2000

آب

1421

جمادى الاولى

48

العدد

النبأ

مجلة

حكم التقية








في ظل الأنظمة المستبدة








صالح حسن

جهاد الصحابة والعلماء

سلب الشرعية من الطغاة

ثورة الدم وثورة العلم

توضيح المسار الحركي و...

منهجية التنظيم

القولبة هل هي مفهوم جديد أم

من مساوئ التقية...

معالجة الانحراف

التقية من المفاهيم والحقائق التي وردت في مواضع متعددة من القرآن الحكيم والسنة المطهرة وقد عُمل بها للحفاظ على النفس أو المال أو العرض في عصور مختلفة.. وقد أشبعت الكتب الفقهية والتفاسير البحث في معناها وموارد استعمالها وجوازها النقلي والعقلي بما فيه الكفاية حتى بانت ملامحها وصورتها الحقيقية للباحث والناقد ولم تعد خافية على أحد.

وليس الغرض بالاعادة هنا هو التكرار بل نريد الحث على تجنبها في الموارد التي لا تقتضيها كالموارد التي تتوفر فيها الحرية الكافية للعمل، أو الموارد التي تستحق التضحية والجهاد كما إذا ظهرت البدع، أو خيف على المبادئ الحقة من الضياع وسط عالم ملئ بالأفكار الهدامة والتباس المناهج حتى قولبت لمصالح شخصية وتاريخ مصطنع، وحتى لا تختلط الأوراق الدخيلة على منهج الأمة أو الحقيقة التي لا تخالطها الشوائب يجدر بنا إلقاء نظرة بسيطة على معنى التقية لننتقل إلى المفهوم المراد..

التقية لغةً اسم لإتقى يتقي والتاء بدل من الواو (وقى) وأصله من الوقاية.

أما اصطلاحاً فهي تعني الحفاظ على واقع موجود بإسدال الستار على برنامج ومخطط هام بغية استمراريته لاقتطاف ثمار أكبر.

ولعل المعنى الاصطلاحي هذا يكشف لنا آفاقاً عديدة في البحث إذ أن أي برنامج حافظ على سريته وسار باعتدال دون زيف أو دس مكتسباً شرعيته من الأصول الصحيحة والمقدسة لابد له أن يظهر بصورته الواقعية عندما يجد الأرضية الصالحة للعلن أو التطبيق بارتفاع الضرر وتسمى بمرحلة اقتطاف الثمار والعيش دون تكتم.

وبعبارة أخرى، إن الحفاظ على العقيدة في ظلّ التعسف والطغيان أمر لازم وهذا ما أفرزته المرحلة السرية أما في حالة ارتفاع أسبابها فعلى المفكّر أن يظهر ما يرتئيه بما يمليه المبدأ الواقعي عليه لمؤاتات الظروف لكي تمارس الجماهير عاداتها وتقاليدها بحرية.

عبّر البعض (إن التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله، لا لشيء إلا لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ والأفكار. إنما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل والرأي والعقيدة، فلا ينجو المخالف إلا بالصمت والسكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لابد منها من أجل إغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوة، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولاً إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي جاء ذكره في الذكر الحكيم)1.

ومن هنا يتضح انتفاء الحاجة إليها بانتفاء الغاية منها كأن يعيش الفرد في ظل دولة تنتهج أو تدّعي نفس مبادئه أو يعيش في ظل دولة تمنح الحرية الكافية لممارسة الحياة والأفكار التي يحملها الأفراد ولا تقيد طقوسه وإن كانت لا تنتهج ذلك وسيتوضح هذا من خلال البحث.

توضيح المسار الحركي والبنائي

من الواضح لمن تابع السيرة النبوية أنه( ابتدأ العمل الحركي والبنائي سراً كما جاء عن ابن هشام:

(وكان يدعوهم إلى ذلك ـ الإسلام ـ سراً وحذراً من وقع المفاجأة على قريش التي كانت متعصبة لشركها ووثنيتها فلم يكن(ص) يظهر الدعوة في المجالس العمومية لقريش، ولم يكن يدعو إلا من كانت تشدّه إليه صلة قرابة أو معرفة سابقة، وكان هؤلاء يلتقون بالنبي(ص) سراً وكان أحدهم إذا أراد ممارسة عبادة من العبادات ذهب إلى شعاب مكة يستخفي فيها عن أنظار قريش)2.

وكان تكتم النبي(ص) لاجل مستقبل الدعوة وليس خوفاً على نفسه، فاستطاع بذلك أن يبني قاعدة رصينة انطلق منها في نشر الإسلام وتوسعته وهذه الرسالة الإسلامية سواء في الفكر أو العمل ذات طابع حضاري ثابت وممتد إلى آخر الدنيا ولا يخضع للمساومات والتغييرات في الحياة الدنيا.

وقد سار أهل البيت(ع) وفق هذا المسار الحركي والبنائي لتكميل الأدوار والحفاظ عليها حتى يصل التشريع إلى الأجيال القادمة دون تحريف فكان عملهم ينطلق من قاعدتين.

1ـ الالتزام الحرفي بالرسالة الإسلامية وعدم التفريط بمطلب من مطاليبها على الإطلاق.

2ـ مراعاة الظروف القائمة في الأمة من الناحية السياسية والاجتماعية والعقلية، وتبنّي الطريقة المثلى التي تكفل خدمة الرسالة والأمة على ضوئها دون أي تجاوز للمصلحة الإسلامية العليا ودون الخضوع لسياسة الأمر الواقع من بعيد أو قريب.

وخلال ذلك ظهرت عوائق شديدة لهذا المسار بعضها امتاز بالدموية فقابله الأئمة(ع) بأسلوب العمل السري والكتمان لأجل خلق كادر منظم يمثل الجيل الطبيعي في الحركة الاجتماعية.

ولكن المواجهة لم تتخذ طابع السرية في كل نواحيها وإنما كانت الظروف المحيطة بكل إمام تفرز طريقة خاصة في العمل والمواجهة وتجسّد أبرزها في حركتَيْ الإمام الحسين والإمام الصادق(ع) ولكل منهما مبررات نطلع على بعض خصوصياتها.

ثورة الدم وثورة العلم

امتاز الإمام الحسين(ع) بالعلن في عمله الحركي والبنائي لأنه واجه معاوية من جهة ويزيد بن معاوية من جهة أخرى فمعاوية كان يرى في مال الدولة ومال الناس مال الله ويدّعي لنفسه الحق والحرية في التصرف فيه بالمنع والمنح كيف يشاء باعتباره خليفة الله فيقول:

الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذت فلي وما تركته للناس فبالفضل مني.

فضلاً عن امتيازه بالمكر والخديعة وهذا لا يظهر للعلن إلا بالنهج الذي سار عليه الإمام الحسن باتخاذ جانب السلم ليظهر وجه معاوية الماكر للعالم الإسلامي.

وأما الوجه الآخر لمعاوية فيظهر بمعارضة أبي ذر الغفاري عندما قال لمعاوية: إن هذا المال هو مال الناس وارادتهم هي المرجع عند التصرّف فيه.

ثم يورّث معاوية الخلافة لابنه يزيد الغارق بالمجون والسكر واللعب مع القردة وقد امتاز بالشراسة وهذه الصورة لا تظهر للعالم إلا من خلال الكفاح المسلح فارتضى الإمام الحسين(ع) بالشهادة والتضحية بأهل بيته لكشف واقع يزيد وزيف معاوية وإظهار الباطل على شكله الحقيقي وتداعيات من يراقب الكفة لأجل مصلحته.

وبذلك خلّف وراءه منهج عمل واضح ضد الطغاة الذين يمتازون بالشراسة وبفضل هذا النهج اندلعت الثورات العظيمة التي تستمد قوتها من ثورة الحسين(ع) ابتداءً من ثورة التوابين والى وقتنا الراهن..

أما عمل الإمام الصادق(ع) فقد امتاز بشكلين:

1ـ الأعمال الحركية: وكان طابعها علنياً.

2ـ الأعمال البنائية: وكان طابعها سرياً (التقية).

فالأعمال الحركية: تشمل علاقات التفاعل بقوى وإمكانيات الأمة.. لان فترة الانتقال التي جاءت بعد زوال حكم بني أمية جعلت الإمام(ع) في مأمن من بطش الحكام، ورقابتهم الشديدة، وكذلك إقبال المسلمين على الفقهاء والعلماء للتعرف على التشريع الإسلامي في حل مشاكلهم الفردية والاجتماعية، هذه العوامل وغيرها ساعدت الإمام(ع) في أن يباشر عمله بالأسلوب العلني الظاهر.

واتخذت أعمال الإمام(ع) الحركية أسلوبين من أساليب العمل:

أسلوب الهدم وأسلوب البناء الذي تمثل بجهود علمية وفكرية دائبة، في مجالات نشر الفكر الإسلامي وتعميق مبادئه وأحكامه.

أما الأعمال البنائية: فهي تشمل نشاطاته التغييرية في حدود اشرافه ورعايته للكتلة المرتبطة به والتنسيق معها للعمل الموحد، وكان طابع العمل (سرياً) ويسمّى بالمصطلح الفقهي بـ(التقية)..

وأراد بها ضمان وحماية دعوته أمام مقاومة الأعداء إلى حين اكتمال مقومات مرحلته بعد أن يمنحها فعالية الصمود ومرونة التحرك..

ومن خلال هذا العرض المختصر لنموذجين بارزين في حياة الأمة كان للعمل الحركي والبنائي مسيران متعاكسان أحدهما امتاز بالعلن والآخر بالسرية.

ويبدو من خلال تصفّح التاريخ وأحداثه أن للتقية ظروفها لذلك قسّمها الفقهاء مرة بالمعنى الأعم من الجواز وعدم الجواز ومرة إلى الأحكام التكليفية الخمسة واجبة أو مندوبة أو مباحة أو محرمة أو مكروهة كما في رسالة التقية للشيخ الأنصاري (قده) والقواعد الفقهية للبجنوردي وغيرهما فهي واجبة عند الضرورة كما في الحديث الشريف (التقية في دار التقية واجبة)3.

سلب الشرعية من الطغاة

إن هذا البحث المختصر لا يستوعب سرد الوقائع التاريخية التي مرّت على الشيعة بما فيها سيرة الأئمة(ع) أو الصحابة الأجلاء أو علمائهم ، لذلك نحاول استقراء النتائج من خلال البحوث عالجت استمرار التشيع عبر التاريخ ثم الولوج في مفهوم التقية السائد اليوم، فقد عزت الدكتورة سميرة الليثي في كتابها (جهاد الشيعة) استمرار حركات الشيعة في العصر العباسي إلى عدة أسباب:

1ـ تفرق الشيعة إلى عدة فرق وانتشار هذه الفرق في عدة أمصار.

2ـ لجوء الأئمة العلويين إلى التقية والكتمان وإلى الدعوة السرية مما أتاح الفرصة لنمو الحركة الشيعية وهي لا تزال في المهد..

3ـ حب المسلمين لآل البيت بصفة عامة وللبيت العلوي منهم بصفة خاصة..

4ـ فتح باب الاجتهاد.

5ـ ظهورها في أماكن متفرقة من العالم الإسلامي..

6ـ مجاراة الشيعة لظروف العصر ومتابعتها الأحداث واتصالها بالفرق الأخرى من غير الشيعة مما أدّى إلى التطوير وتجديد الدماء4.

فالتقية ساعدت على انتشار المذهب والحفاظ عليه ولكن ليس بشكل مطلق إذ كانت في مجالات البناء والتوصيات الخاصة إلى الصحابة المخلصين أما الأسلوب الحركي والدعوة إلى الفكر الصحيح فكان علنياً ولم يتّق فيه الأئمة(ع) وبالأخص عدم مداهنة الظالمين فقد راعى الأئمة والأصحاب عدم إعطاء الشرعية للطاغية وفصل الدين عنهم وفرز المواقف والأمثلة على ذلك عديدة نذكر منها باختصار الخلافة حيث عرضت على الإمام علي(ع) بعد موت الخليفة الثاني ولكن بشرط أن يعمل بكتاب الله وسنة الرسول(ص) وسيرة الشيخين فقال الإمام(ع) بل على كتاب الله وسنّة الرسول واجتهاد رأيي ولو كان يريد المداهنة لقبلها بشروطهم ليحصل على مرامه بالتقية ولكن التقية في هذه الموارد غير مستحسنة ومثال آخر رسالة الإمام الحسين(ع) إلى معاوية أنقل جملتها الأخيرة:

(واعلم أن الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبياً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب، ما أراك إلا قد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية، والسلام)5.

جهاد الصحابة والعلماء

التفت الحجاج يوماً لبعض جلاوزته وقال: (أحبّ أن اُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب، فقالوا: ما نعلم أحداً كان أطول صحبة له من مولاه قنبر، فبعث في طلبه، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم، قال له: إبرأ من دين علي، فقال له: هل تدلّني على دين أفضل من دينه؟

قال: إني قاتلك فاختر أي قتلة أحب إليك، قال: أخبرني أميرالمؤمنين: إن ميتتي تكون ذبحاً بغير حق. فأمر به فذبح كما تذبح الشاة6.

وهكذا كان حجر بن عدي وعمرو بن الحمق ومالك الاشتر وجويرية بن مهر العبدي وكميل وسعيد بن جبير وعن صفوان بن مهران الجمال قال: دخلت على أبي الحسن الأول(ع) فقال: يا صفوان كل شيء منك حسن ما خلا شيئاً واحداً فقلت جعلت فداك أي شيء؟ قال(ع): اكراؤك جمالك من هذا الرجل يعني هارون. قلت: والله ما اكريته أشراً ولا بطراً ولا للهو ولكني اكريته لهذا الطريق يعني طريق مكة ولا أتولاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني. فقال لي يا صفوان أيقع كراءك عليهم، قلت: نعم جعلت فداك. قال: أتحب بقائهم حتى يخرج كراءك، قلت: نعم، قال: من أحبّ بقائهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وروده إلى النار.

قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني. فقال لي يا صفوان: بلغني أنك بعت جمالك، قلت: نعم، قال: ولم، قلت: أنا شيخ كبير وأنّ الغلمان لا يقومون بالأعمال، فقال: هيهات هيهات، إني لأعلم من أشار عليك بهذا إنما أشار عليك بهذا موسى بن جعفر(ع) قلت مالي ولموسى بن جعفر(ع) قال دع هذا عنك والله لولا حسن صحبتك لقتلتك.

قال الشيخ الأنصاري (ره) في المكاسب: وما ورد في تفسير الركون إلى الظالم من أن الرجل يأتي السلطان فيحب بقائه إلى أن يدخل يده في كيسه فيعطيه وغير ذلك مما ظاهره وجوب التجنب عنهم.7

واستمرّ الجهاد ضد الطغاة دون مداهنة حتى امتاز علماء الشيعة بالوقوف ضد المستعمرين لبلاد العرب والمسلمين وأعلنوها حرباً ضدّهم وذلك بفضل الفتاوى الشرعية التي يتبعها عامة الشيعة والتي تتبع أسلوب التقليد لمراجعها..

فلما منح شاه إيران امتياز التنباك إلى إحدى الشركات البريطانية أصدر كبير المجتهدين المجدد السيد محمد حسن الشيرازي من مقره في (سامراء) فتوى تحريم التنباك والدخان، فسرت تلك الفتوى في جميع البلاد الإسلامية حتى أقفلت مخازن الدخان، وأبى البائعون بيعه والمشترون شراءه8.

فلم تكن التقية واردة ولم ينتهجها الصحابة والعلماء رغم وجود الضرر على النفس والسيف مشرع على الرؤوس.

معالجة الانحراف

الحكومة الإسلامية يقوم بناؤها على أساس التشريع الإسلامي وتستمد أحكامها من القرآن والسنة والإجماع والعقل مع مراعاة الأحوال الطارئة والجزئية وفق كلّيات مسلّمة فلذا تعتبر النظرية الإسلامية هي الأساس في تطبيق شؤون الحياة فالإسلام رفض العنف وأقرّ احترام الرأي المخالف والسماح له على أن لا يمس العقيدة وأن الناس سواسية وحقوقهم محترمة إلى ما شابه من المبادئ الحضارية الراقية التي تصبو قلوب البشرية إلى العيش في ظلها وعندما تستلم تلك الدولة السلطة وقد وعدت جماهيرها بالتطبيق الواقعي التي بايعتها على أساسه حينها يأمل المفكرون في البناء والحركة ولكنهم يصطدمون بحواجز غير شرعية واستبداد في الرأي وقوانين لا ترتبط بالإسلام فلا مناص حينها من أحد أمرين:

1ـ إما العمل بالعلن والإشارة إلى نوع الاشتباه والخطأ أو الباطل في ذلك الحكم.

2ـ أو العمل بالسر كما نسميه بـ(التقية) لأجل الوقوف ضد الانحرافات والمحافظة على البناء والحركة.

ولكن الطريق الثاني لا يأخذ الشرعية التامة في ظل الظروف المتاحة للتعبير عن الرأي أو لوجود ضرر أكبر على الشريعة أهم من المحافظة على النفس إذن فلا تقية والحال هكذا.

فعندما استشهد الإمام الكاظم(ع) شرع الإمام الرضا(ع) بالمعارضة القوية وأعلن نشاطه بشكل واسع حتى اتّهمه الشيعة آنذاك بمخالفته للتقية وأوفدوا له جماعة يحذرونه من هارون قال صفوان بن يحيى:

(لما مضى أبو الحسن موسى(ع) وتكلم الرضا(ع) خفنا عليه من ذلك وقلنا له إنّك أظهرت أمراً عظيماً وإنا نخاف عليك من هذا الطاغي فقال: يجهد جهده فلا سبيل له عليّ)9.

وعن محمد بن سنان قال: قلت لأبي الحسن الرضا(ع) في أيام هارون إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر وجلست مجلس أبيك وسيف هارون يقطر دماً.10

لقد ورد في أخبار عديدة ذم القاعدين عن الجهاد أو عن إظهار الحق إذا ظهرت البدع بمعنى أن على العالم أن يظهر علمه إذا ما رأى انحرافاً أو زيفاً ولا نريد من ذلك الهرج والمرج وإنما حسب قوله تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن)11 لأجل إعادة الأصول الصحيحة إلى التطبيق والتأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية ففي الحديث الشريف:

(إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه)12.

وقال الرضي: (وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق وأفضل من ذلك كلمة عدل عند إمام جائر)13.

وعن مسعدة بن صدقة قال:

سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: إنّ الأيمان قد يتخذ على وجهين أمّا أحدهما فهو الذي يظهر لك من صاحبك، فإذا ظهر لك منه مثل الذي تقول به أنت، حقّت ولايته واخوّته، إلا أن يجيء منه نقض للذي وصف من نفسه وأظهره لك.

فإن جاء فيه ما تستدل به على نقض الذي ظهر لك ناقضاً، إلاّ أن يدّعي أنّه إنما عمل ذلك تقية، ومع ذلك ينظر فيه، فإن كانت ليس ممّا يمكن أن يكون التقية في مثله لم يقبل منه ذلك، لأنّ التقية مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له.

وتفسير ما يتقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فانه جائز.14

وفي بيان للعلامة المجلسي صاحب بحار الأنوار على هذا الخبر قال:

وبالجملة يظهر منه أن التقية إنما تكون لدفع ضرر لا لجلب نفع بأن يكون السوء بمعنى الضرر، أو الظاهر بمعنى الغالب، ويشترط فيه عدم التأدّي إلى الفساد في الدين، كقتل نبي أو أمام أو اضمحلال الدين بالكلية، كما أن الإمام الحسين(ع) لم يتق للعلم بأن تقيته تؤدي إلى بطلان الدين بالكلية.

فالتقية إنما تكون فيما لم تصر تقيته سبباً لفساد الدين وبطلانه، كما أن تقيتنا في غسل الرجلين أو بعض أحكام الصلاة وغيرها لا تصير سبباً لخفاء هذا الحكم وذهابه من بين المسلمين، لكن لم أر أحداً صرّح بهذا التفصيل، وربما يدخل في هذا التقية في الدماء وفيه خفاء.

ويمكن أن يراد بالأداء إلى الفساد في الدين أن يسري الى العقائد القلبية، أو يعمل التقية في غير موضع التقية.15

من مساوئ التقية بالمعنى الجديد

وفي ضوء ذلك فان التقية بالمفهوم الحقيقي كما عبّرنا عنها بالتحفظ على الواقع لأجل غاية أكبر لها منافع عديدة منها:

1ـ الحفاظ على المبادئ الصحيحة دون زيف أو تحريف.

2ـ ضمان استمرارية الحركة الرسالية.

3ـ عدم اطلاّع المناوئين أو الطغاة على الشخصيات المؤثرة في القرار أو العامة بحيث يبيدونهم بأجمعهم ولا يبقى من نسلهم أحد.

4ـ المحافظة على المحدثين والرواة والفقهاء من وصول السيف إلى رقابهم.

ولعلّ هناك أموراً أخرى خافية علينا لكنها لا تعدو عن المحافظة على الدين والنفس والمال والعرض.. وهو المعنى الحقيقي للتقية.

أما إذا ارتفعت تلك الضغوط وكانت القاعدة الشعبية من الناحية العلمية والاجتماعية قد بلغت درجة كبيرة من الاتساع والنمو فلا مجال للتقية أي أن الظروف لو لم تكن مواتية لإظهار العقائد في مكان ما وكان بالامكان الحفاظ على النفس والمال والعرض والدين في بلد آخر فيلزم الهجرة إلى ذلك المكان للتعبير عن الرأي كما جاء في الآية الشريفة.

(قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها..)16.

وقوله تعالى (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة)17.

وبهذا المفهوم الجديد تكون التقية ضارة من نواحي:

1ـ إنها تعني مداهنة الظالم واتباع حكام الجور.

2ـ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المأمور بهما من قبل المولى تعالى وقد دلّت عليهما الأدلة من الكتاب والسنة المطهرة..

3ـ ترك الجهاد وهو من فروع الدين ومقدّم على التقية في المعنى السائد بعد أن تصلّب الواقع وأصبح مشهوداً له في جميع أنحاء العالم الإسلامي ولعلّ أضرار الجهاد أقل من أضرار التراجع والاستسلام للطغاة.

4ـ إذلال النفس والإضرار بها أكثر مما هو المراد من التقية بالمحافظة على النفس.

5ـ تغيير معالم الدين إذ أن اتباع الحاكم الجائر يفرض على الناس مجموعة من القوانين والأحكام ذات المصالح الشخصية في حين أن واقع الحكم لابد وأن يتخذ الصورة التالية:

أن يقوم واقع الحكم على أساس القاعدة التشريعية للإسلام ويستمد كل احكامه من هذه القاعدة ويتكيف لها ويتبنى النظرية الإسلامية في الحياة ويجعل الإسلام أساس التشريع والتقنين لكل نواحي الحياة.

ووفق هذه الموازين لا يمكن لمن يدّعي الشرعية أن يأخذ الناس بالتهمة ويجرّهم إلى السجون دون ذنب بل لمجرد أنه أبدى رأيه في صورة الحكم الإسلامي وما ينبغي فعله أو خالف نظرية الحاكم إلى نظرية أجدى منها نفعاً وذات مشاركة عامة ولها نتائج أكبر ومن شأن ثمارها أن تعطي الفرد حقوقه وأن تمنع الحاكم من الاستبداد ولذا عبّرنا عن هذه النقطة من مساوئ التقية بتغيير معالم الدين..

القولبة هل هي مفهوم جديد أم واقع؟

يتصور البعض أن العولمة هي آخر الصرعات التي دخلت العالم الإسلامي اليوم فنبقى في سرد معالمها وتأثيراتها السلبية والحلول المقترحة للحيلولة دون توسعها وانتشارها بين المسلمين بشكل لا يمكن علاجه.. في نفس الوقت تتاح الفرصة لافتعال مسألة أخطر من سابقتها لها مظاهر فتانة وعصرية ولنسميها بـ(القولبة) وإن لم اكن أجدها بشكل صريح في كلمات المفكرين والعلماء الذين يجهدون من أجل إعادة المبادئ الإسلامية إلى التطبيق الصحيح وإحياء معالم الحضارة الإسلامية الأصيلة..

وإنما عبّرت بذلك التعبير لأحداث عايشتها وعاصرتها.. والمتتبع للوقائع اليومية يجد خطورة القولبة لأنها تعني تمرير أهداف ذات مصالح إما مجهولة المنشأ أو شخصية أو ذات ملامح تبعية للأجنبي فبعض الثورات تمني الأمة في تطبيق المبادئ الإسلامية وإحياء قوانينها والحفاظ على كرامة الإنسان واحترام الرأي الآخر.. لكن الصباح يحمل في طياته السجون والاعتقالات ليجد الشعارات قد زيّفت وكأنما صيغت على أساس التقية للحصول على ثمار ذات أشواك معقدة جداً..

فالقولبة تعني اليوم أنك لا تقترب من المتعارف بين الناس فإذا صادفت المعصية وأمرت بالمعروف فسيقول لك العاصي أو أغلب الناس دع السفينة تجري ولا تقف أمامها لوحدك.. ولسان الحال يقول كما في الآية الشريفة:

(بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)18.

ولو نصحت أخاك بأن العمل الفلاني حرام لقال لك بأن أغلب الناس هذا ديدنهم فاصمت أو اتّق لأن الشرنقة قد التفت ونسجت خيوطها وقولبت الناس على فعل ما يعلم بحرمته في الإسلام أو اتباع القانون المستورد والغربي ليترك قانون الإسلام في مجلدات محفوظة تنتظر من يزيل عنها الغبار والأهم من ذلك أن بعض الناس ممن يحسب نفسه أنه فهم الحياة والكون قولب ما يرتأيه صحيحاً في رأيه سواء كان إسلامياً أو غير إسلامي..

فهناك ممن يدعي الإسلام يختار من قيم الدين ما يوافق ميوله وهواه ويمزجه ببعض القوانين لتظهر على أنها مستنبطة من الأحكام الشرعية ولسان حالهم يقول:

(نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً)19.

بل البعض اتخذ من نفسه عبد الله المؤمن والآخر نائباً أوحداً لسلطة التشريع يعلو مقامه من كان قد نصبه الله تعالى لأجل التشريع وكأنه خرج بدين جديد لا يرى للآخرين أهمية تذكر إلا إذا اتبع هواه ودخل ضمن إطاره وقولب نفسه بما يمليه عليه أسلوب التقرب من صاحب القوة واستغلال الفرص..

وهناك العالم السائر في رضا الله سبحانه وتعالى والتارك لدنياه قد انتزع من قلبه تلك الغرائز وأفصح دون تقية ليظهر ما هو الصحيح ليزيل حواجز القولبة والشرنقة واحدة واحدة حتى تبدو صورة ما بداخلها واضحة للعيان في زمن لا تقية فيه إذا أمن الناس على أنفسهم وانفتحت أمامهم آفاق الهجرة والجهاد ولو بالكلمة..

وعلى المفكر أن يظهر علمه ويبدي رأيه ليحطم تلك الحواجز والقوالب التي صاغتها تلك الحكومات وفق أطر إسلامية. حينئذ ولو كانت التطبيقات مع عدم التعمد أو الجهل بالحكم الصحيح لارتدّ الحاكم عن رأيه ولكنّه صاغ ما يريد وفق نظرته المستبدة لا يبقي أمامه مجال سوى اعتقال المصلحين ولو بالظنه ليقع في شباك الضلال حتى لا تكون للإنسان بعد ذلك قيمة ولا شك أن قيمة الإنسان في الإسلام ذات أهمية كبيرة لكنها تسلب منه وكأنّه لم يسمع نداء القرآن الحكيم بأهمية الإنسان في قوله تعالى (ومن قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)20.

منهجية التنظيم

ومن هنا دعى الإسلام إلى اتخاذ التنظيم كمنهج حتى لا يكون صنمياً أو لكي لا ترتسم (القولبة) في مجتمعاتنا وقد عبّر عن ذلك أحد المراجع المعاصرين بقوله (يجب أن يكون التنظيم واقعياً لا صنمياً، يعني أن لا يكون معياراً في الأخذ والعطاء والرد والقبول وإنما يكون وسيلة إلى نشر العدل وتوسيع رقعة الإسلام وإنقاذ الناس من المستعمرين.. فالتنظيم يجب أن يكون آلة لتطبيق الحق لا أن يكون معياراً فيبتعد عن الحق)21.

فقد يعمل الإنسان بتكاليفه الشرعية وما يتوجب عليه نحو أمته وفكره لبلوغ أهدافه النبيلة ومن خلال التطبيق تظهر للعيان مساوئ وسلبيات عديدة تؤثر بمجموعها على إطاره الفكري بشكل عام نتيجة عدم اهتمامه بمسألة بسيطة لم يأخذها بعين الاعتبار كما في اعتبار التنظيم فمن خلال الجهاد يقدم المجاهد على البذل والعطاء معتزاً بمسيرته ونضاله لكنه سرعان ما يخفت لمعانه لأنه لم يعرف لمن كان يعمل ألأجل الله سبحانه وحده؟ أم لأجل نفسه؟ فإذا كان العمل لله سبحانه فلابد وأن يلتفت إلى أنه وسيلة وأداة وليس هو الغاية فإذا مات أو قتل فهو شهيد في سبيل إحياء كلمة الإسلام أو إحياء شعائر الإسلام أما إذا كانت الغاية نفسه دون الله سبحانه فيبتلى بأمور منها:

أن الله تعالى لا يتقبل عملاً إلا إذا كان خالصاً لوجهه سبحانه، وأن حدود العمل تنتهي بنهاية هذا الفرد فضلاً عن الهوى الذي يسحق النفس ويميل بها كل الميل إلى الاستبداد والتسلّط. فإذا كان الهدف هو الإله فمن الطبيعي أن تشيع في اوساطنا أفكار خارجة عن الأصول إذ لو قلت للناس أن التشريع الإسلامي أقيم على أساس الحرية والسلام واحترام آراء الآخرين والأخوة والتقوى وما شابه لم يكن جديداً عليهم لأنهم قد عرفوه من خلال قراءة القرآن الحكيم ومتابعة السيرة النبوية وسيرة العلماء الصالحين لكن البعض يرتطم بذاته فهو يميل إلى شخص ما لا يسعه أن يتعدى ذلك لأنه لم يجعل المعيار والهدف الأساسي هو بلوغ الرضا الإلهي والعمل بأوامره وإنّما اعتبر المعيار هو ذلك الشخص ولذا تولّد الاستبداد في المجتمع الإسلامي وحتى لا تستفحل القضية علينا العمل في سبيل بلوغ الرضا الإلهي لا النفعي والشخصي وفي جوّ من العلن لا يحتمل التقية لأن التقية في ظل الاستبداد مشروع للسيطرة الأجنبية وانتهاك لحقوق الإنسان ومصادرة للشريعة الإسلامية.

الهوامش

1 ـ بحوث في الملل والنحل للسبحاني، ج6، ص341.

2 ـ السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص240.

3 ـ البحار، ج10، ص363، باب20، ح2.

4 ـ جهاد الشيعة، ص394-397 بتصرف.

5 ـ الإمامة والسياسة، ج1، ص164.

6 ـ الشيعة والحاكمون، ص95.

7 ـ كتاب المكاسب للشيخ الانصاري، ص55، ط. تبريز/ إيران.

8 ـ راجع كتاب طريق النجاة للامام الشيرازي، ص239، دار الصادق.

9 ـ اصول الكافي، ج1، ص87.

10 ـ روضة الكافي، ص257.

11 ـ النحل، 125.

12 ـ وسائل الشيعة، ج16، ص271، ب40.

13 ـ وسائل الشيعة، ج16، ص134، ب3، ح21170.

14 ـ أصول الكافي: ج2، ص168.

15 ـ بحار الانوار، ج69، ص130، ب100.

16 ـ النساء، 97.

17 ـ النساء، 100.

18 ـ الزخرف، 220.

19 ـ النساء، 150.

20 ـ المائدة، 32.

21 ـ السبيل إلى إنهاض المسلمين الإمام الشيرازي، ص63، مؤسسة الفكر، بيروت.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 48

الصفحة الرئيسية