اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 44

الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ      العدد 44        محرم  1421       نيسان 2000

 

وجهة نظر

الشخصية الرسالية

بين النشاط العملي والتحصيل الثقافي

حبيب آل جميع(1)

الحلول المقترحة لهذه الحالة

نتائج هذه المفارقة

أسباب الحالة

يعتمد العمل الإسلامي على ركيزتين أساسيتين في التحرك، يمثلان قوام الشخصية الإسلامية وهما البعد العلمي والبعد الفكري.

وتكامل الشخصية الرسالية مرتهن بإلمامها بهذين البعدين والتوفيق بينهما لأن الإفراط أو التفريط في أحد هذين الجانبين يؤدي إلى خلل في الشخصية وبالتالي يؤثر على مستوى العطاء والإنتاج.

وقد تتولد لدى بعض الرساليين العاملين في سبيل الله قناعة فكرية ليست صحيحة تدفعهم إلى الإيمان بأهمية وضرورة أحد الجانبين وإهمال الجانب الآخر، فيقومون بسلوك أحد السبيلين مهملين الآخر. وهناك من العاملين من يتحمس للبعد الفكري الثقافي فيعمد لتكامل شخصيته في هذا الجانب غير مبال بالآخر، متوهماً أن الجانب العملي بسيط ولا يحتاج إلى جهد فكري أو إعمال نظر، وأن الساحة لا تحتاج إلى عاملين بقدر احتياجها إلى منظرين ومفكرين، وهذا يدفعه للإفراط في التركيز على البعد الثقافي ومن ثم يهمل الجانب العملي حتى لتغدو حياته نظريات مثالية لا تثمر على أرض الواقع نبتاً رسالياً يؤتي أكله في الساحة.

في المقابل هناك من العاملين من يتحمس للجانب العملي اعتقاداً منه بأنه الأهم في مجال التحرك الإسلامي، وأن الاهتمام بالثقافة والفكر لن يطيحا بنظام سياسي مستبد ولن يسقطا طاغوت، فالبعد العملي هو الأهم في نظره وهو العمود الذي يرتكز عليه العمل الإسلامي، أما العمل والنشاط الثقافي فلا يهتم به سوى الضعفاء والعاجزون الذين لا يستطيعون حيلة ولا يمتلكون القدرة الحقيقة على ممارسة التغيير.

وقد يكون عدم التوفيق بين النشاط العملي والتحصيل الثقافي غير نابع من قناعة فكرية تدفع الفرد للتخصص بأحد المجالين مهملاً الآخر. بل يكون ذلك بسبب ظروف معينة في مسيرة الرسالي الحياتية أو لعدة أسباب ذاتية وموضوعية. ولمعالجة هذه الظاهرة لابد لنا من البحث والتنقيب لمعالجة تداعياتها السلبية، ومعرفة أسبابها الذاتية والموضوعية كذلك.

أسباب الحالة

أولاً: ضعف الرؤية: حينما تطرح فكرة ثورية في مجتمع جامد يعاني من الظلم والكبت والإرهاب. في هذه الأجواء الضاغطة نجد بعض الشرائح الاجتماعية ستتقبل هذه الفكرة وتتحمل مسؤولية نشرها وتبليغها والدفاع عنها، وهذا يعني دخول كثير من الأفراد في التيار الثوري الناشئ. هؤلاء الأفراد سيصبحون في المستقبل ركيزة ونواة العمل الإسلامي.

ومن الطبيعي أن هؤلاء الأفراد لا يدخلون ضمن التحرك ببصيرة متكاملة بل يصلون إلى مرحلة النضج وتكامل الرؤية بعد جهد وزمن معين، عبر عنصري التربية والتعليم، المتكاملين بعد الانتماء، ومباشرة التحرك، ولأن البعض لا يصل إلى مرحلة النضج والوعي المتكامل، فانه يظل ضعيف الرؤية الفكرية الواضحة لديه.. ومن هذه القناعات الفكرية غير الصحيحة التي تتولد لدى بعض الأفراد، فكر عدم أهمية النشاط الفكري، أو البعد الثقافي، فالفرد الذي يرى الواقع بنظرة ضعيفة وناقصة، فيعتقد بأن الطريق الأسرع والأسهل لتحقق الانتصار على النظام الفاسد هو النشاط العملي وأن البعد الثقافي لن، يغير شيئاً، أو يعتقد بأن وسيلة الانتصار الناجحة هي العمل الثقافي والتركيز فيه وأن النشاط العملي ما هو إلا عبث في الجهد وهدر للطاقات والزمن من دون أي مردود إيجابي.

ثانياً: انعدام البرنامج السليم: تارة يكون الاهتمام بأحد الجانبين وإهمال الجانب الآخر، محكوماً بقناعة فكرية معينة وفي هذه الحالة يكون الإفراط في جانب والتفريط في الآخر متعمداً. وتارة يكون عدم التوفيق يبنهما غير نابع من قناعة فكرية ما، بل لخطأ ما حصل في مسيرة الرسالي وهذا لا يكون بصورة عمدية، فيكون الخطأ حينئذ بصورة قهرية لا اختيارية.

ومن الأسباب المؤدية لنشوء هذه الحالة افتقاد الفرد الرسالي للبرنامج السليم حيث يؤدي به ذلك ـ لا إراديا ـ إلى الإفراط أو التفريط، وذلك بسبب الافتقاد للمنهج السليم الذي يبرمج وقت الفرد وينمي طاقاته ومواهبه الفكرية والعملية بحيث يكفل لكل جانب حقه الكامل من الاهتمام والتنمية.

ثالثاً: الميل النفسي لأحد الجانبين: ولا نعني بذلك القناعة الفكرية التي تحرك الفرد نحو التخصص في أحد المجالين إذ من الممكن أن تكون لدى الفرد قناعة بضرورة كليهما، وانهما بعدان رئيسيان ومهمان في شخصية الرسالي، وأن على الرسالي أن يكون متكاملاً في جميع الحقول وعلى كل الأصعدة إلا أن الفرد قد يكون مغرماً بأحد الجانبين، حيث يستهويه ويشعر بأن هذا الجانب يرضي طموحه ويبني له الشخصية التي يتوخاها فيندفع نحو اختياره وميوله بقوة وهنا يحصل الإهمال للجوانب الأخرى، وهنا يكون الدافع إذن هو الميل النفسي وليس الاقتناع الفكري ويتركز ذلك بصورة أشد حين ينعدم البرنامج المنظم حيث يفرط فيما يميل إليه على الرغم من قناعته بضرورة الجوانب الأخرى.

فهناك من العاملين مثلاً من تستهويه النشاطات الثقافية فيفرط في القراءة والكتابة والمطالعة فينمو في معظم المجالات الثقافية حيث يستحوذ البعد الثقافي على كل وقته وجل اهتمامه. وبالتالي يحصر فيه جهده وطاقاته فيكون ذلك على حساب الجوانب الأخرى كما ذكرنا، وكذلك العكس قد يتم التركيز على العمل ويهمل التحصيل الفكري والمعرفي.

نتائج هذه المفارقة

أولاً: الفشل في الجانب المهمل: فطاقات الإنسان ومواهبه بحاجة إلى استغلال وتنمية وإلا ضعفت وخبت وشيعت على نعش من صمت إلى القبر، فلا يعود الإنسان قادراً على استغلالها أفضل استغلال. وحينما يفرط الإنسان في مجال ما، في أي حقل أو على أي صعيد، فان مقدرته ستكون ضعيفة في هذا المجال، حيث تخمد مواهبه، وتخبو طاقاته فيصعب عليه النجاح والتألق في سماء التفوق فيكون حينئذ ناجحاً في المجال الذي يهتم به، فاشلاً في الآخر حيث يكون مبتور الشخصية، غير متكامل العطاء والإنتاج.

وكذلك حينما يهتم بالنشاط العملي فقط دون العملي فإنه قد ينجح في هذا المجال ويكون قادراً على العطاء بصورة جيدة وسليمة. إلا انه سيفشل في الجانب الثقافي فيعجز عن التبليغ والعمل على نشر الأفكار الرسالية الصحيحة بصورة سليمة وفعالة.

وحينما يهتم بالعمل الثقافي ويغض طرفه عن الجانب العملي فإنه قد ينجح في التبليغ ونشر الثقافة السليمة، إلا أنه يخشى على هذا الفرد التحول إلى إنسان نظري بحت، وفي كلا الحالتين هناك نقص في الشخصية يولد ضعفاً في القدرة على العطاء.

ثانياً: فقدان القدرة على الإدارة: ولابد أن يعمل كل رسالي على أن يصبح مسؤولاً يمتلك في نفسه عناصر القدرة على ممارسة التغيير لكي يستطيع تربية الأجيال التي ستتفرغ للعمل في سبيل الله وتتمكن بعدها من تأدية دورها في بناء وتربية أجيال جديدة تكون بمثابة الأنوار الساطعة التي تسلط بدورها الضوء على القيم والأهداف الرسالية.

والقائد المسؤول هو الذي يتصف بمواصفات تؤهله لتولي هذا المنصب وبدونها لا يمكن له أن يكون قادراً على الإدارة والتوجيه، وحين يفشل الفرد في أحد المجالين نتيجة الإهمال وعدم الاعتبار فإنه سيعجز بصورة طبيعية عن التوجيه والإدارة في المجال المهمول فهو سيكون قادراً على التوجيه والإدارة في المجال العلمي فاشلاً في المجال الثقافي أو العكس وكيف يكون الإنسان قائداً وهو ليس ملماً بالقضايا الثقافية؟!! أو يكون مثقفاً جيداً لكنه يفتقر إلى الحلول الناجحة للمشكلات المستعصية التي تنجم عن مسيرة العمل الرسالي، وبالتالي فان أفكاره وآراءه وثقافته ستكون نظرية غير واقعية تشبه نظريات (الفارابي) في (مدينته الفاضلة)!

وقد تولّد هذه الحالة في الفرد شعوراً بالإحباط النفسي لإحساسه بعجزه عن الإدارة مما يؤدي لبعض ردود الفعل السلبية لديه.

الحلول المقترحة لهذه الحالة

بعد أن استعرضنا وسلطنا الأضواء على أسباب هذه الظاهرة وما ينجم عنها من نتائج وخيمة نقدم بعض المقترحات لعلاج التداعيات السلبية لهذه المفارقات التي يعاني منها واقع العمل الإسلامي.

أولاً: الجدية: وذلك بأن يقرر الفرد مع ذاته أن يقضي على هذا الداء المزمن والسلبية الكبيرة، وذلك بالحزم في التعامل مع رغبات وميول الذات وعدم الاستسلام لرغباتها. فحينما يرغب الفرد في أحد المجالين فإنه ينساق مع أهوائه وميوله لذلك لابد أن يكون حازماً في التعامل مع ذاته وميولها.

والحزم في التعامل مع الذات يتمثل في المحاسبة المستمرة للنفس. حيث يتوقف الفرد مع ذاته لحظات تأمل واستكشاف، ليتمكن من تقييم ونقد مسيرته، وهل هي على مسار صحيح فينطلق بقوة وبصورة أدق وأسرع، أم أن بها ما يشوب فيعمد إلى إصلاحها، فمحاسبة النفس هنا هي الضوء الكاشف الذي يكشف للفرد سلامة ودقة مسيرته أو بروز إفراط أو تفريط في بعد من أبعاد الشخصية.

ومن ثم فالجدية والحزم مع الذات هي الخطوة الكفيلة بإصلاح المسيرة، فمن كان اهتمامه الثقافي طافياً على الجانب العملي، فالجدية في التعامل مع الذات هي المنظم الذي يخلق حالة التوازن بين المجالين، ويدفع الفرد للاهتمام بهما باعتدال وبقدر متساو.

ثانياً: إيجاد البرنامج المنظم: والجدية في التعامل مع الذات لا تكون مجدية، إذا لم تكن قائمة على أساس سليم، كأن ترتكز على مخطط سليم يكفل للفرد إيصاله لحالة التوازن المطلوب، والمخطط السليم هنا هو البرامج المنظم الذي يؤدي إلى خلق حالة التوازن في شخصية الرسالي بين البعدين، وإلا لن يفيد شيئاً أن يقرر خلق حالة التوازن والتوفيق في ذاته لكنه لا يسير على بصيرة واضحة، كمن يسير في الصحراء بدون خريطة توصله لهدفه، والبرنامج السليم هو الحل السليم لخلق التوازن، حيث ينظم مسيرة الفرد العلمية والعملية. بحيث لا يطغى جانب على آخر.

ثالثا: الاستفادة من الآخرين: (فأعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله) كما قال الإمام علي … والرسالي الداعية الذي يسعى للتكامل هو ذلك الفرد الذي يبحث ـ بجدية ـ عن الاستفادة من الآخرين ولعل أفضل طريقة للاستفادة والتعلم هي (السؤال) والاستفسار، وقد جاء في الحديث ( إن السؤال مفتاح باب كل علم) وعبر السؤال والاستفسار ومناقشة الآخرين، يستطيع الإنسان بلورة أفكاره وإنضاج رؤاه وتعميق رؤيته لما حوله، وبذلك يتسنى له معرفة أفضل الحلول وأنجح الأدوية في محاربة سلبيات نفسه والتخلص من النواقص ويمكن للإنسان أن يستفيد من الآخرين في (كيفية تنظيم وبرمجة الوقت) ليكون قادراً على أن يوازن بين أبعاد شخصيته، فيعطي لكل بعد اهتماماً مناسباً ليعمل على تربية نفسه وتنمية كفاءاته ليكون قادراً معها على العطاء والإنتاج الفكري والعملي.

(1) باحث سعودي.

 

 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 44

الصفحة الرئيسية