2000

تموز

1421

ربيع الثاني

47

العدد

النبأ

مجلة

 

البلاء

سنة تجلي الحُسن الرباني في الكون

عبد الله العارف

ثانياً ـ بلاء النفس

أولا ـ بلاء الأمانة الكبرى

ثوابت البلاء الإنساني

علاج البلاء

ثالثاً ـ بلاء الشيطان العدو المضل المبين

البلاء: هو تعارض مميزات وخصائص التكوين في المخلوقات ببعضها، من خلال ترابط أجزاء الكون بوحدة ثوابته ووحدة شروطه،تعارضاً يؤدي إلى بيان مضمون مشيئة الله تعالى الحسنة في هذا الكون، وبهذا فالبلاء بذاته إنما هو تحصيل حاصل، فهو سنة حسنة أيضاً.

إن تميز المخلوقات مع تعددها المذهل بخصائص مختلفة في هذا الكون الكبير، وبسبب كون كل ما في الكون مترابطاً ومشروطاً، يؤدي إلى تعارض تلك المميزات والخصائص، أي أن تكون بعضها عقبات للبعض الآخر في توجهات الكون الواحد وضمن سنن ثابتة تحكمه.

فالمخلوقات في كوننا هذا تقع في ثلاثة أصناف طبقاً للقوانين التي تحكمها، هي الموجودات المادية المجردة متمثلة بما في الكون من عناصر ومركبات ومخاليط، بجميع حالاتها الغازية والسائلة والصلبة، سواءً في الأرض أو في أجرام السماء ومجراتها...

والصنف الثاني، هي الموجودات الحية متمثلة في النباتات والحيوانات والأحياء المجهرية.. والصنف الثالث، هي الموجودات العاقلة، المتمثلة في بني البشر، وأن لكل صنف من هذه الأصناف نواميس تحكم توجهاتها، وهي وإن بدت متمايزة، إلا أنها متداخلة في بعض وجوهها بما لا يمكن فصله.. فمثلاً، الكائنات الحية، هي اصلاً مادة بتصميم خاص وبنظام مميز.. وكذلك الإنسان، فهو مادة بنظام الحياة وروح من أمر الله تعالى، بارزة في تميز الإنسان عن باقي المخلوقات بارادته للحسن بمعانيه العليا.

ثم أن الكون كله وبكل أصنافه تحكمه سنن حسنة ثابتة تؤدي إلى تدبير وتوجيه نشاطاته بوجهتها الحسنة، سواء في تفاعلات الموجودات المادية.. أو في تفاعلات الإحياء بمميزات الحياة، أو تفاعلات الناس في توجهاتهم العقلية، ومنها يبرز البلاء في التعارض في مزيج من كل هذه التفاعلات والتوجهات.

ونحن نرى من خلال واقع الوجود المادي المجرد في الجوامد، وواقع الوجود الحي في الإحياء، وواقع العقل واحكامه في بني البشر، نرى أن كل مخلوق وبسبب ترابطه في وحدة الكون مع المخلوقات الأخرى لابد أن يكون عقبه لتوجهات مخلوق آخر.. أي أن كل مخلوق بذاته يكون مبتلي ومبتلى، إذ البلاء سنة حتمية لمعنى الوجود ولمعنى الحياة ولمعنى العقل.. ولذا فالبلاء دليل وبيان لتجلي مضامين مشيئة الله تعالى في خلقه، فحيثما تحل مشيئة الله تعالى يكون الحسن، إذ مشيئة المحسن سبحانه هي محض الحسن، سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا.

وطبقاً لتصنيف المخلوقات في الكون إلى موجودات مادية مجردة، وموجودات حية، وموجودات عاقلة، وعلى ضوء تعريف البلاء، فإن صورة البلاء ومعناه يبرزان ظاهرين في المواد في سمائها وارضها، في تقابل خصائص المواد الجوهرية والظاهرية بالتفاعلات الفيزياوية والكيمياوية فيما بينها، حيث تبتلى المواد بالمواد، والظواهر بالظواهر، ليكون لنا علم الطبيعة وملحقاته كترجمة لمضامين حكمة الله تعالى في خلق الطبيعة ووضع قوانينها.. ولقد اعتبر الحكماء والفلاسفة قديماً وحديثاً، أن الطبيعة هي باب الحكمة الأول والاوسع.

وكذلك يبدو البلاء أكثر وضوحاً في الكائنات الحية، وكون بعضها عقبة في توجهات الحياة في البعض الآخر، فالنباتات مصنع للغذاء، والحيوان يأكل النبات والنبات يأكل الحيوانات والنباتات والحيوانات معاً تتفسخ في التربة، الحيوانات بعضها يأكل بعض والآخر يتعايش مع حيوانات أخرى والبيئة البرية مبتلية بالبيئة البحرية والعكس صحيح، ولكل دورة بلاء واضحة لمعنى حياتها، ومن خلال نظره فاحصة لدورات الطبيعية سواء للنتروجين أو ثاني اوكسيد الكاربون أو الماء أو أي نبات أو أي حيوان، نجد أن البلاء هو جوهر المداومة والاستمرارية في الكون، ابتلاء السالب بالموجب، والحار بالبارد، والساكن بالمتحرك، والضعيف بالقوي، والنور بالظلمة والعقل بالخطل والعلم بالجهل، والحياة بالموت... الخ.

إن البلاء بذاته هدف لذاته يحرك المخلوقات بكل أصنافها في الكون ويدفعها إلى إبراز الحسن أو الانتقال إلى الأحسن، فهو نمط ثابت وسنة حسنة في معنى الوجود، ومعنى الحياة، ومعنى العقل.

وعند الإنسان كمثال للموجودات العاقلة يكون البلاء، هو كل عقبة تواجه الإنسان في إرادته للافضل والاحسن وفي توجهه وسعيه من نفسه لبلوغ معاني ومضامين مشيئة المحسن سبحانه في الكون، والتي هي مواقع الحسن وهيئات الجمال في الخلق.

فالبلاء، هو كل ما يمتحن إرادة الإنسان للخير والحسن، فهو اختبار لتوجهات الإنسان لامتلاك مميزاته العليا في الوجود.

وعلى ضوء هذه الحقائق في البلاء يتضح لنا أنه بمقدار ما تكون الإرادة عند الآدمي كبيرة لبلوغ معاني الحسن الرباني، تكون العقبات بمواجهة هذه الإرادة كبيرة.. فالبلاء كبير كلما كان الآدمي. بمميزاته الإنسانية كبيراً أيضاً.. أما إذا لم يتمتع الإنسان بإرادة الحسن، فلا توجه لعقله إلى شيء من الحسن وبالتالي فلا عقبه اصلاً تواجهه.

ثوابت البلاء الإنساني

يبتلي الإنسان بعقبات ثابتة لتوجهات ثابتة في تكوينه، فقد امتاز الإنسان بكونه أرقى مخلوق في الكون، وأن عليه مهام الخلافة والسيادة على الأرض.. وازاء تكوينه الخلقي فانه يقابل عقبة الهوى من نفسه التي هي بلاء قد يرديه.. وإن نجح في تجاوز الهوى، فانه يرتقي إلى أعلى الدرجات في معاني الإنسانية.. وهناك بلاء ثالث في واقع الإنسان وهو عدو مضل مبين وهو الشيطان.

أولا ـ بلاء الأمانة الكبرى

بما أن الإنسان هو أفضل مخلوقات الله تعالى، فإنه يجد نفسه ـ بمقدار ادراكه لهذه الميزة ـ أنه مبتلى بأمانة خاصة كبرى من ميزته هذه تتمثل في:

أ ـ خلافة الأرض

إن خلق الإنسان اصلاً جاء لجعله خليفة في الأرض فهي المهمة الأساسية في تكوينه.. قال تعالى:

(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة، 30.

وقال تعالى في تعيين داود(ع) لهذه المهمة ليحكم بين الناس بالحق:

(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) ص، 26.

ويبرز هذا البلاء عند الناس الذين يدركون ميزتهم الإنسانية الراقية هذه، سواءً بدافع من عقائدهم أو بسبب رقي وعيهم.. قال تعالى:

(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) الأنعام، 165.

وقد آتى الله تعالى الإنسان العقل فالسلطان والقوة له والسيادة على الأرض، وللعقل عقبات تمنع توجهه بإرادة الروح التي هي من أمر الله تعالى والتي جعله بها خليفة، فإذا عجز العقل عن تجاوز تلك العقبات فإن سلطانه وقوته يتوجهان في كل ما يطيح بالمميزات الراقية لخلق الإنسان فيسوء.. وهذا واضح في قوله تعالى:

(ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) يونس، 24.

فلكي يحسن الإنسان الخلافة لابد له من تقويم عقله وسلطانه وقوته بتوجيهات الوحي من الرسل(ع) وبما انزل إليهم من كتب.

ب ـ بلاء الدين

والدين ، هو ما يتهيأ به الإنسان لحسن خلافته في الأرض، ويبرز من خلال عقيدة يدين لاوامرها ويعتصم عن نواهيها، فلا نجد إنسانا يريد أن يتميز بانسانيته الراقية ليس له عقيدة، فالعقيدة فطرة في خلق الإنسان تنجلي ببلاء الدين لله.

فالدين هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولا تبديل لخلق الله.. قال تعالى:

(فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم، 30.

والدين عند الله الإسلام، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

إن الإنسان بدون دين، يعني إنساناً بدون بلاء، وكلما كان الإنسان صادقاً في دينه كلما كان بلاؤه اكبر.

وتكمن الصحة في الدين في إخلاص النية فيما يصدر عنه بقصد القربى إلى الله تعالى ودون ضميمة ويبرز ذلك واضحاً في التوجهات الإنسانية الآتية:

الطاعة: وهي الإتيان بالواجبات والامتناع عن المحرمات التي تقرها الشريعة .. وهي بلاء بما هي عقبات لأنها قيد لما يصدر عن الإنسان باوامر ونواهي من خارج نفسه، ثم هي بالإطار العام يترتب على فعلها حسنات أو سيئات، وذلك بفعل الطاعة أو تركها. وقد قال تعالى:

(وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) الأعراف، 168.

الرحمة: إن بلاء السعي للرحمة وارادتها، هو مما يبتلي به العظماء في الدين، إذ يتطلب بلوغ الرحمة الإحسان في غايته واقتحام العقبة.. قال تعالى: (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة. فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) البلد، 11-17.

فإذا اقتحم الإنسان العقبة وتجاوز البلاء في فك الرقبة وعتقها، وإطعام الطعام في شدة الجوع لليتيم ذي القربى أو للمسكين ذي الفاقة، وكان فعله عن إيمان والتزام الصبر والرحمة، فقد صدق وحسن منه الدين لله وخلص بالرحمة.

الحق والعدل: إن البلاء الذي يترتب على طلب الحق والسعي للعدل، يكون بحجم هذا الطلب وبمقدار هذا السعي،ويبلغ البلاء غايته في هذا الاتجاه عند الأنبياء واوصيائهم(ع)، حيث يتطلب بلوغ الحق وتجسيده في الناس وواقعهم، أن يكون الطالب والساعي متصلاً بالحق سبحانه وهو في ذاته معصوماً عادلاً.

قال تعالى (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) البقرة، 124.

وقد اختص هذا البلاء بنخبة من بني الإنسان هم الصالحون:

(وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف، 181.

الموت: الموت، بلاء وحتم في البلاء لابد منه لكل بشر.. ويترتب البلاء بالتحسب للموت ليحسن من الإنسان الدين.. قال تعالى:

(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملاً) الملك، 2.

فالاعتبار بالموت عقبة أمام كل توجهات الإنسان وآماله في البقاء والخلود والتملك والملك.. هذا الاعتبار يصير رقيباً ذاتياً يمنع عليه الآمال الكاذبة والعبث ويوجهه إلى الاستعداد لما بعد الموت من لقاء الحق.. وبذا يحسن هذا البلاء إذا تجاوزه الإنسان في الدين.

الإمامة: إن سعي الإنسان للسيادة بما هو أحسن الكائنات خلقة ومؤهلات للقوة والسلطان.. يواجه بعقبات التفاوت بما ساد به الإنسان من مال وقوة وجاه أو عرق أو نسب أو عقل وعلم.. فأي عوالم السيادة أجدر لبيان الحسن الرباني بمعانيه العالية، إنه البلاء. قال تعالى:

(هو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وانه لغفور رحيم) الأنعام، 165.

وهذا البلاء بارز في الحسد الذي تعتمر به النفوس ـ والعياذ بالله ـ قال تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.. فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً) النساء، 55.

فالذين خسروا أنفسهم في البلاء بالإمامة، بسبب عدم اختيارهم للاجدر لها وبالسيادة من آل إبراهيم(ع) العدول، كان قد ملئوا في تلك الانفس كبراً وحسداً.. يقول الله تعالى فيهم:

(وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى تؤتى مثل ما اوتي رسل الله، الله اعلم حيث يجعل رسالته، سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) الأنعام، 124.

والصغار هو الذل الحقيقي بما هو حجمهم وحقيقتهم التي تميزهم بخسران البلاء الذي هو بيان الحسن في خلقهم،فلا يؤمن الإنسان ولا يدرك معنى الحسن في خلقه إلا عندما يصحّ اختياره للإمام الذي ابتلاه الله تعالى به، فهو محسن في الدنيا وهو قائده إلى حيث رضا الله تعالى في الآخرة، أما إذا أخطأ الاختيار للإمام، فهو مسيئ في الدنيا وهو قائده إلى النار في الآخرة.

(وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون) القصص، 41.

التوحيد: إن مما لا يفلت منه أحد إلا ما ندر هو بلاء الشرك، قال تعالى: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وما تسألهم عليه من اجر أن هو إلا ذكر للعالمين وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف، 106.

فمع الوحدانية الخالصة لا بلاء بالشرك، لأن بلوغ معاني الوحدانية كاملة يعني بلوغ تمام الحسن فلا أهمية للبلاء، إذ البلاء سنة التعدد والتعرض والتناقض بين المخلوقات وظواهرها وفي ذلك يقول تعالى:

(... ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم) البقرة ـ 48.

فالتوحيد الخالص دين الأنبياء من عهد آدم(ع) وملة إبراهيم(ع) وهو جوهر الإسلام، وفي تعدد الأمم بالدين خارج هذا المعنى هو البلاء.

الدعوة للاحسن: ابتلى الله تعالى الناس بالرسل(ع) الذين أرسلهم إليهم تترى منذ خلق آدم، وابتلاهم بالكتب المنزلة، وابتلاهم بالآيات البينات التي أقامها سبحانه دعماً واسناداً لدعوى رسله(ع) الناس ليحسنوا. قال تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) الدخان، 33.

وقد أحسن الكثير عندما اجتازوا بلاء الرسل( وآياتهم البينة.. وقد هلك آخرون كثيرون من الأقوام الغابرة ببلاءات الرسل).

قال رسول الله(ص): (إني يوشك أن ادعى فأجيب واني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)(1).

وقال الرسول الأعظم أيضاً(ص): (إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، وانما أهل بيتي فيكم مثل باب حطة بني إسرائيل، من دخله غفر له)(2).

فمثلما يكون الكتاب والآية البينة بلاء الله تعالى في دعوة الناس إلى الأحسن، كذلك أهل بيت النبي الذين طهرهم الله سبحانه واذهب عنهم الرجس بارادته، هم البلاء الأعظم، كما هي سفينة نوح دونهم(ع) الهلاك وفيهم النجاة وبلوغ الحسن وتجاوز البلاء والعصمة من الضلال.

ج ـ بلاء العلم

إن أهم ميزة في خلق الإنسان، هي العلم والتي هي رمز قوته وسلطانه وسيادته الحقيقية، وفي العلم بالذات خصوصية خاصة للبلاء أن مجرد تميز الآدمي بالعلم، فانه يتميز بالبلاء، ويكون بلاؤه بقدر علميته ومثلما يكون العالم على درجة كبيرة من البلاء، يكون هو بحد ذاته بلاء لغيره.. لذا فبلاء العلم بلاء قائم دائم في الناس، إلا فيمن كان علمه ممتداً من رحمة الله تعالى في أنبيائه واوصيائهم(ع)، فهو متوجه لاجتياز البلاء في كل مواضع قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود، 119.

ويحل البلاء من العلم في مواضع يحتقر فيها العلماء.. أو في مواضع بغي العلماء على بعضهم أو في مواضع اتباع العلماء للهوى. في حين يجتاز العلماء البلاء بلزوم الإيمان.

(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة، 11.

ثانياً ـ بلاء النفس

يبتلى الإنسان من نفسه اشد البلاء، ففي النفس هوى لا يدرك، وفيها آفات لا يحاط بها، وللنفس تعلقات قاهرة لا يقوى على منعها شيء.

أ ـ بلاء الهوى

يأتي الهوى في حكم العقل أصلاً من وجود طاقة حيوية في كيان الإنسان موجهة بالغرائز، دون قيد أو ربط (عقل) من الروح التي هي شريكة الجسد الحي في الكيان الإنساني.

ولا يحفظ الإنسان نفسه من بلاء الهوى إلا إذا آمن بكمال العقيدة الإسلامية وإن لكل مسألة في دينه ودنياه حلاً من تشريعات تلك العقيدة، وإن كل فعل يصدر عنه لابد أن يقع من الشريعة في حلال أو حرام، ولكل ما وقع منه له علاج وكل ما لم يقع منه له واقيات.. من هذا يصنع لنفسه قيداً مما شرعه الله تعالى فيحفظ نفسه من الوقوع في بلاء الهوى.

(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) النازعات، 40.

ب ـ بلاء الترف

يتسرب الترف إلى النفوس عند توفرها على نوافل المال والوقت والقوة والسلطان والجاه.

ولكل من هذه المتوفرات الخمسة مأخذه في النفس ليصبح عقبة لا يمكن اقتحامها فيبقى الإنسان حبيس نفسه، فالوقت الوافر يأخذه إلى حيث اللهو والتسلية والمال يأخذه إلى حيث النعومة ومظاهر الأبهة، والقوة تأخذه إلى البطش والسفه والسلطان يأخذه إلى التسلط والجبروت،والجاه يأخذه إلى التعزز بغير الله تعالى.. وكل هذه المآخذ وقائع مردية لبلاء مستطير.. قال تعالى:

(واتبع الذين ظلموا ما اترفوا فيه وكانوا مجرمين) هود، 116.

وما من كارثة حلت بقوم من الأقوام الغابرة إلا بسبب الترف والمترفين.. قال تعالى: (وما ارسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) سبأ، 34.

ولو أن الآدمي التزم التشريع المقدس لحاز في نفسه على أساليب لصرف هذه النوافل، فلا يبلغ الترف ولا يبتلى به.. وعلى العموم، فإن بلاء هذه النوافل أكثر تأثيراً في النفس واصعب في مقاومته والتخلص منه، ثم أن هذه النوافل تتطلب شكراً كما تتطلب أداء الحقوق المترتبة بموجب التشريع لله تعالى على النفس المالكة لتلك النوافل.

قال سليمان(ع) في نافلة قوته وسلطانه، عندما رأى عرش بلقيس مستقراً عنده: (...فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر، ومن يشكر إنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) النحل، 40.

وقال سليمان(ع) في نافلة جاهه العريض عندما سمع النملة تخاطب قومها في جيش سليمان(ع): (فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن اعمل صالحاً ترضاه وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين) النمل، 19.

ج ـ بلاء آفات النفس (بلاء الفضلاء)

وهذا البلاء يختص بالفضلاء، أي الذين تفضلوا على الناس بما عندهم من علم أو تقى أو احسان.. ويتمثل هذا البلاء في الكبر والحسد والعجب الذي يصيب النفس.. وأن في قصة ابليس، وقارون، والسامري، ومن ترفع بوصل غير وصل الله تعالى في نفسه إلى النبي(ص)... وفي قصص واقعنا وأنفسنا يومياً، نرى كيف تصارع نفس المؤمن هذه الآفات من قبل أن تغلبها ومتى ما غلبت هذه الآفات النفس حصلت الكارثة وعم البلاء.

قال تعالى في قصة فتنة أو بلاء السامري:

(قال فما خطبك يا سامري. قال بصرت بما لم يبصروا به... فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي) طه، 96.

ويقول الله تعالى في سورة المدثر عمن أحاطه الله تعالى بوافر فضله:

(ثم أدبر واستكبر) المدثر، 23.

وأن كل بلاء الناس في استضعافهم يأتي من المستكبرين، ويبدو ذلك في المحاورة بين الاثنين التي أوردها القرآن العظيم في سورة سبأ.

والحقيقة هي أن الكبر عصّابة (بلاء) على البصيرة يمنحها إبليس لمن هم على شاكلته في أنفسهم ـ أي أحاطهم الله تعالى بفضله ورفعهم فاستكبروا على الله تعالى بفضله ـ وقال تعالى عن إبليس والذي هو من الجن فارتفع إلى مصاف الملائكة بفضل الله تعالى عليه: (... إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) ص،74.

وقد يخفى كثيراً على النفس أن تدرك أن فيها عجباً أو كبراً أو حسداً ولكن هناك شعوراً يصاحب هذه الآفات البلاء، ويداخل العقيدة بدين الله تعالى في النفس. فالشعور بالفوقية يرافق الكبر، والشعور بالدونية مبعثه الحسد والشعور بالنفعية مبعثه العجب بالنفس.

يروى عن الإمام الحسين(ع) في إحدى خطبه يوم عاشوراء قال:

(الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، فإن محصوا بالبلاء قل الديانون) فالذي يشعر بالفوقية، يظن أنه في دينه أفضل من الآخرين مما يجعله يمنح لنفسه موقعاً في الدين بحيث يكون الناس دونه.

والذي يشعر بالدونية، يظن أن عقائد الآخرين أفضل من عقيدته، فيرتب له وضعاً يبدو فيه توفيقياً بين ما يظن به من أفضلية عقيدة غيره وبين عقيدته ناقماً على أبناء جلدته.

والذي يشعر بالنفعية، هو كل صاحب مصلحة تكون عنده تلك المصلحة غاية وهدف وكل ما عداها وسائل لبلوغها، والدين عنده إحدى تلك الوسائل، فإذا اتفق الدين مع مصلحته ومنفعته، فانه يظهر استماتة في سبيل الدين، ولكنه ما أن تصاب منفعته حتى يبدو على واقعه، وينقلب على عقبيه.

(وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة) الحج، 11.

ثالثاً ـ بلاء الشيطان العدو المضل المبين

الشيطان، هو كل قوة دافعة باتجاه الفسق والفساد، وقد يكون هذا الدافع جنياً أو انسياً، وقد أخذ إبليس مساحة واسعة من هذا المصطلح بعد أن فسق عن أمر ربه: (...فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف، 50.

وإذا لاحظنا القوى الموجهة للإنسان، فإنها قوى العقل، والعقل (ربط) طاقة النشاط الحيوي للإنسان بإرادة الحسن والخير من الروح التي نفخها الله تعالى في كيان الإنسان.. والشيطان طاقة أو قوة من سنخ الطاقة أو القوة التي يتحرك بها الآدمي لذا فإنه بغياب العقل قد يداخل الإنسان فيغلّب ويقوي مركبة طاقته الحيوية وغرائزه على إرادته للخير في محصلة حكم عقله.

ولذلك فالإنسان وتحت أية غفلة من عقله قد يكون موجهاً من قبل الشيطان، إذ يداخل سنخه من طاقة الإنسان في نفسه بما يسميه القرآن الوسواس.

وهذا الشيطان في وسواسه وتداخلاته مع نفس الإنسان، يظهر واضح القصد في الوقيعة بالإنسان كما يوقع العدو الخبيث بعدوه. ويمكننا إبراز هذا المعنى فيما هو واقع، فيجد الآدمي من نفسه دوماً: أن الذي يقوم بمعصية، كأن يسرق أو يزني أو يقتل، أو يشهد زوراً... الخ ثم يراجع نفسه، كيف كان قبل ارتكاب المعصية يتمتع بقوة إضافية دافعة لتلك المعصية، وكأنه له نصير وظهير لا يقهر.. ولكن بعد أن يفعل المعصية وينظر سوءها وقبحها، يشعر بخواء القوة التي رافقته، وكذب رؤيا النصير الظهير: (وكان الشيطان للإنسان خذولاً) الفرقان، 29. وحتى على مستوى الجماعات يداخلهم الشيطان في أنفسهم ليدفعهم للخروج عن أمر الحق سبحانه:

(أن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين الهدى الشيطان سول لهم) محمد،25.

والشيطان بلاء، يبدو بارزاً في مواجهة إرادة الإنسان الخيرة وفي كل اتجاه، فالشيطان عقبه في كسب الرزق الحلال.. ويعدّ الآدمي للغرور،ويعده الفقر.. ويزين عمل السوء لأوليائه.. ويشارك بعض الآدميين في الأولاد والأموال... ويستذل الآدمي بما كسبه من الحرام الذي دله عليه.. وله أعمال وعمّال يستجلب بها العباد فينسيهم ذكر الله وينسيهم الاستغفار.. ويزين موارد الهلكة للناس ولا تجد فتنة إلا وفيها قوة دافعة للفساد والفسق من اصل قوة الشيطان.. ويلقي الشيطان الأماني في نفوس الناس بما يمهد للفساد والإفساد.. قال تعالى:

(إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) الأعراف، 27.

وقال تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) الأنعام، 121.

يختلف الابتلاء عن البلاء، إذ هو افتعال من اصل المصدر (بلاء)، فكما يرتب المعلم الاختبار لتلاميذه، كذلك الله تعالى بحكمته ولطفه وتدبيره وتقديره الحسن، يرتب للمؤمن أو المؤمنين الذين أحبهم بلاءاته، فيكون ابتلاءً.. القصد منه رفع درجات المؤمنين.

فالمعلم، يعدّ الاختبار على قدر مستوى التلميذ العلمي، مراعياً له العمر والقابليات العملية التي استوفرها والوقت، في إعداد مسبق ومرتب للاختبار وضمن منهج واضح للارتقاء بمعارف التليمذ.

كذلك الرحمن الرحيم ـ مع الفارق في القياس ـ إذا أحب عبداً ابتلاه. وكلما كان حبه سبحانه كبيراً للعبد كلما كان ابتلاء الله تعالى كبيراً وله خصوصية واضحة.. فمن لطف الله تعالى أن لا يكون الابتلاء إلا بمقدار طاقة العبد المؤمن.

وقد ابرز القرآن الكريم مراحل الابتلاء كما يلي:

1ـ ابتلاء الأنبياء، مثل ابتلاء إبراهيم عليه السلام بالكلمات..(3) وابتلاء العزير بالموت(4)، إعدادا لمهامهم، ورفع العجز عن عقولهم من أجل العصمة.

2ـ ابتلاء المؤمنين الصالحين: رفعاً لدرجاتهم، ولتخليصهم من بقايا الجاهلية والجهل في أنفسهم. ولتمويلهم عن التوجهات التي تؤدي بهم إلى الظن(5).

3ـ ابتلاء المدعين للإيمان: إما ليخرجهم من الإيمان أو ليعمق إيمانهم فلا يتركون أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون(6).

علاج البلاء

العلاج بالإيمان بالله تعالى ومن خلال الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة المعصومين النبي وآل بيته صلوات الله وسلامه عليهم.. والإيمان بالله تعالى وحسن الظن به وحسن التوكل عليه، لابد ان يقترن بالصبر، فمن لا صبر له لا إيمان له.. لذا، نقول أن علاج البلاء يكمن في الصبر، وفي درجة أرقى في التحمل، وفي غاية الصبر تكون العزيمة في الدين.

والصبر: هو ثبات الآدمي على إرادته الخيرة والحسنة من مضامين مشيئة الله تعالى في شريعته المقدسة، ولذا فهو صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية.

الاحتمال: هو الثبات على الصبر والاستمرار فيه بالرغم مما فيه من مرارة.

العزيمة: هو الثبات على التحمل دون غفلة او فتور، فلا شيء يصدر عنه غير الطاعة، ولا يتمتع بالعزيمة الا المعصوم، من الذين أخلصهم الله تعالى لأمره سبحانه وتعالى.

إن ابتلاء الناس بالمرض والفقر وقلة الفضل، ينقذهم من كثير من السوء، فالمرض يحت الذنوب والفقر ينقذهم من بلاء الترف وما يأتي به من غضب الله تعالى على المترفين، وقلة الفضل يخلص النفوس من آفات الفضل (الكبر والحسد والعجب)، فلا تجد غير ذي فضل معجباً بنفسه أو أنه يحسد كفأً له، أو فاقداً لشيء يتكبر به على غيره.

الهوامش

1 صحيح مسلم، ج2، ص238، وسنن الترمذي، ج2، ص307، ومسند أحمد بن حنبل، ج3، ص14، 17، 59، ومستدرك الصحيحين، ج3، ص109، وحلية الأوصياء، ج1، ص355.

2 مستدرك الصحيحين، ج2، ص343، وفي ج3 ص150 وكنز العمال، ج6، ص216، وحلية الأولياء، ج4، ص306، والخطيب البغدادي في تاريخه، ج12، ص19، والصواعق المحرقة، ص75.

3 (البقرة، 124) .. (البقرة، 259).

4 (آل عمران، 154) .. (آل عمران،152.

5 (البقرة، 249) .. (المؤمنون، 30).

6 (العنكبوت، 1).

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 47

الصفحة الرئيسية