اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 43

الصفحة الرئيسية

المراجعة النقدية.. مرجعية المستقبل


علي عبدالرضا

[email protected]

قد لا يختلف اثنان حول مدى ما وصل إليه الوضع الإسلامي الراهن من التردي والضياع والتشرذم، فالتداعيات المتلاحقة كشفت وتكشف بوضوح بان المشاكل الخطيرة التي واجهت وتواجه الأمة الإسلامية ترجع في معظمها إلى عجز القوى السياسية وتخلفها، سواء أكانت في السلطة أو في المعارضة، وأن هذه القوى بفكرها ونظرها وسلوكها وعلاقاتها تدفع بالأمة يوماً بعد آخر نحو المزيد من التخلف والاستبداد..

صحيح أن اغلب القوى السياسية لم تثبت جدارتها، لاسباب أو أخرى وواجهت الكثير من المصاعب، ووقعت في الكثير من الأخطاء، وأن الضرورات المرحلية تتطلب تغاضي وتجاوز ما فات، إلا أن الواقعية أو الحكمة تفرض التأني وعدم تجاوز ما مضى عند البدء بعملية التحرك والتغيير المطلوبة، لان عدم النظر إلى الخلف في الكثير من الأحيان هو قفز لواقع آخر مجهول قد يحمل نتائج سلبية مدمرة، فمن دون مراجعة الماضي ودراسة الأسباب والمسببات التي حالت وساعدت على وصول الوضع إلى ما نحن فيه اليوم يعد عملا غير منطقيا في عالم لايسير إلا وفق ظوابط وقوانين.

لذا قد تكون عملية النقد والنقد الذاتي خير ما يعتمد عليه في هكذا ظروف فالوضع المزري وما نمر به من انفاق مظلمة وسحيقة بحاجة أولا إلى قراءة حقبتين محددتين من التاريخ، حقبة (تخلف) بكل ما فيها من مشاكل ومصاعب ووقائع وقوى، وكيف حصلت، وكيف تم التعامل معها. وحقبة (تقدم) بدايات النشوء، عوامل الاستقامة، ومقومات البقاء، ومجالات الإبداع والرقي.

وثانيا نحن بحاجة إلى شجاعة استثنائية من جميع القوى والفاعليات المنتشرة على الساحة الإسلامية لإجراء عملية مسح شاملة لاعمالها الماضية، عملية نقد ذاتي، أن نقول بصراحة أين أخطأت، أين قصرت أو عجزت وما هي الصيغ والضوابط التي تمنع تكرار أخطاء الماضي؟

نعم.. نحن بحاجة إلى مراجعة، إعادة نظر، تقييم، قبل إعادة البناء والتغيير..

بعبارة أخرى، بحاجة إلى وقفة جادة ومسؤولة لقراءة تاريخ المرحلة السابقة قبل استقراء ملامح وسمات المرحلة القادمة، مراجعة تقف على النقاط السلبية الخاطئة، الناقصة، الضعيفة في المسيرة السابقة من اجل معالجتها وتجاوزها، والتأكيد في نفس الوقت على الإمكانات غير المستغلة أو المهدورة كي يتم توظيفها من أجل الانطلاقة الجديدة..

أن المراجعة التي نطلبها ضرورية لترسيخ عملية النقد والنقد الذاتي. نقد من نوع جدي أو بتعبير أدق (بيريسترويكا) تعيد النظر بجذور المسائل وحقائق الأمور، ولا تترك شيئاً إلا وتنظر إليه نظر الفاحص المدقق الذي تهمه معرفة الحقيقة لكي ينطلق منها بواقعية وإيمان نحو آفاق جديدة تعيد إليه مجده الذي فات..

أن قراءة الماضي على ما فيها من أتراح تارة وأفراح تارة أخرى، نحن بأمس الحاجة إليها لتفادي الوقوع في الخطأ مرة ثانية، والأخذ بمقومات النصر وسبل التقدم التي التزمها الأجداد وساروا عليها في سنوات رقيهم وازدهارهم..

كما أن عملية النقد والنقد الذاتي هي الأخرى ضرورية في وقت أصبحت فيه القوى السياسية الحاكمة والمعارضة في معزل عن شعوبها وقواعدها، وحتى عن ذاتها.. فالمكاشفة قد تجدي نفعاً وترجع الأمور إلى نصابها وتعيد التلاحم المفقود بين أفراد الأمة والقوى العاملة.

وبقدر جرأتنا على المراجعة ونقد الذات وتحمل أخطاء الماضي تكون النتائج التي سنحصل عليها مستقبلاً ذات قيمة مهمة.

فالاعتراف بالخطأ فضيلة ومحاسبة النفس وما صدر عنها يعد الخطوة الأولى نحو تغيير حقيقي، ومراجعة الأعمال الخطوة الثانية للانطلاق نحو كسب ثقة الناس ومودتهم أو بالأحرى تقبلهم لعملية التغيير والتحرك باتجاه واقع جديد..

ويجب أن لا يشم من كلامنا إننا نبرئ ساحة عموم الأمة مما وصلنا إليه، فكل فرد من أفراد الأمة عليه من الواجبات والحقوق ما لا يمكن إغفالها والتهاون فيها، فالمهام والوظائف تحاكي الفرد بما هو فرد (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) غير إننا ركزنا على العنصر الأهم في عملية إعادة البناء، فالخطاب في هكذا حالات، والمسؤوليات العظمى تناط إلى الخاصة لا العامة، إلى الفئات الفاعلة والمؤثرة والمحركة للمسيرة والتيار..

وفي ظل الوضع الراهن، والشعور الذي ينتاب الجميع من الخطر المقبل، وما يحمل من تحديات كبرى قد تقضي على أسس الكيان الإسلامي، الضرورة تحتم البدء بانطلاقه نوعية ومكثفة تنقل الأمة بمجموعها من حالة الإحباط والاستسلام إلى وضعية التحدي والمواجهة.. ربما يرى البعض أن وضعنا الراهن وصل إلى مرحلة اللاعودة (اليأس) وهو بهذا الحال لا يرى بُدا من قبول الواقع والاعتراف بالخسارة، ولكن هذا لا يعني باي حال من الأحوال أن نخضع لواقع مرفوض، ونندب حظنا أو نلقي اللوم على غيرنا، فالملموس من بعض الأحقاب التاريخية الإسلامية أو غير الإسلامية أن الأوضاع فيها قد وصلت إلى اشد مما نحن فيه وربما اكثر إيلاما، ولكن جهود أبناءها وإصرارهم على التحدي والعمل الجدي الدؤوب استطاع أن يحقق بعض طموحاتهم وآمالهم وينقلهم من حال التردي إلى حال النهوض ولو نسبياً.

أما الدروس المستفادة من عصر الرسالة فأنها تمثل قمة التحدي والمصابرة ولعل الظروف القاهرة التي عاشها رسول الله (ص) في شعب أبي طالب من مواجهات مباشرة وغير مباشرة، مادية ونفسية خير ما يمكن أن نثبت به أقدامنا وقلوبنا، كما أن الروحية العظيمة للنبي الأكرم (ص) وهو يعيش حصار قريش ويكابد عناء حفر الخندق لمنع الأحزاب من التقدم، في تلك الحالة الرهيبة ينقل الرسول (ص) المسلمين من ضيق المكان واللااستقرار إلى رحاب أوسع واشمل فيفسر لهم الشرارات المتطايرة من معولة الهاوي على أحجار الخندق بأنها الآفاق التي سيطالها الإسلام عما قريب.

العمل الجاد والتحرك المتواصل استطاعاً أن يوصلا رسول الله (ص) بالإضافة إلى بعض العوامل الأخرى إلى أهدافه السامية وغاياته النبيلة. فالدنيا هكذا دار أسباب ومسببات (أبى الله أن تجري الأمور إلاّ بأسبابها) فمن يعمل بجد يصل لا محالة إلى أهدافه وغاياته، كما أن الله سبحانه ينصِر ويوفق العاملين الذين يلتزمون المقدمات الصحيحة ويثابرون على العمل بجد واخلاص ( أن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) ..

والعمل الذي يمكن أن يكون أساسا لانطلاقة نوعية يعتمد على عدة محاور:

1ـ التمسك بالقرآن وجعله منهاجاً للحياة بكل تفاصيلها وشعبها فكمالية الشريعة وتماميتها لم تبق مجالاً أو فراغاً الا وأعطته الحكم اللازم والحل الأمثل والأنسب ( اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) . والالتزام بالقرآن وتعاليمه هو استجابة لله والرسول ودعوة للحياة الكريمة ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، كما أن القرآن هو البلسم الشافي لكافة جراحتنا وأمراضنا حيث يوفر افضل القوانين في مجالات السياسية والاقتصاد والقانون وغيرها، بالإضافة إلى الأمور الأخرى التي تدخل في بناء الإنسان واخلاقه وفكره ومعنوياته..

2ـ إعطاء الرشد الفكري للامة، واول أسسه الحضارية (العلم)، ومع أن كل العلوم هي حاجات ضرورية لكل فرد من أفراد الأمة، الا أن الوعي السياسي يأتي في مقدمة تلك العلوم، فهو الكفيل والراعي والمحافظ لكل حقوق الأفراد والمقدمة الضرورية للوعي العام، فإذا ما وجدت الأمة في نفسها هذا المقوّم فقد خطت لنفسها طريق قويماً يستطيع أن يوصلها إلى مراتب المجد العليا.

وكما قال رسول الله (ص) (كيف ما تكونوا يولى عليكم) فالأمة الواعية المتفهمة، الحرة لا يمكن أن تحكمها مجموعة متخلفة جاهلة ولا يمكن لهذه المجموعة ان تصل إلى الحكومة، وأن وصلت بطرق غير شرعية ولا قانونية فسرعان ما تسقط بأيدي الواعين من الأمة.

3ـ عدم الاستبداد بالرأي، واحترام الرأي الآخر، ولعل هذا المحور من أمهات المحاور التي استقطبت اهتمام العديد من الباحثين والمحققين، نظراً للتركيبة الخاصة التي أسست عليها أفكار وممارسات اغلب القوى العاملة على الساحة الإسلامية سواء كانت في الحكم أو المعارضة. ويعد هذا الأمر من الأمور النفسية الصعبة، التي تتطلب جهداً خاصاً في تربية الذات وتهذيبها وجعلها تتقبل الآخر وما يصدر عنه برحابة صدر واحترام.

وإذا أريد للامة أن تعيش حالة من الاستقرار الدائم والعيش المطمئن عليها أن توجد وتزرع مسألة الاعتراف بالآخر بحق وحقيقة في قلب كل فرد مسلم، وإلا فلنتوقع دوامة العنف بكل تداعياتها تستحق بين الحين والآخر شريحة من الأمة بحجة انها لا توافق تلك في رأيها أو تعارض هذا في فكره أو برامجه..

4ـ إيجاد صيغ عملية لاقامة تكتلات سياسية أو اقتصادية عملاقة تستطيع أن تنافس أو تقف أمام تلك التي قامت وتقوم حالياً في العديد من المناطق، فالتكتلات وعمليات الاندماج هي طابع المرحلة الراهنة وهي الأسلوب الأمثل للانفلات من التجاذبات الدولية، والاحتكارات الاستعمارية، كما إنها أيضاً الهيكل الذي يكفل مسألة التعامل مع ثروات الأمة داخليا وخارجيا، ويوظفها في الأطر والمجالات المخصصة لها.

5ـ لا يمكن أن يحصّن الوطن الإسلامي، ولا يمكن أن تتحقق الوحدة، أو صيغ الاندماج والتكتل ولا يمكن أن تنجح التعددية والاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف والمعارضة، إلا من خلال وجود الأمة الفعلي ومشاركتها في القرارات المصيرية، وبتعبير أدق إنزال مبدأ الشورى والاستشارة منزل الواقع العملي الفعال الذي يضمن تحقق الشورائية في كل مجالات الحياة وشعبها المتفرقة.

وإذا كانت الشورائية شعاراً فيما سبق فاليوم يجب أن تكتسب مصداقية وأهمية واقعية من خلال إعطاءها مضامين حقيقة تفتح المجال إمام أفراد الأمة للمشاركة بالقرار وبالاختيار الحر.

واخيرا..

أن نكون جزءاً من العصر، وفاعلين فيه، يتحقق عندما نرتبط عملياً بهذه المحاور ونمارسها بواقعية وصدق، وإلا فان قوى العصر ومنطقة سوف يجعلان منا مجالاً حيوياً للاستغلال والتبعية، وربما نعاني مستقبلاً أضعاف ما عانيناه في الماضي.

 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 43

الصفحة الرئيسية