بحث قرآني


تنزيه الأنبياء من الإسرائيليات

النبي إبراهيم … نموذجاً

إبراهيم محمد جواد

قال الله سبحانه وتعالى في القرآن المجيد:

(وإن من شيعته لإبراهيم، إذ جاء ربه بقلب سليم، إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون، أإفكاً آلهة دون الله تريدون، فما ظنكم برب العالمين، فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم، فتولوا عنه مدبرين)

الصافات: 83-90.

وقال عز من قائل:

(قالوا من فعل هذا بآلهتنا انه لمن الظالمين، قالوا سمعنا فتىً يذكرهم يقال له إبراهيم، قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون، قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون)

الأنبياء: 59-63.

نفهم من هذه الآيات البينات أن قوم إبراهيم عليه وآله الصلاة والسلام كانوا ينحتون بأيديهم أصناماً من حجر أو أوثاناً من خشب فينصبونها آلهة لهم ويعكفون على عبادتها من دون الله تعالى بمنتهى البلاهة والغفلة وبحكم العادة التي ألفوها حتى تبلدت على تأليهها عقولهم وتجمدت على عبادتها أحاسيسهم.

فلما شب فيهم سيدنا إبراهيم عليه السلام ورأى ما استحكم بعقولهم من البله والغفلة وما استبد بقلوبهم من الجمود والقسوة وما استعبد أحاسيسهم من التبلّد والتحجر أراد أن يزحزحهم عما ألفوه وان يهزهم هزاً عنيفاً يزلزل عقولهم وقلوبهم ويزيلها عما داخلها من الرين، فلم يكتف بما دخل فيه معهم من جدل كلامي سفّه خلاله أحلامهم وأزرى بعقولهم وعاب عليهم عبادة الأوثان والأصنام بل أتبع ذلك بحركة عنيفة نزلت عليهم كالبركان الصاعق أو الزلزال المدمر.

ففيما كانوا في ذروة النشوة والفرح في يوم عيد من أعيادهم عادوا لتأدية طقوس العبادة للأصنام وتقديم مشاعر الشكر والامتنان لها فإذا بهم يجدون منظراً عجيباً صدم أبصارهم بما احتواه من الهزء والزراية بآلهتهم وبما تضمنه من الجرأة عليهم وعلى مقدساتهم.

هذه أصنامهم قد حطّم بعضها ومُثِّل بالبعض الآخر فصنم بلا راس وآخر بلا يد وثالث بلا رجل، هذا منكس على رأسه وذلك منكب على جنبه وذاك ملقى على قفاه والكبير منتصب والفأس معلق برأسه.

إنه لحدث عجيب صدم نفوسهم وشده عقولهم جميعاً ونجحت مكيدة إبراهيم فها هو الزلزال يهز الأحاسيس المتحجرة والمشاعر المتبلدة ويحرك العقول الجامدة والقلوب القاسية.

وبدأت اللقاءات رسمية وشعبية.

وانطلقت المحاورات سرية وعلنية.

وعقدت المحاكمات خاصة وعامة.

وتحركت السلطة ـ ولابد للسلطة من التحرك لاتخاذ اجراءات الحفاظ على الملك والمنصب.

وتحركت الحاشية في خط السلطة حفاظاً على المصالح والمكاسب. والشعب ـ كما هو في أكثر الأحيان وعلى مر التاريخ ـ متفرج على الأحداث كعادته، مرتقب للنتائج بحسه وحدسه.

ويحكم ـ كما هو المرتقب ـ على إبراهيم بالموت، حرقاً بالنار التي كان يخوفهم منها، والتهمة معدة دائماً: الإخلال بالأمن وتجاوز الخط الأحمر لسلطة ذلك العصر والأقدام على انتهاك المقدسات واقتراف المحرمات.

ويجمع الحطب وتضرم فيه النيران ويحتشد جمهور الناس متفرجين، بين متشفٍ بهذا الذي أقض مضاجع الناس وخرج على مألوف عاداتهم وعباداتهم، وبين مشفق على شاب طيب القلب نظيف الثوب عف اليد واللسان ثابت الفؤاد والجنان.

ويقذف إبراهيم إلى جوف النيران الملتهبة المضطرمة!

وتتدخل العناية الإلهية في هذه اللحظات الحرجة!

وينكشف المشهد عن حطب يذوب ونيران تذوي ورجلٍ يخرج من بين سحب الدخان الداكنة السوداء بثيابه البيضاء الناصعة ووجهه المشرق الوضاء ولحيته الأنيقة الجميلة وكأنه آتٍ من روضة غناء من رياض الجنة.

وتنخذل السلطة الحاكمة بين دهشة المتشفين وغيظهم وتهليل المشفقين وبسمتهم ودموع الفرح والغبطة تنهمل من مآقيهم فتبلل الخدود وتبرد القلوب وترطب النفوس.

هذا المشهد العجيب يحفظه لنا القرآن الكريم مبثوثاً في الكثير من سوره وآياته شاهداً على حسن بيان الأنبياء وعلى جرأتهم في الدعوة إلى الله بكل سبيل يحرك العقول والقلوب ويهز المشاعر والأحاسيس بما يأخذ بأيدي جماهير الناس للخروج من الظلمات إلى النور، وشاهداً كذلك على الحفظ الإلهي والتأييد الرباني للرسول والرسالات والدعاة والدعوات إلى الله سبحانه وتعالى.

لكن بني إسرائيل لا تروق لهم هذه المشاهد الحية ولا يعجبهم سنا برقها، ولا ترتاح نفوسهم لنصاعة الطريق واستقامة سالكيه، فلابد من إلقاء الأشواك في الدرب وتشويه سمعة السائرين فيه ولو كانوا أنبياء ورسلاً، وهذا دأبهم دائماً وديدنهم في كل زمان ومكان ، ولا عجب!

إنما العجب كل العجب من أولئك المسلمين الذين مرّروا بغفلتهم مكائد اليهود وصدّقوا ولا يزالون أكاذيبهم وتحريفاتهم على أنبياء الله تعالى ورسله.

روى البخاري ومسلم في صحيحهما وأحمد بن حنبل في مسنده والترمذي وأبو داوود في سننهما، جميعهم عن أبى هريرة واللفظ للبخاري، أن رسول الله(ص) قال:

(لم يكذب إبراهيم… إلا ثلاث كذبات كل منهن في ذات الله عز وجل، قوله (إني سقيم)، وقوله (بل فعله كبيرهم هذا)، والثالثة: بينما هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له، إن ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن النساء.

فأرسل إليه فسأله عنها فقال من هذه؟ قال أختي. فأتى سارة قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني. فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأطلق ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فاطلق، فدعا بعض حجبته، فقال: إنكم لم تأتوني بانسان إنما اتيتموني بشيطان، فأخدمها هاجر: فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده: مَهْيَمْ؟ قالت: ردّ الله كيد الكافر في نحره وأخدم هاجر)1.

فهلاّ فطن المسلمون إلى سوء قصد بني إسرائيل وكيدهم وخبث طويتهم إذ أخذوا عن أحبارهم أمثال هذه الروايات التوراتية المتهافتة وهي روايات باطلة لا تصح في جنب خليل الله إبراهيم… ولا يجوز في حال من الأحوال نسبتها إلى نبينا محمد(ص).

إنها روايات باطلة لاعتبارات كثيرة نجتزئ بأهمها:

أولاً

إن الكذب من أكبر الشرور، بل هو حقيقة أن يكون أكبرها على الإطلاق، والمؤمنون منزهون عن الكذب فما بالك بالأنبياء والرسل(ع)؟ قال تعالى:

(إنما يفتري الكذب الذي لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون) النحل: 105.

وقال رسول الله(ص):

(إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً. وإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً)2.

ثانياً

إن الله سبحانه وتعالى أثنى على إبراهيم عليه السلام ثناءً كبيراً ورفعه مكاناً علياً فاتخذه خليلاً وسمّاه صدّيقاً وجعله للناس إماماً.

والقرآن الكريم ناطق بكل ذلك بأجلى صورة وأنصع بيان وإليك بعض آياته بهذا الشأن:

(وإذا ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس اماما) البقرة: 124.

(واتخذ الله إبراهيم خليلاً) النساء: 125.

(إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين، شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) النحل: 120-121.

(واذكر في الكتاب إبراهيم انه كان صدّيقاً نبياً) مريم: 41.

(وإبراهيم الذي وفّى) النجم: 37.

ولا يمكن لمن كان هذا وصفه عند الله سبحانه وهذه مكانته لديه أن يخطر الكذب له على بال فكيف يجري له على لسان. أصدّيقٌ وكذّاب؟! هل يجتمعان؟! 

ثالثاً

عندما حكى القرآن الكريم قول إبراهيم لقومه (إني سقيم) وقوله لهم (بل فعله كبيرهم هذا) لم يعاتبه الله سبحانه وتعالى ولم يُقرّعه أو يوبخه بل ولم يوهّن قوله، ولو كان إبراهيم كاذبا ـ كما تدّعي الروايات ـ لما أحجم رب العزة عن توبيخه وتقريعه أو عتابه وتسديده لأن الله سبحانه لا يستحي من الحق ولا يتأخر عن التسديد إلى الصواب، ولقد قال الله سبحانه وتعالى متحدثاً عن سيدنا محمد(ص)، وهو سيد الرسل وخاتمهم موضحاً بلا لبس أو غموض:

(ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين) الحاقة 44-47.

بينما لا نجد في القرآن الكريم إلا الثناء الجميل والمديح الطيب لإبراهيم… على ما فعل في الحالين وعلى كلا القولين اللذين صدرا عنه ….

لقد أسبغ المولى الكريم على سيدنا إبراهيم… في الموقفين أرفع الصفات الطيبة اللائقة بنبيّ كريم جاء ربّه بقلب سليم من شوائب الشرك والجحود والرياء والعجب والكذب، وكل الصفات الذميمة والمستقبحة.

لقد آتاه الله عز وجل رشده، وقلّده النبوة والرسالة فجاء قومه يدعوهم إلى التوحيد وترك الشرك ونبذ عبادة الأصنام والأوثان والتماثيل التي لا تنطق ولا تفكر ولا تملك لنفسها ولا لغيرها ضراً ولا نفعاً، ثم قام بتلك الخطوة الجبارة فأقدم بكل شجاعة وجرأة على تحطيم الأصنام حتى جعلها جذاذاً غير هيّاب من قوة غاشمة ولا وجلٍ من سلطة حاكمة، فلما أسقط في أيديهم وأخذت الحجة بأعناقهم لجأوا ـ كما هو المتبادر دائماً ـ إلى الظلم والطغيان، فأقاموا الصّرح العظيم والقوه في أتون الجحيم، ففرّج الله تعالى عنه الكرب وردّ عنه الكيد ونجّاه من الطغيان وعاد عليهم جميعاً بالذلّة والخسران، ثم منحه ذلك الوسام العظيم:

(سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين) الصافات 109-111.

وتتوالى جلائل نعم المولى على إبراهيم بعد هذه المواقف:

(ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء 71.

(ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة، وكلاً جعلنا صالحين) الأنبياء 72.

(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) الأنبياء 73.

فما أروعه من وسام وما أجلّها من هباتٍ ونعمٍ، فلو كان إبراهيم كاذباً فهل كان يستحق من ربه عز وجل كل ذلك الإنعام؟!

فأين هذا كله من تلك الروايات التوراتية المحرّفة والأوهام الاسرائيلية المضلّلة التي تنسب الكذب إلى نبيّ الله وخليله إبراهيم جرياً على عادة أهل الكتاب من اليهود والنصارى في الحط من أقدار أنبيائهم والإساءة إليهم.

رابعاً

إذا كان هذا هو موقف الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم من نبيه وخليله إبراهيم…، فلا يسوغ إذن لرسولنا ا لكريم محمد(ص) الذي نزل عليه القرآن أن ينسب إلى أبيه إبراهيم ما لم ينسبه إليه ربه عز وجل، أيسميه ربّ العزّة صدّيقاً ويسميه رسول الله كذّاباً؟

حاشاه(ص) وهو الذي قال عن نفسه:

(أدبني ربي فأحسن تأديبي).

وقالت عنه أم المؤمنين عائشة:

(كان خلقه القرآن)3.

فلننزّه سيدنا إبراهيم… عن الكذب، ولننزّه سيدنا محمد(ص) عن الافتراء وسوء الأدب.

خامساً

إذا كانت الروايات المذكورة تقف على هذا القدر من التعارض مع القرآن الكريم ومع الأدب النبوي القويم ومع اجماع المسلمين على عصمة الأنبياء من الكبائر والكذب أكبرها فالأجدر بالمسلمين والأولى بهم ترك هذه الروايات وإهمالها إذ لا يجوز الطعن على المعصوم برواية غير المعصوم خاصة إذا كانت الرواية من أخبار الآحاد..

ولنقف مع فخر الدين الرازي حين علق على هذه الروايات فقال:

(أما الخبر فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء)4.

وقال: (هذا من أخبار الآحاد فلا يعارض الدليل القطعي الذي ذكرناه)5.

وإذا نحن رددنا أخبار الآحاد هذه المعارضة للدليل القطعي عملاً بنصيحة الرازي وانقياداً لأدلة القرآن والعقل نكون قد اسقطنا كيد بني إسرائيل وافتراءاتهم التي أرادوا أن يشوهوا بها سيرة نبي اصطفاه الله خليلاً له ونصبه إماماً للناس وجعله صدّيقاً نبيّاً ورفعه مكاناً علياً، ذلك التشويه، وتلك الافتراءات التي أراد اليهود أن يجعلوها على لسان خير البشر وسيد الأنبياء والرسل سيدنا محمد(ص) لتقابل الصلوات الإبراهيمية التي سنّها النبي الخاتم في حق أبيه إبراهيم لتبقى خالدة مدى الدهر تتردد على وجه الأرض ما بقي مسلم على ظهرها:

(اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وآل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وآل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد)6.

سادساً

ولسائل بعد ذلك كله أن يسأل فما هو الحق في تأويل ما حكى القرآن عن سيدنا إبراهيم عليه السلام في تلك المواقف والأحوال؟! وهو سؤال وجيه وفي محله ولا غضاضة فيه ولا مندوحة عن الإجابة عليه:

1. قوله… (إني سقيم). معناه: إني مريض الآن، أو ذو عِلّة قَرُبَ أوان نوبتها، فلا أستطيع الخروج معكم لما بي الآن، أو لما سيحل بي عما قريب من العلّة أو المرض.

ذكر الشريف المرتضى7 لهذا القول وجوهاً منها أن إبراهيم… كان به عِلّةٌ تأتيه في أوقات مخصوصة، فلما دعوه إلى الخروج معهم قال لهم إني سقيم وأراد أنه قد حضره وقت العلة أو زمان نوبتها، وشارف الدخول فيها، ومثل ذلك قول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد(ص) (إنك ميت وإنهم ميتون) الزمر: 30 أي إن ذلك كائن لا محالة، فعبر ـ كما تعبر العرب ـ عن المشارف للشيء بعنوان الداخل فيه.

والى هذا المعنى ذهب فخر الدين الرازي في كتابه (عصمة الأنبياء)8 ولكنه أضاف: (وأيضا أراد إني سقيم القلب، والمراد ما في قلبه من الحزن والغم بسبب كفرهم وعنادهم)9 وهو معنى لطيف جداً.

2. وقال الشيخ سميح عاطف الزين: (وقوله إني سقيم فمن التعريض أو الإشارة إلى ماضٍ وإما إلى مستقبل وإما إلى قليل مما هو موجود في الحال إذا كان الإنسان لا ينفك من خلل يعتريه وإن كان لا يحس به)10.

وهنا أيضاً إشارة إلى معنى لطيف جداً ودقيق وهو سنّة إلهية في كل مخلوق، فطالما أن الموت حتم على كل مخلوق، وطالما انه يهرم بعد الشباب ويضعف بعد القوة فلابد إذن من علة ترافقه أو تعتريه وتؤدي به إلى الهرم والضعف ثم الموت، ولهذا صح لإبراهيم… أن يصف نفسه ـ كما هو حال كل مخلوق ـ أنه سقيم، فهو صادق في قوله على كل حال كما ترى.

3. قوله: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون.

قال الشريف المرتضى: (إن الخبر مشروط غير مطلق لأنه قال إن كانوا ينطقون ومعلوم أن الأصنام لا تنطق وان النطق مستحيل عليها، فما علق بهذا المستحيل من الفعل أيضاً مستحيل. وإنما أراد إبراهيم بهذا القول تنبيه القوم وتوبيخهم وتعنيفهم بعبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يقدر أن يخبر عن نفسه بشيء)11.

وتابعه على هذا القول فخر الدين الرازي12 وعبّر الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري عن هذا المعنى أيضاً في كتابه (الملل والنحل) فقال: (إنما هو تقريع لهم وتوبيخ، لظنهم أن الأصنام تفعل الخير والشر، ولم يقل إبراهيم هذا على أنه محقق وأن كبيرهم قد فعله حقاً. إذ الكذب إنما هو الأخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه قصداً إلى تحقيق ذلك)13.

4. قول: إن سارة أختي:

قال الشريف المرتضى: (إن صح فمعناه أنها أختي في الدين ولم يرد أخوة النسب، وأما ادعاؤهم أن النبي(ع) قال: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات فالأولى أن يكون كذباً عليه لأنه(ع) كان أعرف بما يجوز على الأنبياء وما لا يجوز عليهم، ويحتمل ـ إن كان صحيحاً ـ أن يريد ما أخبر بما ظاهره الكذب، فأطلق عليه اسم الكذب لأجل الظاهر وإن لم يكن على الحقيقة كذلك).

وقال فخر الدين الرازي: (هذا من أخبار الآحاد فلا يعارض الدليل القطعي الذي ذكرناه، ثم إن صح حمل على ما يكون ظاهره الكذب، وأما قوله لسارة: إنها أختي، فمعناه أنها أختي في الدين أو نظراً إلى انتسابها إلى آدم أو إلى سائر الأجداد)14.

وأنت ترى أن الإمام الرازي قد شكك في صحة الحديث مرة وجعله من أخبار الآحاد مرة أخرى فلا يقوى على معارضة الدليل القطعي، إلا أنه في تفسيره الكبير قد رجح تكذيب الخبر فقال: (أما الخبر فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء)15 وبذلك يكون قوله قد طابق قول الشريف المرتضى من كل الوجوه حيث وافقه أخيراً على ردّ الخبر وتكذيب رواته.

والى هذا ذهب الأستاذ عبد الحميد جودة السحار حين زعم ان هذا الخبر من اختلاق بعض من أسلم من اليهود.16

سابعاً

إن إبراهيم…، الذي خرج منتصراً من اكبر معركة مع قومه ومع نمرود، وهو الأعزل من كل سلاح إلا سلاح الإيمان، والمجرد من كل ناصر سوى الله سبحانه، إبراهيم الذي رأى في تلك المعركة ما رأى من حجم الظلم والطغيان، ولمس فيها لمساً حسياً عملياً قدرة الله تعالى وعظمته وما أحاطه به من الرعاية والعناية والحفظ والصون، أمن المعقول أن يسقط عند أول اختبار بعد تلك المعركة وينهزم أمام أول امتحان يصادفه فتتهاوى شجاعته وتتحطم صلابته، ويتخلى عنه إيمانه وحكمته وتوكله فلا يجد له منجياً إلا الكذب يصون به نفسه من القتل وقد لا يصون له عرضه من الدنس؟!

ما أبعد هذه النجعة؟! وما أكذب هذا المُدّعى؟!

فإن إبراهيم… ما كان ليغفل عن اللجوء إلى الله والتوكل عليه وهو يعلم أن الله سبحانه حافظه وحاميه من كل ظالم وجبار في الأرض.

وحتى لو لم يقدّر إبراهيم لنفسه السلامة فما ينبغي لمؤمن عادي أن يرضى بتدنيس عرضه وهو حيّ قادر على الدفاع عنه أو الموت دونه، فكيف يمكن أن يرضى خليل الله إبراهيم أن يدنّس عرضه وهو حي يرزق، لم يبذل أي محاولة في الذود عنه، بل ويتهرب من الذود عن زوجته بدعوى أنها أخته؟! كيف سيكون قدره في أعين الناس بعد ذلك الموقف السلبي؟! بل كيف سيكون قدره في عين زوجته بل في عين نفسه؟!

على أن ثقة الإسلام الشيخ الكليني الرازي ينقل عن الإمام الصادق… خبر قدوم سيدنا إبراهيم وزوجته سارة على ذلك الجبار بشكل مغاير تماماً لرواية البخاري عن أبى هريرة فيقول:

(... فبعث الملك رسولاً من قبله ليأتوه بالتابوت ـ الذي فيه سارة ـ فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم…: إني لست أفارق التابوت حتى تفارق روحي جسدي. فأخبروا الملك بذلك فأرسل أن احملوه والتابوت معه.

فحملوا إبراهيم… والتابوت وجميع ما كان معه حتى أدخل على الملك. فقال له الملك: افتح التابوت. فقال إبراهيم…: أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتدٍ فتحه.. بجميع ما معي.

فغصب الملكُ إبراهيمَ على فتحه، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه. فمد يده إليها فأعرض إبراهيم… بوجهه عنه وعنها غيرةً وقال: اللهم احبس يده عن حرمتي. فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه. فقال له الملك: إن إلهك هو الذي فعل بي هذا؟! فقال له: نعم، إن الهي غيور يكره الحرام وهو الذي حال بينك وبين ما أردت من الحرام. قال الملك: فادع إلهك يردّ عليّ يدي فإن أجابك فلن أعرض لها. فقال إبراهيم…: الهي ردّ إليه يده ليكف عن حرمتي. فردّ الله عز وجل يد الملك فأقبل نحوها ببصره ثم عاد بيده نحوها، فدعا إبراهيم ربه فيبست يد الملك ولم تصل إليها. فقال الملك لإبراهيم: إنك لغيور وإن إلهك لغيور فادع إلهك يردّ علي يدي فإنه إن فعل لم أعد. فقال له إبراهيم…: اسأله ذلك على أنك إن عدت لا تسألني أن أسأله؟! فقال الملك نعم، فقال إبراهيم…: اللهم إن كان صادقاً فرد عليه يده. فرجعت إليه يده.

فلما رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى، ورأى الآية في يده، عظّم إبراهيم… وهابه واتّقاه وأكرمه، وقال له: قد أمِنت أن أعرض لها أو لشيء مما معك، فانطلق حيث شئت وأذن لي أن أخدمها قبطيةً عندي جميلةً عاملة عاقلة تكون لها خادمة فأذن له. فدعا الملك بها ووهبها لسارة وهي هاجر أم إسماعيل...)17.. والحديث طويل.

فانظر إلى الفارق الكبير بين الروايتين، وانظر إلى مدى غيرة إبراهيم…، ومدى استعداده لفداء عرضه بالمال والدم، وانظر إلى مدى ثقته بربه، وأنه لن يخذله في موقف أبدا، ولن يخزيه مطلقاً.

ثامناً

إن نسبة الكذب إلى خليل الله ونبيه إبراهيم… دعوى عجيبة غريبة، وان المؤمن لا يقر عيناً ولا يطمئن قلباً بنسبة الكذب إلى أحد من الأنبياء، ولا يرضى أن يتحرك له بذلك قلم ولا لسان.

كيف وإن أحدنا لا يرضاه لنفسه، ولا يرضاه لواحد من العلماء العاملين بل ولا لأحد من تلاميذهم والسائرين على هديهم، فكيف يرضاه لواحد من أولي العزم من الرسل، بل لأبي الأنبياء والرسل وأبي المسلمين سيدنا إبراهيم الخليل…؟!

(ملّة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل) الحج: 78.

وإنها ليست كذبةً واحدةً ثم صلح حال إبراهيم بعدها، ولا هما كذبتان تاب الله عليه من بعدهما، إنما هنّ ثلاث كذبات!!! فما أكبر هذه الفرية العجيبة وما أشد إيلامها على المؤمنين!

إن مبتدع هذه الفرية، ومختلق هذه الدعوى، إنما نسب بها الكذب إلى سيدنا إبراهيم، وإلى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد(ص) الافتراء وسوء الأدب، وفي أقل تقدير نسب إليه العجز في الإفصاح عن المراد والتعبير عن المقصود.

ولقد أحسّ الأستاذ الشيخ عمر أحمد عمر بهول هذه الدعوى، ومدى خطورة القول بها في العقيدة والسلوك.

وإذ لم يستطع في كتابه (أولي العزم من الرسل) ردّ هذه الدعوى الخطيرة، فقد لجأ إلى التأويل للتقليل من شأنها ما أمكن والتهوين من خطرها فقال:

(أطلق الكذب على الأمور الثلاثة لكونه ـ أي إبراهيم ـ قال قولاً يعتقده السامع كذباً، لكنه إذا حقّق لم يكن كذباً، لأنه من باب المعاريض المحتملة للأمرين، فليس بكذب محض)18.

واستظهر على ذلك مستأنساً بقول فخر الدين الرازي في تفسيره 6/164:

(ولو صح الخبر فهو محمول على المعاريض)19.

ورغم أن المؤلف الكريم أشار إلى الأستاذ عبد الوهاب النجار الذي استبعد قول إبراهيم… عن سارة أنها أخته ونقل عنه القول:

(إن سارة لما كانت في مصر كانت بنت سبعين سنة أو أكثر فلا يطمع ملك فيمن هي في تلك السن) 20.

وأشار إلى ما ذهب إليه الأستاذ عبد الحميد جودة السحار فقال: (وكذلك زعم الأستاذ السحار أن الحديث من اختلاق بعض من اسلم من اليهود) 21.

إلا أنه عاد فعقّب على ملاحظتيهما بالقول:

(مع أن الحديث صحيح، ويوضح أن مراد إبراهيم أنها أخته في الإيمان، فلا يدل على الكذب. والرازي لم يقطع بضعف الحديث إذ قال ولو صح الخبر فهو محمول على المعاريض)22.

فالإمام فخر الدين الرازي يضعف الحديث دون أن يقطع بذلك ولكنه يقول كما أشرنا سابقاً:

(هذا من أخبار الآحاد فلا يعارض الدليل القطعي)23. ثم يعود فيقول:

(أما الخبر فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء)24.

والشريف المرتضى يقول:

(وأما ادعاؤهم أن النبي(ع) قال: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات، فالأولى أن يكون كذباً عليه( لأنه كان أعرف بما يجوز على الأنبياء وما لا يجوز عليهم)25.

والأستاذ عبد الحميد جودة السحار يزعم أن الحديث من اختلاق بعض من اسلم من اليهود.

أما المؤلف صاحب كتاب (أولوا العزم من الرسل) فلا يستطيع أن يتخلص من أسر هذا الحديث لمكان رواته عنده وعظيم منزلتهم لديه رغم لجوئه إلى التأويل لنفي الكذب عن سيدنا إبراهيم، ونسي المؤلف أنه بذلك إن كان قد برأ ساحة سيدنا إبراهيم من الكذب فقد ترك أصابع الاتهام موجّهةً إلى سيدنا محمد(ص) توصمه بالافتراء، وحاشاه وهو الصادق الأمين، وتشير إليه بسوء الأدب مع أبيه إبراهيم، وهو(ع) الذي أرسى قواعد الأدب ورسّخ مكارم الأخلاق، وتتهمه بالعجز عن التعبير عن المراد وهو الذي أوتي جوامع الكلم.

وهذا إيذاء ـ ما بعده ـ إيذاء ـ لسيد البشر وخاتم الأنبياء والرسل(ع)، والله سبحانه تعالى يقول للمؤمنين في محكم التنزيل:

(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى من قبل فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً) الأحزاب: 69.

أما الذين يصرون على إيذاء الأنبياء عامة، وإيذاء خاتم الرسل والأنبياء خاصة فيخاطبهم الله بقوله سبحانه: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً) الأحزاب: 57.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1 الحديث رقم 3358 عند البخاري ورقم 2371 عند مسلم ولفظه يتناقض تماماً مع رواية أخرى عند البخاري الحديث رقم 2217 مع أن راوي الحديثين كليهما هو أبو هريرة. وقد شكك الإمام الفخر الرازي في صحة الحديث حيث قال في كتاب عصمة الأنبياء: هذا من أخبار الآحاد فلا يعارض الدليل القطعي ثم إن صح حُمِلَ على ما يكون ظاهره الكذب، وقال في تفسيره الكبير: ولو صح الخبر فهو محمول على المعاريض. فقد شكك الرازي كما ترى بصحة الحديث ولم يقطع بضعفه.

2 رواه البخاري ومسلم في صحيحهما وأورد النراقي في جامع السعاداة (2/331) حديثاً قريباً منه.

3 رواه مسلم والترمذي والنسائي واحمد وأبو داوود وابن ماجة والدارمي.

4 تفسير الرازي 6/164.

5 عصمة الأنبياء ص25.

6 البخاري ومسلم والترمذي والسنائي وابن ماجه وابو داوود وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس.

7 انظر كتاب: تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ص25.

8 عصمة الأنبياء للإمام فخر الدين الرازي( 25.

9 عصمة الأنبياء للإمام فخر الدين الرازي (ص) 25.

10 مجمع البيان الحديث (تفسير مفردات الفاظ القرآن الكريم). للشيخ سميح عاطف الزين ص426.

11 تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى ص23.

12 عصمة الأنبياء لفخر الرازي ص23-24.

13 نفس المصدر حاشية ص24.

14 المصدر نفسه ص25.

15 تفسير الفخر الرازي 6/164.

16 إبراهيم أبو الأنبياء ص350.

17 الروضة من الكافي ص370-373 الحديث رقم 560.

18 أولوا العزم من الرسل 1/107.

19 أولوا العزم من الرسل 1/105 الحاشية وانظر: قصص الأنبياء للنجار ص84-88.

إبراهيم أبو الأنبياء للسحار ص350.

20 نفس المصدر.

21 نفس المصدر.

22 أولوا العزم من الرسل 1/105 (حاشية).

23 عصمة الأنبياء ص25.

24 تفسير الرازي 4/164.

25 تنزيه الأنبياء ص25.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 46

الصفحة الرئيسية