2000  تشرين الاول

1421  رجب  

  العدد

مجلة  

ترجمة فرنسية لـ(نهج البلاغة)

أن تقوم دار نشر فرنسية معروفة باصدار كتاب يتضمن ترجمة لمختارات ومقاطع من كتاب (نهج البلاغة) للإمام علي بن أبي طالب، لهو في حد ذاته حدث نشري ومقالي يستحق التوقف عنده. وقد صدرت هذه الترجمة بالفعل منذ ثلاثة أسابيع فقط، لدى دار (سند باد - أكت سود) في باريس، في كتاب يقوم في 115 صفحة من القطع المتوسط وفي عنوان (أحاديث للإمام علي) ذكرت ذلك جريدة المستقبل في عددها رقم 418. ويتوزع الكتاب على سبعة فصول أو محاور تعكس إلى حد بعيد الشواغل والموضوعات المركزية (لنهج البلاغة) الذي بات منذ عقود من السنين يحظى بقيمة مرجعية، وعلى مستويات عدة، لدى قطاعات واسعة في العالم الإسلامي، وربما غني عن القول أن ترجمة مقاطع إلى الفرنسية من كتاب مثل (نهج البلاغة) تتطلب جهداً يكاد يكون استثنائياً، إضافة إلى الجهد الذي يستدعيه اختيار واصطفاء المقاطع، وترتيبها بطريقة تسمح للقارئ الفرنسي أو الناطق بالفرنسية، بمقاربة شخصية الإمام علي ذات الأبعاد المتعددة، تاريخياً وروحياً واسلوبياً.

الباحث التونسي المقيم في فرنسا، يوسف الصديق، الذي قام باختيار المقاطع ونقلها إلى الفرنسية وتقديمها، كان يعلم على الارجح أن إصدار هذه المختارات من (نهج البلاغة) يندرج في إطار سياسية نشرية تتعهد نقل وجوه واعمال بارزة من التراث العربي أو الإسلامي إلى جانب أعمال ادبية وفكرية حديثة ومعاصرة، وهي سياسة تتمتع بمواصفات ومعايير تجمع بين التنوع وبين الاستمرارية بحيث باتت دار (سندباد - اكت سود) تمتلك وحدها خطة ومنظاراً لنشر الأعمال العربية والإسلامية في فرنسا.

خلال حديثنا معه في باريس قال يوسف الصديق بأن معايير اصطفائه واختياره للمقاطع التي نقلها إلى الفرنسية تستند بالدرجة الأولى إلى مسعاه لتقديم صورة اكثر رحابة عن كبار رجال الإسلام وتناول شخصياتهم واعمالهم في منظار انساني وتاريخي واسع.

وفي هذا السياق المتصل بدوافعه لترجمة مختارات من الحديث النبوي ومن (نهج البلاغة) يستشهد يوسف الصديق بعبارة كان يرددها امامه صديق تونسي يعمل طبيباً نفسانياً، واسمه (صدّيق الجدي)، كان هذا الاخير يقول بأنه لا يمكن تأسيس وتأكيد حقيقة أن العربي عبقري، في ايامنا هذه بالطبع، إلا إذا قال أحد الفرنسيين أو الغربيين عموماً، من نافذي الكلمة وأصحاب الشأن، بأن هذا العربي أو ذاك عبقري، والحال، يضيف يوسف الصديق بمرارة مشوبة بالاحتجاج ، أن هناك عبارات لمفكرين غربيين أصبحت بمثابة مثالات وامثولات عالمية، علماً بأننا نجد لدى اسلافنا، خصوصاً في الأحاديث النبوية وفي نهج البلاغة، عبارات تضاهي هذه الامثولات بل حتى تفوقها من حيث العمق والدلالة، إلا أنها بقيت مجهولة لا يعرفها الغربيون. وهذا ما دفعني، من بين دوافع واعتبارات اخرى، إلى ترجمة الأحاديث. صحيح أن الترجمة هي أيضا مصدر عيش لي، لكنني لا اترجم أي شيء واياً كان، (بل اعتبر أن هذه الترجمة تندرج في إطار حوار مع الغربيين من شأنه أن يساعدهم على معرفة مخزوننا الفكري والثقافي).

لماذا يقيّض لعبارة الفيلسوف، وورد سْوُرث القائلة بأن (الطفل مستقبل العالم) أن تنتشر وتطير مثلاً، فيما تظل عبارة الإمام علي(ع) (لا تُقسروا اولادكم على آدابكم، فانهم مخلوقون لزمان غير زمانكم) مجهولة وغير متداولة، يتساءل يوسف الصديق مستغرباً ومستنكراً بعض الشيء.

لهذه الاعتبارات يتمنى يوسف الصديق أن تساهم ترجماته في اعادة الاعتبار إلى المخزون الروحي والعقلاني للثقافة الإسلامية التي لا تتعارض جوهرياً مع العقلانية والديموقراطية خلافاً لاعتقادات شائعة منذ عقود وحتى ايامنا هذه، عن تعارضهما واستحالة التوافق بينهما، وعن نظرته إلى شخصية الإمام علي واعجابه به.

أما في ما يتعلق بالشبهات والنقاشات التي دارت حول كتاب (نهج البلاغة) وهل تصح نسبته حصراً إلى الإمام علي(ع) كما يقول جامع الكتاب الشريف الرضي فإن مترجم الكتاب إلى الفرنسية لم يتردد في ما قال لنا، إلى انه يوافق في نهاية الامر، على عبارة الاستهجان التي اطلقها الأمير شكيب ارسلان حيال هذه الأقاويل والشبهات.

لم تكن ترجمة المختارات المأخوذة من (نهج البلاغة) مجرد عمل آلي وحرفي، فإلى جانب التدقيق في النسخة التي حققها الشيخ المصلح محمد عبده في نهاية القرن التاسع عشر وفي النسخة التي شرحها ابن أبي الحديد، قام يوسف الصديق بدراسة وجوه اخرى، تاريخية ولغوية، بغية تأمين افضل الشروط الممكنة لضمان سلامة الترجمة.