2000

تموز

1421

ربيع الثاني

47

العدد

النبأ

مجلة

 

وجوب الشورى

(1 من 2)

دلائل الإلزام القرآنية


ناصر حسين الاسدي


الخلاصة

الدليل من الكتاب العزيز

المقدمــة

المقدمــة

في العدد السابق ذكرنا تحت عنوان: (الإسلام والتعددية، منهج واصالة...) عدة منطلقات أساسية تؤكد ضرورة التعددية السياسية والمرجعية و... والسؤال الملح هنا: هل أن المطلوب في (التعددية المرجعية) أن تكون (تعددية متخالفة ومبعثرة) أم تعددية حضارية ومنظمة تحت مظلة (شورى الفقهاء المراجع)؟

والجواب بديهي ولا يختلف فيه اثنان.. فالواقع الحضاري والتقدمي هو المطلوب ولا خيار غيره.

فـ(شورى الفقهاء المراجع) مجمع لما ذكر من الإيجابيات في التعددية وهي بلورة وإنماء لما ذكر في فلسفة التعدد.. فبعد أن ثبت : أن التعدد القيادي لا مناص منه يأتي بصورة طبيعية وموضوعية دور (الشورى) .

ثم أن (شورى الفقهاء) صيغة حضارية رفيعة في قيادة الأمة وتفجير طاقاتها وعلاج معضلاتها، فهل أن (شورى الفقهاء) واجبة شرعاً؟

أم أنها مستحبة ليس إلا؟

هذا ما سنحاول الإجابة عليه على ضوء الأدلة الشرعية والعقلية إنشاء الله.

الدليل من الكتاب العزيز

استدل من كتاب الله العزيز بالآية الكريمة : (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)(1).

وفي الآية مباحث عديدة نتناول بعضها فيما يلي:

أولاً: هل تشمل غير النبي

إن الآية الكريمة تخاطب رسول الله(ص) فهي لا تدل على أنها موجهة إلى غيره أيضاً..

والجواب

1 - إن (مناط الأولوية) يؤكد أنها تشمل غيره(ص) وذلك لوفور عقله(ص) وسعة اطلاعه، وتسديد الوحي له وكونه معصوماً لا يسهو ولا ينسى ولا يغفل ولا يرتكب حتى المكروه فحسب وخلاف الأولى وما يخالف المروة.. رسول الله منزه عن كل ذلك مضافاً إلى أنه مستغنٍ عن رأي الآخرين.. لأنه أعلم من كل البشرية بالدين وبالدنيا.. مع ذلك كله يأمره الله تعالى بالمشورة.

إذا كان الأمر كذلك، فكل عاقل يدرك أن المشورة لازمة على غيره(ص) مهما كان عبقري الفكر، وعميق الفهم وواسع الإطلاع والمعرفة.. بل إنه مهما بلغ من الكمال العقلي، والنضج الفكري والتجربي، لا يبلغ حتماً عشر معشار كمال رسول الله(ص) الفكري والعقلي ومع ذلك كان يستشير وكذا كان أمير المؤمنين… وأولاده المعصومون(ع) حيث كانوا جميعاً جادين في الالتزام بالشورى حتى في صغائر الأمور، ففي حديث شريف عن الحسن بن الجهم قال: (كنا عند أبي الحسن الرضا…، فذكرنا أباه (ع) موسى بن جعفر(ع) قال: (كان عقله لا يوازن به العقول، وربما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟ فقال: إنشاء الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه، وقال: كانوا ربما أشاروا عليه بالشيء فيعمل به من الضيعة والبستان (2) على كل حال فغير الرسول بطريق أولى تلزم عليه المشورة.. خصوصاً وأن الإنسان جبل على الجهل والخطأ والغفلة والنقص (إنه كان ظلوماً جهولاً).. ورسول الله كان يأخذ بالشورى حتى في صغائر الأمور، فغيره أولى بالأخذ بها في كبائرها كالولاية والحكم والمرجعية.. ومن هذه الأولوية يظهر: إن الشورى لو كانت مستحبة له(ص) فهي واجبة على غيره، خصوصاً في الشؤون المصيرية.. لأن كل إنسان معرض للسهو.

2 - هذا .. مضافاً إلى أن الرسول(ص) أسوة لنا حيث قال تعالى: (ولكم في رسول الله أسوة حسنة).. فالأمة مأمورة بالتأسي به في كل الأمور .. لا سيما مهماتها كالشورى..

3 - .. ومضافاً إلى أن الخطابات القرآنية الموجهة إليه(ص) لا تقصده منفرداً: بل هي موجهة إلى الأمة بأسرها.. في كل مكان وزمان، ومن البلاغة أن يوجه الخطاب إلى فرد خصوصاً لو كان ممثلاً لأمة كالرسول(ص) ويقصد به الجماعة وقد ورد في مضمون حديث شريف: (إن كتاب الله العزيز ورد على لغة : إياك أعني واسمعي يا جارة.. ).

بناءاً على هذا.. فكل الخطابات الموجهة إلى الرسول(ص) هي موجهة للأمة أيضاً مثل (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل)(3). و (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم)(4)، وعشرات أو مئات الأوامر والخطابات القرآنية الأخرى.. كلها تشمل رسول الله(ص) والمسلمين جميعاً..

واعتبر العلماء ذلك هو الأصل المعتمد.. ولا يحيدون عنه إلا لو قام دليل قاطع على أن الرسول(ص) وحده المقصود بالخطاب وليست الخطابات الخاصة إلا نوادر شاذة.. وقد عد الفقهاء مختصات النبي(ص) ولم تبلغ الثلاثين(5) .. فيعرف منه أن الخطابات تشمل غيره أيضاً وليست خاصة به(ص).

ثانياً : هل السياق يدل على الاستحباب ؟؟

سياق الآية الكريمة لا يفهم منه إلا الاستحباب، حيث يقول تعالى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)(6) فذكر العفو والاستغفار المستحبان ثم ذكرت المشاورة.

فهل يكفي ذلك في دلالة الآية على الاستحباب؟؟

الجواب

1 - لقد اتفقت كلمة الفقهاء إلا الشاذ النادر على أن الأمر ظاهر في الوجوب، ولا يحمل على الاستحباب إلا إذا قامت قرينة صارفة له عن الظهور الوجوبي.. فالأمر في (شاورهم) كذلك ظاهر في الوجوب..

2 - وحتى لو كان هذا الأمر استحبابياً للرسول(ص) فإنه واجب على الأمة.. لوجوه الأولوية الآنفة الذكر، حيث أن الرسول(ص) لم يرتكب حتى خلاف الأولى.. وغيره يرتكب شاء أم أبى عشرات الأخطاء والمكروهات وأنواع الغفلة والسهو ومعرّض أيضاً إلى الحرام في كل لحظة..

3 - ولم يثبت: أن السياق يدل على الاستحباب.. لاحتمال أن ما ورد في الآية أمور واجبة (لأهميتها السياسية والاجتماعية في ظروف إقامة الدولة الإسلامية) و (إذا جاء الإحتمال بطل الإستدلال).

4 - ثم إن السياق القرآني بصورة مطلقة لا يدل دلالة قطعية على الوجوب أو الاستحباب فمثلاً في الآية الكريمة: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً(7) ذكر القرض المستحب، بعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة الواجبين، وكذا في (آية التطهير) التي استدل الكلاميون والمفسرون على المراد من كلمة (أهل البيت(ع) فيها بأنهم  (ص)آل الرسول(ع) لا زوجاته، مع أن سياق ما قبلها وما بعدها يخص زوجات النبي، وكذا في الآية الكريمة: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم (فهذه مستحبات) فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة (وهذا واجب) إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً(8). فالسياق لا يدل على وجوب أو ندب، لا في الكتاب ولا في السنة، حيث أن هناك جملة من الروايات دمجت المستحبات بالواجبات، والفقهاء اعتبروا كل أمر ظاهر في الوجوب إلا إذا قام دليل على خلاف ذلك، أو قرينة صارفة.

ثالثاً : هل الوجوب من مختصات النبي

وقد ذهب المفيد (قدس سره الشريف) إلى وجوب الشورى على الرسول(ص) وأنها من مختصاته(ص) لتأليفه القلوب واستمالتها وجذبها لكونه قائد الأمة، والقيادة المستقيمة تجتذب القلوب ليطيعها الرجال وتخضع لها الرقاب، وبناءاً على قوله (رحمه الله) تكون الشورى مستحبة على غير النبي(ص)؟

الجواب

1 - إن غير الرسول من القادة أحوج إلى تأليف القلوب واستمالتها.. والسبب واضح.. حيث أنه(ص) أكمل الكُمَّلين ونبي من الله مفترض الطاعة ومؤيد بالمعجزات الباهرات، وفضائله ومناقبه في أعلى قمة شامخة فالقلوب تميل إليه كل الميل.. أما غيره من القادة (كالمراجع مثلاً) الذين لا يملكون إلا قطرة من بحر كمالات واحد من تلامذة الرسول(وهو علي).. كيف تميل إليهم القلوب.. والعقول.. كما تميل إلى الرسول؟، (فالشورى) بالنسبة إليهم أولى، بل إن أعظم مراجع التاريخ لا يستطيع تأليف قلب أضعف الناس بقدر تأليف الرسول( لقلوب رؤساء القبائل وأهل الحل والعقد من قومه والرسول(ص) مثلاً لو أراد تجييش جيش لمقابلة عدو.. تخضع له الرقاب، وتلين له النفوس حتى لو لم يستشر أحداً.. لكونه نبياً معصوماً ومجمعاً للمكارم والصدق والنبل.. مع ذلك أمره الله بالشورى لاستمالة القلوب (حسب نظرية المفيد قدس سره).. أما المرجع إذا أراد تجييش جيش لمحاربة عدو فإنه أحوج إلى (الشورى) لأن المراجع الآخرين لا يخضعون له.. كما خضع صحابة الرسول ورؤساء قومه له(ص)..

2 - مضافاً إلى ذلك.. ففي المقام أولوية أخرى.. هي كمال عقل الرسول(ص) وغزارة علمه وفهمه وعدم احتياجه إلى تقليب واستظهار آراء الآخرين.. ونقص عقل وعلم وفهم المرجع مهما بلغ في عبقريته.. فالمرجع أولى بالإستشارة من النبي(ص).. حسب مناط الأولوية(9).

رابعاً : هل تختص الآية بالحرب فقط ؟؟

وقد يُستشكل على دلالة الآية الكريمة على (شورى الفقهاء) في الشؤون العامة بكون الآية واردة في مورد الحرب، فتخص شؤون الحرب.. ولا تشمل الشؤون السياسية والإدارية السلمية كإدارة الدولة وتنظيم شؤون الأمة وما شابه ذلك.. ؟

والجواب

إن هذا الإشكال لا أساس علمي له.. وقد اتفق الفقهاء على القاعدة الأصولية المشهورة القائلة: (خصوصية المورد لا تخصص الوارد (.. والمثال المعروف الذي يذكره الأصوليون في هذا المقام هو ما لو قال الطبيب للمريض الذي رآه يأكل الرمان الحامض: (لا تأكل الحامض(.. فهل معنى ذلك: لا تأكل الرمان الحامض فقط.. أو يشمل الليمون والخل وكل حامض؟ فالمورد (أكل المريض للرمان الحامض) لا يخصص الوارد (لا تأكل الحامض) وهكذا في ما نحن فيه بالنسبة للآية الشريفة.. فالأمر بالإستشارة في مورد معين كالحرب لا يعني خصوصية ذلك الأمر بذلك المورد فقط.. إلا إذا قامت قرينة قطعية مخصصة لعمومية الوارد.. (... وإن يشاورهم في الأمر، لا فيما يقصد باللقاء مع الكفار مستقبلاً فحسب، ولكن في كل شأن من شؤون الأمة، حتى لا يساور بعضهم القلق إن ترك من غير أخذ رأيه، أو تتثاقل قدماه في الحركة في توجيهه للقتال، أو دعي إليه ولم يُستشر فيه.. )(10).

وجاء في تفسير الميزان: (واللفظ وإن كان مطلقاً لا يختص بالمورد.. غير أنه لا يشمل الحدود الشرعية وما يناظرها.. وإلا لغى التشريع.. )(11).

خامساً : شمولها لكل الأمور

ورب معترض يستشكل على دلالة الآية الكريمة على الشورى بصورة مطلقة.. و (شورى الفقهاء) بصورة خاصة.. بأشكال مفاده: إن كلمة (الأمر) مفردة محلاة بالألف واللام، ومثلها لا يفيد الإطلاق أو العموم، فكيف يستفاد منها ذلك؟ فهي لا تشمل كل الموارد والشؤون المصيرية العامة للأمة.. فلا تكون الشورى الفقهائية واجبة؟!

والجواب

1 - إن مقتضى الفهم العرفي من الآية هو الإطلاق والشمول.. كالفهم العرفي في الاية الكريمة (أحل الله البيع( إذ اعتبر الفقهاء كلمة (البيع) مطلقة شاملة لكل أنواع البيوع إلا ما خرج بالدليل، كما أن الأصل في (ال) أنها للجنس لا للعهد، ولا تكون للعهد إلا بالقرينة.. وأكد علماء البلاغة والأصول هذه الحقيقة(12).

2 - ثم أن (الألف واللام) في (الأمر) قائمة مقام ضمير الجمع.. أي (شاورهم في أمرهم) وهذا واضح، لأن الشورى لم تجب عليه(ص) في أمره الخاص.. بل في (أمرهم) العام حسب القرينة المقامية الموجبة للشورى ولا قائل بوجوب المشورة عليه(ص) في أمره الخاص.. والمفرد المضاف (أمرهم) يفيد الإطلاق.. ولا يخص أمراً واحداً بعينه. قال المحقق العظيم الميرزا النائيني (قدس سره الشريف): (... ودلالة كلمة (الأمر) المباركة، وهي محلاة بالألف واللام، وتفيد العموم الإطلاقي على أن متعلقها الشورى في الشريعة المقدسة، كل الأمور السياسية في غاية الوضوح، وخروج الأحكام الإلهية (عز اسمه) من هذا العموم من باب التخصص لا التخصيص)(13).

3 - ولو سلمنا - جدلاً - أنه لا إطلاق لكلمة الأمر.. ومقصود الآية الكريمة ليس إلا مورد واحد فقط.. فماذا نصنع بعمومية المناط؟ حيث أن طبيعة الشورى لا خصوصية لها بمورد معين.. والفلسفة المذكورة للشورى مثل تأليف القلوب وبعث الحماسة المعنوية في النفوس لتنفيذ القرار، وغير ذلك تشمل عموم الموارد والموضوعات المصيرية العامة.. فلو أن مورد الآية هو الحرب.. لا يعني أن موارد السلم والحكم التي قد تكون بعضها أهم من بعض موارد الحرب.. لا تجب فيها الشورى؟ وتبطل فيها فلسفة الشورى؟

4 - وحتى لو اختصت الشورى للنبي( في مورد واحد معين فالأولوية واردة هنا أيضاً بالنسبة للمراجع.. لأن رسول الله كامل العقل والنفوس مطيـــعة والأعناق خاضعة له باطمئنان ولا يرد بالنسبة له الحديث الشريف: (أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله ) ويرد لغيره.. فلا حاجة له إلى المشورة في كل قضية ومورد أما المراجع وأمثالهم من القادة الإسلاميين.. هل بلغوا منزلة الرسول(ص) في تأليف القلوب وكمال العقل وجمع المحاور وغير ذلك؟..

فالآية حتى لو كانت في مورد خاص.. ولا تشمل الموارد الأخرى فإن ذلك خاص بالنبي أما المراجع فهم أولى بالإستشارة في عموم الموارد.. لكونهم أحوج إليها بدرجات من الرسول(ص).

سادسـاً : بين الإستشارة والشورى

وقد يعترض على دلالة الآية الكريمة على وجوب الشورى بأن (الإستشارة) هي الواجبة.. فمن أين يقال أن الشورى أيضاً تجب؟.

والفرق بين (الإستشارة) و (الشورى) هو: إن الأولى لا يلزم فيها المستشير برأي المستشار وله أن يطرح رأيه جانباً ولا ينفذ شيئاً منها.. بينما في (الشورى) يلزم باتباع الأكثرية.. وكلمة (شاور) على وزن (فاعل) تأتي للتشبه بحالة ليست واقعية مثل (ضاحك) أي: أظهر الضحك.. وإن لم يكن قد ضحك واقعاً..

الجواب

1 - إن هذا الفرق غير ثابت لغوياً .. بل هو المتداول في أذهان المستعربين.؟. لا العرب الجاهليين والمخضرمين.. ولغة عرب اليوم ليست حجة.. ولم يثبت أن هذا الفرق كان منذ القدم أو في عهد النبي (ص).. فلا فرق في الواقع بين الشورى والإستشارة.

2 - وحتى لو سلمنا أن الإستشارة في الآية: هي المشورة دون أخذ رأي المستشارين.. إننا نضطر أن نحمل المعنى هنا على (الشورى) لئلا يلزم نقض الغرض من (الإستشارة) وانقلاب الهدف المرجو منها إلى عكسه والغرض هو تأليف القلوب وغير ذلك.. فلو استشار الرسول(ص) رؤوس قومه.. ثم خالف أكثريتهم فهذا يستلزم بصورة طبيعية نفور القلوب، والإحساس بعدم واقعية الرسول(ص) وخداعه إياهم ويثبت استبداده برأيه وهذا مرفوض جملة وتفصيلاً إضافة إلى أنه لا يناسب مقام النبوة والعصمة.. وِشواهد التاريخ تؤكده إذ  (ص)لم ترد حادثة واحدة تدل على أن الرسول( تمسك برأيه في أمر شوري )(14) ولو كان لبان.

فلا يجوز اعتبار قصد الآية: مشورة الرسول(ص) وعدم تنفيذ رأي الأكثرية (وليس الأمر عبثاً صبيانياً: استشر الناس ثم خذ رأياً بعد ذلك لا تلتفت فيه إلى آراء الناس.. الشورى التي لا تلزم من ينفذونها شورى لا قيمة لها وهي نوع من العبث واللعب، فالشورى الناقصة شورى مزورة مرفوضة(15).

ولو كان الكتاب العزيز يوجب طاعة الرسول(ص) على كل حال وبلا مشورة انطلاقاً من كونه ممثلاً للوحي وسفير السماء إلى الأرض.. كانت الأمة تعتاد طاعة الرسول(ص) من دون مشورته معها، وحينئذ يختفي رأي الأكثرية، ولا يتبين هل أنها مؤيدة لقراره( أو معارضة له لأن الأكثرية والأقلية تظهران للعيان بعد المشورة.. أما قبلها فلا تظهر إحداهما.. أما إذا أمره الله (عز اسمه) بالمشورة، ولم يلزمه الخضوع لمصوباتها.. فهذا معناه إثارة عواطف الأمة.. وجرح كرامتها ونفورها عن سيد المرسلين (والعياذ بالله).. فهل هذا معقول؟.

سابعاً : الشورى ثم العزم

واعترض على دلالة الآية على (الشورى) بكلمة (عزمت) الموجهة إلى النبي (ص).. والتي يفهم منها بدواً: إن العزم من النبي (ص) منفرداً.. ولا أثر لمشورته أصحابه في عزمه وقراره.. وهذه قرينة على أن له (ص) مخالفـــة أهل الحل والعقد الذين استشارهم..

والجواب

1 - إن هناك جملة من المفسرين فسّروا الآية هكذا : (فإذا عزمت) يعني على المشاورة (فتوكل على الله) أي فاستعن بالله في أمورك كلها، والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله تعالى في جميع أموره، وإن (المشاورة لا تنافي التوكل )(16).

فإذا وضح أن قوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله) لا علاقة لها بعدم الزامية الشورى سقط الاستدلال بها ..

2 - ومضى سابقاً، أن الخطابات الموجهة للنبي(ص) موجهة أيضاً إلى أمته.. فيكون المعنى هكذا: (فإذا عزمتم فتوكلوا على الله).. وليس لها اختصاص بالنبي (ص)..

3 - إن الفاء في (فإذا) للتفريع.. أي أن العزم متفرع على المشورة فيكون المعنى هكذا: (فإذا عزمت بعد المشاورة في الأمر على امضاء ما ترجحه الشورى فتوكل على الله في امضائه)(17) فهو عزم شوروي.. وليس عزماً فردياً.. أي عزم وفق ما صوبته الشورى.. لا وفق رأيه( المخالف لأكثرية الشورى فنسبة التاء في (عزمت) إلى النبي لا تعني اتخاذه قراراً انفرادياً وإنما نسبت له باعتباره المخاطب، والقائد لأمته.. كما لو أن شعباً ما اتخذ قرار الجهاد ضد عدوه.. وأعلن رئيسه القرار للملأ العام يصح أن يقال: الرئيس الفلاني اتخذ قرار الحرب ويصح أيضاً: الشعب اتخذ قرارها..

فـ (عزمت) موجهة للنبي(ص) ولكنها تشمل أهل مشورته أيضاً.. بمعنى أنه يصح (عزمتم) والله العالم.

4 - وحتى لو اتخذ القرار وعزم بمفرده.. فإنه( يمثل أمته تمثيلاً كاملاً وصحيحاً.. أي أن رأيه يعبّر عن رأيهم وعزمه عن عزمهم.. لكونه قائداً أدرك طموح وإرادة أمته المؤمنة وتحرك وفقها.. ولم يخالف إرادتها لو كانت خاضعة لإرادة الإسلام والقرآن.. وهي بدورها قد سلمته مصيرها وتمام أمورها.. وارتضته نبياً وقائداً مطاعاً..

ثامناً : لماذا لم يفهم الفقهاء وجوب الشورى من الآية؟؟

إن كانت (الشورى المرجعية) واجبة فلماذا إذن لم يوجب الفقهاء العمل بها إلى الآن؟ ولم يناقشوها ويجيبوا على إشكالاتها، ويذكروا أدلتها، ويعقدوا لها باباً لا يراد مسائلها الفرعية؟؟ ثم إنهم لم يفهموا الوجوب من الآية الكريمة : (وشاورهم في الأمر)؟ وغيرها من الآيات الشريفة والسنة الكريمة؟؟

الجواب

أولاً : من قال أنهم لم يفهموا الوجوب من الآية الكريمة وباقي نصوص الشورى؟؟ وعدم طرحهم للمسألة يُسند إلى أسباب أخرى.. ستتضح بعد قليل إنشاء الله تعالى.. فلو كانت المسألة مطروحة في كتب الفقهاء وقد صرّحوا بآرائهم فيها: ندباً أو إباحة لكانت آراؤهم حجة لمن يدعي عدم الوجوب.. أما مع عدم ذكرهم للمسألة.. لا يصح بحال من الأحوال نسبة الندب إليهم أو الإباحة.

وثانياً : إن هذه المسألة تعتبر من المسائل المستحدثة.. وما أكثر هذه المسائل المتجددة التي تجود بها قرائح المجتهدين المبدعين التي تشبعت علماً واستدلالاً ولقد ذهب الشيخ المحقق الأنصاري في (فرائد الأصول/ مبحث الإجماع) : إلى أن حداثة المسألة المدعى إنعقاد الأجماع عليها تخدش في قوة الإجماع.. مما يفهم منه: أن المسائل والنظريات الفقهية تحتوي على المستحدث الجديد.. وغيره.. لأنها تتطور وتتبلور وتتشعب دائماً وعلى مر الليالي والأيام لانفتاح باب الإجتهاد عندنا.. ومن دقق في كتب الفقه رأى ذلك جلياً.. فمثلاً: مسائل الإجتهاد والتقليد أو بتعبير آخر: قوانين القيادة الإسلامية. (ذات الإرتباط الوثيق بدراستنا هذه) لم يعقد لها الفقهاء باباً فقهياً مستقلاً، في أمهات الكتب الفقهية(18) حتى عهد المحقق الإمام السيد كاظم اليزدي، الذي أورد حوالي سبعين مسألة وقانوناً.. أما الشروح الإستدلالية المعمقة على كتاب المحقق اليزدي (العروة الوثقى) (كموسوعة الفقه)(19) وكذا (شرح العروة الوثقى كتاب الإجتهاد والتقليد) فقد تناولت مبحث الإجتهاد والتقليد في كتاب فقهي مستقل، وأفردت له مجلداً ضخماً في الوقت الذي لم يتناوله قدامى الفقهاء إلا في أسطر.. مندرجة في بحوث (القضاء).. أليس هذا تطوراً ملحوظاً بارزاً في الفقه؟؟

وما قيل في مسائل الإجتهاد والتقليد، يقال أيضاً في مسألة خمس أرباح المكاسب التي هي من المسائل المهمة والعامة البلوى وكثيرة الفروع فلم يتناولها المحقق (الحلي قدس سره) إلا في سطر ونصف في كتابه القيم (شرائع الإسلام) !! وقال: (الخامس : ما يفضل عن مؤونة السنة له ولعياله من أرباح التجارات والصناعات والزراعات)(20).

وهكذا في مئات المسائل المهمة الأخرى، التي لم تطرح مطلقاً، أو طرحت بصورة مقتضبة عابرة..

فالإجماع بعدم وجوب الشورى لم ينعقد إذن، لكونها مسألة مستحدثة، خصوصاً بهذه الصورة المطروحة في هذه الدراسة، وخصوصاً الإجماع الذي يعني الإتفاق، أو الذي يكشف عن رأي المعصوم (ع) المصطلح عليه (بالإجماع الدخولي) بل حتى (الشهرة) أيضاً لم تنعقد على عدم الوجوب، لنفس السبب، أي حداثة المسألة.

ولو سلمنا انعقادها، فإنها ليست إلا ظناً غير معتبر (وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً)(21).. ومثل هذا الظن لا يقاوم الحجة القطعية المتقومة بأصالة الظهور في قوله تعالى: (وشاورهم في الأمر) حيث حقق في الأصول أن الأمر ظاهر في الوجوب.

ثالثاً : وعلى فرض أن الشهرة ظن معتبر (كخبر الواحد) وهي ليست كذلك، لا بد للفقيه وفق الموازين والقوانين الأصولية أن يبحث عن الأدلة المعارضة والحاكمة والواردة والمخصصة والمقيدة وبعد البحث فيها والتحقق من عدمها، لا تكون الشهرة ملزمة له، وفارضة عليه المسألة فلو وجد معارضاً أقوى للظن المعتبر الذي هو الشهرة فرضاً لا يلزم بالإفتاء وفقها لأنها لا تكفي وحدها دليلاً على مسألة معينة.. بل لقد أكد بعض أعلام العصر من الفقهاء على أن الشهرة (ليست كاسرة ولا جابرة) أي لا دور لها في تقوية حديث ضعيف ولا العكس.. فكيف باعتبارها حجة مستقلة بذاتها؟ وبعبارة أخرى : لو انعقدت الشهرة على عدم وجوب الشورى فهي ليست بحجة للفقيه ليفتي خلافها، فكيف بها وهي لم تنعقد بعد على عدم الوجوب؟؟

ولو اعتبرت الشهرة دليلاً قائماً بنفسه معناه بطلان كل الآراء المخالفة للمشهور.. ولم يدع ذلك أحد من الفقهاء حتى المشهور نفسه، بل ندد الشيخ الأنصاري في (رسائله) بمن لا يفتي من الفقهاء خلاف المشهور لو كانت استدلالاته أقوى منه.. وأيد بقوة موقف (العلامة الحلي قدس سره) في مخالفته الشجاعة الحاسمة للمشهور من الفقهاء واعتباره البئر معتصمة عن النجاسة مع أنه خلال مئات السنين اعتبرها الفقهاء، غير معتصمة، وجعلوا مقادير معينة لــنزحها وجوباً بعد ســـقوط أية نجاسة فيهـــا، بينما العلامة اعتبر تلك المقادير كلها مستحبة(22)، وتبعه من بعده من الفقهاء إلى هذا اليوم.

والواقع: أن الشهرة العظيمة حول عدم اعتصام ماء البئر وتعرضه للنجاسة كانت قريبة من الإجماع، ولكن فقيهاً مبدعاً عبقرياً واحداً كالعلامة الحلي غيّر مسار الفقهاء في هذه المسألة وانعقدت شهرة عظيمة عكسية في عهد الشهيد الثاني، ومن تتبع آراء الفقهاء وجد نماذج عديدة من هذا القبيل من الآراء التي صدرت خلاف المشهور، وغيرت المسار الفقهي في مسائل معينة(23).. ثم تحولت الشهرة فيها إلى شهرة عكسية عظيمة..

على كل حال.. إن الفقهاء لا يتصدون لتطبيق بعض الأمور ولهم استدلالاتهم الشرعية والعقلية عليها كعدم إقامتهم لصلاة الجمعة مثلاً.. أو عدم تصدي بعضهم لتغيير الأوضاع السياسية.. أما مسألة عدم طرح الشورى فلكونها مسألة مستحدثة بهذا الشكل المطروح هنا وليست من قبيل صلاة الجمعة التي استدلّوا على عدم وجوبها عملا في موارد كثيرة..

تاسعاً : مشورة من وجب عليه( العفو عنهم

إن الآية خطاب للرسول(ص) بالعفو عن الصحابة الذين أشاروا عليه بالخروج لملاقاة المشركين في أحد، ثم أظهروا الضعف في ميدان القتال، وهرب بعضهم ثلاثة أيام ولما حضر قال لهم الرسول: لقد ذهبت بها عريضة؟؟ وخالف الرماة الخمسون أمر الرسول(ص) بعدم النزول من الجبل على كل الأحوال، سواءاً انتصر المسلمون أو انهزموا، وامرته أيضاً بالإستغفار لهم، فكيف يُلزم الرسول بآراء من يفتقرون إلى عفوه واستغفاره وهو في المحل الأعلى وهم في المحل الأدنى؟؟(24).

الجواب

وما المانع من الإلتزام برأيهم فيما لا نص فيه مع احتياجهم إلى استغفاره لهم وعفوه عنهم؟ فإن ما ذكره العلماء والمفسرون في فلسفة شورى الرسول(ص) لأصحابه تشمله حتى لو كانوا محتاجين إليه، فلا تقييد لأمر الله نبيه بالشورى في صورة عدم احتياجهم إليه، بل إنهم يحتاجون إليه ذائماً.. ومع ذلك أمر النبي بالمشورة معهم.

ولو لاحظنا موارد الشورى في تاريخ النبي والأئمة(ع) لا نجد حتى مورداً واحداً لا يحتاج إليهم أصحابهم(ع).. ومع ذلك كانوا يستشيرونهم. وورد في الحديث الشريف عن الفضيل قال: (استشارني أبو عبد الله مرة في أمر فقلت: أصلحك الله مثلي يشير على مثلك؟ قال: نعم إذا استشير بك)(25) . وعن الحسن بن الجهم قال: كنا عند أبي الحسن الرضا ( فذكرنا أباه ) قال: كان عقله لا يوازن به العقول، وربما شاور الأسود من سودانه، فقيل له تشاور مثل هذا؟ فقال: إن شاء الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه، قال: فكانوا ربما أشاروا عليه بالشيء فيعمل به من الضيعة والبستان(26) ألم يكن هؤلاء الخدم محتاجين إلى الإمام ومع ذلك يستشيرهم ويأخذ برأيهم أحياناً.

الخلاصة

الآية الكريمة: (وشاورهم في الأمر):

ظاهرة في الوجوب.. وليست خاصة بالنبي (ص) بل تشمل كل القيادات الإسلامية المرجعية فتدعوهم إلى الشورى بوجه عام و(شورى الفقهاء المراجع) بصورة خاصة.. وهي ليست خاصة بشؤون الحرب.. بل تعم كل القضايا العامة.. ولا يجوز بحال من الأحوال أن يخالف المستشير رأي الأكثرية.. لئلا تقع مضاعفات تقلب السحر على الساحر.. وتصبح الشورى مفسدة للقلوب ومنفرة للنفوس.. ومبعدة للأمة عن قائدها...

ولا زالت الآية الكريمة بحاجة إلى كثير من البحث والتنقيب والتحقيق إلا أننا نكتفي بهذا القدر ومن أراد التفصيل فعليه بمراجعة الكتب المختصة بشأن الإستدلال في هذا البحث(27).

وسنبحث في المستقبل وجوب الشورى وفقاً لدليل السنة والعقل إنشاء الله.

الهوامش

1 سورة آل عمران ، الآية 159.

2 البحار /75/ الحديث (25) من باب الشورى.

3 سورة الإسراء، الآية 78.

4 سورة التوبة ، الآية 73.

5 راجع (شرائع الإسلام) كتاب النكاح.

6 سورة آل عمران، الآية 159.

7 سورة المزمل، الآية 20.

8 سورة النساء، الآية 103.

9 ذكر الفخر الرازي (في تفسيره الكبير) عشرة وجوه لحسن الشورى للرسول(ص) كلها متحققة لغيره بصورة أولى.

10 الدين والدولة /386/ الدكتور محمد البهي.

11 الميزان / 490 ص 56.

12 راجع (كفاية الأصول) مبحث الاستصحاب/ في صدد الكلام عن الحديث الشريف: (ولا ينقض اليقين بالشك أبداً) /284.

13 تنبيه الأمة وتنزيه الملة/المحقق النائيني (قدس سره)/ص 53/ بتصرف.

14 الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي، ص 106، الأستاذ عبد الرحمن عبد الخالق.

15 مبدأ الشورى في الإسلام /47/ الشيخ محمد الغزالي.

16 تفسير الخازن/لعلاء الدين علي بن محمد البغدادي/ج1/ص 296. وكذا (فتح البيان في مقاصد الرحمن) لأبي الطيب صديق حسن القنوجي/ج2/ص 130.

17 تفسير المنار/ج4/ ص 205.

18 كشرايع الإسلام وشروحه /وتذكرة الفقهاء للعلامة/ والجواهر (شرح شرايع الإسلام) ومسالك الإفهام للشهيد /والروضة البهية واللمعة/ وغيرها..

19 موسوعة إستدلالية عظيمة تحتوي على (125) مجلداً في الفقه الإستدلالي، مؤلفها فقيه العصر آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي (دام ظله) ولا زال سماحته يواصل تصنيفها..

20 شرايع الإسلام /المحقق الحلي (قدس سره) ج1/180.

21 سورة يونس، الآية 36.

22 ذكرت في (شرائع الإسلام) و(اللمعة الدمشقية) مبحث الطهارة، ولمعرفة رأي الأنصاري في مخالفة الفقيه للمشهور يراجع (الرسائل).

23 للتفصيل راجع (أوثق الوسائل في شرح الرسائل/316) تجد بعض النماذج من الآراء المخالفة للشهرة العظيمة القريبة من الإجماع التي انقلبت الشهرة فيها إلى العكس بعد تلك الآراء.

24 د. حسن هويدي - الشورى في الإسلام - 8.

25 المحاسن، 601.

26 المحاسن، 602.

27 يراجع كتاب (شورى الفقهاء، دراسة أصولية فقهية) للعلامة المفضال الأستاذ السيد مرتضى الشيرازي.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 47

الصفحة الرئيسية