2000

تموز

1421

ربيع الثاني

47

العدد

النبأ

مجلة

 

الإبداع..

 
الحرة الشعوب  ترعاها صناعة

[email protected] 

علي عبد الرضا

أسس النهوض الإبداعي

ملامح الشخصية الإبداعية

تعريف الإبداع

أين نحن من الإبداع

تركته في دولة مشرقية يبيع (الطماطم) في أحد أزقتها القذرة.. وكلي شفقة عليه.. لمعرفتي الدقيقة بالظروف المحيطة به، لهذا لم اكن أتوقع منه رداً على رسائلي وضغوطات الحياة تحاصره من كل جانب..

لذلك عندما وصلتني رسالته الأولى أثارت استغرابي، واكثر من ذلك أنها تحمل ختم دولة أوربية، وقبل أن افتحها قلت في نفسي أن المراسلات البريدية بين ما أعيش ويعيش صديقي قائمة، فلماذا تردني عبر دولة أوربية؟ وما إن فتحت الرسالة حتى غاب استغرابي وبان لي بأن صديقي يعيش منذ فترة قصيرة في تلك الدولة التي قدمت منها الرسالة معززاً مكرماً..

أما كيف وصل إليها وعلمي به أنه يبيت بعض الليالي طاوياً؟ ألخص ذلك في بعض الأسطر نقلاً عنه:

كان لصديقي أخ يكبره بعام واحد استطاع أن يصل إلى تلك الدولة الأوربية ويحصل منها على حق اللجوء الإنساني ويدخل أحد جامعاتها ليكمل دراسته التخصصية حيث تمكن من التفوق على جميع زملائه، وهذا ما جعله محط أنظار المسؤولين في الجامعة خصوصاً بعد أن برع في ابتكار طريقة جديدة في (معالجة التربة وتخصيبها) فطلب منه التدريس في جامعاتها والاستفادة من مختبراتها المتقدمة، بالمقابل طلب من الجامعة البحث عن أخيه (صديقي) الذي يعيش في الدولة المشرقية ـ حيث كان له علم إجمالي بالدولة التي يقيم فيها فقط ـ فلبوا طلبه حيث تمكنت سفارة الدولة الأوربية بأساليبها الخاصة من العثور على (صديقي) ونقله جواً إلى أراضيها بعد تهيئة مستلزمات سفره ليداوم على مراسلتي من هناك..

ربما يستغرب البعض هذه المقدمة ولا يرى ضرورة لإيرادها في هكذا مواضيع فمثل هذه القصص لها صفحاتها الخاصة والمتخصصة، غير أنني جئت بها كمصداق واقعي في تأثير البيئة المباشر على عقلية وتفكير الفرد وكيف أن اختلاف المحيط عامل أساسي في عملية الإبداع والرقي عند الفرد والمجتمع. فصديقي وأخوه عاشا في بيت واحد وتربيا في جو واحد، فكيف اصبح صديقي بائعاً للطماطم! وأخوه أستاذاً مبدعاً رغم السنين القصيرة التي قضاها في الدولة الأوربية؟

والجواب لا يحتاج إلى بحث أو تحقيق، الأرضية الصالحة ـ الحرية ـ فجّرت المواهب الكامنة لذاك وأجواء الكبت والإرهاب خنقت أية انطلاقة لصديقي هنا، نعم ربما هناك تمايز وراثي وتوجهات في بعض المفردات المعرفية والفنية بين صديقي وأخيه، غير أن العنصر الأساسي في رفع درجات توقدها إلى أعلى المراتب هو وجود الأجواء الحرة والاحترام اللائق من الآخرين والعناية من ذوي الاختصاص والخبرة، وهذا ما لا نرى له أي وجود يذكر في عالمنا الإسلامي الذي ترزح شعوبه تحت نير التسلط والدكتاتورية القاتلة.

والهجرة المتواصلة لأصحاب العقول والكفاءات من أوطانهم إلى بلاد الغربة تنطلق من نفس الاتجاه حيث اصبح المحور العام لأغلب المهاجرين هو البحث عن بديل يتمتع بمناخات حرة يوفر لهم الرعاية التامة والعناية اللازمة لتكملة مشوارهم العلمي والفني بكل راحة واطمئنان ولو كان ذلك (دار الكفر)!!

ولم يعد خافياً على أحد كيف باتت المؤسسات العلمية والتحقيقية في الغرب قائمة على جهود المبدعين من أبناء عالمنا الإسلامي، فهذا يشرف على أدق قسم في وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، وهذا الجرّاح الأول للقلب على نطاق العالم، وذاك حصل على جائزة نوبل للكيمياء، وهكذا دواليك في اغلب التخصصات والمراكز العلمية العليا.

وقد اطلعت قبل عدة سنوات على تقرير (محدود التداول) نشرته وزارة خارجية إحدى الدول الإسلامية يفيد بأن عدد الذين هاجروا من البلاد من أصحاب الشهادات العليا والاختصاص زادوا على 960 ألف شخص على مدى 15 عاماً، ولم توضّح وزارة الخارجية سبب الهروب الكبير هذا، ولو طلب منها ذلك لإجابتنا بأنهم مخالفون للنظام ولا يستحقون التنعم بخيرات البلد! نعم حق الحياة عند هكذا أنظمة منّة ينشرها (خليفة المسلمين) على من طاوع وخضع فكيف بمن خالف وعارض؟!!

العقل لا يستنهض وينطلق إلا في أجواء الحرية.. والمواهب لا تتفجر إلا في ظل حياة ديمقراطية تحفظ حقوق الجميع.. والخلاّقية لا تتفتح إلا في كيان يحترم وجود الإنسان ويوفر له مستلزمات التقدم والاختراع، وغير ذلك عوامل ثانوية لها بعض التأثيرات النسبية في إنتاج الإبداع وصناعة العقول.

ومن الجدير ذكره هنا أن الشعب الهندي الذي يتمتع بقسط وافر من الحرية يحتل مكانة مرموقة في سجل المبدعين، والأرقام تشير إلى أن الهنود المبدعين يسيطرون على 40% من البرامج التي تعدها شركة مايكروسوفت الأمريكية، وهناك أكثر من 200 مركز علمي متقدم ـ في البرمجة والمعلوماتية ـ يستقبل الطاقات الشابة وأصحاب العقول النابغة.

ولأجل رفع المستوى الإبداعي عند عموم الأمة سنذكر بعض الأسس الأولية والثانوية التي تساعد على استنهاض العقول، ويسبق ذلك تعريف للإبداع، وذكر لبعض القابليات الإبداعية والصفات الذاتية.

تعريف الإبداع

الإبداع لغة: هو ابتداء الشيء أو صنعه أو استنباطه لا عن مثال سابق، ومن ذلك قولنا عن شخص أنه أبدع شيئاً، قولاً أو فعلاً، إذ ابتدأه لا من سابق مثال. وبهذا المعنى نفسه يوصف الله تعالى بأنه (بديع السماوات والأرض).

ويتمثل الابتداء الإبداعي إما في تكوين أو وجود مادي جديد، أو إحداث أو وجود زماني، أو كل منهما مترتب على الخلق.

ونظراً لأنه لا يتصور في قدرة الإنسان الإبداع من عدم فقد اتفق معظم المفكرين على أن الإبداع هو إنتاج شيء ما على أن يكون جديداً في صياغته، وإن كانت عناصره موجودة من قبل، كإبداع عمل من الأعمال العلمية أو الفنية أو الأدبية(1).

وفي علم النفس: هو القدرة على ابتكار حلول جديدة يتقبلها المجتمع لمشكلة قائمة(2).

ملامح الشخصية الإبداعية

الإبداع سلوك إنساني خلاّق يكمن في داخل كل فرد، يتفتق في حالات تحفيز المدارك واستثارة الأحاسيس ضمن وسائل عديدة، ليوجد أفرادا متميزين لديهم ملكة الحضور الدائم والحيوي للعقل الباطن (اللاواعي) وباستطاعتهم الحصول على انسب الحلول وافضلها من مجموعة خيارات مطروحة أو استنباط مجموعة رؤى وتصورات مبتكرة لمسألة ختمت على أنها مستعصية.

لذا يعد الإبداع موهبة كامنة في كل إنسان كبقية المواهب المستترة، تحتاج إلى إثارة وصقل وممارسة نوعية دائبة كي تكون ملكة حاضرة عند كل ملمة وإنتاج جديد وعلى هذا فلا يتصور البعض أن الإبداع مختص بأصحاب الذكاء الخارق أو أولاد الذوات، فالكل عليهم إعمال عقولهم، وتفجير مواهبهم للوصول إلى حالة الإبداع الواقعي في شتى مجالات الحياة الفردية والاجتماعية.

غير أن هناك بعض الأفراد تظهر قابلياتهم وقدراتهم الإبداعية من خلال مواقف طارئة أو ظروف حرجة، وهؤلاء عليهم التوجه إلى أنفسهم أكثر والعناية بقابلياتهم، وتغيير نمط سلوكهم بما يتلائم والصفات التي يحملونها ومن جملتها:

1ـ الحساسية، وتعني القدرة على وعي مشكلات موقف معين والإحاطة بجميع أبعادها والعوامل المؤثرة فيها.

2ـ الطلاقة: وهي القدرة على إنتاج سيل كبير من الأفكار والتصورات الإبداعية في برهة زمنية محدودة وتنوع الطلاقة إلى:

أ ـ طلاقة الكلمات: أي سرعة إنتاج كلمات أو وحدات للتعبير وفقاً لشروط معينة في بنائها أو تركيبها.

ب ـ طلاقة التداعي: أي سرعة إنتاج صور ذات خصائص محددة في المعنى.

ج ـ طلاقة الأفكار: أي سرعة إيراد عدد كبير من الأفكار والصور الفكرية في أحد المواقف.

د ـ طلاقة التعبير: أي القدرة على التعبير عن الأفكار وسهولة صياغتها في كلمات أو صور للتعبير عن هذه الأفكار بطريقة تكون فيها متصلة بغيرها وملائمة لها.

3ـ المرونة: وهي قدرة العقل على التكييف مع المتغيرات والمواقف المستجدة، والانتقال من زاوية جامدة إلى زوايا متحررة تقتضيها عملية المواجهة.

4ـ الأصالة: وتعني تقديم نتاجات مبتكرة تكون مناسبة للهدف والوظيفة التي يعمل لاجلها. أو بتعبير آخر رفض الحلول الجاهزة والمألوفة، واتخاذ سلوك جديد يتوافق مع الهدف المنشود، ومن يطلق استجابات غير مألوفة لمنبهات غير مألوفة لا يمكن أن نطلق عليها استجابة أصلية، لأنها طلقات إنتاجية هادرة غير موجهة.

5ـ البصيرة: وهي تعني امتلاك النظرة الثاقبة والقدرة على اختراق الحجب التقليدية وقراءة النتائج قبل أوانها واعطاء البدائل اللازمة لكافة الاحتمالات المتوقعة.

أسس النهوض الإبداعي

الإبداع كما عرفناه هو ابتداء شيء لا عن مثال سابق، وسلوك متميز في استنباط الجديد والفريد من الحلول والخيارات، فهو والحالة هذه جهد خارق وعمل جبار يحتاج إلى آليات معرفية وفنية راقية، وأسس تنموية استثنائية تختلف كلياً عن كل ما سمعنا وشاهدنا من أعمال أخرى، ومن جملتها:

(أ)

ما يتعلق بالفرد

وهي كالتالي:

أولا: عدم الاعتماد على الحلول الجاهزة

يعتمد الأفراد ـ غالباً ـ عند مواجهة أي طارئ أو بحث أية مسألة مستجدة على مخزون ذاكرتهم من نظريات وحلول مماثلة أو مشابهة لما يحدث لهم، ونقل التجربة السابقة كاملة أو مبتورة لمعالجة الطارئ الجديد أو القادم باعتبار هذه الطريقة افضل الخيارات وأسرعها في حل المشاكل وإنهاء الأزمات. ونجاحها مرة لا يعني بأي حال من الأحوال اعتمادها مرهماً لكافة الجروح، فقد أثبتت التجارب أن التكرار ممل وقاتل وخصوصاً في المسائل الاستراتيجية والعسكرية، لذلك يلزم ترك الماضي وما يحمل من نجاحات واخفاقات، والتنقيب عن حلول جديدة تفاجئ الجميع.

ثانياً: التأني في حسم المواقف

لا شك أن السرعة مطلوبة في الكثير من القضايا، ولكن لا على حساب الجودة والنوعية أو الإحاطة والإلمام بجوانب الموضوع المختلفة، فالبعض من الناس بحجة ضيق الوقت والإسراع في إنجاز المهمة والبرنامج يتوقف عند حدود معينة ويكتفي بما حصل عليه من نتائج متواضعة أو جزئية، في حين يتطلب الموقف ضغطاً اكبر على العقل لا خراج كل ما لديه من إبداعات مع مراعاة عنصر الزمن ـ طبعاً للطوارئ أحكام ـ واكتشاف ارقى الرؤى وانضج الحلول.

ثالثاً: زرع الثقة بالنفس.

الحياة تجارب، والتجارب قد تصيب حيناً، وتخطأ حينا آخر، (وفي التجارب علم مستأنف) كما قال أمير المؤمنين…، والعاقل من اتعظ من هفواته وأخطاءه، ونهض مسرعاً لتقديم المزيد من النتاجات للوصول للهدف المنشود، ودون أن يعيق توقفه عمليات نمو تفكيره الإبداعي. وينقل عن الكاتب البريطاني (شكسبير) أنه لم يصل إلى قمة المجد والشهرة إلا بعد نكسات غير عادية مرّ بها في مشواره الأدبي، ربما تخطت ألف رفض لنتاجاته الأدبية من قبل الصحف البريطانية، وبمواصلة الطرق المتواصل للعقل استطاع أن يقدم أعمالاً إبداعية فريدة خلدت اسمه إلى اليوم.

ثم أن الفشل في جانب معين لا يعني بأي صورة عدم طرق الجوانب الأخرى فالإنسان لم يخلق ليبدع في هذا الجانب دون ذاك، وإنما عليه بذل الجهود للوصول إلى الحالة التي تفتق عقله وترفع مستوى تفكيره.

رابعاً: رفع المستوى الثقافي والعلمي

العقل يحتاج إلى إمداد ثقافي وعلمي رفيع وغير منقطع، حتى يتمكن من طرق الجديد وفتح نوافذ غير معروفة أما الجمود على المخزون الماضي وقطع التواصل مع العلوم المستجدة يضيّق عمليات تحرك العقل ويقتل محاولات انطلاقته في آفاق الدنيا الواسعة. وخطاب الحق تعالى إلى نبيه( (وقل رب زدني علماً( يشير إلى مسألة استمرارية طلب العلم والتواصل مع الثقافات الأخرى.

خامساً: الانفتاح على الآخر

الاختلاف سنّة الحياة، والانفتاح على الآخر المختلف حالة حضارية تفرضها آليات الإبداع، لأن وجود الآخر مفروض منه، ومعرفته تتطلب جهداً غير بسيط لرفع المسبقات الفكرية عنه وعن فكره، وقراءته قراءة منطقية مجردة عن كل التأثيرات.

وسواء كنا في حوار أو مواجهة مع الآخر ينبغي لنا أن نكون على دراية تامة واطلاع دقيق بما يفكر ويخطط ويعمل حتى نكون بمستوى الحوار والمواجهة. أما التمحور على الذات وتحريم القرب من الآخر وما يتعلق ويتصل به لا يمكن أن يعطي نتائج طيبة أو حقيقية والحكم على الشيء قبل معرفته خطأ قاتل.

ثم أن مسألة رفض الآخر أو قبوله لا تخضع لقواعد ثابتة أو محددات علمية واضحة، ولو تركت للبعض لعممها على كل من خالفه الرأي قريباً كان أو بعيداً، صديقاً أو عدواً، وحسمها بالانفتاح عليه يقطع تدخلات الأهواء والمصالح.

سادساً: البرنامج المفتوح

من المسلّم به علمياً أن نمط العادات والتقاليد له تأثير سلبي كبير على مستوى التفكير العقلي، وبالتالي على نوعية الإنتاج الإبداعي المنبثقة من هذا التفكير، فالرتابة المملة والجمود النمطي يمنع الفرد من قبول غير المألوف ويعتبره خروجاً عن العادة والتقاليد المعروفة.

والبرنامج المفتوح الذي يعتمد على سلوك غير متعارف في طرق التفكير والعمل (مكاناً وزماناً) يقدم رؤى وتصورات غير مطروقة للفرد ويطلقه في رحاب عالم وسيع.

سابعاً: احترام الوقت واستغلاله.

اغلب الناجحين والمبدعين أولئك الذين عرفوا كيف ينظمون أوقاتهم ويستغلون الزمن الضائع في تنمية مهاراتهم واستنهاض عقولهم، فالوقت عنصر هام في صناعة النهضة الفردية والاجتماعية، والمستقبل لمن استغل الوقت وبرمجه في عمليات التحول والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، ودون ذلك ضياع وانقراض.

ثامناً: أوجد ملكة الإبداع في نفسك

فإن طرق حل المشاكل لا تتحدد في نمط معين، كما أن استنتاجات الإنسان لأية مسألة لا تتوقف على شكل خاص أو ثابت، فكلما عوّد الإنسان نفسه على إعمال عقله ورفع درجات توقد ذهنه وتفتقت لديه إبداعات لم يتوقعها أحياناً، لذا على الفرد أن لا يرضى بما وصل وحصل عليه العقل، وإنما عليه ـ في كل مسائل التفكير ـ أن يضغط على عقله بقوة للحصول على اكبر قدر من النتاجات غير المسبوقة، وبتكرار هذه العملية تتكون لدى الإنسان ملكة الإبداع الحاضرة في كل زمان ومكان.

تاسعاً: مواجهة التحديات

الظروف الطبيعية والعادية لا تخلق رجالاً مبدعين ولا تصنع عقولاً مفكرة، وإنما التحديات الكبرى والمواجهات الشرسة هي التي تصقل المواهب وتنمي الإبداع وتطلقه في آفاقها الواسعة، أما الانسحاب من المواجهة والاستجابة للتحديات أو مسايرتها ما هو إلا هروب من الواقع واستخفاف بالعقل البشري، بينما رفض الواقع ومقاومة الضغوطات والصبر عليها ومعالجتها بتأني وحكمه يكفل التغلب عليها وإيجاد أكثر من مخرج للخلاص منها فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.

عاشراً: التشكيك بالنتائج والنظريات

العقل السليم والمبدع لا يستسلم بسهولة للنظريات العلمية ولا يعتبرها حقائق ثابتة لا تقبل الخدش والتسقيط ما لم يمررها في مختبرات التشكيك والتدقيق والمناقشة، كما أن اعتبار أي خيارات خاتمة المطاف لأية فكرة هو خضوع وانقياد لما هو موجود ومتعارف.

والمبدع من يشكك بكل نتيجة ويمطرها بوابل من الأسئلة والاستفسارات، ويتوقع بطلانها ووجود بدائل أخرى افضل منها.

إحدى عشرة: ناقش ثم ناقش

تعوّد الفرد في مجتمعاتنا على تلقي التعليمات والحلول الجاهزة واطاعتها وتنفيذها دون زيادة أو نقصان، لأنه تعود المحاسبة والمعاقبة على أي تصرف في الفكرة ولو كان إيجابيا. لذلك تشاهد اغلب نتاجاتنا تكرارية خاوية من الإبداع والخلاقية، والسر في ذلك إننا ننفذ ولا نناقش في كل شيء ولا نرى في أن المخول إلينا مسؤولية علينا تفحصها ومناقشتها قبل التنفيذ وليحصل ما يحصل، ولو استدام كل فرد على عدم تقبل الأمر ـ تمرد ـ إلا بعد قناعة تامة به لرأيت الإثراء والإبداع مسيطراً على جميع مناحي الحياة وتشعباتها.

(ب)

ما يرتبط بالمجتمع

وهي كالتالي:

الأول: رفع الحصانة

أحد أسباب فشل السلطة القضائية في تنفيذ مهامها هو تمتع الخارجين على القانون وأصحاب التجاوزات ـ من وزراء ونواب ومسؤولين ـ بالحصانة التي تحول دون القرب منهم أو التحقيق معهم. وفي المجال العلمي والفكري أيضاً هناك حصانات وهالات خلقت للبعض وحالت دون القرب منهم أو مناقشة نتاجاتهم وحتى ذكر أسماءهم باعتبارها محرمات ـ خطوط حمر ـ لا يجوز التطاول عليها أو المساس بأمنها، فصرنا خاضعين لأعمال ونظريات باطلة وفاشلة، نساق بها إلى الضياع والدمار كما تساق القطيع إلى مذابحها، فغاب الإبداع، وتحجرت العقول، ومات الاجتهاد، وعاشت الخرافة، وظهرت البدعة، وتعطلت المعالم والسنن، بقيود نحن زرعناها وأقمناها وقدسناها.

لذا لا مناص من رفع الحصانة عن الكثير من الأشياء، وتحطيم هالة القداسة للكثير من الأفراد..

الثاني: ترقية الأمة ثقافياً

أو لنقل بصورة أدق تكريس الجهود للقضاء على الأمّية، التي تسيطر على نسبة عالية من السكان، ففي العالم العربي زادت نسبة من لا يجيدون القراءة والكتابة على ثلث السكان البالغ عددهم 275 مليون نسمة. أما الذين يجيدونها فلا يقرأون وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يتعمقون أو يحللون!

فالمسؤولية كبيرة جداً على السلطات الحاكمة لإيجاد مخرج واقعي لمحو الأمّية بالدرجة الأساس ومن ثم التفكير في ترقية المستوى الثقافي للامة. والثقافة هي الأخرى ما زالت محددة في اطر ضيقة ولا تحمل تلك الروحية التي تساعد على تنمية الإبداع أو تنشيطه، فالدخيل هو الغالب، والقديم ما زال مسيطراً على ذهنية الفرد حتى بتنا في وضعية إستلابية يرثى لها نردد كل ما يقول غيرنا كالببغاء.

الثالث: إيجاد البرامج التربوية والتعليمية المحفزة

يعتبر الخبراء المناهج التربوية أهم عنصر ينمي عملية الإبداع، واكثرها خصوصية في رفع المستوى العقلي والتكاملي لدى الطلبة، وأي تقصير أو انحراف في هذا الاس الأولي يحيل كل الأمة إلى كتلة من الجهل والتخلف.

وإذا راجعنا المستوى الإبداعي في جميع مؤسساتنا التربوية والتعليمية نشاهده متدنياً جداً ولا يوحي بوجود مناهج حقيقية تحفز عقل الطالب وتثير مواهبه، فالتلقين هو الصفة الغالبة لجميع المواد الدراسية، والاستذكار مهمة الطالب الأساسية ولا غير.

وإذا أريد حقاً لهذا الجيل أن يسير إلى خير، علينا قبل كل شيء إعادة تأهيل مستمرة للكادر التربوي بما يتلائم مع متطلبات العمر واحتياجات التنمية، وتطوير المناهج ورفع قدرة إثارتها، وبرمجة الأجواء الدراسية المحفزة لأسس التفكير، وتشجيع المبادرات الفردية وعمليات الانتقاد وكل ما يدخل في صناعة الإبداع.

الرابع: إيجاد مصانع التفكير

المكان له تأثير فاعل في عملية الإبداع، لذلك تعمل بعض الدول والمؤسسات المتقدمة على إيجاد أمكنة خاصة تثير كوامن المواهب وتنشط عملية التفكير، وهذه الأمكنة خاضعة لإشراف خبراء ومتخصصين في صناعة الإبداع فكل شيء فيها ثابت أو متحرك، مسموح به أو ممنوع يخضع لموازين دقيقة ومحددات وضوابط معرفية خاصة، وحتى الأطعمة يقدم منها ما يقوي الفكر وينميه.

ومن ابرز مهام هذه المصانع، تقديم الحلول والبدائل المبتكرة للقضايا والمشاكل الطارئة والمستقبلية.

الخامس: الإحاطة بالمبدعين والعناية بهم

المبدع مفكر، والمفكر إذا أريد منه تحقيق النجاحات والوصول إلى الغايات فيلزم الاهتمام به مادياً ومعنوياً، وتلبية متطلباته الشخصية بما يخدم العملية الإبداعية وثباتها وعدم انحرافها عن الهدف المنشود.

وأن العناية بكل ما يدعم ذات المبدع ويشحذ هممه عامل استقرار للمبدعين وحاجز كبير أمام هجرة العقول والكفاءات، وبنفس الوقت هو حلقة تواصل بين الحكومات والمبدعين من أبناء الأمة.

السادس: حماية الملكيات الفكرية

الإبداع حق لمبدعه، وعلى المجتمع والمؤسسات الحقوقية والقانونية حماية هذا الحق من الضياع وسطوة القراصنة، وإيجاد روادع متعددة تحول دون التعدي على هذه الإبداعات وتمنع الاستفادة منها دون إذن مسبق. كما يلزم تقديم التسهيلات والمساعدات التي تكفل المبدع وتوفر له كافة مستلزمات البحث والتحقيق وتقف دون لجوءه إلى جهات أو مؤسسات مشبوهة تسرق إبداعاته.

السابع: زرع التنافس البناء

كثيراً ما تكون إبداعات الآخر ونتاجاته عامل إثارة وتحفيز للفرد والأمة في تقديم كل ما هو مبدع وجديد. فالتنافس حالة إيجابية يلزم زرعها بين الأفراد وبين الأمم ليرتفع مستوى تفكيرها ولا تقدم إلا ما يرضي أنفسها ويسبق الآخر.

الثامن: رفع الرقابة

العمل الإبداعي فن جمالي راقي يتفتق في الأجواء الحرة والمفتوحة، فكل ما يخل بهذه الأجواء هو انتهاك لأبرز أسس النهوض الإبداعي، والرقابة تلجم الإبداع والمبدعين وتحجر عليهم وتتعدى على حقوقهم الأولية التي أقرتها تعاليم السماء والقوانين الوضعية.

وإذا أريد للعمل الإبداعي الانطلاق وتخطي السائد المعاد، ينبغي إعطاء الفرصة للجديد وغير المألوف لاثبات صحته وفاعليته في المجال المخصص له. أما أن نشطب هذا بحجة الخروج عن الأعراف والتقاليد! ونمنع ذاك لتمرده على القيم والمثل التاريخية! فلنتوقع هروباً يومياً من حدود هذا الوطن الذي لا يتحمل الجديد ولا يريد لنفسه البقاء بالجديد.

أين نحن من الإبداع

يحدد علماء النفس والاجتماع تطور الفكر الإنساني بخمس مراحل، أولها: النظر أو تلقي المعلومة، ثانيها: التقليد، ثالثها: التمييز، رابعها: الاختيار، خامسها: الإبداع، فأين نحن من هذه المراحل؟

إن قلنا في الإبداع، فالواقع لا ينبئ عن ذلك فكل ما عندنا مستورد.

وإن قلنا الاختيار، فإرادتنا مسلوبة منذ زمن بعيد ولا نسير إلا وفق أهواء الآخرين ودعاياتهم.

وإن قلنا التمييز، فالجهل ما زال مسيطراً علينا حتى أفقدنا قدرة التمييز بين النافع والضار.

وإن قلنا التقليد، فلماذا نترك ما ينفعنا ونأخذ ما يُردينا، فأما نقلد في كل شيء أو لا نقلد؟

وإن قلنا النظر، أقول نعم.. العالم يسير ونحن واقفون ننظر إليهم وكأن الدنيا خلقت لغيرنا.

وإذا أردنا أن نعرف أين نحن من مراحل النمو الإنساني؟!

فنحن ما زلنا في أول الطريق وبداية سلم الطفولة التي تكتفي بالنظر فقط ولم تصل بعد إلى مرحلة التقليد، أما مرحلة التمييز والاختيار المختصة بالمراهقة أو مرحلة الإبداع المحددة بالشباب فلا وجود لأي أمل بالوصول إليها ما دمنا نعيش في كبت حقيقي واستبداد مقيت، وما لم نسرع في عملية تأصيل الديمقراطية وتجذيرها فلا نتوقع تخطياً واضحاً لبعض المراحل..

نعم هذه هي الحقيقة يجب أن نتقبلها.. وإلا..

 

1 الموسوعة الفلسفية العربية، د. معن زيادة، ص15.

2 المعرفة: العدد441، ص44.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 47

الصفحة الرئيسية