2000

آب

1421

جمادى الاولى

48

العدد

النبأ

مجلة

الحوار والمعرفة..



رسالة إنسانية



محمد محسن العيد

المعرفة الجدلية

فالفكر

فمرحلة الفكر والتفكر

نماذج حوارية

ضوابط حسن الحوار

مرحلة المعرفة العقلية

ما المقصود بالحوار؟.. وهل هو أسلوب من أساليب المعرفة؟ وكيف يؤدي الإنسان رسالته من خلال الحوار؟

هناك بديهيات وحقائق يلاحظها كل ذي لب، تعتبر ثوابت أساسية اولية في معرفة الإنسان وعقله، هي في الواقع؛ العقل التكويني الإنساني في كل نفس، وهو مميز الثوابت في تعلم الإنسان ومعرفته وهي:

1) السعي للاحسن، فكل نفس تبحث عن الحسن وتنجذب إليه وتسربه، ويبدو ذلك واضحاً عند كل فرد من أبناء آدم في نمط التكامل في تعلمه.

2) السعي لمعرفة العلة، فكل نفس تبحث عن العلة في بروز الحوادث، ويبدو ذلك واضحاً عند كل آدمي في نمط التعليل في تعلمه.

3) السعي لمعرفة الحق والعدل، فكل نفس تبحث عن الحق وتطالب بالعدل ويبدو ذلك واضحاً في نمط التصديق في تعلمه.

4) السعي لمعرفة الغيب، فكل نفس تبحث عن معرفة واقع ما بعد الموت الحتمي على كل نفسن ويبدو ذلك واضحاً في نمط الإيمان في تعلمه.

5) السعي للسيادة والقيادة، فكل نفس تطلب لذاتها العزة، ويبدو ذلك واضحاً عند كل آدمي في نمط التفاضل في تعلمه.

6) السعي لتجاوز البلاء، فكل نفس مبتلاة، ويبدو ذلك واضحاً عند كل آدمي في عزيمة الصبر في نمط التجريب في تعلمه.

7) السعي للتوحيد، فكل نفس لا تقنع بوجود أشياء متشابهة دون أن توحدهما، ويبدو ذلك واضحاً في سلوك العلماء بنمط التعميم في علمهم.

8) السعي للتسليم، فكل نفس تبحث عن المعاني وتسلم بها لاسمائها ويبدو ذلك واضحاً عند كل آدمي بنمط التسليم في تعلمه.

هذه الثوابت الثمانية في تعلم ومعرفة الإنسان هي أساس العقل التكويني في نفسه، وتتطور معرفته وبشكل نمطي فتظم بين ثوابت الكون وثوابت النفس هذه وعبر ثلاث مراحل.. وحيثما يحصل التطابق في سعي النفس النمطي بين ثواب الكون وثوابتها هذه تحصل المعرفة.

وهي توجه النفس إلى الكون والبيئة والمحيط باستعداداتها من العقل التكويني، وردود فعلها بهذه الاستعدادات على المشاكل والمثيرات البيئية والكونية التي تواجهها.

فالمعرفة الفكرية يحصل عليها الإنسان من خلال مواجهة المشاكل.. فالفكر رهين المثير من وسط الإنسان وبيئته، والمثير هذا قد يكون حدثاً طارئاً، أو مهمة كُلف بها، أو مشكلة يعاني منها، أو حاجة ذاتية من نفسه تتطلب الاستجابة لغرائزه أو لارادته الروحية من أصل عقله التكويني.

إن بروز أحد هذه المثيرات في أية لحظة من لحظات حياة الانسان، يوجه النفس إلى ذلك المثير، ويبدأ التفكير لمواجهة ما وراء المثير، حيث تأتي تلك النفس على مكنوناتها "على قدر ما استوعبت من خبرات ومهارات ومعرفة ما انطوت عليه من عقائد وما تعودت عليه من عادات وتقاليد وما بيتته من لا وعي" باحثة عن الحل من بين تلك المكنونات لتواجه هذاالمثير.. وتحصل محاكمة ذاتية بين تلك المكنونات قبل بلوغ النفس الحسم. وعندما تستقر النفس بالمطابقة الجزئية أو الكلية مع مثيرها سلباً أو ايجاباً، ينعكس ذلك الاستقرار في رد فعل النفس على ذلك المثير، فيصدر عنها ما يعبر عن رد الفعل هذا وهو الفكرة في الحل أو المواجهة.

هو رد فعل النفس على مثيراتها من ذاتها أو من الوسط الذي تعيش فيه.. ثم يكتسب الإنسان على مدى عمره كفرد وعلى مدى وجوده على الأرض كمفهوم، مهارات وخبرات وفنوناً لهذا الفكر وللتعبير عنه وبأساليب مختلفة، تتسجد في كل الابداعات الفكرية التي نراها اليوم متراكمة عن وجود الإنسان وعمره على هذه الأرض.

والجدير بالذكر هنا: هو نسبية المثير بالنسبة لحساسية النفس، فمن الناس من لا يشغله في باله مثير مهما كان غير البحث عن إشباع غرائزه، ومنهم من يكتشف القوانين الكونية من التفكير بحادث بسيط، كما اكشتف مثلاً (نيوتن) قانون الجاذبية من سقوط تفاحة.

والمعرفة الفكرية الإنسانية تتمثل اليوم في الأدب بكل اشكاله وأساليبه وفي الفن بكل أصنافه. ويتعدى الفكر إلى العلوم في نظرياتها وفرضياتها في الظواهر الطبيعية، كرد فعل للنفس الإنسانية لتفسير تلك الظواهر المثيرة.. وقد يكون المثير في الظاهرة غموضها فتبقى تلك النظريات مجرد فكرة، أما إذا كان المثير يمثل مشكلاً بحد ذاته في الظاهرة، فإن النظريات تلك تكون بدايات المرحلة الثانية للمعرفة وهي مرحلة الجدل، سعياً للحل.

فإذا لم تجد النفس الاستقرار في الفكرة، بسبب تعارضها مع ثوابت العقل التكويني أو لأن المشاكل نسبية ومتعددة. والمثيرات متعددة والبيئات متعددة، ...، فإن ردود افعال النفس في افكارها ستكون بالضرورة متفاوتة اتجاه كل قضية وكل مشكلة، بل وحتى في القضية الواحدة، فتنشأ من ذلك المعرفة الجديلة.

هي محصلة تناقض ردود افعال النفس في الأفكار اتجاه المتغيرات من البيئة مع ثوابت العقل التكويني في الإنسان.. وتبرز بشكل شكوك وتساؤلات على أصل الفكرة السابقة في موضوع ما، باتجاه حل جديد، وبذلك تكون الأفكار التي كانت حلاً سابقاً لقضية ما هي الآن مشكلة لقضية جديدة في الجدل.

ويتجسد الجدل في معرفة الفرد في مساحة واسعة جداً من حياته خصوصاً في سني طفولته الأولى ثم تنحسر مع تقدمه في العمر حتى تتلاشى في الذين تنحصر حياتهم في هموم الشيخوخة دون العلم.

أما إذا كان المرء من المترفين، فإن نفسه تتجاوز الجدل الذي يمثل حالة عدم استقرار فيها لتنغمس في ما اترفت فيه كرد فعل يهرب به المترف من نفسه ومن عقله التكويني.. ولذا يصفه المولى جل شأنه بالذين يختانون أنفسهم قال تعالى:

(ولا تجادل الذين يختانون أنفسهم) النساء، 107.

وقال سبحانه وتعالى في نكران المترفين لثوابت المعرفة في العقل بالكذب والكفر: (وقال الملأ الذين كفروا وكذبوا بقاء الآخرة واترفناهم في الحياة الدنيا، ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تاكلون منه ويشرب مما تشربون) المؤمنون، 33.

أما في المعرفة الإنسانية فإن الجدل يمثل معظم حجمها الكبير، والمتمثل في هذا الحشد الهائل من العقائد وتضادها، وفي تطور الأفكار وتعارضها وفي كل التساؤلات التي تثار حول جزئيات الحقائق والقوانين المعروفة.. فالجدل هو الواسطة لتكامل الحقائق ونقل الأفكار إلى أحكام عقلية.

ولذا ففي الجدل مسلكان للنفس لتحقيق استقرارها لذاتها بالعلم.

أ ــ مسلك الهروب:

من ذاتها بالكذب والكفر بالثوابت الكونية وثوابت تكوينها العقلي البديهي؛ وفي ذلك قال الله تعالى:

(ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحظوا به الحق) الكهف، 56.

(ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) الحج، 3 ولقمان، 20.

(إنما يجادل في آيات الله الذين كفروا) غافر، 4.

(وأن الشياطين ليوحون إلى اوليائهم ليجادلوكم) الأنعام، 121.

)إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه) غافر، 56.

هذا هو المسلك الأول للجدل في المعرفة، وهو مسلك مقطوع مجذوذ لا يحقق من المعرفة شيئاً، بل هو معنى لمخالفة تكوين الإنسان العقلي.

والمسلك الثاني للجدل، الموافق لتوجهات العقل التكويني وهو الحوار.

ب ــ الحوار:

وفيه ميزتان للحسن في الجدل هما؛ الأولى أنه ينطلق من حقيقة، والثانية أنه يهدف إلى حقيقة اشمل واثبت.

وردت لفظتا الجدال والحوار في آية واحدة لبيان هذين الميزتين؛ قال تعالى (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركم إن الله سميع بصير) المجادلة، 1.

أما المرأة فإنها ترفع قضيتها إلى الرسول، وهي تشتكي، تبدأ بقضية فيها حق وتريد حقاً من الحق سبحانه، ولكن الطرف الثاني في الجدال هو رسول الحق، فتحولت الشكوى من الجدال إلى الحوار بميزتيه.

ومثل ذلك جدال إبراهيم... للملائكة الذين ابلغوه، بأنهم باءوا بالعذاب لقوم لوط. إنه تناقض وجدال، العذاب حق ولوط لا يستحق ما يستحق قومه، إنه في درجات عالية من عدم استقرار العقل، وكان... يظن أن لوطاً مع قومه، ولذا قال لهم... (أن فيها لوطاً.. قالوا نحن اعلم بمن فيها) العنكبوت، 32.

(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب) هود، 75.

وقد عقّب سبحانه وتعالى على إبراهيم بعد جداله بالمدح مع أنه نُهّي عن هذا الجدال (يا إبراهيم اعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك).

فالجدال مسلك فطري للمعرفة في كل نفس، إلا أن أمر الله تعالى محض حسن؛ فهو الحق وهو الرحمة وهو العدل..، فلا يصح معه الجدال.

ويقع هذا المسلك صحيحاً صادقاً عندما يبرز بتساؤلات وتحريات عن حقائق في موضوع ما، انطلاقًاً من وقائع وحقائق في اليد من ذات الموضوع، أو انطلاقاً من ثوابت المعرفة في التكوين الاساسي للنفس، والتي أسميناها بالعقل التكويني. فإذا حصلت النفس على اجابات صادقة لتساؤلاتها أو تحقق لها وجود وقائع ثابتة من تحرياتها في الحوار تهيأت للحسم في بيان حقيقة جديدة أو فكرة لحقيقة جديدة تبرز في حكم عقلي جديد.

إن النتيجة الحتمية للمسلك الفطري في الجدل هو بلوغ العقل الحسم، والبت في القضايا، ففي كل إنسان لا تستقر النفس بثوابتها التكوينية إلا بانطباق تلك الثوابت مع ثوابت الكون.. ثم تصبح مواقع الانطباق على تلك حقائق تنطوي عليها النفس كمعرفة.

حين مواجهة الشخص لقضية أو مشكل، فإن نفسه تمر بالمراحل الثلاث للمعرفة قبل الحسم. فهي تفكر ثم تجادل في الفكرة، ثم تحسم الجدل بحكم عقلي يتجسد في تعبيرات لغوية أو سلوكية تمثل حسماً لتلك القضية أو حلاً للمشكلة، أما ما نجده في الخبرة الإنسانية ومعارفها من علوم عقلية، فيقع في الاصناف التالية.

1 ـ الحكم العقلي الحكيم في كلام الله: وهو الحق ومصدره الحق؛ قال تعالى:

(ويحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون) يونس، 82.

(إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) الأنعام 57.

ويتمثل الحكم العقلي الحكيم في قول الله تعالى، فيما اوحي للنبيين(ع)، ونجده في الجانب المكتوب منه في الكتب المنزلة غير المحرفة مثل القرآن، أو فيما نقل إلينا من سنة المعصومين(ع) الموافقة للحكيم الحكيم في مضامينه والثابتة الصدق والصحة.

2 ـ الحكم العقلي التجريبي: وهو الصدق الثابت المنقول عن الواقع بالتجربة وتتحقق فيه المطابقة في النفس بين ثوابتها التكوينية في المعرفة (العقل التكويني) وبين ثوابت الكون.. وهي تتمثل اليوم في حقائق العلوم المعرفة التطبيقية التي حصلت عليها الإنسانية من التجربة والتطبيق والملاحظة والممارسة.

3 ـ الحكم العقلي الراجح: هي الحقائق التي حصلت عليها النفوس بالمطابقة بين حقائق عقلها التكويني وحقائق الواقع. وهي حقائق لا شك في ثباتها، لكنها قد تكون بدايات للمسلك الفطري للجدال وهو الحوار لبلوغ تمام التطابق في حقائق اعم وأشمل واكثر ثباتاً.

4 ـ الأحكام العقلية الآنية: وهي تعبيرات لغوية أو سلوكية للنفوس تجتاز بها المواقف والمشاكل المتكررة مع كل وقت لتحسم بها القضايا بما يناسب الميزات الإنسانية الراقية، كوجوب شكر المنعم، ومعظم التعبيرات أو الأفعال في مكارم الخلق والعادات الحسنة التي صارت ارثاً انسانياً يتناقله المتحضرون من بني البشر، هي دليل الثقافة والرقي.

5 ـ الحكم العقلي التسليمي: في العقل التكويني للنفوس؛ نمط معروف للتعلم يعتبر أساس المعرفة، وهو التسليم؛ فالناس ودون تفكير، يسلّمون بالأسماء لمعانيها، هذا قلم، وهذه كارثة طبيعية، وهذه شمس.. إلا أن هذا النمط قد يتعدى التسليم بالأسماء لمعانيها إلى التسليم بالعلل دون تفاضل... وهذا التعدي، هو مدعاة الجدل بأوسع أبوابه وبصنفيه، فلابد من التمييز من أجل بيان أوضح..

والآن وبعد هذه المقدمة عن مراحل المعرفة واصنافها، علينا أن نتساءل؛ ما هو موقع الحوار في المعرفة؟ وكيف يؤدي الحوار مهامه في امضاء رسالة الإنسان في كونه هذا؟

الحوار كما علمنا من المقدمة: مسلك فطري لازم لكل معرفة لبلوغ الحقيقة في أية قضية من القضايا التي لا زالت في مرحلتها الفكرية أو القضايا التي بلغت الحكم العقلي بالترجيح أو التسليم، فتكون تلك القضايا منطلقات للحوار، تبدأ بسؤال أو أسئلة متسلسلة وفق منهج استقرائي منطقي، بحيث يكون الجواب المتوقع قضية للسؤال الذي يليه، فكر، فجدل، فحكم عقلي.. ثم حوار القضية جديدة ففكر فجدل فحكم عقلي.. وهكذا حتى بلوغ تمام الاستقرار، كما هو متبع مثلاً في مناهج دراسة البيولوجيا الجزيئية.

ويمكن ملاحظة تطور المعرفة من فكر إلى جدل إلى عقل من الشكل التالي:

إن الحوار هو الأسلوب الفطري لبلوغ العقل استقراره، وهو رد فعل النفس بالتي هي أحسن على ما تقابله من قضايا ومشاكل.

ولو أردت أن تكون جذاباً في حديثك فعليك أن تصوغه على شكل حوار.. ولو أردت أن تكون مقبولاً في كتاباتك فلا تتجاهل أسلوب الحوار، وتكون جاذبيتك أكثر كلما أحسنت إدارة الحوار.

فما هي معايير الحسن في الحوار؟ وكيف يدار بالحسنى للانتقال بمعارف الإنسان من الأفكار إلى الحقائق، أو من الحقائق إلى أفكار جديدة؟

الحوار كما قلنا هو جدل النفس الصادقة في سعيها للاطمئنان، عن طريق سعيها للمطابقة بين ثوابتها في العقل التكويني مع حقائق الكون الأخرى في الوجود وفي الحياة وفي العقل. ولذا فإن ضوابط حسن الحوار ومعاييرها تبدو في:

1 ـ أن يكون بقصد الحصول على المعرفة لا غير، فلو جاء بغير هذا القصد من عقد النفس بالكبر أو العجب أو الفعل أو التشهير مثلاً.. أو جاء بقصد التسقيط والمغالطة لاثبات القدرة العلمية، أو بقصد التضليل أو الانتقاص من الآخرين.. أو أي قصد آخر غير الحقيقة موضوع الحوار، فإنه يلغي الحسن فيه، بل قد يكون قبحاً.

2 ـ أن يكون المبادر بالحوار والمثير للتساؤلات، يملك اسلوباً حسناً يتميز بمنهج منطقي يقود إلى النتيجة الضرورية للموضوع الذي اتخذه للحوار. وأن يتمتع بالصبر، وقدرة على استعمال الالفاظ المهذبة، والتجاوز عن هفوات خصمه في الحوار ويحاول مساعدته في التعبير عما يريد قوله.

3 ـ أن يسعى المتحاوران أو المتحاورون إلى ما يريدون اثباته بشكل مباشر وذلك باستبعاد الفرضيات الباطلة، وقطع المداخلات الجانبية ذات المآخذ البعيدة عن لب الموضوع.

4 ـ أن يرتب محاور تساؤلاته في موضوع الحوار بما يؤدي إلى ما يريد اثباته خطوة فخطوة وبشكل مبين ولا يعود لموضوع حسم فيه الحوار من تلك الخطوات، لأن ذلك يؤي إلى التقليل من جاذبية الحوار وحسنه، بما فيه من ملل التكرار واللف والدور.

5 ـ أن يكون له من حواره رقيب عليه ومرجع إليه يعترف به خصمه في الحوار، قد يتمثل بحقيقة ماثلة معروفة أو آية بينة أو سلطان علمي مبين، كشخصية علمية أو دليل معنوي شاخص.

6 ـ إذا علم المبادر بالحوار أن خصمه ضال ومضل في حوراه، أو انكشف له ذلك أثناء الحوار، فعليه أن يسايره متظاهراً بعدم علمه به حتى يوصله إلى اوسع هوة في باطله فيركسه فيها بما لا رجعة له فيها وباسلوب ساخر ليكون في ذلك شد وجاذبية أكثر في الحوار لما في ذلك من عبره.

7 ـ إذا علم أن خصمه جاد في الحوار وصادق في طلب الحقيقة، ولكن يجهل جوانب بيانها، فعليه أن يرافقه إلى جوانب بيانها، كأن يقول له أظن أن بيانها في المصدر كذا أو في الموضع كذا، فلنذهب ولنرى، ويطلعان على البيان معاً مع فيض بيانه.

8 ـ أن يكون عالماً قدر الامكان بمسلّمات خصمه، فإذا هي خارج حدود المعاني لمسمياتها انصبت المحاورة على ابطال تلك المسلمات من اصولها، فإن كانت معلولة طالبه بعللها وإن كانت حقائق طالبه باثبات نسبها في الواقع، وإن كانت معايير طالبه بأفضليتها.. وإن كانت قوانين طالبه بمواضع تطبيقها، وإن كانت غيباً طالبه بمصدرها...

9 ـ أن يختار المحاور من المواضيع التي هو فيها على قدر كبير من الاطلاع والسعة والاحاطة وأن يتجنب المواضيع التي لا اختصاص له فيها. فقد يظن البعض، وهذا الظن لا يغني من الحق شيئاً، لأن اصل الحوار هو جدل لا يبرز إلا من حقيقة ولا يقصد إلا حقيقة.. فإذا كان الشخص لا يباشر تلك الحقيقتين في هذا المسلك، فكيف يوصلهما إلى غيره؟!

ومع كل هذه الضوابط المميزة للحسن في الحوار، فإن من حسن التحاور أن يظهر المحاور لينا ومدارة كبيرة لخصمه، ويتحشى الحدة والانفعال والغضب لما فيها من قلة العقل والظهور بمظهر الضعف والقهر، فالمحاورة بذاتها فعالية عقلية تنافي الانفعال والحدة والغضب وما يرتقب منها.

ولذا فمهما كان المرء عالماً محيطاً متندراً في علمه وأدبه ومهاراته وفنه، فعليه أن لا يدخل الحوار،إذا علم من نفسه أنه مزاجي انفعالي حساس.

والحوار نَفَس عقلي، فمن لا يكون له ذلك النَفَس فلا يحسن الحوار منه نعم قد يكون مصدرا في عالمه وادبه وفنه ومهارته يستشهد به.

إن المحاور المحترف، يستفيد كثيراً من غضب خصمه، بل قد يلجأ إلى ما يغضبه ليقوده إلى ما يريد، وذلك باستفزازه بالاسئلة التي تنقله إلى ما يريد، وإذا شاء أن يبرز ضعفه سأله عما أغضبه وتنصل عن قصده.

وفي القرآن العظيم مبادئ رائعة في أصول حسن الحوار هذه نجدها مثلاً في قصة إبراهيم عليه السلام، وهو سيد الموحدين وهو يحاور من أجل إظهار معاني الوحدانية الخالصة لله تعالى في لمة الشرك والوثنية.

والذي يجب أن يكون محاوراً ناجحاً عليه بالإضافة إلى فهم ضوابط الحسن في الحوار وممارستها، أن يطلع على كثير من الحوارات التي ذهبت مثلاً في التراث الإنساني.. وهذه أمثلة منها.

1 ـ كان إبراهيم... قد اتخذ المحاورة اسلوباً في الدعوة إلى ربه وقد تميز هذا الأسلوب عند هذا النبي العظيم وخليل الرحمن... بما يأتي:

أ. الثقة بالنفس التابعة من الثقة المطلقة بالله، فقد امتلك... الحقيقة وآمن بها واطمأن اليها، ولذا فإنه كان دائماً المبادر بالحوار طبقاً إلى تلك الحقيقة التي منحته الثقة بنفسه وربه. فالثبات بالحق هو الذي يمنح إبراهيم المحاور... النَفَس القيادي الذي يسيطر به على المدعين والادعياء.

ب. من أسلوبه في الحوار مسايرة الخصم الظالم حتى يوصله إلى اعمق هوة في باطله، فيركسه فيها بما لا عودة له للتضليل.

ج. لم تكن عداوته... للظالمين والمشركين لتمنعه من محاورتهم واثبات الحجة عليهم.. بل كانت هي الباعث له... في مجابهة اكابرهم ورؤوسهم ليكسرها أمام الملأ. والحقيقة أن في القضايا الجوهرية لا ينفع الحوار مع الأذناب والتابعين.

د. كان... يمسك زمام الحوار، ويبتدئه هو ويوجهه هو، ولا يترك لخصمه فرصة لخلط الأوراق أو التضبيب على الحق عند خسرانه الحوار، كما يفعل المبطلون وباسلوب ذكي جداً لا يدركه خصمه.

إن حواره... كان مع النمرود طاغية عصره.. وكان مع أصحاب الأصنام التي كسرها ووضع الفأس في رأس كبيرها.. هي أمثلة على هذه المميزات في محاجّة إبراهيم وحواره مع الضالين المضلين.

ففي حواره مع النمرود، بدأت المحاورة بسؤال إبراهيم... عن مسالة كان إبراهيم... يعلم أن النمرود كان يدعيها، وهي مسألة الإحياء والاماتة:

قال...: إن ربي يحيي ويميت.

قال النمرود: أنا احي واميت.

قال...: تعني انك تقتل وتعتق كما يفعل كل الناس أم انك تتميز بملكية الأسباب الطبيعية للموت والحياة؟

قال النمرود (وهو لا يريد أن يبدو مثل باقي الناس): بل املك الأسباب الطبيعية للموت والحياة.

قال...: حسناً، ولكن الأسباب الطبيعية جزء من الأسباب الكونية، فهل تملك الجزء أم تملك الكل؟

قال النمرود (وقد اغتر بمسايرة إبراهيم له): بل املك الكل.

قال...: حسناً، فإن ربي يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب لانك تملك الأسباب الكونية وتتحكم بها فأرنا قدرتك يا نمرود(1)

(فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) البقرة، 258.

وهناك أمثلة كثيرة لمن يريد أن تكون له معرفة باسلوب الحوار يجدها في قصص الأنبياء(ع) مع اقوامهم. وللامام علي... مع خصومه، ولزينب(ع) مع ابن مرجانة ويزيد. ويمكن الافادة حتى من حوار بعض الحكماء مع خصومهم، ليتبين للدارس بوضوح كيف تكون شخصية المحاور المقتدر، وليتجنب الحوار المحرج الذي لا يؤدي غرضه.

2 ـ مثال: قال أحد الصحفيين لبرنارد شو الفيلسوف الانكليزي المعروف محاولاً جره للحوار.

قال الصحفي لبرنارد شو:

ـ أنت رجل مادي وتكتب من أجل المادة.

التفت إليه شو بكل برود وهو يبتسم وقال:

ـ وأنت يا صديقي من أجل أي شيء تكتب؟

قال الصحفي معتداً بنفسه:

ـ إنا اكتب من أجل الشرف.

فضحك شو وقال له حسناً يا صديقي اتفقنا.

ـ وعلام اتفقنا؟

أن كل إنسان يسعى إلى ما مفقود فيه.

3 ـ وفي محاورة حدثت بين أحد الزهاد وهارون الرشيد.

قال هارون الرشيد للزاهد:

ـ ما ازهدك؟!

قال الزاهد:

ـ أنت ازهد مني.

قال الرشيد:

ـ وكيف؟

قال الزاهد:

ـ لأني زهدت في الدنيا وهي فانية وزهدت أنت في الآخرة وهي باقية.

4 ـ أراد أحد الخمارين أن يستفز أحد المؤمنين وكان بارعاً في الكيمياء فقال له أأنت كيمياوي؟

قال له المؤمن: نعم.

قال له الخمار: هل تعلم أن الكحول الاثيلي (مادة الخمر) موجود في كل خلية من خلاياك في جسمك؟

قال المؤمن: نعم وماذا تعني بهذا؟

قال الخمار: إذن فلماذا هو حرام وتسمونه منكراً وهو يجري في خلاياكم وعروقكم؟

قال له المؤمن: حسناً ما رأيك بكاس اقدمه لك من الغائط ناقحاً بالدم والبول والمخاط الآن، لأن هذه المواد ليس منكراً حسب منطقك لأنها تجري في عروقك؟!

فضحك الحاضرون.. وقال له أحد الحاضرين لا ترفض العرض فإنه دليل على أنه حارك في المحاورة التي ولعتها، إن رفضت العزيمة


1 ـ انظر تفسير الرازي لهذه الآية، وليس كما جاء في بعض التفاسير من أن النمرود قتل شخص واطلق آخر دليلاً على الحياء والاماتة.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 48

الصفحة الرئيسية