وتجرأها في القتل والسرقة والارتشاء وغير ذلك فحكومة الإمام كانت صريحة في رفض أمثال هؤلاء من الحقائب الوزارية وإقالتهم حتى وإن التجأوا إلى معاوية الخصم الأول. لأن المعارضة لم تنطلق من رؤية موضوعية في معارضتها بل كانت ميولاً واهواء ونزوات شخصية على حساب الشعب وهذا ما رفضه الإمام علي(ع) لأنه كان همه الأول والأخير هو سعادة الشعب وتوفير القسط الأكبر من العدل والحرية(35) بل اكثر من ذلك حيث نرى أمير المؤمنين(ع) يحترم حقوق الإنسان السياسية إلى درجة منقطعة النظير عن غيره من الحكام والرؤساء كعفوه عن الخونة أمثال (عبيد الله بن الحر الجعفي)(36) عندما التحق بجيش معاوية في جوف الليل ذلك حين كانت نيران حرب صفين مشتعلة. وفي قوانين الحروب يعاقب مثل هذا الخائن بالإعدام واستطاع أن يقدّم عبيد الله خدمات كبيرة لمعاوية أما زوجته فكانت في الكوفة وتناهى إلى أسماعها خبر هلاك عبيد الله في المعركة فاعتدت عدة الوفاة وبعد ذلك تزوجت برجل من أهل الكوفة في الوقت الذي كان عبيد الله حياً في الشام وحين اخبر بزواج زوجته خرج من الشام ليلاً ووصل إلى الكوفة ودخلها ليلاً وتوجه فوراً إلى بيت زوجته وبعد حوار قصير اخبرته بزواجها. والتقى عبيد الله بأمير المؤمنين منكسا رأسه وعبيد الله يعلم أن علياً رجل الحق والعدل فانتهز الفرصة وقال هل أن خيانتي تمنعك من العدل يا أمير المؤمنين فأجابه الإمام واحضر زوجته وحل له مشكلته الشخصية إن هذا الموقف من حاكم الدولة تجاه أحد أفراد شعبه يعكس مدى عمق الوعي الحقوقي والإنساني تجاه الشعب من قبل علي(ع) بل تجاه الأعداء والمجرمين والخونة كل ذلك في سبيل تحقيق العدل والحرية والسلام.

إن ضمان الحريات في حكومة الإمام علي(ع) تعتبر من أهم الركائز التي بنيت عليها الدولة إذ أن المواطن يعيش في دولة تضمن للفرد الحرية التعبيرية والنقدية للسلطة والحكومة وقد جاء أن أحد الخوارج سب أمير المؤمنين بقوله (قاتله الله ما أفقهه) وهمّ أصحابه بقتله فردع أصحابه عن ذلك وأكد لهم القاعدة الشرعية التي تأمر بعقوبة متناسبة مع الجريمة حتى ولو كانت واقعة على رئيس الدولة مع عدم نسيان الحث على العفو فقال: رويداً إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب(37) وفي كلام آخر له يقول (لا تتبع الذنب العقوبة واجعل بينهما وقتاً للاعتذار) إن الارتقاء بهذه الحريات وضمانها للشعب لهو جديرٌ بان يكوّن شعباً يحرص على قائده وحاكمه ولكن لم يكن هذا الشيء بل على العكس كانت نتيجته السب والشتم والقتل من قبلهم له. إن الإمام كان واثقاً من أن إعطاء الحريات وضمانها للآخرين سوف يعزز الثقة المتبادلة بينه وبين الشعب عموماً والمعارضين خصوصاً وهو بذلك يؤكد على أحقية الإنسان في حرية حركته السياسية وتعبيره الشخصي ولا يقف حائلاً دون ابداء ما يختلج في ضمائرهم وصدورهم ورغبة في تحقيق مجتمع مثالي تسوده الأخلاق والعدل والقانون.



1 - الحكم والإدارة الشيخ علي الصلاح.

2 - الإمام علي ومشكلة نظام الحكم.

3 - نفس المصدر.

4 - الإمام علي ومشكلة نظام الحكم.

5 - المصدر نفسه.

6 - المصدر نفسه.

7 - نهج البلاغة.

8 - سورة المائدة/ 50.

9 - مبادئ نظام الحكم في الإسلام/ عبد الحميد متولي.

10 - تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون/ عمر فروخ.

11 - نهج البلاغة/

12 - نهج البلاغة/

13 - الإمامة والسياسة.

14 - نهج البلاغة/

15 - الإمام علي ومشكلة نظام الحكم.

16 - نفس المصدر.

17 - الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين(ع) (الشيرازي).

18 - الاستراتيجية العسكرية عند الإمام علي(ع).

19 - نفس المصدر.

20 - المصدر نفسه.

21 - نفس المصدر.

22 - نهج البلاغة.

23 - الاستراتيجية العسكرية عند الإمام علي(ع).

24 - الاستراتيجية العسكرية عند الإمام علي(ع).

25 - نهج البلاغة.

26 - على صوت العدالة الإنسانية.

27 - نفس المصدر.

28 - نهج البلاغة.

29 - النظم السياسية والحريات العامة.

30 - على صوت العدالة الإنسانية.

31 - الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين(ع) (الشيرازي).

32 - (علي ومناوؤه) الدكتور نوري جعفر.

33 - (علي ومناوؤه) الدكتور نوري جعفر.

34 - نفس المصدر.

35 - علي صوت العدالة الإنسانية، جورج جرداق.

36 - الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين.

37 - علي ومشكلة نظام الحكم.

هل لديك مناقشة او سؤال او رد حول هذا الموضوع ؟