اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد42

الصفحة الرئيسية

شباط 2000م

مجلة النبأ ـ العـد د  42

ذو القعدة 1420

              1                      
                                   
   

التقعيد المعرفي لمقاصد الشريعة

   
               
               
       
                                   
           

عبد الرزاق الجبران

           

مازال الرقم مجهولاً

الفضل بن شاذان الرائد الأول

ظروف النشأة

اشارات مقصدية


ركّزت الكتابات المعرفية ذات الوجهة التراثية التجديدية، في بلورة أفق مهم في عالم التشريع كان قد غطاه غبار الأجيال فترة من الزمن – مع كل جهود العقل الإسلامي في خط التشريع و تقعيداته المعرفية التي تنمو يوما بعد يوم، استجابة لتحديات الحياة في مستحدثاتها، و ان كان قد تطرق لهذا الموضوع. لكن ليس على نحو التأسيس و التقنين و البلورة لهذا الأفق الذي يدخل في صلب فضاء حركة الشريعة في الواقع المتغير – هذا الأفق هو ما يسمى بـ(مقاصد الشريعة).. الغايات التي تمثل الكليات التي تعلو هرم التشريع الرباني للواقع المربوب، او كما يعرّفه بعض المتأخرين (د. حمادي العبيدي) بأنها هي الحِكَمُ المقصودة للشارع في جميع أحوال التشريع قد تتوقف النصوص – التي تتناول جزئيات الحياة و فروعها، في حوادث كثيرة لم يعها المجتمع حتى انبثقت في قالب حاجة ملحة تتأطر في ضرورة من الضرورات – عن معالجة حدث معين أي حينما لم يكن هنالك دليل في المدارك التشريعية الأربعة في القرآن و السنة و العقل و الإجماع، فإذا لم يجدنا ذلك و لا الأصول العملية التي تعطي موقفا عملياً معيناً يعذِّر العبد في عمله. فهنا ينطلق دور المقاصد.


إشارات مقصدية     

غالباً ما كنا نسمع من الفقهاء: إن هذا لا يتلائم أو لا يتفق او لا ينسجم مع روح الشريعة و كلياتها فلعلهم كانوا ينطقون بوجهة المقاصد ويؤسسون لهذا المرجع المعرفي للاستدلال، إلا أنهم لم يطرقوه في بحث يؤطّر له إطار (العلم المستقل) في أصوله ليأخذ حصة من السبر في تقويمه و تنميته.

انطلاقه الرؤية للفقيه في قوله (لا ينسجم) كانت تنبع من استقراءه لوجهة الأحكام في توحدها و صبِّها في قارورة واحدة.. فالأفق الموحّد المقصود للشريعة كان حاضراً في ذهن الفقيه. ليؤسّس عليه، و هذا هو عينه ما قنَّنه أصحاب الاختصاص لهذا العلم.

إن لكل حكيم غاية.. في أمر أو نهي في منهج او دستور.. او نظام معين يُريد أن يوصل به أولئك السائرين عليه. هذه البديهة التي تشبعت بها البشرية باختلاف مشاربها.. فكيف بسيد العقلاء و الحكماء و آيات حكمته في كل ما خلق، فلابدّ أن تكون هنالك غاية في ما شرَّع، لابد ان تكون هنالك مقاصد للشريعة، تدور الأحكام مدارها، بحيث ان كل الأحكام تتجه في تحقيق تلك المقاصد، و إنها سبل و وسائل لتحقيق تلك الغايات، و إن الأزمان و الأماكن قد تغيَّر تلك الأسباب و الوسائل بأخرى، بحيث لا يمكن الوصول إلى تلك المقاصد إلا بها.. لكن تلك المقاصد باقية بمثابة قطب الرحى. و مدار الاستقرار للنظام العام للإنسان. و هنا يدخل عالم الثابت و المتغيّر. العالم الذي أخذ حصة كبيرة من نتاجات داخل أروقة المجلات و الإصدارات و المؤتمرات في السنوات الأخيرة في المدرسة الإمامية.

فالمقاصد ثابتة لا يرد عليها النسخ باعتبارها أصول عامة.. مؤطرة لإطار ثابت على مقياس الفطرة البشرية. و هذا الثبات هو المشار إليه في قوله تعالى ( شرَّع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، و الذي أوحينا إليك، و ما وصينا به إبراهيم، و موسى وعيسى، أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه) بينما الجزئيات نلاحظها في قوله تعالى ( لكلِّ جعلنا شرعةً و منهاجا) طريقا و سبيلا لمقصد واحد هو هو في الأزمان والأماكن بينما في الآية الأولى كان التعبير داخل لفظ (من الدين) و كأن كمال الرسالة هو كينونة الدين، فالمقصد هو الدين بما ينطوي تحته أما المنهاج الذي يسلكه هو طريق وسبيل، هو أداة معرفية سلوكية للوصول إلى المقصد الأعلى.

ظروف النشأة     

نشأ هذا العلم بدءاً لظروف اجتماعية في أبعاد عدَّة، منها قضية تعليل الأحكام، فحينما وجد أن كثيراً من الأحكام تلتقي قمم عللها في قمَّة واحدة. فقد أُثير العقل لهذا الالتقاء و الاتحاد، و انه ليس عبثاً مع التحكيم العقلي لحكمة الحكيم في غائية أفعاله، فكان ذلك التوحد مقصداً لتلك أي أن تلك الأحكام كانت تقصد سمتاً واحداً تلتقي فيه، و باستقرارية التحليل و بجهد استقرائي. يندرج تحت الناقص، حتى و ان تم استقراء المصادر الاستدلالية تامة، الا إنه لا يضمن الوقوف على كل أسرار الغايات، و المقاصد. لعدم الوقوف على نظرية معرفة تامة في أتم أدوات معرفية تستطيع استنطاق القرآن مثلاً في كل نظرياته و حقيقة أحكامه.. و المفروض في الاستقراء التام ان يرافقه الكشف التام.. و هذا غير موجود في الاستقراء السابق، فقد يُمَرُّ على كثير من المقاصد متجاوزاً إياها، لعدم كشفها بنقص أدواته المعرفية، فيكون ناقص الاطلاع، ناقص الاستقراء.. و كذا نشأ هذا العلم، حينما امتلك الفقيه ملكة الاجتهاد، و انغمس وعيه في حركة الشريعة و روحها الكلية التي تتواجد في فرع من فروعها. كالذي يعيش عرفاً معينا و بيئةً لها طابعها الخاص، فهو يعرف ان هذا العرف، ينكر هذا الأمر و يقبل ذاك، حتى و لو كان الامر جديداً على إطار العرف، لكن الارتكاز وقد نسميه العقل الباطن الناشئ من فهمه لطريقة الناس وكيفية تلقيهم وفهمهم للأمور يتحدث هنا في ان هذا يثير الاشمئزاز و هذا تهفو إليه الروح او تستأنس به لان الروح في ذلك العرف انطبعت برضا البيئة و سخطها، بهذا المثال البسيط قد نستطيع ان ننسحب إلى فهم الفقيه ان ذلك الحكم الجديد يتناسب مع كليات الشريعة اولا. و هذا يدل على ان هناك جامعاً واحداً، هو الذي يحضر ذهن الفقيه هذا الجامع يمثل المقاصد العليا للتشريع، و هذه المقاصد تسير إليها خطى كثير من خطوات التشريع. و لغيرها البعض الأخر.. و لاتخرج هذه الخطوات عن سمت تلك المقاصد مهما كان و الا كان الحكم بعيداً عن ربانيته لا يمكن إسناده الى المولى.

هذه النشأة بدأت توجّه توجيها أُسيَّا أو تقعَّد في إطار قاعدة للاستدلال على واقعية الأحكام و مدى انتمائها الى الشارع.

الفضل بن شاذان الرائد الأول     

لعلّ أول من تطرق الى هذا العلم في بعد تقنيني فيما اشتهر عند البعض هو الشاطبي الأندلسي (720هـ – 780هـ) بينما نجد أنه في القرن الثالث هناك أقدم اثر معروف للفقيه المتكلم الأمامي الشهير (الفضل بن شاذان) من أصحاب الإمام الرضا… في (رسالة الفضل بن شاذان) التي نقلها الشيخ الصدوق في كتابه (علل الشرائع)، فحينما ننظر الى استهلال ابن شاذان رسالته في التعليل نجدها (بلورة لعلم المقاصد) في منطلق عقلي عرفي بديهي، تتسق فيه كل أذهان البيئات كأنه يحضِّر لرؤيته في إطار الحسن و القبح العقليين. يقول بن شاذان: (إن سأل سائل فقال: أخبرني، هل يجوز ان يكلِف الحكيم عبده فعلاً من الأفاعيل لغير علّة و لا معنى؟ قيل له: لا يجوز ذلك، لانه حكيم، غير عابث و لا جاهل) و استمر هذا الخط التاطيري عند الإمامية في تعليل الأحكام إلى أواخر القرن الثالث و الرابع الهجري من أمثال يونس بن عبد الرحمن (من أصحاب الإمام الرضا… ) حتى الشيخ الصدوق سنة (381هـ) و له في ذلك (علل الشرائع و الأحكام).

(كتاب العلل) (علل الحج) و (علل الوضوء) و بينهما (يونس و الصدوق) كثيرون طرقوا الموضوع مثل محمد بن خالد البرقي، علي بن الحسين بن فضَّال، محمد بن احمد بن داوود القمي بينما في نفس الفترة لم يكن عند المدارس الأخرى، و مع التأخر النسبي في طرق هذا الباب. فمن الخطى الأولى في هذا المضمار هي للحكيم الترمذي المتوفي سنة 320هـ بينما الفضل توفي 260 هـ كذلك التأخر العددي. لكن لاهتمام بدأ يسلك طريقاً آخر مع الساحتين ليتبادل الموقع بسبب الظروف السياسية العامة. وظروف داخلية محركة الفقه و المنهج للمدرستين، فسبب الموقف الفقهي من قضايا المصالح المرسلة، و القياس اللذين يشكلان معا مصادر الاستنباط المهمة في المدرسة السنية، و اللذين يدور حولهما الفقه المقاصدي و كونهما اهم أعمدته، فاهتم به على طول الخط بعد تلك الحقبة و شيوع هذين المصدرين من المصالح و القياس، فاهتم به (الجويني) و (الغزالي) ثم ارتدى ثوب التقنين و التنظير و في مساحة تفصيلية أوسع على يد الشاطبي (720هـ – 780هـ) في الجزء الثاني من كتابه الموافقات، ثم انطلقوا به بعد ذلك بقوة مع الشيخ علال الفارسي، و الشيخ الطاهر بن عاشور، و تبعه بعد ذلك كمٌّ غير قليل في دراسات و بحوث و رسائل جامعية متخصصة.

مع هذا لم يغلق الباب في وجه هذا الموضوع عند المدرسة الأمامية، فقد صنَّف فيه أكثر من فقيه، و في نفس اللفظ بدلا من الاسم القديم (العلل) حيث بات اصطلاحا تعارفه الفقهاء و دراسو التشريع كما في المقاصد في تفسير آيات الأحكام للشيخ فخر الدين احمد بن عبد الله المتوِّج البحراني، المعاصر للفاضل المقداد السيوري في القرن الثامن الميلادي، قرن الشاطبي نفسه، و كما في المقاصد المهمة في اصول أحكام الله والرسول و الأئمة لمحمد علي بن محمد حسن الآراني الكاشاني، تلميذ المولى النراقي المتوفي سنة 1217هـ.

مازال الرقم مجهولاً     

حُددت المقاصد عند الشاطبي في خمسة: الدين، النفس، العقل، النسل، المال وأضاف لها بعض المتأخرين مقصد (الحرية) سادسا كما في خطوة بعض الأساتذة، واعتبرت هذه الخمسة من الأصول الضرورية، تليها الحاجيات و التحسينات التي تصب في الخمسة التي تعلو الهرم: و هذه لا يمكن الوقوف عليها حصرا في صحتها أو الاكتفاء بها، كما أسلفنا في كونها تعيش معرفية الاستقراء الناقص.. و الذي اثبت في إيجاد و إضافة المقصد السادس و نقاش بعض العلماء في عدم محصورية المقاصد في تلك الخمسة.

محور المقاصد هو استخراج علل الأحكام و مناطاتها، مع العلم بوجود الفارق بين العلة و المناط، فمناط الحكم يختص بمقام الاستظهار من الدليل، و المجتهد بدوره يستطع من خلال دراسة أوصاف الموضوع و المناسبة بين الحكم و الموضوع ان يستحصل على مناط الحكم في مورد من الموارد.

فالتعليلات الواردة في النصوص هي معايير يستطيع ان ينطلق منها الفقيه في حركة الاستدلال الفقهي في الجزئيات التي تتشعبها الحياة، طالما اريد الحفاظ والدوران حول تلك العلة، و التي تملك مرغوبية و مصلحة في ملاكها في عالم التشريع (الجعل) عند الله جل و علا، و التزاحم الفقهي أيضا يملك إطار المقاصد وهو ما امتلكته و قننته المدرسة الأمامية في كون التزاحم ينطلق من تحكيم المصلحة وشدتها في طرفيه، بل إن المقولة الأصولية الشائعة (الأحكام الشرعية تتبع المصالح والمفاسد الواقعية) هي دلالة أمامية على السلطة العليا لفقه المقاصد و اعتباره من أدلة التشريع العليا، و كذلك أفق (حفظ النظام العام) او (المصلحة العامة) التي يعتبر أيضا من منطلقات التشريع هي إطار مقاصدي محض.

و هنا نورد أمثلة بيانية لذلك، ليتسع فضاء الإدراك و بيانه، فمثلاً: تفسير الإمام الباقر… لاصحابه في نهي النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذبح الحمر الأهلية، في انه ذلك كان كي يمنع فناءها وانقراضها، لان مصلحة المجتمع في بقائها تحت خيمة الطبيعة و هذا التعليل يمكن سحبه على باقي الحيوانات في منع أفناءها. مع ان العلة العليا (المقصد الأعلى) قد يكون خفي علينا (كوننا لسنا أصحاب اختصاص في الموازين بين الكائنات و حركة الكون) في اتزان المنظومة الكونية او النظام الحاجياتي العام للمجتمع، فيرجع الى أصحاب الاختصاص.. و نحن بدورنا بعد ذلك نقوم بتنقيح المناط.. لان الاستنباط هنا استنباط مناط باعتباره ظاهري و العلة كما أسلفنا تنطلق من المقصد الواقعي.

كذلك تعليل منع الاحتكار، في فقه اقتصادي لانتظام المعيشة و عدم اختلال ذلك و ترتب الأضرار من طبقية تورث التفاوت و بالتالي المترف و المحتاج لتخرج المفاسد الاجتماعية.. اقلها من وجهة قول أبي ذر:(أينما ذهب الفقر قال له الكفرُ خذني معك).

و يمكن إرجاع او التعادل في تنقيح المناط بالتعاون مع أصحاب الاختصاص من باب الرجوع إلى أهل الخبرة..

 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد42

الصفحة الرئيسية