2000  تشرين الاول

1421  رجب  

  العدد

مجلة  

كيف يتنازل الفقيه عن رأيه في مقابل الأكثرية  ؟ 

ناصر حسين الاسدي

 مبدأ الأكثرية اضطراري وعقلائي

مبدأ الأكثرية من لوازم الشورى

ليست الأكثرية مذمومة دائماً

مبدأ الأكثرية ليس مصادرة لحق الأقلية؟

هل الأكثرية حجة شرعية؟

رسول الله(ص) ومبدأ الأكثرية

الأقليـة الكفـوءة

في صدر الحديث عن الوجوب الشرعي والعقلي لشورى الفقهاء المراجع تقف أمامنا شبهة كبيرة مفادها: أن الفقيه لو ثبت لديه بالدليل رأي معين فكيف يجوز له التنازل عنه واتباع الأكثرية المخالفة لرأيه؛ فهل موقفه هذا شرعي مع أن الفقيه لا حجة عليه إلا رأيه الخاص فكيف يتبع الآخرين ويغادر رأيه؟؟

فبحثنا في مبدأ الأكثرية محاولة لإيجاد مخرج شرعي للفقيه الذي يضطر لاتباع الأكثرية..

(1)

ليست الأكثرية مذمومة دائماً

من المفروض أن يحكم مبدأ (الأكثرية) على أجواء (شورى الفقهاء المراجع) بل إن مصداقية كل شورى تتحقق بمبدأ (الأكثرية) (... وإن قوبل هذا المبدأ الواضح بالإنكار والاهمال أحياناً...)(1). أما لو قدم رأي الأقلية وفرضت وجودها ورأيها على الأكثرية، وهذا يعني: عدم اعتراف بالأكثرية، وهدراً لحقوقها، ومصادرة لكرامتها الحقوقية وانقلاب نظام الشورى إلى الاستبداد..

إلا أننا ومع دراستنا لنظرية (شورى الفقهاء) نواجه اشكالاً ضمنياً يقول: إن الأكثرية مُدانة ومذمومة في الكتاب العزيز قال تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)(2) وقال أيضاً: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)(3) كما أن (الأقلية) ممدوحة بقوله تعالى: (وقليل من عبادي الشكور)(4).

ولكن رد أصحاب نظرية (الشورى) هذا الإشكال بقولهم:

إن الكتاب العزيز لم يذم الأكثرية مطلقاً، بل إنها مذمومة حين تكون منحرفة عن سبيل الله، أما إذا كانت خاضعة لنهج الله القويم كما لو كان (سبيلاً للمؤمنين) وتتبعه الأكثرية، وتكون الأقلية متبعة (لغير سبيل المؤمنين) كما في تعبير الكتاب العزيز حيث قال: (... ويتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنم)(5) وكما لو كانت الأكثرية المطلقة مؤمنة كما في عهد الإمام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) وكما حدث في زمان النبي العظيم نوح(ع) حيث لم يبق من أهل الأرض إلا المؤمنون، بعد أن أغرق الله كل المشركين والظالمين..

وكذا يقال بالنسبة للأقلية، حيث انها نسبية، فأهل الأرض أكثرهم كارهون للحق.. فتكون الأقلية ممدوحة وشاكرة لربها، كما أن المحتمل أن المقصود من (شكور) في الآية السابقة هو الشكر التام، لذلك وردت الكلمة بصيغة المبالغة، لأن كلمة (شكور على وزن فعول، معناها: كثير الشكر).

(2)

مبدأ الأكثرية من لوازم الشورى

ثم أن من لوازم (الشورى) الأخذ بالأكثرية، وإلا تفقد (الشورى) معناها ومصداقيتها، وتتحول إلى استبداد.. (إن تقديم رأي الأكثرية هو من مستلزمات المشورة المقررة في الكتاب والسنة والاجماع والعقل)(6).

(... صحيح أن باستطاعة المسلمين أن يعتمدوا الاجماع ويعملوا به في أمورهم وبذلك قد اعتمدوا (أصل الشورى) واحترموا رأي الأكثرية، إلا أن اتفاق الآراء وإجماعها على المسائل التنفيذية أمر غير ممكن، وسيرة رسول الإسلام(ص) وعلي(ع) وسائر قادة الإسلام تؤكد أنهم حين اجراء (الشورى) كانوا يتبنون الرأي الأرجح، ويأخذون بالأكثرية...)(7).

فقانون (الشورى) حاكم على (حق الأقلية)(8) أي أن الشورى تضيق نطاق حق الآخرين في تبني أي رأي وحقه محفوظ ما لم يتصادم ورأي الأكثرية (بالطبع: المقصود من الحق هنا هو: تبني الرأي المخالف في الموضوعات العامة الخاضعة لشورى الفقهاء، وإلا فإن الحقوق كلها كولي للأمر محفوظة له، حتى لو كانت مخالفة للفقهاء الآخرين).

(3)

مبدأ الأكثرية اضطراري وعقلائي

وإن مبدأ (الأكثرية) يفرض نفسه، لأن في (الموضوعات العامة) نواجه موقفين لا ثالث لهما، وفي كليهما محاذير معينة، فنكون أمام مهم وأهم، وكذا يواجه من يتبنى موقف الأقلية هذا الأهم والمهم، فإما أن يختار (المهم) وهو رأيه الذي يوافق الحقيقة في نظره، أو (الأهم) الموافق للأكثرية المخطئة (في نظره أيضاً) وانما يعتبر أهم من رأيه الخاص لأن نظام الشورى يعتمد عليه فلو رفض الأكثرية فإنه رفض الشورى من الأساس (... ولماذا الرجوع إلى الأكثرية؟ لأن مجلس الفقهاء يعني مجلس مجتهدين، وكل واحد يفترض أن يملك الولاية، فيملك اتخاذ القرار، فإذا قررت الأكثرية فالمجتهدون هم الذين يقررون..)(9).

فاتباع هذه (الأكثرية) أمر عقلي لا بد منه.. ولا يمكن بحال إقرار رأي الأقلية كقانون عام، لأن ذلك استبداد، وهضم لحقوق الأكثرية، ولا يمكن أن تقرر أيضاً بصورة استثنائية، لأنه لا مرجح لهذا الموضوع على ذاك حتى يؤخذ برأي الأقلية مرة ويطرح أخرى، ولا يمكن طرح الرأيين معاً أو الأخذ بهما معاً، لأن الموضوعات العامة تفرض الموقف الايجابي أو السلبي (حرب أو لا حرب) وتهم كل الأمة دون تفريق بين جماعة وأخرى، فالأضرار عامة على الكل، والمنافع شاملة للكل أيضاً.. فنحن مضطرون ومحكومون برأي الأكثرية، ولا طريق لنا غيرها.. (فكيف نحدد الصواب من الخطأ في مسألة اجتهادية، وكيف نعرف الأصلح من عدمه فيها، وإذا لم يكن رأي الأغلبية هو المعيار والدليل الترجيحي، فما هو الدليل؟ وما هو البديل؟؟)(10).

(4)

رسول الله(ص) ومبدأ الأكثرية

وكان رسول الله(ص) ملتزماً بمبدأ الأكثرية لو لم تخالف نصاً حتى لو انعقدت على خلاف رأيه(ص) ومن الأحداث الجسام في تاريخ الإسلام التي استشار فيها الرسول(ص) أصحابه، وأخذ بأكثريتهم المعارضة لرأيه:

1 - حرب (أحد) في العام الثالث من الهجرة، حيث جاءت قريش مستعدة لحرب رسول الله(ص) ونزلت قبل جبل أُحد، وعرف النبي(ص) بقدومها فاستشار الصحابة مبيناً رأيه الخاص بالبقاء في المدينة وإذا دخل القوم الأزقة قوتلوا ورموا من فوق البيوت، ولكن الأغلبية رأت الخروج حتى لا يقال عنهم أنهم جبنوا عن لقاء العدو، فلما صلى الرسول(ص) الجمعة، لبس لامة الحرب، ثم أذن في الناس بالخروج(11).

قال المرحوم المحقق العظيم النائيني (قدس سره) معلقاً حول موقف النبي(ص) في الخروج إلى(أُحد): (في غزوة (أُحد) مع أن رأي رسول الله(ص) المبارك وجماعة من أصحابه كان عدم الخروج من المدينة المشرفة مرجحاً التحصن فيها، وتبين بعد الحرب أن المصلحة والصواب كان في البقاء في المدينة ولكن رغم ذلك خرج الرسول من المدينة لكون الأكثرية أيدت ذلك.. فتحمل(ص) تلك المصائب الجليلة)(12).

2 - وكان رأيه(ص) في حصار الطائف الرجوع، فلم يرض الناس وقالوا: نرحل ولم نفتح علينا الطائف؟ فقال لهم وقد نزل على رأي الأكثرية: (فاغدوا على القتال) فرجع(ص) عن رأيه حتى إذا استبان لهم عدم جدوى البقاء قال لهم الرسول(ص): (إنا قافلون غداً) فسُرّوا بذلك وفرحوا..(13).

(5)

هل الأكثرية حجة شرعية؟

فلو قامت الأدلة الشرعية والعقلية لدى الفقيه على أن الأكثرية مخالفة لحكم الله، فهل أن الفقيه المعارض محكوم بها وبتعبير آخر: هل الأكثرية حجة شرعية ككتاب الله وسنة رسوله؟؟

الجواب: إن (الأكثرية) ليست حجة شرعية ولا تغير حكم الله، ذلك لأن الحجج الشرعية أمور خاصة ليست الأكثرية ضمنها، وأن (مباحث الحجة) تبحث (الأحكام) و (الأكثرية) ترد في (الموضوعات) وأن مئات الروايات والعديد من الآيات الواردة في الشورى إنما تخص (الموضوعات) لا (الأحكام)..

و(الشهرة) الباعثة على الظن النوعي، والتي هي عبارة عن الأكثرية من الفقهاء ليست حجة كالكتاب والسنة والاجماع والعقل، بل الشهرة حجة في الرواية لا الفتوى وحتى (الاجماع) لو لم يكشف عن رأي الإمام المعصوم(ع) لا يعتبر حجة..

فالأكثرية، واردة في الموضوعات، أي في تنفيذ الأحكام، وأدلة الطرفين تكون في كل الأحيان أو أكثرها ظنية، فليس لأقلية بأي حال من الأحوال الادعاء بأن رأيها هو حكم الله الواقعي..

الأكثرية واردة في: هل أن هذه الخطة السلمية أقوى لمواجهة العدو أم العسكرية، وهل أن الاعلام يستحق صرف (مليون) دينار سنوياً أو (مليونين).. وغيرها من مئات الموضوعات فلا ربط لها بتغيير أحكام الله.

مضافاً إلى ذلك، أن الأقلية من الفقهاء، لهم رأيهم المحترم وحقهم في التحرك على أوسع نطاق، وشرح أدلتهم لفقهاء الأكثرية، أو كوادرهم، أو القاعدة الجماهيرية، لغرض خلق تيار معارض بنّاء، وتحويل اتجاه الأكثرية إلى اتجاهها..

أما في مقام التنفيذ فلا يمكن عقلاً في الواقع الخارجي من الجمع بين الرأيين أو الأخذ بالأقلية و (أن العقل البشري لم يستطع حتى الآن أن يبتكر وسيلة يصل بها إلى اتفاق حول الشؤون المشتركة للمجتمع خيراً من مبدأ الأخذ برأي الأغلبية)(14).

وموقف الأمة تابع للأكثرية أيضاً، لأنها باتباع رأي الأقلية ضربت برأي الأكثرية عرض الجدار، وهو حرام قطعي، ورد على الله، وهو على حد الشرك بالله.. ولا تستطيع التفكيك.. لكي يأخذ مقلد برأي مرجعه، ومقلد الأكثرية برايهم، لما قلناه سابقاً من أن (الموضوعات العامة) غير قابلة للتفكيك، فغنمها للكل، وغرمها على الكل.. وربما أيد ذلك مفهوم آية النبأ: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإٍ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)(15)، فإن تعليل عدم جواز الانسياق وراء شيء لا يعد في العرف جهالة لا بأس به، ومن المعلوم أن الأخذ برأي الأكثرية لا يُعدّ في العرف جهالة.

ولعل الحديث الشريف: (خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر، فإن المجمع عليه لا ريب فيه) يفهم منه: (أن جانب الأكثرية هو الأرجح الذي يلزم تبنيه.. والعلة المذكورة في قوله(ع): (فإن المجمع عليه لا ريب فيه) تعمم المورد، فلا تختص بالمقام المذكور في الحديث، كما أن (المجمع عليه) يقصد به الأكثرية ظاهراً لا المجموع كلهم، بقرينة قوله(ع): (ودع الشاذ النادر) مما يدل على عدم وجود (المجمع عليه) بل أكثرية في مقابلها أقلية شاذة نادرة.. هذا من جهة..

ومن جهة أخرى: قد انعقد (بناء العقلاء) على الأخذ بالأكثرية أيضاً.. في كل زمان ومكان.. لأن اتباع (الأكثرية) أمر عقلي لا يختلف فيه اثنان في الموارد التي لا طريق لها إلا الأقلية أو الأكثرية..

مضافاً إلى ذلك، فإن الروايات الداعية إلى لزوم الجماعة، والسلوك في (سبيل المؤمنين) وحفظ رباط الوحدة، تؤيد الأكثرية أيضاً، كقول الرسول الأعظم(ص): (يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ إلى النار) ورواية أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه) عن النبي(ص) أنه قال: (اثنان خير من واحد وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة)(16)، فلا وجه بحال من الأحوال للأخذ برأي الأقلية.. في الأحكام الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأمثالها، فيما لو كان المتشاورون فقهاء متكافئين.

(6)

مبدأ الأكثرية ليس مصادرة لحق الأقلية؟

قد يرد هذا السؤال على بعض الأذهان، فتعتبر الشورى مصادرة لرأي الأقلية وسحق حقها، وقد ورد في الحديث الشريف (لا تبطل حقوق المسلمين فيما بينهم) إلا أن هذا الشعور لا أساس له من الواقع ذلك لأن الأخذ برأي الأكثرية من مستلزمات الشورى.. وإلا فلا تتحقق الشورى وتترك مكانها للاستبداد، والحديث الشريف ليس هذا محله، بل ورد في أمور أخرى.. هذا أولاً..

وثانياً: إن الأقلية ليست ثابتة على جماعة معينة، وكذا الأكثرية.. فالأقلية التي يطرح رأيها اليوم في مسألة ما، يؤخذ برأي آخر لها غداً فيما لو صَوَّبته الأكثرية وأن الأكثرية الظافرة في مسألة معينة يطرح رأي بعضها فيما لو وقفت مع الأقلية في مسألة أخرى.. فليس هناك قانون عام في الشورى لأخذ رأي جهة معينة ثانية، وطرح رأي جهة أخرى، ذلك لأن الأكثرية أو الأقلية ليست لاصقة بجهة معينة وثابتة عليها.. فالحق في نظام الشورى متكافيء، ولا يشعر أحد بأنه مهضوم ومسحوق الكرامة، بل لكل رأي ثقله وقيمته..

وثالثاً: إن نظام الشورى هو الذي رضيت به الأقلية بكامل حريتها، ولا إكراه لها على ذلك، فالذي اقتنع بأن الشورى واجبة، ملزم بقرار الأكثرية وهل معنى الشورى إلا ذلك؟، ومن لم يقتنع بوجوبها وتمامية أدلتها واعتبرها مستحبة، فهو ملزم بها أخلاقاً واستحباباً.. فقرار الفقيه بالاشتراك في الشورى قرار حر، وليس هناك من يكرهه على ذلك، وهذا معناه أنه يؤخذ برأيه اليوم.. ويطرح غداً.. فلا يمكن التعبير عن هذه الحالة: بأن حقه هضم فيما لو كان مع الأقلية.

وعلى فرض أن (شورى الفقهاء) رفضت (في نظامها الداخلي) الاعتماد على الأكثرية كقانون عام، فإن الأمر منوط إليها فقد تعتبر الأكثرية مشروطة برأي الأعلم المتفق عليه، أو الأكفأ إدارياً أو سياسياً أو غير ذلك، فيكون الأخذ بالأكثرية مشروطاً بقيود معينة، وليس مطلقاً في كل زمان وموضوع.. وهذا معناه بالطبع: عدم طرح رأي الأقلية دائماً للأخذ بالأكثرية.

رابعاً: وقلنا سابقاً: إنا نواجه حين وقوع الخلاف بين رأيين في شورى الفقهاء (وكل شورى طبعاً) موقفين: مهم وأهم، ولا يسعنا إلاّ الأخذ بالأهم الذي تقف معه الأكثرية، أي أن (الأكثرية) تحرز الأهمية بالطبع للحفاظ على كيان النظام الشوروي فيكون رأي الأقلية مهماً.. فيقدم رأي الأكثرية.

خلاصته: إن طرح حكم الفقيه حرام قطعي، لأنه رد على الله، وهو على حد الشرك به (جل جلاله) فلو خيّر المكلف بين طرح حكم واحد من الفقهاء أو اثنين، فبالطبع يحرم طرح حكم الاثنين لمضاعفة الحرمة، وجواز طرح حكم الواحد، لدوران الأمر بين المحذورين، ولا حل ثالث لنا عقلاً، فيكون الأخذ بالأكثرية هو الحكم الشرعي الذي عليه سيرة المتشرعة المتصلة بعهد المعصوم(ع) وغير المردوع عنها، وكذا يؤخذ برأي الأكثرية ظاهراً لو كانت خارج الشورى.. لدوران الأمر بين المحذورين أيضاً.. لأن طرح رأيها معناه طرح لحكم الفقهاء، في مقابل الأخذ بحكم آخرين أقل منهم.. ونفس هذا الكلام وارد فيما لو كانت الشورى أو الأكثرية خارج الحكم، والأقلية شوروية أو غير شوروية داخل الحكم، يؤخذ بالأكثرية أيضاً. ولا ميزة شرعية لمن يدير الحكم على غيره بالطبع هذا لا يعني أن الأكثرية معصومة عن الخطأ (وربما صح عقلاً أن يأتي رأي الأكثرية خاطئاً ورأي الأقلية صائباً، ولكن هذا نادر، والنادر لا حكم له، والمفروض شرعاً أن رأي الأكثرية هو الصواب ما دام كلهم يبدي رأيه مجرداً لله، وأساس ذلك آيات وروايات الشورى، ولزوم الجماعة كقوله(ص) (يد الله مع الجماعة) وفي رواية: (سألت الله أن لا تجتمع أمتي على الضلالة وأعطانيها) فالله يسدد دائماً خطا الجماعة، ويوجهها إلى الرأي السديد)(17).

وحتى لو افترضنا احتمال خطأ الجماعة فخير لها أن تخطئ وتتعلم من أخطائها من أن يفرض عليها رأي صائب وتُكره عليه (وخير للجماعات أن تخطئ في رأي تبديه وهي حرة من أن تفرض عليها آراء صائبة، فإن صوابها يكون مقترناً بإرهاق نفسي، وضغط للارادة، وذلك أشد ضرراً في تكوين الأمم(18).

(7)

الأقليـة الكفـوءة

للكفاءات أهمية كبرى في الإسلام، ولقد ورد سيل من الآيات والروايات حول علو شأن العلماء وأفضليتهم على من سواهم من شرائح الأمة، فقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله(ص): (فضل العالم على الجاهل كفضل القمر على سائر النجوم) و (ركعتان يصليهما عالم أفضل من سبعين ركعة يصليها عابد). و (نوم العالم أفضل من عبادة الجاهل) و (عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد)(19).

وهذه الروايات المتواترة وكذا الآيات الكثيرة المبينة لفضل العلم والداعية إلى طلبه وتكريم حامله، تؤكد على تقديم ذي الكفاءة على غيره، وهذا معناه تقديمه في (شورى الفقهاء) على غيره أيضاً إلا أن الفقهاء كلهم أكفاء.. أما أن يكون أحدهم (أكفأ) من غيره فهذا مشروط باعتراف باقي أعضاء الشورى بهذه (الأكفئية) أو (الكفاءة المتميزة).. أما إذا لم يعترفوا بها فلا يكون لصاحبها امتيازٌ ما في مجلس (شورى الفقهاء).

ويلزم هنا إثبات بعض الملاحظات بهذا الشأن:

1 - إن احراز الأكفأ أو تشخيص هذا الأكفأ أمر يلفه التعقيد غالباً، وهو تابع للرؤى والمستويات والأذواق، لذلك نرى أن الناس يختلفون في من هو أخطب الخطباء، ومن أمهر الأطباء؟ ومن أكفأ الرؤساء؟ ومن هو الأعلم والأقدر في الادارة؟ فيقع الخلاف الواضح غالباً حول من هو (الأعلم) من الفقهاء ومهما كان نوع الكفاءة: إدارية أو فقهية يصعب تشخيصها فجماعة كل مرجع تدعي أن مرجعها هو الأكفأ من غيره، يقول الأستاذ (ناصر مكارم شيرازي): إننا لو أردنا أن نفرق بين ذوي الكفاءات وغيرهم نواجه فقدان الموازين والضوابط الواضحة(20).. لذلك يلزم الاجماع أو احراز الأكثرية الساحقة على تشخيص (الأكفأ) من غيره، كي لا يتعرقل عمل الشورى، وينقض أصلها.. ويدب الخلاف في أوساطها..

2 - إن (الأكفأ) يقدم على غيره في مجال كفاءته المتميزة لا في كل مجال، فالأكفأ ادارياً يقدم في مجاله، والأكفأ تخطيطياً يقدم في مجاله الخاص أيضاً.. لا أن يكون أحدهم (الأكفأ) هو الحاكم المطلق والمقدم في كل المجالات على غيره، فتسقط الشورى وتحل محلها الفردية..

والفقهاء تتعدد كفاءاتهم، ويتميز بعضهم في مجال لا يبرز فيه غيره.. وبالمقابل يكون لغيرهم كفاءة متميزة في مجال آخر والاتفاقات حول تقديم الأكفأ، بأن يكون له صوتان مثلاً في مجاله الخاص، أو أنه لو كان مع الأقلية يبطل مفعول الأكثرية أو أن يكون هو الناطق الرسمي عن الشورى في مظهرها الخارجي.. أو غير ذلك.. مثل هذه الاتفاقات تعتبر من شؤون نفس الشورى وتصوب في (نظامها الداخلي) أو لا تصوب.

3 - ثم لا بد من تحديد (الكفاءات المتميزة) التي يكون لصاحبها ثقل معين في الشورى، ذلك لأن كفاءة (الطب) مثلاً أو (الهندسة) وأمثالها، لا يمكن أن تؤثر على نفوذ حكم الأكثرية الشرعية بل إن تجارب الجهاد، وممارسة الادارة وأمثالها هي التي يمكن أن تؤثر في عدم نفوذ الأكثرية فيما لو اتفق أعضاء الشورى على ذلك..

والجدير بالذكر هنا أن (الأكفئية) تعجز عن إسقاط ولاية الفقهاء الآخرين، أي أن أحدهم (الأكفأ) لا يجوز له بحال من الأحوال الاستبداد بالأمر، وعدم إشراك الفقهاء الآخرين في الأحكام الخاصة بالموضوعات العامة، وصحيح أن في الشورى تتكافأ آراء من تختلف كفاءاتهم، إلا أن الموازين الإسلامية تجعل هدف الكل (الإسلام والمصلحة الإسلامية) وكل فرد من أهل الشورى يسعى بكل طاقته لانتخاب أفضل الآراء (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) و (لا تأخذهم في الله لومة لائم)(21).

هذا.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1 - محنة الديمقراطية هارولد لاسكي/5.

2 - سورة الأنعام، الآية 116.

3 - سورة الزخرف، الآية 78.

4 - سورة سبأ، الآية 13. راجع هذا البحث بتفصيل في الشورى وأثرها في الديمقراطية.

5 - سورة النساء ، الآية 115.

6 - الفقه : الحكم في الإسلام / 47.

7 - طرح حكومت إسلامي/51/ آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.

8 - راجع مبحث (الحكومة) في الجزء الثالث الباب التاسع من (أصول الفقه للمظفر رحمه الله).

9 - ولاية الفقيه/ الحلقة (11) من سلسلة (من أجل الإسلام).

10 - الشورى وأثرها في الديمقراطية دراسة مقارنة/143.

11 - ذكره المؤرخون قاطبة/ يراجع (فتح الباري) ج8/348.

12 - تنبيه الأمة وتنزيه الملة/54/بتصرف.

13 - ذكره المؤرخون قاطبة نقلناه عن الشورى وأثرها في الديمقراطية/169.

14 - منهاج الحكم في الإسلام /97/ الأستاذ محمد أسد.

15 - سورة الحجرات، الآية 6.

16 - الدرّ المنثور /2/62،وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي /للمبارك كفوري /ج6/387.

17 - الإسلام وأوضاعنا السياسية، عبد القادر عودة.

18 - المجتمع الانساني في ظل الإسلام/ محمد أبو زهرة .

19 - أصول الكافي / ج1/35.

20 - طرح حكومت اسلامي/46.

21 - طرح حكومت اسلامي/51.

هل لديك مناقشة او سؤال او رد حول هذا الموضوع ؟