2000

تموز

1421

ربيع الثاني

47

العدد

النبأ

مجلة

 

التحدي الحضاري وخيار التقنين

[email protected] 

 عبد الله موسى

هل من قانون للأخلاق؟

الأخلاق بين الثبات والتغيّر

الأخلاق.. اختلاف التعريف والنظرة

من وصايا لقمان الحكيم لابنه

الأخلاق.. اختلاف التعريف والنظرة

بحثت البشرية علم الأخلاق وعبر تاريخها بشيء من العلمية أحياناً وبنوع من السفسطة والغموض أحيانا أخرى، وعُدّ بعض كبار الفلاسفة بأنهم فلاسفة أخلاق، وقد وقع جل الاختلاف في وصف هذا العلم والقواعد العامة الخاصة به، وكذلك في من يضع القيم الأخلاقية، وقد عرّف علم الأخلاق بأنه (مجموعة من المبادئ المعيارية التي ينبغي أن يجري السلوك البشري على مقتضاها)(1) بحيث تكون هذه المبادئ هي صمام الأمان الذي يحدد وجهة سير الإنسان في تعامله مع غيره وربما يتعدى هذا الغير الإنسان فيشمل باقي الكائنات الأخرى التي تتعايش معه.

والأخلاق لغة جمع خُلُق إلا أن دلالة الكلمة اختصت بعلم معين ويقابلها في اللغات الأوربية كلمة morale بالفرنسية وmorals بالإنكليزية والمأخوذة من المصدر اللاتيني mores.

وعرّف علم الأخلاق بعدة صيغ، ففي معجم (لالاند) يصفه بإنه:

(مجموع قواعد السلوك مأخوذة من حيث هي غير مشروطة) أو هو (نظرية عقلية في الخير والشر، وبهذا المعنى تتضمن الكلمة أن النظرية تنحو نحو نتائج معيارية).

ويعرف لوسن الأخلاق بأنها (مجموع متفاوت النسق من التحديدات المثالية، والقواعد والغايات التي يجب على الأنا أن يحققها بفعله في الوجود حتى يزداد هذا الوجود قيمة) ويلاحظ في هذا التعريف أن الإغراق في الذات بحيث تصبح هي منتجة الخُلُق الذي تبتغيه.

والأخلاق عند جوليفيه هي (العلم الباحث في الاستعمال الواجب لحرية الإنسان ابتغاء بلوغه غايته النهائية)(2).

ويرى (جورج جوسدورف) بأن الأخلاق هي (طريقة معينة للنظر إلى مجهود التعبير عن الإنسان في العالم)(3) وهذا التعريف يفترض أن أفعال الإنسان هي التي تخلق وجوده بينما الأفعال فهي للتعبير عن نفسه في العالم.

والتعريفات السابقة وإن كانت متفاوتة من حيث تحديد غاية الأخلاق ومن حيث خضوع هذه التعريفات لمذاهب ونظريات واضعيها، إلا أن شيئاً واحداً يجمع بينها وهو أن الأخلاق هي مبادئ معيارية، أي أنها ليست نظرية تصف وتصدر أحكاما واقعية بل أحكام تقويمية (أوامر) تأخذ صفة الإلزام قانوناً أو عرفاً ولا يستثنى من ذلك أي مجتمع من المجتمعات. والأخلاق وإن اختلفت البنود التي يتفق عليها عقلاء المجتمع أو الموروث أو الاختلاط الثقافي بين الأمم، يمكن أن ترسو عند قاعدة عمومية يكون فيها الفرد محكوماً بأخلاق غيره، فالهندي الذي يعبد البقر والزرادشتي وغيرهم ملزمون ببعض الأعراف بحكم وجودهم ضمن المجتمع الإسلامي، وكذلك العكس صحيح فالمسلم في المجتمع الهندي يلزم ببعض الأعراف ومنها عدم إهانة عقيدة الآخر مع ما فيها من كفر وفساد يأمره دينه الذي قام على الإيمان والفضيلة بمحاربتها، ولكن الفقهاء اليوم يفتون بضرورة احترام المسلم لغيره في المجتمعات الكافرة وذلك بضرورة احترام قانونهم.

الأخلاق بين الثبات والتغيّر

من بين كل العلوم (النظرية) ينفرد علم الأخلاق بقابليته للتغير واستبدال مفاهيمه حسب ظروف المكان والزمان ويشبه الأمر إلى حد ما تطور اللغة في بعض الأوجه، حيث تدخل بعض المفردات الغريبة إلى اللغة ومن ثم تصبح جزءاً منها، وكذلك في القواعد الأخلاقية بصورة عامة فإنها تقع تحت تأثير عوامل التغير، فتكسر بعض القواعد الأخلاقية، لتحل محلها قواعد مهجّنة تصبح فيما بعد قواعد أخلاقية أصيلة في بيئتها ومجتمعها، وهنا لابد من الإشارة إلى أن قوانين الأخلاق الإسلامية لا تخضع للتغيير بهذه الطريقة، ولكنها لا تشذ عن تطور أخلاق الأمم والشعوب وهذا الأمر نراه وكما أسلفنا، في حالة تعايش المسلم مع المجتمعات الأخرى وضرورة احترام قوانين الغير، وهذا ما لم يكن محدداً بالكيفية التي نراها اليوم، إلا أن هناك إشارات في القرآن الكريم والحديث الشريف وضع من خلالها علماء الأمة قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) موضع التنفيذ من أجل الحفاظ على حياة المسلم واستمراريته في أداء دوره الإنساني، وهناك أمثلة كثيرة من هذا النوع إلا أنها تتطلب دراسة اختصاصية لربط دورها في عملية التغيير في السلوك والأخلاق البشرية كالتقية مثلاً والاستثناءات الخاصة ببعض المعاملات، وحتى في العبادات.

وتمتاز الشريعة الإسلامية، بأنها أول من وضع تشريعاً كاملاً للأخلاق، فالقانون الأخلاقي في الإسلام يلزم أفراده إما عن طريق العقوبة الدنيوية أو الأخروية أو بالثواب والجزاء العاجل والآجل أيضا، وهنا لابد من الإشارة إلى أن التغيير الذي يحصل لا يشمل مجموعة القيم والنظم الأخلاقية الأساسية التي ثبتها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وأحاديث وسيرة أهل البيت(ع) وإنما تقع دائرة التغيير في مجال الآداب والتي يمكن تصنيفها ضمن المستحبات في التشريع بينما تقع الأخلاق ضمن الحقلين الآخرين في التشريع الإسلامي وهما الواجبات والمحرمات، ففي حقل الآداب يكون المسلم مخيراً في بعض الحالات بين البقاء على الآداب السابقة أو المعدلة وفي أخرى يلزم باتباع إحديهما بحسب الظرف الزماني والمكاني، وهنا ترتبط بعض مفاهيم علم النفس وظواهره مع ظواهر علم الاجتماع رغم كونه مستقلاً من حيث النظرية وارتباطه بفسيولوجية الإنسان، فمثلاً يرجئ علم الاجتماع بعض الجرائم التي يرتكبها الإنسان إلى المنشأ النفسي (المرضي) وتأخذ بعض القوانين الوضعية هذا العامل سبباً في تبرئة المجرم كونه غير مسؤول مباشرة عن جرمه، وربما يدخل تطور علم النفس في عملية التغيير في هذا المجال، حتى في القانون الإسلامي، لأن الدين الإسلامي دين قابل للتطور في قوانينه إذا ما كان هذا التطور غير مخل بالقانون الأساسي.

ومنشأ علم النفس ووجوده بالأساس هو أخلاقي.(4) فلو أخذنا ظاهرة الانتحار التي تتداخل في حصولها عدة عوامل نفسية ـ أخلاقية ـ اجتماعية ونخضعها للدراسة في مجتمع معين وفي فترة زمنية معينة نجد أن العامل الأخلاقي له الدور الأساسي في إقبال المنتحر على فعلته والدليل على ذلك أن هذه الظاهرة هي نادرة الوجود في كل المجتمعات الإسلامية بحيث لم يكن للتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية أي تدخل إلا في حالات خاصة جداً بقدر ابتعاد المسلم عن دينه وعن تعاليمه، فالمسلم الذي تشكل في وعيه أن (قاتل نفسه في النار) غير قادر على اختراق هذا القانون بسهولة بحكم الطبيعة النفسية والاعتقادية التي تتحكم به، وقد ذهب علماء الغرب ومنهم (دوركهايم) إلـــى أن الضمير هو مصــــدر الأخلاق ومنـــشأه حيث يقول (حين يتكلم الضمير فالمجتمع كله يتكلم فينا)(5) وهذا الأمر خاضع للنقاش من الأساس، فمن غير المحدد والثابت بأن ضمير المجتمع بمجموعه يشكل وحدة ضمير الأفراد حيث النتيجة غير منطقية خصوصاً بعد التطبيقات التي نراها الآن وبالخصوص في المجتمع الغربي كما أن الضمير نفسه خاضع لعوامل اعتقاديه وتربوية كما أشرنا إلى ذلك في بداية البحث.

وربما أفضل رد على مذهب (دوركهايم) ـ وضمن منظومة القيم الغربية بالطبع ـ هو رد جبرييل ما دينييه الذي يقول:

(إن الحياة الاجتماعية لا تخلق الضمائر، بل تكيفها وتشكلها. وإذا كان المجتمع لا يزود الفرد بأداة التمييز بين الخير والشر، فإنه يساعده على امتلاك هذه الأداة. فعلى شكل نظام مقرر، بواسطة سلسلة من الضغوط والقدوات، يقدم المجتمع إلى الفرد مادة لحكمه الشخصي ويوجه هذا الحكم ويحدد منحنى العقل، وقليل من الناس يتحررون من هذا السلطان ولا أحد يتحرر تماماً منه).

وبالنسبة لشخصية المسلم وضميره فهما محصنان من الانحراف ما أطاع ربه حيث يقول القرآن الكريم (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته)(6) والعكس بالنسبة للعاصي (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض)(7) كما أن آيات القرآن الكريم تعطي القوانين الأخلاقية صفة الإلزام لتدخل إلى النفس الإنسانية ونزعاتها فيقول (إن الله لا يحب كل مختال فخور)(8) وفي آية أخرى يأخذ القرآن الكريم أسلوب التحذير التربوي الاحترازي فيقول جل من قائل (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)(9) ويؤكد القرآن الكريم على الربط بين القانون الأخلاقي والانحراف الذي يحدث في المعاملات التجارية فيقول (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس)(10).

ونخلص إلى القول بان أخلاق المسلم يحكمها عامل الثبات كونها نابعة من اعتقاده وضميره بينما أخلاق غير المسلم والذي لا يلتزم بدين سماوي منزل، يلعب عامل التغير دوراً كبيراً في حياته حيث غالباً ما تكون الأخلاق وتغيرها نوعاً من التغير الاجتماعي ومصداق ذلك المجتمع الغربي الذي اتسمت مراحله التاريخية بموجات وصرعات غيرت من ملامحه الاجتماعية أو ألغتها لتحل محلها قيم جديدة بحسب تطوره ونموه...

هل من قانون للأخلاق؟

إن الحديث عن أخلاق المسلم الشرقي أو المسلم الغربي، أو البوذي في الهند أو في اليابان لا يوصلنا إلى تحديد معين للأخلاق كقانون شأنه شأن القوانين الأخرى، وفي ظل القوانين الجديدة وحلول (العولمة) المصدرة لنماذج خاصة من القوانين بما فيها الأخلاق يجعلنا كمسلمين أمام أمرين: الأول، إغلاق كل الأبواب أمام العالم والانزواء في الصحارى والجبال للتحصن من هذا القانون القادم عبر الأثير والهواء والأرض، وهذا الحل ضرب من المستحيل. والثاني، المشاركة في تصدير الحضارة الإسلامية بكل قوانينها إلى العالم وقبلها تحصين عقل المسلم ليصبح قادراً على التمييز ومحو حالة المقصرية من وعيه (فالعولمة في جوهرها تعني عبادة السهل على حساب الحقيقي، على حساب الأخلاقي... مبدلاً من الصراع والبقاء للأقوى أصبح الأمر الآن البقاء للأسهل)(11) وهذا أخطر ما في العولمة ومن يقلل من شأن هذه الخطورة سيكون مصيره مصير من صفق للحالة الاستعمارية وحداثتها في القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين، ثم ذاق مرارة الذل مرتين، الأولى من قبل أبناء جلدته الذين رفضوا هذا الغزو والثانية من قبل من ناصرهم، فرموه في سلة النفايات بعد أن حققوا أهدافهم وبينما يبقى خيار القوة بأشكالها الجديدة مفتوحاً، نبقى نحن والشعوب التي تروم الحفاظ على هويتها الأخلاقية الخاصة بها، في بحث دائم عن وسيلة للتفاهم مع هذه (الحضارة) القادمة حيث سقوط خيار الصدام في ظل معطيات العولمة الجديدة. فكيف يمكن تصور شكل هذا التفاهم وما هي آليته؟

تحدث الكثيرون من مسلمين وغير مسلمين عن الحوار وآلياته كل بحسب ما يريد من المكاسب والمحافظة عليها، وكان الجانب الأخلاقي هامشياً في الكثير من بقاع الأرض، فلا تجد أوربا ـ مثلاً ـ حرجاً في تقبل النموذج الأمريكي للأخلاق وقد لا يهتم الياباني لهذا الأمر بقدر اهتمامه بالاقتصاد مثلاً وكذلك يمكن قياس درجات تقبل (أخلاق العولمة) بالنسبة لدول وشعوب أخرى، بينما ما يهمنا نحن المسلمين هو كيفية المحافظة على الهوية الثقافية الأخلاقية والتي تنفرد بميزات لا توجد في أية ديانة أو معتقد آخر، بل ويمكن القول بأن ضياع الهوية الأخلاقية للمسلمين هي بمثابة إلغاء الدين برمته ـ لا سمح الله ـ.

ومن الآليات التي يمكن طرحها عالمياً هي إيجاد نوع من الاتفاق على قيم عامة قد لا تمانع حتى المجتمعات والقوى المصدرة لثقافة العولمة في تقبلها ما دامت لا تضر بمصالحها حسب أولويتها، حيث من المعلوم أن الأهداف الرئيسية للعولمة هي كثيرة وآخرها عولمة الأخلاق.

والآلية الثانية هي تكثيف الحملات الإعلامية لتكوين رأي عام عالمي ـ على مستوى المجتمعات ـ وتشكيل الجمعيات الخاصة بالحفاظ على القيم الأخلاقية والتي قد تجد قبولاً غير متصور خصوصاً إذا عرفنا أن أكثر المجتمعات المادية هي في نزوع دائم للتخلص من حالة الفراغ التي طغت عليها فإحالتها إلى جمادات ناطقة.

وهناك آلية ثالثة لنشر الأخلاق المضادة للهجمة العالمية القادمة من مصدري ثقافة العولمة، وهي تكوين بؤر إسلامية في كل أنحاء العالم عن طريق الجاليات الإسلامية في هذه البلدان ودعم جهود هذه الجاليات لتمكينها من أداء المهمة.

أخيراً، لابد من التأكيد على أن الخطر الرئيسي على الأخلاق هو من داخل البيئة الاجتماعية وتركيبتها الثقافية والتربوية والسياسية، وقد قال رسول الله( كيفما تكونوا يولى عليكم) ومجتمعنا بحاجة إلى ترتيب أولويات حياته من جديد لتتلاءم مع عالم اليوم، ومن ثم تكون البداية الحقيقية لعصر العودة إلى الإسلام...

من وصايا لقمان الحكيم لابنه

قال لقمان الحكيم لابنه: لا يتمّ عقل امرئ حتى يكون فيه عشر خصال:

1. يكون الكبر منه مأموناً.

2. الرشد فيه مأمولا.

3. فضل ما لديه مبذولا.

4. لا يصيب من الدنيا إلا القوت.

5. التواضع أحب إليه من الشرف.

6. الذل أحب إليه من العز.

7. لا يسأم من طلب المعالي.

8. لا يتبرم بطلب الحوائج إليه.

9. يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثيره من نفسه.

10. أن يرى جميع الدنيا خيراً منه، وأنه شر منهم، وهذه الخصلة تشيد مجده، وتكبد ضده، وتعطي قدره، وتطيب في العالمين ذكره.

الهوامش

1 فلسفة الأخلاق في الإسلام/ محمد جواد مغنية. ط3، 1984، بيروت.

2 الأخلاق النظرية، د. عبد الرحمن البدوي، الكويت 1976.

3 المصدر السابق.

4 راجع مقالة الجذور الأخلاقية لأمراض النفس، النبأ العددان 39،40.

5 الأخلاق النظرية، د. عبد الرحمن البدوي.

6 الحج 52.

7 الحج، 53.

8 لقمان، 18.

9 الأنفال، 25.

10 البقرة، 275.

11 الإسلام والعولمة (ندوة)، د. عبد الوهاب المسيري.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 47

الصفحة الرئيسية