سحق الهوى 

                 
                 

وسيلة القرب للمعبود

                 
                 

من المحاضرات الاخلاقية لسماحة آية الله السيد صادق الشيرازي دام ظله

                 

التلازم بين العلاقتين

العبد ومقام المعبود

العبد وهوى النفس

الوسيلة في القرب

الهوى المذموم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز: (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى)1 تشير الآية الشريفة إلى بعدين مهمين في عمل الإنسان وجزاءه:

البعد الأول: العلاقة مع الخالق سبحانه.

البعد الثاني: العلاقة مع النفس.

ومن الطبيعي أن من خلال هذين البعدين تظهر علاقة ثالثة وهي علاقة الإنسان بالآخرين فإذا ما حسن الإنسان علاقته بخالقه وبنفسه حسنت علاقته بالمجتمع وحدود تعامله مع الناس.

وفي قوله تعالى (وأما من خاف مقام ربه) توضيح لشكل العلاقة مع الخالق سبحانه إذ تتمثل بوجودين: وجود الرب ووجود التابع فبين الوجودين أطر وقوانين في التعامل أساسها الخوف من مقام الرب وصورة الخوف باطنية المنشأ ليس لها ظهور واضح إلاّ من خلال العمل بالأوامر الإلهية والانتهاء عما نهى عنه مقام الرب ولذا جاء عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنتك بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك2.

وها هنا مسألة أخرى يشير إليها الإمام… في مقام الرب إذ أنّ من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فله الجنة ولكن الإمام… لا يرى لما بعد الخالق لذّة وفوزاً أو إشارة إلى أن الخوف من مقام الرب يحتمل المراد به مقام المعبود وليس المتعلق كالخوف من النار أو لذة الجنة.

العبد ومقام المعبود

ورد في تفسير مقام الخالق سبحانه أقوال جاء منها في مجمع البيان للطبرسي ما يلي: (أي خاف مقام مسألة ربّه عمّا يجب عليه فعله وتركه)3.

وقال السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان:

(المقام اسم مكان يراد به المكان الذي يقوم فيه جسم من الأجسام وهو الأصل في معناه ككونه اسم زمان ومصدراً ميمياً لكن ربما يعتبر ما عليه الشيء من الصفات والأحوال محلاً ومستقراً للشيء بنوع من العناية فيطلق عليه المقام كالمنزلة كما في قوله تعالى في الشهادة (فآخران يقومان مقامهما)4 وقول نوح… لقومه على ما حكاه الله (إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله)5 وقول الملائكة على ما حكاه الله (وما منا إلاّ له مقام معلوم)6.

فمقامه تعالى المنسوب إليه بما أنه رب هو صفة ربوبيته بما تستلزمه أو تتوقف عليه من صفاته الكريمة كالعلم والقدرة المطلقة والقهر والغلبة والرحمة والغضب وما يناسبها، قال ايذاناً به (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى)7 وقال (نبئ عبادي إني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم)8.

فمقامه تعالى الذي يخوّف منه عباده مرحلة ربوبيته التي هي المبدأ لرحمته ومغفرته لمن آمن واتّقى ولأليم عذابه وشديد عقابه لمن كذّب وعصى.

وقيل: المراد بمقام ربه مقامه من ربّه يوم القيامة حين يسأله عن أعماله وهو كما ترى.

وقيل: معنى خاف مقام ربّه خاف ربّه بطريق الإقحام كما قيل في قوله (أكرمي مثواه)9.

فعبادة الأولياء والصالحين خوفاً من مقام الربوبية بكل صفاته من قدرة ورحمة وعلم وعظمة وهذه المرتبة تحتاج إلى نفوس صافية ومطمئنة كما سيأتي في تقسيم الأنفس وورد في أصول الكافي بإسناده إلى داود الرقي عن أبي عبد الله… في قول الله عز وجل (ولمن خاف مقام ربّه جنتان) قال:

من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.

وفي أصول الكافي بإسناده عن يحيى بن عقيل قال: قال أمير المؤمنين…:

إنما أخاف عليكم اثنتين:

اتباع الهوى وطول الأمل أما اتباع الهوى فانّه يصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة10.

العبد وهوى النفس

وأما البعد الثاني فهو علاقة العبد بنفسه التي تحرّكه وفق إشارات باطنية وقد قسّم القرآن الكريم هذه الأنفس إلى ثلاثة:

1ـ النفس المطمئنة: قوله تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية)11.

2ـ النفس اللوامة: قوله تعالى (ولا أقسم بالنفس اللوامة)12.

3ـ النفس الأمارة: قوله تعالى (وما ابرئ نفسي أن النفس لأمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي إن ربي غفور رحيم)13.

قال الشيخ النراقي في جامع السعادات في النفس واسمائها وقواها الأربع:

فحدّها (النفس) أنها جوهر ملكوتي يستخدم البدن في حاجاته وهو حقيقة الإنسان وذاته والأعضاء والقوى آلاته التي يتوقف فعله عليها ولها أسماء مختلفة بحسب اختلاف الاعتبارات فتسمى (روحاً) لتوقف حياة البدن عليها و(عقلاً) لادراكها المعقولات و(قلباً) لتقلبها في الخواطر وقد تستعمل هذه الألفاظ في معان أخرى تعرف بالقرائن ولها قوى أربع:

قوة عقلية ملكية وقوة غضبية سبعية، وقوة شهوية بهيمية، وقوة وهمية شيطانية.

والأولى: شأنها إدراك حقائق الأمور، والتمييز بين الخيرات والشرور، والأمر بالافعال الجميلة، والنهي عن الصفات الذميمة.

والثانية: موجبة لصدور أفعال السباع من الغضب والبغضاء، والتوثب على الناس بأنواع الأذى.

والثالثة: لا يصدر عنها إلا أفعال البهائم من عبودية الفرج والبطن والحرص على الجماع والأكل.

والرابعة: شأنها استنباط وجوه المكر والحيل والتوصل إلى الأغراض بالتلبيس والخدع.

والفائدة في وجود القوة الشهوية بقاء البدن الذي هو آلة تحصيل كمال النفس، وفي وجود الغضبية أن يكسر سورة الشهوية والشيطانية، ويقهرهما عند انغمارهما في الخداع والشهوات، واصرارهما عليهما، لأنهما لتمردهما لا تطيعان العاقلة بسهولة، بخلاف الغضبية فإنها تطيعها وتتأدب بتأديبها بسهولة...

والفائدة في القوة الوهمية إدراك المعاني الجزئية، واستنباط الحيل والدقائق التي يتوصل بها إلى المقاصد الصحيحة..

هذا وقيل: ما ورد في القرآن من النفس المطمئنة واللوامة والأمارة بالسوء إشارة إلى القوى الثلاث أعني العاقلة والسبعية والبهيمية.

والحق أنها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاثة الأخر وصارت منقادة لها مقهورة منها وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سميت (مطمئنة) لسكونها حينئذ تحت الأوامر والنواهي وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع وكلما صارت مغلوبة بارتكاب المعاصي حصل للنفس لوم وندامة سميت (لوامة) فإذا صارت مغلوبة منها مذعنة لها من دون دفاع سميت (أمارة بالسوء) لأنه كلما اضمحلت قوتها العاقلة وأذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة فكأنما هي الآمرة بالسوء.14

التلازم بين العلاقتين

الخوف من المعبود ونهي النفس عن الهوى غالباً وعرفا هما متلازمان والقلّة ممن ينهى نفسه عما تهواه ومع ذلك لا يخاف مقام ربّه وقد ورد في الأحاديث الشريفة أن الأصل في مجازات الله لخلقه هو الخوف من مقام الله تعالى ونهي النفس عن الهوى، وأن كل الطاعات والأعمال منبثقة عن نهي النفس عن الهوى وخوف الله كما ورد في سفينة البحار بعض الأحاديث الشريفة منها عن الإمام أمير المؤمنين… أنه قال:

(لو صمت الدهر كلّه وقمت الليل كلّه وقتلت بين الركن والمقام بعثك الله مع هواك بالغاً ما بلغ إن في جنةٍ ففي جنة وإن في نارٍ ففي نار)15.

فالإنسان الذي يقضي كل أيامه بالصوم ولياليه بالسهر والعبادة وختم أمره بالشهادة في سبيل الله مرهون بهوى النفس وما أعظم تلك الأعمال فقد ورد في بعض الأحاديث (بين الركن والمقام أفضل بقعة على وجه الأرض) وفي بعض الأحاديث أنه (الحطيم) لتحطيم الذنوب فيه.

كل هذا مربوط بهواك في الدنيا أي أن القلب أين كان متعلقاً؟ والفكر وراء أي شيء يركض؟

فأياً كان الهوى وأية نسبة كانت بعثك الله بتلك النسبة أو أن النتيجة مربوطة بالهوى فان كان الهوى بالجنة فجائزتك الجنة وأما إذا كان الهوى بالحيل الشيطانية فالعاقبة إلى النار.

في حديث آخر عن أبي عبد الله… (احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم)16.

وفي معنى الحديث على الإنسان أن يحذر مشتهيات نفسه بمعنى أن يلاحظ ويتقي كما يحذر عدوّة ويترقب حركاته ويتثبت في أفعاله..

فكل من دخل النار عاقبته إلى شر من هوى نفسه وإلا فالظواهر العبادية كثيرة ثم يقول أعدى من كل الأعداء هو هوى النفس وليس معناه أن لا يأكل الإنسان الطيب أو يلبس الجيد وإنما يحذر ويلاحظ كيف يصلّي وكيف يدرس.

الهوى المذموم

وللعلامة المجلسي (ره) كلام جميل في هوى النفس ننقل ما جاء فيه ملخصاً عن سفينة البحار. قال المجلسي:

ينبغي أن يعلم انّ ما تهواه النفس ليس كلّه مذموماً وكذلك العكس بل المعيار أنّ كلّ ما يرتكبه الإنسان لمحض الشهوة النفسانية واللذة الجسمانية والمقاصد الدنيوية ولم يكن الله مقصوداً له في ذلك فهو من الهوى المذموم وإن كان مشتملاً على زجر النفس عن بعض المشتهيات أيضاً كما يترك لذيذ المأكل والملبس ويقاسي الجوع والصوم والسهر للاشتهار بالعبادة وجلب قلوب الجهّال وما يرتكبه الإنسان لإطاعة أمر الله سبحانه وتحصيل رضاه وإن كان مما تشتهيه النفس وتهواه فليس من الهوى المذموم كمن يأكل ويشرب لأمره تعالى بهما أو لتحصيل القوة على العبادة كمن يجامع بالحلال لتحصيل ولد صالح أو لعدم ابتلائه بالحرام فهؤلاء وإن حصل لهم الالتذاذ بهذه الأمور ولكن ليس مقصودهم محض اللذة بل لهم في ذلك أغراض صحيحة إن صدقتهم أنفسهم ولو لم يكن غرضهم من ارتكاب تلك اللذات هذه الأمور فليسوا بمعاقبين في ذلك إذا كان حلالاً لكن إطاعة النفس في اكثر ما تشتهيه قد ينجرّ إلى ارتكاب الشبهات والمكروهات ثم إلى المحرمات ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه. فظهر أن كلّ ما تهواه النفس ليس مما يلزم اجتنابه فإنّ كثيراً من العلماء قد يلتذون بعملهم أكثر مما يلتذ العشّاق بفسقهم وليس كلّ ما لا تشتهيه النفس يحسن ارتكابه كأكل القاذورات والزنا بالجارية القبيحة ويطلق أيضاً الهوى على اختيار ملّة أو طريقة أو رأي لم يستند إلى برهان قطعي أو دليل من الكتّاب والسنة كمذهب المخالفين وآرائهم وبدعهم)17.

نقل لي أحد الخطباء انه ذهب لزيارة أحد الخطباء وهو في آخر ساعاته من الدنيا فيقول: كان يبكي كثيراً فقلت له لماذا تبكي وأنت قد خدمت الإمام الحسين…؟ وسيستقبلك الإمام عليه السلام؟

وكان بجانب سريره حوض من الماء فبكى وقال:

أنا بمقدار هذا الحوض من الماء أخذت دموعاً من الناس ولكن لم يكن لله تعالى وكله كان لشخصيتي وأنا أعرف بذلك.

فالهوى وطول الأمل ينسي الإنسان آخرته فمن اللازم أن ينظر الإنسان إلى نفسه وعلاقتها بالآخرة وما بعد الموت حتى لا تكون أعماله في سبيل أن يعرفه الآخرون وهذا هو المذموم من هوى النفس أيضاً.

حتى لا نخسر الدنيا والآخرة

فالقرآن الكريم يقول من خاف مقام ربه ونكر هواه يحصل على الجنة مؤكداً ولكن كيف يحصل الإنسان على هذا المقام؟ خصوصاً نحن طلبة العلوم الدينية لتعلم الناس منا، إذا خسرنا الآخرة خسرنا الدنيا والآخرة جميعاً ولعل انساناً ربح دنياه يكون أقل خسارة في الآخرة منا لأن كل واحد منّا يترك من بعده حتى ولو في عائلته خطوطاً من أعماله فإذا اتبع هواه يترك التأثير على من يعرفونه فلذا خسارتنا مثل خسارة القريب من تاجر ووزير ولم يستفد من أمواله وكان يتقرب منه لأجل أمواله فهذا خسارته أعظم من ذلك الإنسان البعيد عن هذا التاجر، فالشخص الذي لم يستفد من الوزير أكثر خسارة من الإنسان البعيد عن الوزير ولم يستفد منه.

فنحن لو خسرنا آخرتنا هذه أعظم حسرة لنا فهناك حديث مروي في أحوال الإمام الصادق… إن خادماً ذات مرة رافق الإمام الصادق… في إحدى زياراته وعندما ركب الإمام على الفرس وجاء حرم جدّه وقف الخادم خارج الحرم ومسك زمام الفرس ينتظر الإمام وفي هذه الأثناء جاء تاجر خراساني فرأى الخادم واقفاً فقال التاجر للخادم: نتبادل الأمكنة ولك كل ما عندي من ثروة. فكّر الخادم ثم قال بعد امتناعه دعني استأذن مولاي فاعطى الزمام بيد التاجر ودخل الحرم متوجهاً إلى الإمام وفي الطريق فكر بطريقة ليقنع بها الإمام… فقال للإمام سائلاً يا ابن رسول الله(ص) كيف كنت معكم؟ قال: خيراً ولك الأجر من الله تعالى.

قال: إذا كان هناك خير يريد أن يصلني هل تمنعني منه؟ قال الإمام كلاّ. فقصّ الخادم عليه المسألة أن التاجر يريد أن يبادلني خدمتكم بأمواله كلّها فقبل الإمام بذلك فذهب الخادم حتى يبرم الصفقة عند ذلك ناداه الإمام فرجع. قال له الإمام… لأنك خدمتنا لك عليّ أن أنصحك فذكر الإمام… مقام شيعته والمقربين في الآخرة وأفهمه بأنك تقبل على مال وتدبر عن خير. قال الخادم للإمام إذن لا انصرف. شاهد التاجر الخادم عندما خرج بغير الحالة التي دخل بها وهو فرح. قال له جئتني بغير ما ذهبت فاشتياقك قد تغيّر ومجيئك يدل على انك غير راضٍ فأخبره بالخبر وأنه لا يقبل بالمبادلة وخرج الإمام إلى البيت وجاء الخادم وجاء التاجر فأعطى له التاجر هدية وأعطاه الإمام 1000 قطعة نقدية. ففي الواقع لحظة من الانتباه والوضع تغيّر.. فالقصة تدل على قيمة شخصية ذلك الخادم وذلك التاجر فالتاجر يدل على أن هواه مع الله ومع أهل البيت وإلا كيف يعطي جميع أمواله لأجل خدمة الإمام والخادم يربح آخرته بفضل تفكره.

الوسيلة في القرب إلى الله

ينقل عن النبي(ص) أن عابداً من بني إسرائيل كان يصنع (الزنابيل) ويأكل من ثمر ما يبيع هو وأهله وذات يوم حمل معه زنبيله ومرّ على باب دار أحد سلاطين ذلك الوقت وكان العابد جميل المحيّى، بصرت به زوجة السلطان فأرست إليه الخدم وأخذوه إلى القصر فراودته عن نفسه فاستعصم وعندما لم يجد مفراً قال لها يمكن أن أذهب إلى الحمام لأقضي الحاجة فسمحت له فذهب وفكر وقال أنا قضيت عمري بالعبادة وفي لحظات اخسر كل عبادتي ففكر بإلقاء نفسه من فوق السطح لكي يموت بالانتحار وهنا نتوقف أمام أمرين: الأول هذا النوع من الأمور كان مذكوراً في الأمم السابقة كيف رمى نفسه ومات؟ (أ) إما أن يكون جائز عندهم (ب) أو أن الرجل غير متفقه في أحكام الدين.

الثاني: لا تجوز الشريعة الإسلامية هذا العمل (الانتحار) حتى لو اكره على الزنا وإنما يجب أن يتخلص بحلال أو بحرام أخف وليس له أن يقتل نفسه. أما الاستفادة من القصة هو في تفاني هذا الرجل لسحق هواه، نعم التفاني في سبيل سحق الهوى يسحقها في كل مكان فعند ما رمى بنفسه أمر الله جبرائيل أن يأخذه حتى لا يسقط على الأرض وانصرف فبقيت زوجة الملك تنتظره في داخل القصر والنبي عندما يروي القصة لا تهمّه زوجة الملك وما حصل لها بعد ذلك وإنما العابد فترك العابد أغراضه داخل القصر وجاء إلى البيت وكأنه وزوجته كانا صائمين فرأت يده خالية فقالت له أين المال؟ فأجابها في الواقع لم أحصل على شيء فقالت ماذا نأكل فقال الرجل أشعلي التنور حتى لا يعرف الجيران بأنه لا يوجد عندنا شيء لاننا يومياً نشعل التنور واتفق في ذلك أن جاءت امرأة من بيت الجيران لتأخذ شيئاً من نار التنور فبقيا متحيرين فأشار عليها أن تذهب لتأخذ شيئاً من نار التنور وعندما وصلت الجارة إلى التنور قالت خبزكم يحترق فاخرجت الخبز وأكلا، فالله تعالى يجعل للإنسان الذي يسحق هواه وسيلة وليس سحق الهوى لأجل هذه الوسيلة وإنما بمقدار أن لا نضيع ونتمكن أن نعمل فإنسانيتنا لا تسمح لنا بأن نضيع بالمقدار الذي نعرف ونصدق فقطعاً الله لا يضيع عملنا.

فهذه القصص والاحاديث لكي تصلح أنفسنا وتغير الطريق للوصول إلى مقام الكمال والرحمة.

السيطرة على الشهوات والرغبات

فتحرير النفس من قيود الشهوة وأسر الهوى يتطلب جهداً ومثابرة دائمة يحكّم فيها الإنسان عقله وأول مرحلة في مسيرة التكامل العقلي وبلوغ الرشد الإنساني هي السيطرة التامة على جميع الشهوات والرغبات وإخضاعها لمبدأ العقل وموازين الشرع لتحرير الذات من وثاق الشهوة وفكّ النفس من قيودها الحاجبة عن العبودية الحقّة.

عن الإمام أمير المؤمنين… انه قال: (طاعة الشهوة تفسد الدين)18.

وأن وجود الإنسان ونوعيته تدل عليه علامات من قريب أو بعيد منها عمله وكلامه، وعقل الإنسان لا يستسيغ الثورة والتطرّف في الشهوة والركض وراءها وله في مكافحة ذلك طرق وأساليب منها إخلاص النية والصمت. فعن الإمام الرضا عليه السلام:

(من علامات الفقه الحلم والحياء والصمت إن الصمت باب من أبواب الحكمة وانه ليكسب المحبة ويوجب السلامة وراحة الكرام الكاتبين وانه لدليل على كل خير)19.

حيث إن الإنسان إذا خالف نفسه وهواه وجعل رغباته النفسية جانباً فانه سيعثر على شيء أنفع وهو العلاقة بالله تعالى والقرب منه سبحانه وفي هذه الحالة سيحلّق الإنسان في سماوات الحالات الروحانية فلا يجعل همّه كله بالأمور الدنيوية ولا تكون المعايير الدنيوية هي المقياس الوحيد عنده.

اللهم إنّا نسألك أن تعفو عنا وتغفر لنا خطايانا وتزكي أنفسنا انك نعم السميع المجيب.

 

 

1 النازعات/40.

2 عوالي اللئالي ج2، ص11.

3 تفسير مجمع البيان ج9-10، ص435، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

4 المائدة/107.

5 يونس/71.

6 الصافات/164.

7 طه/82.

8 الحجر/50.

9 تفسير الميزان ج20، ص193، ط2، مؤسسة الاعلمي بيروت 1974م.

10 اصول الكافي ج2، ص335، باب اتباع الهوى، ح3.

11 الفجر/27.

12 القيامة/2.

13 يوسف/53.

14 جامع السعادات، ج1، ص28، مطبعة النجف الأشرف/1963م.

15 سفينة البحار، ج8، ص730، باب الهاء بعده الواو/دار الأسوة/إيران.

16 المصدر نفسه، ص729.

17 سفينة البحار، ج8، ص729، باب الهاء بعده الواو.

18 تصنيف غرر الحكم، ص304، ط1.

19 إرشاد القلوب, ج1، ص102، باب 27.

 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 46

الصفحة الرئيسية