مجلة النبأ      العدد 45        صفر  1421       ايار 2000

 

من أخلاقيات الحرب في الإسلام

عبدالسلام الرفاعي

لا تغدروا..

لا تمثلوا..

مبادئ إنسانية

مع أمير المؤمنين (ع)

الضرورة والتناسب

لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا..

لا يخفى على كل ذي لب الفرق الشاسع بين القوانين الوضعية وبين القانون السماوي والذي هو شريعة الله سبحانه وتعالى التي أراد بها تسيير الحياة على نحو يتناسب مع طبيعة الإنسان بميوله ورغباته؛ كي يتحقق هدف الحياة المنشود وحماية الأرض وما عليها من الدمار والخراب.

فالفرق واضح جداً ويتجلى ذلك في بعض القوانين الوضعية والتي أظهرت عدم كفاءتها لإدارة الحياة، كونها قوانين ونظماً غير ثابتة، فهي تخضع أحياناً لقوانين الطوارئ والتي تفرض تغييرها وتبديلها، وأحياناً أخرى تخضع إلى التقييد بشروط عينة يفرضه الحاكم، لذا نرى أن الحكام لا يتعاملون مع نصوص القوانين على أساس الإيمان بمضامينها وبروحها وما تضفي على البشرية من نتائج إيجابية تعترف بحقوق الإنسان من دون معاناة.

لقد مرت الإنسانية بتضاريس وعقبات وأدوار من التعامل تكاد تكون خلافاً لما أنزله الخالق تعالى في كافة الأديان السماوية لما فيها من الظلم والاستبداد والسيطرة والاستعمار لضمان المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة، فاستبد الحكام والملوك وأصحاب الإمبراطوريات بطغيانهم ولم يحكموا بما أنزل الله وتعدّوا حدود الله بالشكل الذي سلب حرية المواطن، فأكموا أفواه الناس وأولجوهم السجون وقطعا الرقاب وسيطروا على مقدرات الإنسانية لخدمة تسلطهم وطغيانهم على مدى أوسع من الأرض والبشر، فأشاعوا الحروب والنزاعات والقتل والسلب والإيذاء بطر لا إنسانية ومن دون الالتفات إلى حقوق بني البشر واحترامها.

فأصبحت الحروب تجلب للمجتمعات الآلام والمآسي والويلات، وتلحق بهم مدناً وصوامع، وتمسح طل مظاهر الرقي والعمران والحضارة، حتى إذا تقدم المجتمع خطوة عاد إلى الخلف خطوات، لا لشيء إلا لإرضاء الشهوات الفردية والاستعمارية واستضعاف الآخرين، وها هي اليوم كذلك رغم حالات الرقي والعمران والتطور، ولا سبيل للخلص منها ما لم ينتهج المسببون لها منهجاً صادقاً مستقيماً عادلاً يكون بديلاً لما سبق، يضمن للجميع السلامة والأمان بكل جوانب الحياة، لا يفرق بين أمة وأخرى، ولا بين أبيض وأوسد ولا ضعيف وقوي، ولا غني وفقير، فيجعل الضعيف قوياً والفقير غنياً ليشيع السلام والاطمئنان.

وهذا ما جاء به الدين الإسلامي الحنيف وما صدع به رسول الله(ص) مبلغاً للبشرية جمعاء بشريعة السماء التي تضمن المساواة لجميع أبناء البشر وتضع حداً لما وصلت إليه المجتمعات الجاهلية من خرق لكافة القيم الإنسانية بالقتل والسلب وأهلاك الحرث والنسل..

مبادئ إنسانية

إن الأزمات التي تتعرض لها البشرية من جراء الحروب لم تكن وليدة نقص فكري أو ثقافي أو اقتصادي بقدر ما هي وليدة أزمة خلقية، لذا نرى أن جميع الرسل والديانات إنما جاءت لترسيخ مبادئ الأخلاق السامية بين الشعوب، فهي تحرم الحروب من اجل الاستغلال والاعتداء على الغير، ودمار كافة المقومات البشرية لإرضاء شهوات ورغبات وميول فئات معينة نحو التوسع على حساب الأخرى، فقد قال رسول الله(ص) مبيناً الغرض الأساسي من البعثة النبوية: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، ومكارم الأخلاق هذه هي النظام الأساس في حفظ حقوق الآخرين وعدم الاعتداء، وسلامة المجتمع، وبالتالي التقليل من الخسائر بما يضمن للآخرين التعايش بالصورة الصحيحة.

من هذا الجانب تراه(ص) وضع قواعد واسعة عامة يمكن من خلالها الحد من نشو بالحروب وإمكانية التقليل من الخسائر عند اشتعالها، علماً أن هذه القواعد والأنظمة إنما هي أسس أخلاقية.

ففي حديث للرسول(ص) يقول: (لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة)(1).

فقد نهت الشريعة الإسلامية عن وضع الأغلال في أيدي الأسارى، وأمرت بتركهم أحرارا من دون تقييد أو تحديد لحركتهم، مع العلم أن ذلك ربما يطمعهم بالغدر ولكن الشريعة آثرت الخلق الرفيع، فكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) يأمر بعدم التعرض للعاجزين والممتنعين عن الحرب بقوله: (ولا تصيبوا معسوراً) حيث يأمر الخلق الإسلامي بإطعامه والرفق به واحترام حقوقه كإنسان، وهذا القانون الإسلامي قد سبق بأكثر من عشرة قرون ما توصلت إليه اتفاقية جنيف في 12/آب/1949..

لا تمثلوا..

كما نهت الشريعة الإسلامية عن التمثل برجال العدو الذين قتلوا أو الذين استنفذت كافة قوتهم، فهم بين الحياة والموت يلفظون أنفاسهم الأخيرة فإيذاءهم وهم بهذه الحالة يعتبر انتقاماً فيه من البشاعة ما هو خارج عن إطار الخلق الإنساني مما ترفضه الشريعة الإسلامية السمحاء.. وهذا ما توصل إليه القانون الدولي والمشرعون الدوليون أخيراً في ضرورة دفن جثث القتلى في أماكن معروفة كي تسهل عملية تسليمهم وعدم العبث بها، وذلك ما سبق إلى تطبيقه الرسول الكريم(ص) وخاصة في معركة بر حتى تعداه إلى مداواة جرحى العدو والسماح إلى أفرادهم بحمل جثث قتلاهم وجرحاهم، وهذا أيضاً ما أفصح عنه لاحقاً القانون الدولي بضرورة تشريع منظمة الصليب الأحمر الدولية وما أنيط بها ن دور أثناء الحروب.

لا تغدروا..

وهنالك أساس أخلاقي آخر أشار إليه الرسول(ص) في حديثه آنف الذكر وهو عدم الغدر، وهو نظام يهدف إلى عدم الانقضاض على العدو قبل دعوته إلى الحرب، وإنذاره بادئ الأمر، وقد التزم(ص) بذلك أثناء حروبه وبكافة تعهداته مع العدو فتراه في صلح الحديبية يلتزم بالمقررات المتفق عليها حتى بان خلاف ذلك من العدو لكافة تعهداته، أما أمير المؤمنين(ع) فكان بثباته على تعاليم رسول الله(ص) يقول: (الوفاء توأم الصدق)، وفي عهده إلى مالك الأشتر في ولايته لمصر (وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة، فحط عهدك بالوفاء.. فلا تغدرن بذمتك.. ولا تختلن عدوك..) (2).

وهذا النهج هو عين النهج الذي سار عليه مؤتمر لاهاي الثالث حيث ألزم العازمين على شن الحرب بضرورة إنذار الخصم قبل أربع وعشرين ساعة من بدء العمليات الحربية.. مع الالتزام بكافة التعهدات والمقررات التي سبق أن اتفق عليها..

من هنا نلاحظ أن هذه القوانين تصب في نفس النتيجة التي سبق وأن أشارت إليها الشريعة الإسلامية مع العلم أنها كانت مطبقة على الواقع العملية في عهد الرسول(ص) ، وكذلك في عهد خلافة أمير المؤمنين علي(ع) ، ولكننا نراها اليوم مجرد قوانين وأنظمة ـ حبر على ورق ـ لا يلتزم بها أحد بل العمل يسير على خلافها من الغدر ونقض في العهود والمواثيق.. فترى اليهود من جانب يحاولون اللف والدوران وكسب الوقت للحيلولة دون الاعتراف بالحقوق المصادرة واسترداد الأراضي المغتصبة..

ومن جانب آخر ترى الصليبية تعود للغدر والانقضاض على أي تواجد إسلامي ومحاولة محوه بأي وسيلة كانت من الوسائل الخارجة عن كل المعايير الأخلاقية والقانونية، فتراهم في البوسنة والهرسك يمثلون بجثث القتلى من المسلمين ويبقرون بطون الحوامل ليراهنا على ما فيها هل هو ولد أم بنت؟ والى غير ذلك من الوحشية في عصر التطور وادعاء المنظمات الدولية باحترام حقوق الإنسان والتعايش السلمي.

لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا..

وفي إشارة أخرى إلى أساس أخلاقي آخر من أسس الشريعة السمحاء فقد أمر(ص) بعدم التعرض لكبار السن والنساء والأطفال باعتبارهم غي محاربين، ولا يقوون على حمل السلاح، فاعتبرهم من غير المشمولين بالحرب والقتل.. وهذا ما وصلت إليه الاتفاقيات الدولية وخاصة اتفاقية جنيف لحماية المدنيين في 12/ آب/ 1949 وهو كسابقه أصبح ـ حبراً على ورق ـ لما نراه اليوم من تعرض المدنيين شيوخاً ونساءً وأطفالاً إلى القتل والدمار وبكافة أنواع الأسلحة، وحتى المحرمة دولياً، كالأسلحة السامية، كيماوية وبيولوجية، ناهيك عن أسلحة الدمار الشامل.. فتراهم من جهة يصرحون باتفاق معين لخدمة البشرية السلام، ومن جهة أخرى يصرّحون باتفاق معين لخدمة البشرية والسلام، ومن جهة أخرى يتغاضون عن أفعالهم في تدمير المجتمعات بوسائل أكثر وحشية.. فترى المجتمع الدولي رغم ما يمر به من مراحل التطور والرقي، يفقد أغلى وأثمن شيء ممكن أن يتعامل به وهو الجانب الأخلاقي تجاه شعوب لا ذنب لها إلا رغبة الدول الكبرى والمستعمرين في الرجوع إلى عصر الجاهلية في اتخاذ القرارات التي تخدم مصالحهم في إبادة الشعوب وتحطيم كبريائهم وتمزيق وحدتهم من أجل السيطرة على مقدراتهم واستعمارهم وبأي وسيلة أنت.

الضرورة والتناسب

فتراهم يعودون إلى التمثيل والغدر والتقتيل بعكس ما صرحت به مقرراتهم مؤتمراتهم، وترى الجمعية العمومية للأمم المتحدة تصدر قرارها المرقم 3675 والذي يضمن في حالة الحرب مبدأ الضرورة والتناسب، بحيث أنه لا يمكن اللجوء إلى التدابير العسكرية إلا في حالة الضرورة القصوى والتي لا ملجأ إلا إليها من اجل ردع المقابل وتحقيق الأهداف المنشودة..

فأي ضرورة هذه التي تقود إلى اتخاذ التدابير العسكرية المتمثلة بالقصف الجوي والقتل والدمار اليومي والحصار الذي طال شعوب العالم الثالث خاصة؟ واي هدف منشود طيلة هذه السنين والتي يتعرض خلالها الحرث والنسل إلى العديد من الأمراض والموت الجماعي؟ وما هو مبدأ التناسب في هذه الحالة؟ والذي تقتضي مقررات جمعية الأمم المتحدة بعدم استخدام أساليب العنف ووسائل القتل والدمار إلا بالمقدار الضروري..‍‍!! فهل أن الحصار المفروض على شعوب المنطقة من قبل الأمم المتحدة هو بمقدار ما يتناسب وتحقيق الهدف المنشود؟! فالهدف الذي لا يتحقق لسنوات عدة من الحصار والدمار لشعوب لا حول لها ولا قوة متى يمكن تحققه؟!

الظاهر إن أهداف مبدأ الضرورة والتناسب لا يمكن تحقيقها حتى يشارف آخر مواطن من الشعوب المحرومة على الهلاك، حينها فقط يظهر الوجه الحقيقي للمجتمع الدولي البعيد عن كل معايير الأخلاق والإنسانية..

مع أمير المؤمنين (ع)

لقد أضاف أمير المؤمنين(ع) ثلاثة عناوين أخرى تعتبر قواعد أساسية في الحرب توصلت إلى بعضها البشرية لاحقاً واعتبرتها ضمن اتفاقياتها المجمع عليها..

فمنها(الإعذار) وهو إيضاح الأمر لدى الخصم والناس، وتقديم البينة على ذلك، فقد كان يدعوا خصمه إلى حكم الإسلام واستنفاذ كافة حججه بمناقشة مستفيضة من اجل إعطاءه فرصاً إضافية للرجوع عن الحرب)(3)..

كما في معركة صفين حيث قال(ع) : (والله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة، فتهتدي بي وتعشوا إلى ضوئي..)(4).

ومنها عدم البدء بالقتال فكان(ع) يقول: (لا تبدأوهم بقتال)، فكان(ع) يتمسك بذلك من أجل تلافي سفك الدماء وإعطاء الفرصة للخصم للتراجع عن مواقفه في الحرب، فقد أوصى(ع) إلى بعض قادته بقوله: (ولا تدن من القوم دنو من يريد أن ينشب الحرب)(5).

نعم لقد كان رسول الله(ص) واهل بيته€ حقاً يعطون أكثر مما يأخذون فكانوا الأساس في تطبيق الشريعة السمحاء بوجهها الأبيض الناصع، وذلك ما أخذت منه القوانين الدولية بعض مقرراتها وأنظمتها، ولكنها اليوم تحارب الإسلام وتعتبره نظاماً إرهابياً متخلفاً رغم ما يرونه أمام أعينهم وما عرفوه عن طريق مستشرقيهم وغيرهم، من كون الشريعة الإسلامية والقانون الإسلامي هو النظام السبيل الوحيد الذي يضمن لبني البشر العيش بطمأنينة وسلام ولا غير..

 

1 ـ فروع الكافي: ط3 م5 ص28.

2 ـ نهج البلاغة: ج2 ص316.

3 ـ د. محمد طي.. الإمام علي. بتصرف.

4 ـ نهج البلاغة: ج17 ص149.

5 ـ نهج البلاغة: ج5 ص414.


 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 45

الصفحة الرئيسية