قانون الترافع

               

[email protected]  

حيدر البصري

القانون الذي يحكم الواقعة 

مدى العدالة في قانون الترافع

قانون الترافع في الإسلام

الترافع نظرة تاريخية

 

القضاء هو سلطة أنشئت منذ القدم لضمان إنصاف المظلوم من الظالم عن تعديه على حقوق الأول وانتهاكها، وبمقدار ما يتمتع هذا الجهاز بالاستقلالية في عمله كان أكثر قابلية وقدرة على حماية حقوق الناس من التعدي عليها، أو استعادة تلك الحقوق أو الانتصاف لها في فرض حصول ذلك التعدي. فما هي الآلية التي يعمل وفقها هذا الجهاز يا ترى أم أنه يفتقد للآلية التي يسير وفقها بحيث يكون عمله مضطرباً فاقداً للتوازن؟ فهذا الأمر هو ما خصص الكلام عنه في هذا المقال.

الترافع نظرة تاريخية

تقدم أن القضاء سلطة قديمة قدم الإنسان وأنها اتخذت صوراً واشكالاً مختلفة وذلك بحسب اختلاف العصور، وكذلك تبعاً لاختلاف طبيعة كل مجتمع.

فالمجتمع الذي يتميز بحياة البداوة مثلاً كانت طبيعة القضاء فيه أشبه بالتحكيم وهذا كان سائداً في هذه المجتمعات حتى عصور متأخرة نسبياً، بل ولا زالت بعض المجتمعات البدوية التي تقطن الصحراء ـ والتي تبعد عن الحياة المدنية ـ تخضع في مرافعاتها إلى سلطان هذا النوع من التحكيم المحلي.

أما المجتمعات المتمدنة فإنها كانت ومنذ اقدم العصور تخضع لسلطان جهاز قضائي منظم يتصف بصفة الرسمية وتتميز أحكامه بالثبات نسبياً ليعرف الإنسان ماله وما عليه من الحقوق في ظل قواعد قانونية كهذه.

فالذي يميز الجهاز القضائي في المجتمعات البدائية هو أنه جهاز بسيط لا يقوم على أي نوع من التعقيد والإجراءات الروتينية التي قد تطول لسنين فيضيع معها حق الإنسان في بعض الأحيان وإنما يكون الترافع ميسراً لأي كان دون اللجوء إلى اجراءات معينة، ويكون البت في النزاعات القائمة على أسرع حالاته.

إن سهولة الإجراءات القضائية في هذه المجتمعات إنما نشأت من صغر حجم المجتمعات البدوية ذلك الذي يقود بالنهاية إلى قلة النزاعات التي ترفع للقضاة المحليين مما يسهل وييسر الإجراءات التي تتم في ضوئها عمليات التحكيم والقضاء.

أما المجتمعات المتمدنة والتي تسير وفق قانون مدون فإن كثرة النزاعات ـ والتي تتناسب مع حجم المجتمع المتمدن ـ تقود إلى التزاحم والاضطراب ما لم يكن هناك تنظيم تسير وفقه الإجراءات القضائية لضمان العمل المنظم فكان قانون الترافع الذي يفرض نوعاً من الإجراءات لابد من اتباعها لمن يروم اللجوء للسلطة القضائية للاستنجاد بها لحماية حقه.

مدى العدالة في قانون الترافع

إن مقتضى كون الناس متساويين في إنسانيتهم وحقوقهم التعامل معهم ـ وفي كافة المجالات ـ على قدم المساواة فلا يكون هناك تمييز بين إنسان وآخر بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي أو العلمي أو الوظيفي... الخ.

وما يهمنا هنا هو تحقيق المساواة بين الناس ـ على اختلاف مؤهلاتهم وقابلياتهم ـ في ضوء قانون الترافع فما مقدار ما وفق هذا القانون في تحقيق المساواة المذكورة بين الناس؟

في مقام الجواب على هذا السؤال لا يمكن لأحد أن يدعي بتحقيق القوانين الوضعية أو أي منها لهذا المبدأ ـ مبدأ المساواة في الترافع ـ بين الناس كافة.

فالمعروف أن عامة الناس توجد أمامهم قواعد قانونية وإجراءات معينة للترافع أمام القضاء ولكن هل تتميز هذه القواعد بالعمومية اللازمة بحيث تشمل مساحة تطبيقها الناس كافة أم لا؟

لا يمكن الادعاء بعمومية هذه القواعد والإجراءات، إذ أن مساحة تطبيقها لا تتجاوز عامة الناس في حين هناك استثناءات معينة تخترق فيها عمومية هذه الإجراءات.

فإجراءات محاكمة رئيس الدولة تختلف عن تلك الإجراءات التي تحاكم فيها عامة الشعب، وكذلك الإجراءات الخاصة بالسلك الدبلوماسي، وأعضاء البرلمان وغيرهم.

إن هذا التمييز يبرر بمراعاة الوضع الاجتماعي والسياسي للمستَثْنَوْن من الإجراءات المتقدم ذكرهم، ولكن أياً كان نوع هذا التبرير فهو نوع من التمييز؟

قانون الترافع في الإسلام

بعد أن ذكرنا واقع الترافع في ظل القوانين الوضعية نرى لزاماً علينا ذكر واقع قانون الترافع في ظل الدين الإسلامي لنوقف القارئ الكريم على الميزة التي يتميز بها هذا القانون الإلهي عن غيره وحيث لم يتعامل هذا الدين مع الإنسان بما هو مسؤول أو ابن فلان من الناس وإنما يتعامل مع الجميع على قدم المساواة، يتعامل مع الإنسان بما هو إنسان وبغض النظر عن الحيثيات والاعتبارات الشخصية والاجتماعية.

لقد عرضنا لهذا الأمر لدحض مزاعم أولئك الذين يتهمون الدين الإسلامي بإضاعته لحقوق الناس وتمييزه فيما بينهم حيث يتعامل معهم ـ حسب زعم هؤلاء ـ على أساس الدين أو الاعتقاد أو غير ذلك من الاعتبارات، تلك المزاعم التي انساق وراءها البعض ممن يشعر بالدونية أمام الفكر الغربي فتراه ينعق معهم في حين لم يكن مطلعاً على أدنى مبادئ دينه العادل.

فالدين الإسلامي لم يكن ليميز يوماً بين المترافعين على اختلاف درجتهم ومكانتهم السياسية والعلمية والاجتماعية وغيرها.

فكم ينقل لنا التاريخ من الأخبار التي تذكر وقوف المسؤولين الإسلاميين، ـ وعلى ارفع المستويات كخليفة المسلمين مثلا ـ جنباً إلى جنب مع من ترافع ضدهم من عامة الناس خاضعين لما يصدره القاضي من الحكم لهم أو عليهم غير آبهين بما يجره عليهم وقوفهم ذلك من الكلام ما دام ذلك في سبيل الحق,

وكيف نستغرب ذلك أو نستبعده وقد أسس له قبلهم صاحب الرسالة والقاضي الأول في الإسلام أعني به رسول الله محمد(ص).

فالكل يعرف بتلك القصة التي نقلتها لنا كتب التاريخ حيث وقف رسول الله(ص) خاطباً بالمسلمين منادياً »ألا من كانت له عند محمد مظلمة فليتقدم ويأخذ حقه منه«.

وليس هذا من المبالغة في شيء فقد تقدم حينها رجل من المسلمين فقال لرسول الله بأنه في أحد أيام الحج حيث كان رسول الله يسيّر دابته بعصاه فلكز الرجل دون قصد في بطنه وهو يريد حقه منه فقد كشف رسول الله(ص) عن بطنه آنذاك فهرع الرجل ليقبل بطن رسول الله(ص).

إن المنزلة التي عليها رسول الله(ص) لم تكن لتقف حائلاً بينه وبين انتصاف الناس منه فيما لو تعرض ـ لا سمح الله وحاشاه من ذلك ـ لحقوق الآخرين.

فهذه هي المبادئ والأسس التي أسس لها الدين الإسلامي وبنى عليها قواعده، فهل يبقى هناك مجال للشك في تعامل الدين الإسلامي مع الناس بما هم ناس بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى؟

هذا بالنسبة للترافع بصورة عامة أما لو أحببنا الخوض في تفاصيل وجزئيات هذا القانون بالنسبة للنظام الإسلامي من قبيل مكان جلوس المترافعين، ومحلهما بالنسبة للقاضي، وطريقة استماع المترافعين وكيف يراعي الدين الإسلامي العدالة بين المترافعين في ذلك وحفظ كرامتهما فإن دراسة بهذا الحجم الموجز لا يمكن لها استيعاب أمور كهذه ولكن انطلاقاً من قاعدة ما لا يدرك كله لا يترك جله، سوف نشير إلى بعض الإجراءات التي وردت في الشريعة الإسلامية فيما يخص القانون الذي يحكم الواقعة في الدين الإسلامي فيما لو اختلف المترافعان ديانة أو مذهباً...

إن هذه المسألة ـ مسألة اختلاف المترافعين ـ هي مما يعد مثار جدل طويل بين فقهاء القانون الوضعي. في خضوع المترافعين لأي من القوانين، وقد اختلفت آراء فقهاء القانون في هذه المسألة وقد تتنازع قوانين عديدة مسألة واحدة كل يحاول أن يحكم في المسألة معتبراً إياها من صميم اختصاصه، كما لو وقعت مشاحة ومنازعة على متن طائرة أو باخرة على سبيل المثال وبين شخصين من جنسيتين مختلفتين، إضافة إلى اختلافهما مع جنسية الطائرة أو الباخرة وكانت الطائرة ـ مثلا ـ تحلق على إقليم دولة غير دولة كل من المتنازعين والطائرة. ففي حالة كهذه هناك أربعة قوانين كل يحاول بسط نفوذه على الواقعة وبت الحكم فيها وهذه القوانين هي:

1. قانون دولة الطرف الأول من النزاع باعتبار الطرف الأول من رعاياها.

2. قانون دولة الطرف الثاني باعتباره كذلك.

3. قانون دولة الطائرة باعتبار وقوع الحادثة على طائرتها التي تعد جزءاً من إقليمها.

4. قانون الدولة التي كانت الطائرة تحلق على اقليمها.

القانون الذي يحكم الواقعة في الدين الإسلامي

إن هذه المسألة من المسائل البالغة الأهمية إذ أن من شأنها أن تثير حس التسلط في بعض النفوس وذلك لعدم اتصاف الكثير بتلك الروح الشفافة التي يمكنه من خلالها تقبل الحق، بل تجد هذا البعض يعيش اسيراً للتعصب الديني والمذهبي الذي يحول دون رؤيته للحقيقة التي تتفق مع ما يمليه العقل.

إن هذه المسألة يمكن النظر فيها من جهتين:

1ـ الجهة الأولى: في مسألة تنازع الدين الإسلامي مع الأديان الأخرى في حكم واقعة معينة.

2ـ الجهة الثانية: في تنازع أكثر من مذهب من المذاهب الإسلامية في حكم واقعة معينة.

الجهة الأولى:

قبل البحث في أمر كهذا علينا التقديم بمقدمات هي:

1ـ أن الدين الإسلامي قام على أساس احترام الأديان السماوية الأخرى. فقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي انزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً) النساء/ 136.

(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة / 285.

بناءاً على ذلك لا يجب أن ينظر إلى الدين الإسلامي على انه دين جاء ليلغي الأديان السماوية الأخرى أو ينقص منها، كيف والحال أن الإسلام وغيره من الأديان قد نبعا من اصل واحد؟

2ـ المقدمة الثانية: إننا وكما تقدم ملزمون باحترام الأديان السماوية،ولكن أي إنجيل ـ على سبيل المثال ـ أو توراة من التي توجد الآن علينا أن نحترمه ونعتبره صادراً من الله في الوقت الذي نرى التناقض ظاهراً بين الواحد منها والآخر؟

إذن فكل صاحب كتاب من تلك الكتب يدعي بأن الحق عنده فأي منهم يفرض علينا احترامه كي يفرز الآخر بكونه من وضع واضع؟

بناءاً على المقدمتين المتقدمتين نقول أن قولنا بأن الدين الإسلامي هو المحكّم في الواقعة على فرض اختلاف المترافعين في الديانة السماوية التي يتبعانها ليس غرضنا التسلط والاعتلاء، وإنما نقول أن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي سلمت معجزته السماوية من يد التحريف بضمانة حفظ الله لها حيث يقول:

(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).

إذن فبحكم الإسلام لواقعة كهذه نكون أكثر اطمئناناً بكون الحكم الصادر هو حكم الله تعالى.

الجهة الثانية:

أما الجهة الثانية والتي افترضنا وقوع النزاع فيها بين طرفين مسلمين ينتميان إلى مذهبين مختلفين فأي المذهبين ـ اللذين ينتمي إليهما المترافعان ـ أحق بأن يحكم في الواقعة من غيره؟

وهنا وقبل الخوض في المسألة نقول أنه في بحث مثل هذا يجب علينا أن ننزع عن أذهاننا غبار التعصب الأعمى الذي يحول دون رؤية الحق قطعاً لنصل إلى حكم بعيد عن الرواسب التي يحملها الإنسان.

فمما لا يشك فيه إنسان مسلم ولا يخالفه هو أن المسلم مأمور باتباع ما يأتي عن الرسول(ص)، وهذه حقيقة قرآنية وردتنا عن الله في قوله:

(ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا).

ونحن ومع ذلك نرى هناك خمسة مذاهب إسلامية كل يدعي الحق إلى جانبه، فلو حدثت مسألة تقتضي الحكم فيها فوفق أي المذاهب علينا أن نحكم فيما لو كان المتنازعان مختلفين مذهباً؟

إن علينا أن نستظهر حكم محمد(ص) الحق لأننا مأمورون باتباع رأي محمد(ص) لا الرأي المفترى عليه إذ أن الرأي المفترى متوعد عليه بالنار من قبل صاحب الرسالة الإسلامية.

إذن فعلينا اتباع الطرق التي نطمئن بإيصالها إيانا إلى حكم محمد(ص) ورأيه كي نتبعه ولا احسب أن أمراً كهذا عسيرٌ على الحل فيما لو نزعنا لباس العصبية والتعصب وبحثنا في المنطقي من السبل التي ستوصلنا ولا شك إلى حكم من امرنا الله تعالى باتباعه.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 46

الصفحة الرئيسية