2000

تموز

1421

ربيع الثاني

47

العدد

النبأ

مجلة

 

الحرية..

رؤية فلسفية

محمد محسن العيد

الحرية مطلب إنساني

لا جبر ولا تفويض

لفظ الحرية ودلالاتها ومعانيها

كلمة أخيرة

الحرية أمل وألم

الشرك يستلب الحرية

الإنسان الحر لغة: هو الذي يملك نفسه، فهو سيدها، وعكسه العبد المملوك لغيره أو الولي من الذل لغيره.. قال تعالى:

(وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا) الإسراء 111.

فالولاية من الذل مقصود منها التبعية عن قصور وحاجة والله تعالى منزه عن ذلك، فهو الغني المطلق في غناه، العزيز المطلق في سلطانه.. فإذا كانت الولاية من العبد في غير الله تعالى فهي الولاية من الذل، وأما لله تعالى فهي الولاية في العز والى العز.

 إذ بها يتحقق مصداق الحرية للنفس. وكما سنرى من خلال البحث. وعلى العكس، فإن الذلة ترافق الكفر بالله والعصيان.. قال تعالى:

(... وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) البقرة 61.

فالحرية: هي امتلاك السيادة في النفس أو المجتمع أو الدولة:

فالإنسان حر له كامل السيادة على نفسه، يتصرف من وحي فكره، فلا تبعية من ذل ولا سلطان عليه من أحد يقهر إرادته.. والدولة حرة مستقلة لا وصاية عليها ولا تبعية من ذل، ولا سلطان عليها من جهة أو دولة أخرى تقهر إرادتها أو تسلبها سيادتها.

لفظ الحرية ودلالاتها ومعانيها

عند الفلاسفة للحرية معنى الاختيار في عقل الإنسان، فهو يتصرف بما يريد، وأن قيادة نفسه رهن إرادته، بمعنى أن الإنسان حر مختار وغير مسير أو مجبر فيما يصدر عنه من قول أو فعل.. أو عندهم عكس هذا المعنى باعتبار الجبرية، وهي أن الإنسان مجبر مقهور حتى في عقله، مسير في حياته وموته، عاجز عن تحقيق إرادته، وأن هناك في الوجود والحياة وحتى في العقل ما يسيره ويوجه فعله وقوله.

والحقيقة هي أن كل من المعنيّين سواء في الجبر أو في التفويض: أو في الاختيار أو القهر، أو في الحريات والجبرية.. في الفلسفة لها دلالات من الواقع تخالف هذه المعاني.

فالذي يدعي الجبرية، يكذب نفسه على الأقل: وهو يمتلك هذه الحرية فيما يرى وينظّر، وفيما يقول ويدافع عن اختياره في معناه هذا، والذي يدعي مطلق الاختيار كذلك، يجد نفسه مجبراً لا خيار له فيما هو عليه إزاء نفسه، بحسبه ونسبه وزمانه ومكانه، وجسده، وعمره، وحياته وموته وحتى في فكره ومهام وجوده.

ولقد جاء عن أئمتنا عليهم السلام أن (لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين).

والأحرى هو: أن الإنسان في نفسه كيان موحد لتلابس عالمين مختلفين بالتضاد عالم المادة في جزئه الطيني الحيواني، وعالم الروح التي نفخها الله تعالى في جزئه الحي، والروح من أمر الله تعالى، وامر الله محض الحسن.. ويتجسد هذا التلابس في قيام العقل من كل نفس إنسانية ونلمسه جميعاً.

والعقل من اسمه يعني الربط: فللإنسان من جزئه الحيواني طاقة فاعلة وله من هذا الجزء قوة غرائز دافعة، تعكس طبيعة المادة فيه، من صفات المادة ومميزاتها وهي الاستمرارية في البقاء وحب الخلود والغرائز الملحقة بهذه الصفة والكتلة في الملك وحب التملك والغرائز الملحقة بهذه الصفة، وصفة اللاانتظام والتي يسميها البعض الاعتلاج في العبث والميل إلى التمرد الذي يختلط بمعنى الحرية فيخربه ويخرجه من مميزه الإنساني.. فالإنسان في جزئه الحيواني جرم مادي يخضع لقوانين القصور الذاتي في مادته، فهو عاجز عن التأثير في ذاته ما لم تؤثر عليه قوة تخرجه من هذا القصور، تتحكم فيه قوانين الجاذبية الأرضية والكونية، فهو مجبر لا يجد عنها حولاً، لا في زمانه ولا في مكانه.

والإنسان مجبر في حياته وقوانينها، بموجب قانون القصور الحيوي، الذي يحدده في ذلك شفرة الحياة التي يتضمنها بناء حامضه النووي الـ(D.N.A)، غير قادر على التأثير في هذه الشفرة، فالأسود اسود، والأبيض ابيض، وناقص الخلقة كذلك، والقصير قصير، والعملاق عملاق، والمعتوه معتوه.

والإنسان مجبر في عقله لقصور ذاتي، ما لم تؤثر عليه قوة عقلية خارجية مثل الوحي تخرجه عن قصوره.. فالعقل كما يقول الإمام علي عليه السلام : (غريزة تربيها التجارب)، بل العقل، إنما يحكم من خلال قوانين مجبر على اتباعها ليصيب الحق والحسن لا خيار له عنها.. هذا في جزء الإنسان الحيواني.

والإنسان في جزئه الروحي، فإننا نلمس ونحس بحواسنا، إرادة الإنسان للحسن والجمال والخير بانجذابه للحسن والجمال وسروره بهما وابتهاجه بالخير. ونلمس من الإنسان إرادته للرحمة وفعلها.. وسعيه للعدل والحق.. وإرادته للسيادة والقيادة وإرادته للصبر والعزيمة والثبات على المبدأ.. وإرادته للسعي إلى ما بعد الموت بالاستعداد والمبادرة.. وإرادته للتوحيد والوحدانية.. وإرادته للسعي نحو الأحسن والأفضل دوماً ودون هوادة.

إن تلابس ارادات الروح للحسن مع غرائز وطاقة الحياة في المادة.. هذا التلابس في قيام النفس الإنسانية يؤدي إلى بروز عمليات العقل (الربط) فبروز العقل من النفس باعتبارها الكيان الموحد بين عالمين مادي وروحي، يأتي هذا العقل ليحيل القصورات المادية بالإرادة الحسنة إلى حكم يتجسد في تعبيرات لغوية أو سلوكية من النفس إزاء أية قضية تقابل الإنسان سواء من ذاته أو من بيئته ومحيطة.. أي ليربط طاقات ونشاطات وغرائز الجزء الحيواني من نفسه بارادات الحسن من روحه. وحسب مقدار النماء في كلا الجزئين تخرج أحكام العقل بمقدار مثله من توجه النشاطات الإنسانية بالإرادة الحسنة والغرائز بالتهذيب.

وعلى أساس من هذا التفصيل في حقيقة الكيان الإنساني، يكون القول بالجبرية مخالفاً لكون الإنسان مميزاً بالروح في إرادتها للحسن.. والواقع يؤيد هذه المخالفة، ذلك لأنه حتى الذي يقول بالجبرية، فانه في واقعه يمتلك الإرادة، فيبطن الرحمة ويسعى للحق وإن أخطأ، ويطلب العدل حتى يحصل عليه، ويتطلع للحسن والاحسن، وهو في هذا يبتغي السيادة ويريد القيادة، ويرى الأفضل فيما يدعي فهو في إرادة من الصبر والثبات عليه.

وكذا يكون القول بأن الإنسان حر مختار، مخالفاً حقيقة كون الإنسان مميزاً بالكيان المادي، ويجد في نفسه ومن ذاته العجز والقصور، فهو حتى في عقله (ربطه) إنما يصارع طاقاته الحيوية ويغالب غرائزه الدافعة، ولو كان صادقاً لما أخطأ، بل هو قاصر وعاجز في أن يختار تحقيق إرادته في معاني الحسن في ذاته التي جبلت على الانجذاب لكل حسن.

لا جبر ولا تفويض

وعلى أساس من البيان السابق يجدر بنا ملاحظة ما يلي:

أ ـ إن الحرية المطلقة أو الجبرية المطلقة لا وجود لها في واقع الإنسان.

ب ـ إن القول بالجبرية المطلقة بسبب كونه مخالفاً للحقيقة وللواقع، يترتب عنه بطلان الثواب والعقاب على النفس في الدنيا والآخرة، إذ أنه إذا كان الإنسان مجبراً على ما يقدم عليه، فإن كان خيراً، فلا فضل له فيه ثم لا أجر له عليه. لأنه مجبر على فعله، وإن كان شراً فالعذر له في جبريته فلا عقاب عليه.. وفي ذلك ضياع للقيم العليا وللمقوّم، ففيه نسبة القبح والظلم للمحسن العظيم جل شأنه، إذ يجبر الإنسان على الفعل الحسن ويثيبه، ويجبره، على الفعل السيء ويعاقبه.

كما أن القول بالحرية المطلقة في الاختيار، تبطل توفيق الله تعالى ولطفه ورحمته ومدده.. وتمنع مغفرة الله وعفوه وشفاعته.. حيث أن الحرية المطلقة في الاختيار مع انعدام الجبرية ووجود ارادات الحسن الرباني في نفس الإنسان، وكون الحسن هدفاً في ذاته في الكون، لا تبيح القدرة للإنسان في عمل القبيح مطلقا.

إن أئمتناعليهم السلام يصرحون أن لا جبر ولا تفويض إنما أمر بين الأمرين. وهو الواقع، فإن المولى جل شأنه حين خلق الخلق وهو غني عنهم أنما خلقهم احساناً وتفضلاً.. وكيف يكون المحسن محسناً إذا لم يتجسد منه الحسن!!.. وكيف يحكّم هذا الحسن فيما خلق دون سنن!!

إن الكون بما فيه هو سلطنة الله تعالى وملكه وقبضته، فمن شاء أن يخرج من تلك السلطنة فليفعل، فانه لا يستطيع.. ومن اختار أن لا يموت، فليفعل فانه سيموت حتماً.. أما من اختار أن يغلّب ارادات الحسن الرباني في نفسه ليحكم سنن المحسن تعالى في نفسه ليكون شكوراً لفضل الله واحسانه في خلقه، فانه يستطيع، ولذلك فالإنسان من وجهة نظر، قد يمتلك الحرية المطلقة من نفسه في حالة تجسيده للعبودية المطلقة لله تعالى، حيث تكون نفسه طوع روحه في إرادتها للحسن الرباني، أي لا سلطان لجزئه الحي على نفسه، فالعقل في هذه الحالة من النفس يكون كاملاً ويحكم الجزء المادي منها بارادات الروح التي هي من أمر الله تعالى. وإذا طابق أمر الفعل أمر الله تعالى في النفس، صار يقول للشيء كن فيكون، ويصح بذلك الحديث القدسي:

(عبدي اطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون).

وبذا يتحرر الإنسان تماماً من كل عجز وقصور، ويمتلك الحرية المطلقة في الفعل عند كمال العقل.

الحرية مطلب إنساني

بعيداً عن الفلسفة، فإن الحرية بمعناها الاصطلاحي المعروف بين الناس وهي أن يمتلك الإنسان نفسه ويكون حراً في دنياه، لا وصاية لأحد عليه، ولا تبعية من ذل أو قهر، تمنع عليه أو يعبر عن فكره، ويؤدي شعائر دينه، وأن يختار من يشاء في مؤسسات دولته، وأن يشارك في شيوع الخير وردع الشر في نظام يوفر له حقوقه كانسان ويرتب عليه واجباته...

والحقيقة هي أن هذا النظام الذي يكفل الحرية بمعناها هذا موجود، ولائحة حقوق الإنسان محفوظة، ولكن الذي يمنع من تطبيق هذا القانون، وتجسيد هذه اللائحة، هو الجهل والشرك والظلم، الثالوث المقيت الذي تعاني منه المجتمعات الإنسانية.

إن ابشع الصور لمعاني الظلم في تاريخ الإنسانية، هي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وتسلطه عليه بالقهر والذل. وإن هذه الصور البشعة لا زالت مستمرة في شريط تاريخ الإنسانية منذ أن قتل قابيل أخيه هابيل والى الآن.. ولكنها اليوم صور ملونة وعصرية، وبأدق الوسائل الفنية والتقنية، فإذا كان قابيل قد مارس القتل بصخرة ضخمة أو مباشرة، فاليوم بجرع من السم الزعاف خفيفة مغمسة بالعسل وفي أجواء أرجوانية ساحرة.

ولقد كان لطف الله ورحمته بعباده متصلاً.. وكانت رسله عليهم السلام تأتي بمهام تحرير الإنسان من استغلال أخيه الإنسان، بتحريره من الشرك ونشر العلم ومنع الظلم، عن طريق تعبيد الإنسان لربه الواحد، فالشرك ظلم عظيم (إن الشرك لظلم عظيم) لقمان.

..وكما قدمنا فإن مقدار الحرية في النفس يكون بمقدار صدق العبودية لله تعالى وحده. فمع معاني الوحدانية في النفوس تتحرر من الخوف إلا من الغفور الرحيم، ومع الوحدانية فإن النفوس لا تطلب الرزق إلا منه سبحانه الرزاق الوهاب الكريم، فلا تتبع المرزوق عن ذل، ومع الوحدانية فإن النفوس لا توالي عن ذل أي مخلوق، فهي تحب في الله ولله وتبغض في الله ولله.. والله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا. وتعلق نفس الإنسان بهذه الصفات وهذه الأمثال يحرره من الجهل، لأن هذا التعلق إنما يسدد عقله بتلك الإرادة، التي توجه نشاطه لكل ما هو حسن وتهذب غرائزه بكل ما يمنع القبح والظلم.

ولكن أنى لهذا المطلب العظيم أن يتحقق في النفس والشرك يقبع في واقع الإنسان بشتى أنواعه وأشكاله التي لا تحصى.. قال تعالى:

(وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون. وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم به مشركون) يوسف 106.

بل أن هناك أنواع من الشرك الخفي يصفه الإمام الصادق عليه السلام بأنه، كالشعرة السوداء على الصخرة السوداء في الليلة الظلماء.

ولذا بمقدار ما تتخلص النفس في الفرد وفي المجتمع من أنواع الشرك هذه: تحصل على مقدار مثله من الحرية.

الشرك يستلب الحرية

في مجتمعات مثل المجتمعات الغربية التي يظن الكثير من العالم أنها مجتمعات متعلمة وأنها تمتلك تمام الحرية.. في مثل هذه المجتمعات يعشش الشرك، ولذا خاب ظن الكثير الذين شهدوا تلاشي الحرية في تلك المجتمعات.

إن المرأة مثلاً في الغرب تستطيع أن تمشي عارية تماماً، إذ هي تعرض جسدها ليس لأنها تمتلك الحرية، بل لأن خيارها في التعري يخدم مؤسسات الشرك واهدافها، بدليل أنها لو اختارت الحجاب، فلا حرية لها، فهي تطرد من المدرسة ومن الجامعة ومن الدائرة الحكومية. كما حصل ذلك في الدول الأوروبية وخصوصاً فرنسا. بل وحتى من المؤسسات التشريعية وإن انتخبها الشعب وبمقياس الحرية عندهم.. وهذه التركية في البرلمان تطرد من البرلمان، بل وتسقّط عنها الجنسية التركية لأنها تمسكت بحريتها في اختيار الحجاب بل لأن دينها يتطلب الحجاب.. إزاء هذا نجد في استنبول وفي شوارعها العريضة، أن المومسات يعرضن أجسادهن عاريات في دكاكين الدعارة لمن يشتري تحت رعاية الحرية والديمقراطية في تركيا.

هذا لا يخص النساء فقط في استلاب الحرية، بل أن الكاتب المعروف، روجية غارودي، منع من نشر كتابه عن الصهيونية في حقائقها، بل حوكم وادين هو والناشر، في حين أن سلمان رشدي المرتد الذي تطاول على اشرف خلق الله تعالى وحقر مقدسات مليارا مسلم ينال الحماية والرعاية والتكريم ليمارس حريته في إهانة المقدسات.

إن الكاتب في دول الغرب يستطيع أن يمارس حريته في خدمة أهداف الشرك إلا أن يقول الحقيقة فانه مجرم خارج عن القانون لا حرية له.

إن الحرية في معناها الخالص لا تتحقق إلا مع التوحيد الخالص في المجتمع. والتوحيد الخالص لله تعالى يتحقق مع معاني الطاعة الصادقة له تعالى فقط، والطاعة الصادقة لله تعالى لا تبرز إلا من خلال تحكيم كتاب الله تعالى والتمسك بعترة المصطفى من المعصومين معاً. لأن الذين يختارون دين الله تعالى سبيلاً لنيل حرياتهم لابد أن يكونوا على حذر من استلاب التشريع بالمنفعة أو بالشعور بالدونية أو بالفوقية، لأن الاستلاب هذا يعني اسلاب معاني الحرية وضياع الدين معاً. ولهذا الموضوع تفصيل قد تكون لنا فرصة أخرى في بيانه إنشاء الله.

الحرية أمل وألم

الحرية للإنسان، هدف المرسلين وأوصيائهم عليهم السلام وغاية المصلحين الصادقين، وغاية الدين لرب العالمين.. وهي كذلك مطلب إنساني ملّح، ولكن ليس له واقع في تاريخ الإنسانية إلا ما ندر.. والحرية حلم الملايين من البشر من الأولين والآخرين، مثلما هي شعار السياسيين وطلاب الحكم.. والحرية فخ الخبثاء وخيمة الشيطان الوردية.. وهي موضوع الفلاسفة والمتكلمين.. وفيها قصائد الشعراء، وهي سياسة المنتفعين، وهي كذلك عدوة الجبابرة والطغاة والمستكبرين.

فالأنبياء إنما يسعون لتحرير الإنسان من عبوديته لغير الله تعالى ومن استغلاله من قبل أخيه الإنسان، لأن الدين لله تعالى لا يتحقق إلا مع الحرية والاختيار العقلي، فإذا سادت الحرية تخلص الإنسان من الشرك والعكس صحيح. وإذا تحقق الدين لله تعالى فشا العدل والمحبة بل والإثرة بين المؤمنين.. لأن حرية النفوس من شيطانها فيه ود وائتلاف.

.. وإن كانت الحرية من احب المعاني إلى النفس، فإن الاثرة بالحرية من الإنسان لأخيه الإنسان يعتبر من اجل وأسمى المعاني الإنسانية.. وكأن هذا السمو في الاثرة بالحرية من الشموخ بحيث لا يطاول، يحلم به البشر دوماً من الأولين والآخرين وتكتب في معانيه القصص والروايات، ويقرأونها في مجالسهم وهم يعيشون في ظل الثالوث المقيت في مجتمعاتهم، الظلم والشرك والجهل، وكأن لا مخرج لهم منه.

وفي لمة هذا الثالوث المقيت في المجتمعات الإنسانية، رفع السياسيون الحرية شعاراً ومطلبا يداعبون به مشاعر الناس ويدغدغون أحلامهم في أن يعيشوا هذا المعنى السامي في حياتهم.. حتى إذا نجحوا تسلطوا بما تميزهم به معاني القيادة في مجتمع اللمة واعرافها فدخلوا الثالوث صاغرين: ذلك لانهم اصلاً إنما رفعوا شعار الحرية، ليس لانهم أدركوا معانيها وارادوا بها وجه الله تعالى بل زرعوها مغرماً وحصدوها مغنما.

وكذا فالحرية بما هي إرادة النفوس وحياة العقول وغذاء الأرواح. فإن فتياناً ورجالاً وفتيات ونساء يقصدون فخاخ ينصبها الخبثاء تحمل لافتات الحرية.. يأتونها هربا من مجتمعات اللمة، وما أن يدخلوا تلك الفخاخ حتى يسقطوا ضحايا، بل ويصيرون سادة الثالوث لإسقاط الآخرين.

والحرية بما هي أمل المظلومين في مجتمعات الثالوث المقيت، فإن الشيطان يجعل منها خيمة وردية تجذب المظلومين إليها، فإذا دخلوها بهروا بألوانها الجذابة وشعروا بالفوقية إزاء هذا التفوق، ففقدوا إرادتهم، واختيارهم الذي ظنوا أنه فيه الحرية.. فإن أدرك الكبار منهم غدر الشيطان بعد حين، فإن الصغار قد استلهموا روحه وتربيته، وانظموا إلى صفوف الثالوث المقيت.

والحرية بما هي من الأهمية بمكان في معاني الإنسانية، فهي موضوع الفلاسفة وجدل المتكلمين، فإن لم يكن هؤلاء قد اخلصوا الدين لله تعالى، ولم يكن لهم من كلام الله دليل ولا من الأمناء عن الوحي مرشد، فانهم قد ضلوا وربحهم الثالوث، فقد اسهموا في إعطاء الأسماء لغير معانيها ما انزل الله بها من سلطان.

والحرية أمل وحلم، يجد الشعراء فيها معاني تناسب الأوزان والقوافي قد تكون بعيدة عن معاني الحرية التي هي في إرادة الأنبياء طاعة لله وحده وتحرراً من الهوى والجهل، وبذلك يسهم الشعراء هم الآخرون في الغناء من اجل بطل الحرية والتحرر زعيم الثالوث.

والحرية في كل هذه الحالات وغيرها أمل يتحقق منه الألم.

كلمة أخيرة

إن مع العلم النافع يتسنى للمجتمع معرفة حقوقه ومعرفة واجباته.. ومع العدل والإنصاف في المجتمع تحفظ كرامة الإنسان وحريته، ومع التوحيد الخالص تبلغ الحرية حد الاثرة في النفوس.

إن الجريمة، بكل أشكالها هي اعتداء على الحريات، في الملكية وفي الحياة، وفي التصرف في القول والعمل. وإن القانون مهما كان محكماً، لم ولن يقضى على الجريمة.. وهذه دول الغرب مع استحكام القانون فيها وسيادته، إلا أن الإحصائيات تشير فيها إلى ملايين الجرائم التي ترتكب كل ساعة، بل كل ثانية من الزمن. وهذه فضائياتهم تعرض علينا نماذج من حريتهم.

إن المعنى الوحيد الممكن تجسيده للحرية في الفرد وفي المجتمع وبمعناها الإنساني، هو التخلص من الشرك والجهل، فلقد توفرت في مناطق من العالم كل الحريات السياسية والفكرية والشخصية والدينية والانتخاب، إلا الحرية في معناها الإنساني الحقيقي، والذي يكمن في تحرير عقل الإنسان من القصور والذي لا يتوفر إلا بتحرير الإنسان من الثالوث المقيت.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 47

الصفحة الرئيسية