اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد42

الصفحة الرئيسية

شباط 2000م

مجلة النبأ ـ العـد د  42

ذو القعدة 1420

الأدب الإسلامي الرسالي..

آفاق.. وتصورات

حبيب آل جميع (1)


فطنة عيب

قالوا عن الأدب الاسلامي

نظرات رسالية

عناصر الأدب الاسلامي

حدود الأدب الرسالي


إن منطلق الرؤية الإسلامية الصحيحة، هي المحجّة الوافية التي نستقي منهجها من كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم. فما لم تتمركز تلك الرؤية فعلاً لا قوة في إرهاصات الأديب وتحيق بكل تصوراته وتعطي أبعادها الإسلامية فان الرسالة الأدبية ذات الهوية الإسلامية ستبقى تبحث عن حروفها سيما بعد أن كثر الذين يتحدثون عن الإسلام وباسم الإسلام، أولئك الذين لا يملكون أي رصيد ثقافي إسلامي لذا تراهم غير آبهين بالأسس والمرتكزات وبقوا يراوحون في منطقة بائسة وان جرفوا نسبة ضئيلة من البسطاء والمتملقين.

لكي يطّلع المسلمون على حقائق التاريخ التي طمسها المستعمرون وعملاؤهم ولكي يأخذ الأديب مكانته ضمن واقعه المسلم عليه أن يتحد مع بعضه ليصل إلى أوج التركيبة القيادية الريادية القادرة بالأخذ على عاتقها صيانة الأمة من انزلاقها وكشف الريب في منعطفاتها التاريخية والسياسية والأخلاقية وهذا يستوجب التكافل التام ما بين الأدباء الرساليين ورأب الصدع فيما بينهم وسد الثغرات التي تسربت منها غازات الأعداء فسمجت نفوساً كثيرة من أدبائنا.

وتستوجب أيضاً العودة إلى قاموس المفردة العربية وتشذيب الشارع الإسلامي والعربي من كل المفردات الدخيلة والتي باتت تمثل حصيلة تكاد تكون ريادية في مستوى اللفظ المثقف الحالي وتهذيب انعكاسات الحداثة على المصطلحات العربية الملتزمة وذلك عبر خلق أجواء ثقافية تتمحور حول أفكار تصب في بوتقة الخدمة الجليلة للمجتمع والتأريخ الإسلامي وتعيد النصاب إلى مضامينه الأساسية فالقارئ المسلم ما زال في تيه الأفكار المتسربـــة عبر المجلات والكتب التي استطاعت أن تخلق حيزاً في فكره رغم انحلالها وسمومها لذا فالأدب الإسلامي والثقافة الإسلامية مدعوة بصورة ملحّة لتجاوز مرحلة الشعارات إلى مراحل التطبيق والوصول بالصيغة التثقيفية المسلمة إلى مصاف ما وصلت إليه صيغ التثقيف المهاجمة من قبل الغرب ومدعوة كذلك لالتزام الجيل الآتي المتمثل بالأطفال وتعهده بالبناء الاجتماعي والأخلاقي والتربوي، فإسعاف الأطفال من وحل التحلل والضياع المقصود يمثل واجباً شرعياً أساسياً عبر المنشورات والقصص الهادفة وتحبيب الالتزامية الإسلامية إلى نفسه (أي الطفل) وتمقيت الخطوط الأخطبوطية الغربية والشرقية وابعاده عن مؤثراتها غير الحقّة خـــصوصاً بعد تسلط التلفزة وأجهزة الفيديو كاسيت والوسائل الإعلامية الأخرى التي اخترقت حرمة المنزل.

كل تلك القيم يستطيع القلم الإسلامي الرسالي أن يضعها في مصاف المحجة البيضاء عبر صولاته وجولاته المشرقة المستكشفة في كل دهاليز عالمنا اليومي. فهناك الكثير من المقالات البارعة والقصص الهادفة والبحوث الشيقة والمؤلفات المتعمقة ما زالت في أروقة الظلمات حبيسة الأيام تنتظر من يفجرها وهنا تأتي المسؤولية العظيمة على كاهل المسلم المقتدر لكي تأخذ سبيلها إلى مختلف اللغات على أقل تقدير.

وقمين ذكره أن هناك إحصائية تكاد تكون من ضرب الخيال ولكنها عبرة للتذكير ليس إلاّ.. إذ أن الكتاب الأحمر لمؤسس الصين الشيوعية ماوتسي تونغ قد طبع أربعة مليارات نسخة وبـ4 ملايين لغة أي لكل إنسان على الكرة الأرضية. وللعبرة معتبرون!!

وأخيراً.. وليس آخر أن العناية بنشر الرسالة الإسلامية على المستوى العالمي واجب يسهم بحمله كل مسلم قادر وهو اكثر تأكيداً بالنسبة لشعوب العالم الإسلامي الذي ما يزال يفتح ذراعيه لاحتضان لغة القرآن والرسالة بلهفة كلهفة المحب إلى لقاء حبيبه.

نظرات رسالية

الأدب الذي رفده الإسلام بقيم كثيرة، تعجز الأقلام عن وصفها وحصرها، يعاني في عصرنا من عدوان شديد وشرس على كيانه، ويوجه فوق كل ذلك لخدمة أهداف ومصالح بعيدة عن الإسلام بل انّه يوجّه أحياناً لمحاربة الإسلام نفسه.

وعلى الرغم من وجود تيار أدبي إسلامي طويل يمتد من ظهور الإسلام إلى يومنا هذا، هناك عدد كبير من الدارسين يتردد في قبول مصطلح (الأدب الإسلامي الرسالي)، أو ينظر إليه من زاوية ضيقة وبمفهوم خاطئ.

ومعظم الدراسات النقدية والتاريخية للأدب تحمل الرؤية الإسلامية الناقصة والمشوهة إن لم نقل المحرفة تماماً عن أصولها.

وقد ساعد على استمرار هذه الحالة المؤسفة حقاً، غياب نظرية (الأدب الرسالي) الذي لا يعرف المساومة أو المهادنة دون الحق أبداً، ووجود كثرة المشككين والمشبهين والمبررين، الذين يثيرون مجموعة من التساؤلات التي تحمل بين جنباتها روحاً تقتل الأدب الإسلامي.

ما الأدب الإسلامي الرسالي؟ أهو مجموعة من الخطب والمواعظ؟ أم هو ذلك الشعر الذي يصور حقائق الدين ويمجدها؟

لذلك ولأسباب أخرى كثيرة، أرى أهمية تعميق النظرة في واقع الأدب الإسلامي، وتبيين مفهوماته وإيضاح حدوده.

ومع ذلك أيضاً تدوين ما هو معروف لدى الدارسين والأدباء الإسلاميين وليس معروفاً لدى غيرهم، لذا فمناقشة الأدب الإسلامي كمصطلح، كما يريده الإسلام لا كما يريده السلاطين وأنماطهم من خدام البلاط، كفيل بإعطاء صورة وافية للتصورات التي تصل بنا إلى مفهوم موّحد يكون نبراساً حقيقياً لمن يريد من المسلمين، لنظرية الأدب الإسلامي الحقيقي، وليس المزيف الذي وضعه زبانية الحكام وعلماء البلاط.

قالوا عن الأدب الإسلامي

 

من الملاحظ أن معظم دراسي الأدب الإسلامي مجموعون على تعريف وضع بنوده الشهيد سيد قطب.

ففي كتاب المرحوم (النقد الأدبي) قدم تعريفاً للأدب يجمع عناصره الأساسية ويظهر دور كل واحد منها، هذا نصه:

(هو التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية)، فكلمة (تعبير) هنا تعني طبيعة العمل المراد تكوينه. وكلمة (تجربة شعورية) تبين نوع المادة والموضوع، وكلمة (صورة موحية) تحدد الشروط والغاية.

ثم أشار سيد قطب إلى المكانة الخاصة للتجربة الشعورية في نشأة العمل الأدبي، وارتباطها عند الأديب المسلم بالتصور الإسلامي الهادف.

وأركن إلى التجربة الشعورية، إنها العنصر الذي يدفع المسلم إلى التعبير عن شعوره.

والتجربة الشعورية ترتبط بالمخزون الثقافي المتاثر دائماً، بتصور الأديب للعالم والحقائق الكونية والعلاقات الإنسانية، ومن البديهي أن التجربة الشعورية عند المسلم مختلفة تماماً عن التجربة الشعورية عند الأديب غير المسلم(2).

ومصدر الاختلاف هو التصوير، ومقدار ارتباط كل أديب بعقيدته، فان كل منهما يرى بمنظور عقيدته.

ومن هنا بدأت المحاولات تلو المحاولات لتعريف الأدب الإسلامي، في عبارات عذبة تارة، وبأسلوب يستفيد من التعاريف التي تنبع من فطرة الإنسان تارة أخرى، ويأتي تعريف آخر من طبيعة العقيدة الإسلامية.

فالأستاذ محمد قطب، أورد التعريف المشهور له، بأن الأدب الإسلامي هو (التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان)(3).

وعرف السيد حسن الشيرازي (ره) في كتابه (العمل الأدبي) الأدب بأنه (هو التعبير الموحى عن تجربة شعورية)، فكلمة (التعبير) تصور طبيعة العمل، وكلمة (الموحى) تحدد شرط العمل، وكلمة (عن تجربة شعورية) تبين موضوع العمل.

فإذا لم يكن (التعبير الموحى) عن تجربة شعورية، وإنما كان عن تجربة ذهنية أو عن تجربة تاريخية فليس عملاً أديباً. لأن العمل الأدبي (الكتابة) ليس هدفه إعطاء الحقائق العلمية ولا القضايا التاريخية، وليس الأدب مكلفاً بالتحدث عن صراع الطبقات ولا عن النهضة الصناعية ولا عن الكفاح السياسي أو الاجتماعي ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان الأديب قد انفصل بأحد هذه المواضيع، فهاجت به تجربة شعورية، وعبّر عنها تعبيراً موحياً، فعندئذ يدرج في مخازن العمل الأدبي.

فالعمل الأدبي ينظر إلى كل شيء في الكون والحياة والإنسان ولكن بمنظار (الشعور) لا بمنظار (الذهن).. فعملية تحطيم الذرّة ـ مثلاً ـ حقيقة علمية قد يصفها خبير المعمل فيكون عملاً (علمياً).

وربما يتأثر لها شاعر، يرى فيها مولد عصر جديد ويلمح من ورائها الأشياء، والحركات الكونية، ويصف بعد ذلك تأثره بها بتعبيرٍ موح فيكون عملاً (أديباً) وأما صراع الطبقات، حقيقة اجتماعية، قد يحللها (عالم اجتماعي) فيكون عملاً (اجتماعياً)، وقد ينفعل بها الأديب، فيصوره تصويراً إنسانيا، وينشئ حولها مقالة أو قصة فيكون عملاً (أديباً).

فالمادة المعروضة ليست مناط الحكم، وانما المناط هو كون الموضوع (تجربة ذهنية) أو (تجربة شعورية).

ولا يفهم من ذلك أن الأدب مطرود عن الحياة العلمية والاجتماعية وانما المفهوم، أن الحقائق مطرودة عن أجواء الأدب ما دامت تعيش في المنطقة الذهنية الباردة، ولم تتبلور في المنطقة الشعورية الساخنة.

بل الواقع أيضا، لا يستعرض الأدب الراقي الرفيع، غير الحقائق مهما شط به الخيال.

وانه يمكن التعبير عن (الحقيقة العلمية) في صور مختلفة دون أن يتأثر مدلولها العلمي باختلاف التعبير وفي الألفاظ المترادفة، فسحة كبرى لتوفير الاهتمام كله على الحقائق العلمية والاجتماعية والسياسية وغيرها من الحقائق.

وأما (التجربة الشعورية) فلا تخرج إلى الوجود، الا بألفاظ خاصة وبأسلوب معين، مما يؤدي إلى بلوغ القصد تركةً في مشاعر الآخرين.

ولأن وظيفة (العمل العلمي) تنتهي بتفريغ شحنة (ذهنية) في أذهان المستمعين، دون أن يكون وراء الإلقاء والتلقي أمر آخر. بينما لا ينتهي العمل الأدبي بذلك، لأن خلاصة المحتوى الفكري والأفكار المطروحة لـ(العمل الأدبي) ليس في أغلب الأحيان حقيقة مجهولة، يحاول الأديب تعليمها للناس، وانما يحاول توجيه الجماهير إلى إحياء حقيقة معلومة يعرفونها، وربما يؤمنون بها أكثر من شخص الأديب، فيكون مضطراً إلى الاستعانة بكافة المؤثرات، التي تستحوذ على مشاعر الآخرين وأحاسيسهم، لدفعهم إلى هدفه من حيث يريدون أو لا يريدون، وهذه المؤثرات هي:

1ـ الإيقاع الموسيقي للألفاظ والعبارات.

2ـ الصور والظلال التي تشعها الألفاظ والعبارات.

3ـ طريقة تناول الموضوع والسير فيه، أي الأسلوب الذي تعرض به التجارب، وتنسق على أساسه الألفاظ والعبارات(4).

وقال الدكتور عبد الرحمن الباشا: (إن الأدب الإسلامي هو التعبير الفني الهادف عن وقع الحياة والكون والإنسان على وجدان الأديب تعبيراً ينبع من التصور الإسلامي للخالق عز وجل ومخلوقاته ولا يجافي القيم الإسلامية)(5).

والمراد بفنية التعبير كما استطرد القائل في شرحه جماله وروعته، فاشراق العبارة وجمالها شرطان أساسيان لازمان لكل أدب فكيف إذا كان نابعاً من كتاب الله ومتأسياً بحديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وسنته الشريفة.

ثم انه اشترط أن يكون الأدب هادفاً، لأن أفعال المسلم وأقواله لابد وأن تكون مصونة عن اللغو والعبث، بعيدة عما لا طائل من ورائه، وعلى ذلك فان الأدب الإسلامي لا يكتفي فقط بمجال التعبير وإبداع التصوير، وانما يشترط فيه أن يكون بالإضافة الى جماله وروعته ممتعاً نافعاً.

ذلك لأن الأكواب الفارغة لا تروي العطاش.

وكتب آخر: أن الأدب الإسلامي رحب الآفاق، متعدد الجوانب، فهو يشمل الإنسان بعواطفه وأشواقه وآماله وآلامه وحسناته وسيئاته، ودنياه وأخرته، كما يشمل الحياة بطرفيها من سعادة وشقاء، ومقومات وقيم، وهو يشتمل أيضاً على الكون بره وبحره وأرضه وسمائه، كما يشتمل على الطبيعة بطيرها السابح وحيوانها السارح وربيعها الجميل وشتائها العاصف وما إلى ذلك.

وفي صريح العبارة أراد هذا القائل أن يقول أن الأدب الإسلامي ليس كما يتوهم البعض انه مقصور فقط على الدين والموضوعات العبادية الفلسفية، بل هو أوسع من ذلك بكثير.

وعرفه أديب آخر وهو الأستاذ الشاعر محمد المجذوب بقوله: (أن الأدب الإسلامي هو الفن المصور للشخصية الإنسانية من خلال الكلمة المؤثرة)(6)، ويرى هذا الأديب أن الأدب هو ضابط الارتباط بين الحياة الإنسانية على اختلاف منطلقاتها وتصوراتها.

ويرى هذا الأديب مع كل الضجيج الذي يحركه ذوو النوايا الطيبة في تنكرهم إلى دور الكلمة، وتحريضهم على الاكتفاء بالعمل، سيظل للكلمة مفعولها العميق في إثارة العقول والقلوب.

ثم أن للكلمة دوراً في التوجيه للأعلى أو الأدنى من مسالك الحياة، وليس شيئا خافيا على أولي الفهم والعلم، أمثلة ذلك في رسالات الأنبياء، الذين كانت وسيلتهم الفضلى إلى أعماق الناس، الكلمة المتينة البليغة، وقد تجلى ذلك أتمه في المعجزة الكبرى التي أنزلها الله ـ جل وعلى ـ على قلب نبينا وحبيب قلوبنا محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ قرآن يهدي للتي هي قوم، وسنة تخرج الناس من الظلمات إلى النور. وبهذين الرافدين من أدب السماء، بدأ التغيير الأكبر على مجرى التاريخ، نظاماً وحكماً بعد أن كان له الأثر البالغ في أدب العرب شعراً وخطابة وحكمة ومثلاً، ثم ترسلاً وتصنيفاً وقصة ملحمة وما إلى ذلك من أساليب وفنون أدت مهماتها في تبليغ الرسالة وتوسيع المدارك، ونشر الثقافة الأصيلة في كل مجال وصلت إليه الفتوح الإسلامية أو استظل الفكر الرسالي بظله.

فهذا نهج البلاغة، بخطبه الرنانة، التي تحيي القلوب الميتة ما زال نوراً يستضاء به، وطريقاً يسار عليه أدباً ومنهاج حياة.

وقد استمر الأدب بهذا الشكل الذي عليه اليوم، عربي اللسان رباني المضمون، والأدباء المعاصرون ذوو الأفكار غير الإسلامية يرجعون في أصولهم الأدبية إلى الإسلام وما قد رفده في هذا المجال.

الا أن مسيرة الحياة السياسية بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أصابها الخلل فاختلف حملة الرسالة حتى الاقتتال، وكان مستحيلاً على الأدب أن يقف مكبل الجوارح، في ذلك المعترك الصاخب، وتتابعت الأحداث، وتفاقمت المشكلات وإذا نحن خلال عصور الأدب التالية، تلقاء ركام من الكلام، قليل منه المتماسك في نطاق المواريث العليا، وأكثره زائغ خطى هنا وهناك.

حتى أن الأديب الواحد يجمع في نتاجه بين الضربين المتضادين من الألوان فهو في بعضه إسلامي الرؤية رسالي المسلك لا يفارق خط النور. ولكنه في بعضه الآخر، مدخول الهوية ولا يمت إلى المنظور القرآني بصلة.

والمؤسف بل المبكي حقاً أن مسيرة الأدب الإسلامي، واصلت حركتها في هذا الطريق المضطرب، فلم تجد لها القوة التي تردها إلى المسلك السليم. حتى إذا فوجئت بسموم الزحف الغربي والشرقي الدافق لم تكن لديها المقومات القادرة على مواجهته بالوعي الذي يفرق بين الغث والسمين. فكان من نتائج هذه المواجهة تراكم العقبات في طريق الفكر الرسالي وطغيان الضجيج الصادر عن المبهورين بتلك السموم وهكذا وجدنا أنفسنا أمام جيل، لا يرى سبيلاً للتقدم إلاّ بالإعراض الكلي عن المنهج الإسلامي الأصيل والذوبان في تيارات الفكر الواغل الدخيل فإذا بالأمة الواحدة، أصبحت أمماً متعددة، وقد انعكست آثار ذلك كله في هذا السيل العارم من نتائج الأقلام، التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وإذا هناك أخيرا مؤتمرات مشبوهة يحمل منها لافتة أدبية ذات لون خاص، تحتضن في خلالها أقزاماً لا يكادون يرون من ضآلتهم، ولكنهم لا يزالون ينفخون، وتسلط عليهم الأضواء الملونة حتى يتسنى لهم بذلك العمل، أن يحجبوا الرجال والقادة ذوي الأصالة في عالم الفكر والنتاج الحق، عن الجماهير. وقد اتسع مدى جنايتهم حتى شمل لغة القرآن نفسها، إلا أن لكل أجل كتابه، ولكل نبأ مستقره، كما قرر القدير العليم.

وهكذا لم يكن بد لهذه السموم المضللة من حد تسير إليه ثم ينجلي ما وراؤها من المخلفات المستورة، كما تنجلي سحابة الدخان المصطنعة بعد أن حجبت حقائق الأشياء إلى حين.

وكذلك اليوم تستفرغ هاتيك المزاعم طاقاتها، فهي اليوم تترنح، تحت صفعات اليقظة الإسلامية المترامية الأطراف التي لم تنطفئ شعلتها قط، ولم تستسلم لمناورات الباطل منذ الغارة الأولى التي شنها القريشيون على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ووصفوه بالجنون وأنه معلم مجنون وحتى آخر السلسلة من هجمات طواغيب العصر على الرجال الصالحين في كل مكان أتيح للقلم الرسالي أن يتنفس.

فطنة عيب

إذا كان الأدب الإسلامي يصدر عن تصور واحد، هو التصور الإسلامي أفلا يكون هذا الأدب مهددا بالنمطية والتكرار؟

وعلى افتراض تعدد الموضوعات ألا تكون النماذج متشابهة في بدايتها ونهايتها؟

وأليس التصور الإسلامي يفترض طريقاً محدوداً للعلاقات مع الوجود والإنسان والطبيعة؟

ومن ثم فان أدباء هذا المنهج، على مر الأجيال، وربما في الجيل الواحد أيضا، يستنفدون هذا الأسلوب ويقفون في النمطية والتكرار؟

هذه فطنة عيب يلوح بها المشككون، وقد يساعدهم على ذلك وجود النمطية والتكرار في عدد من النصوص الأدبية ذات الموضوعات الإسلامية، ولا سيما موضوعات المناسبات.

ولكسر هذا التلويح وتنكيسه، نقول أن الأدب الإسلامي الحقيقي غير مسؤول عن الملكات الضعيفة والمواهب القاصرة، وكذلك فان الإسلام بأدبه غير مسؤول أيضاً عن أولئك الأدباء، عباد السلاطين، الذين يشترون بأقلامهم ثمناً بخساً.. ذلك لأن الأدب الإسلامي، روح، وفوق كل ذلك رسالة، وليست حرفة للتكسب أو مدح السلاطين.

وإذا كنا قد سلمنا، بان موضوعات الأدب الإسلامي وليدة التجربة الشعورية، التي لابد وأن تكون واسعة سعة الكون وشاملة شمول هذا الوجود، هذا عند الأديب المسلم. فلا يمكن لنا أن نتهم طبيعة الأدب الإسلامي الرسالي، بأنه يؤدي إلى النمطية والتكرار، لأن أدباً تكون موضوعاته كل شيء في الإنسان والوجود وتصوراته عن ذلك، لن يدفع الأديب الرسالي على النمطية والتكرار أبدا.

فإذا ما حدث ذلك، فان العيب كل العيب في الأديب نفسه لقصور في موهبته ووعيه، وليس في ذات الأدب.

لذلك وبثقة تامة وبايمان راسخ نقول: لا خوف أبداً على الأدب الرسالي، وانه لن يقع في مثل هذه الشبهات، ما دام هناك أدباء مبدعون ورساليون مخلصون لعقيدتهم تمام الإخلاص، الذين ينطبق عليهم قول البارئ عز وجل: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلاّ الله وكفى بالله حسيباً)(7)، وأما الأدباء المصلحون و القاصرون فلا ذنب للأدب الإسلامي، بلاغة وفصاحة، في ضعفهم وتقصيرهم وخذلانهم للحق ونصرة الظالم.

حدود الأدب الرسالي

قد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم، الذي ارتطم البحث بواقعه، فولّد له الشعور بضرورة التصحيح، السؤال التالي:

ما هي المواضيع التي يجب أن يكتب فيها الأديب الرسالي وما هي حدودها؟

والجواب على ذلك:

إذا كان الأدب كما مر علينا وليد التصورات الشعورية عن الأشياء والواقع، فمن الطبيعي أن تكون التجربة الشعورية لدى المسلم بلا حدود.

وعليه فان آفاق الأدب الإسلامي تكون بلا حدود ايضاً، لأنها تكون واسعة، سعة التصور الإسلامي وشاملة شموله.

تتضمن قضايا الإنسان جميعها، في مشكلاته ومواقفه في علاقته مع الأفراد والمجتمع والبيئة والطبيعة، في حبه وكرهه، فـــي صداقته وعداوته، ذكراً أو أنثى، وفي عبوديته وفي تجبره، وفي معاناته وفي استوائه، وفي كل التفاتته العقلية والوجدانية.

وفي كل ما يمكن أن تفرزه الحياة البشرية من علاقات وانفعالات، فالأدب الإسلامي الرسالي، يقف على معطيات الكفر كما يقف على معطيات الإيمان. فله أن يعرض المجتمع المتفسخ، كما له أن يعرض المجتمع الصحيح، وله أن يتناول شك الإنسان وحيرته، وأن يتناول إيمانه ويقينه، وأن يناقش قضايا الوجود الكبرى أو أن يعرض عنها، وله أيضاً أن يغوص في أعماق النفس البشرية ويكوّن تعبيراً وجدانياً فردياً، أو أن يبقى على سطحها ويواكب سلوكها.

وله أيضاً أن يتحدث عن القدر ويناقش من خلال الأدب وبأسلوب الأدب، موقف الإنسان منه وتصوراته له، كما له أن يسوح مع الخيال الشارد إلى أبعد ما يمكن أن ينطلق إليه.

وله أن يستنبط الطبيعة وينظر إلى من يتوحّد بها إلى أن ينفصل عنها أو يقف على سفوحها.

وباختصار، فان موضوعات الأدب الرسالي، لا تتحدد بمكان أو زمان محدد، فيهي تنطلق إلى كل مكان وصل إليه الفكر الرسالي وبث أفكاره فهو في كل باب وفي كل مجال كما هي رسالة الإسلام أبداً.

ولا يقتصر الأدب الإسلامي برسالته ـ كما يتوهم البعض ـ على أدب مرحلة زمنية معينة. وثمة فرق واسع بين مصطلحي أدب العصر الإسلامي، والأدب الإسلامي. فالأول يدل على الأدب الذي أنتجه الأدباء في عصر محدد، والثاني فهو رسالة حيّة لكل زمان آت ولكل مكان.

وخلاصة القول:

إن الساحة، أمام الأديب الرسالي، واسعة أقصى ما تكون السعة، وأن موضوعات الأدب الإسلامي لا حدود لها. فالكلمة والتعبير بلغت في تجربة الإسلام التاريخية حداً مذهلاً لم يبلغه في يوم من الأيام مجتمع آخر سعى وراء عقيدة أو منهج لكي ينظم حياته بموجبه.

عناصر الأدب الإسلامي

لما للأدب الإسلامي، من مجالات متعددة، مؤثرة على سلوك الأفراد والجماعات أياً كان موقفها ومعتقدها، يكون السؤال أشد إلحاحا عن دور المسلمين، وخصوصاً الطليعة الرسالية منهم، خصوصاً بعد هذا التقدم العلمي الرهيب الذي قرّب الأبعاد، ووصل المجتمعات ببعضها لدرجة كادت تتجاوز حد المعقول.

فما هو الموقف وما هو السبيل الذي ينبغي انتهاجه؟

لكي يؤدي الأدب دوره بإيجابية فعالة لابد وأن تتوفر فيه مجموعة من العناصر لكي يحقق أهدافه بصورة مطلوبة.. ومن هذه العناصر:

ـ أولاً: الالتزام الديني

عنصر الالتزام الديني من أهم العناصر وأقواها، إذ أن الأدب الإسلامي يجب أن يتسم بسمة الالتزام الديني هذه، ولا يخرج عن هذا الإطار بحجة الحرية أو القانون الوضعي للطغاة. ذلك لأن الدين رسم لنا طريقة الحياة وحدد منهاجها، التي يجب أن لا يتنكب عنها المسلم في أي مكان، وبأية صورة من الصور، بل لابد للأديب الرسالي أن يقف موقفاً صلباً تجاه كل القضايا من رحم عقيدته، وهذا أمر يلزم أن يكون فيه المسلم مزوداً أصلا بأمور دينه، وأن تكون دعوته مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بما يحث عليه الدين من حق وعدل ومساواة ومقارعة الظلام وعباد الشهوات.

ـ ثانياً: السمة الإسلامية

لهذا العنصر صلة غير عادية بالأول، بل هو متمم له فالأدب هنا يجب أن يكون واضح السمات، غير منفصلٍ عن المبدأ والعقيدة، بل لسان حالها ومعبراً عنها، فلابد هنا أن تكون الصبغة الإسلامية الحضارية، هي صبغة القالب الكتابي، مقالة كانت، أو بحثاً أو نثراً أو شعراً، وكل ما يمكنه القلم أن يكتب.

ـ ثالثاً: التعبير عن واقع الأمة

من أهم مسؤوليات الأديب المسلم، الذي يحمل رسالة الإسلام على كتفيه، أن يعبر عن واقع أمته ومآسيها ومصادر شقائها وعنائها وعكس ذلك.

وتلك الرسالة لا يتحملها أي إنسان إلاّ المخلصون لمبادئهم والذين اعتنقوا الإسلام بعد تفكّر عميق وإدراك سليم.

وما من أدب من آداب العالم، الا وله في هذا المجال ـ التعبير عن واقع الأمة ـ صولات وجولات.

فلابد أن نكون (نحن المسلمين)، أمة واحدة، وإن اختلفت ألواننا وألسنتنا، كما قال العظيم: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)(8)، ولهذا فان على الأديب المؤمن برسالته أن يكون معبراً عن واقع تلك الأمة، وأن يبرز أمراضها ويصف لها الدواء، من واقع الدين والشريعة، مهما تطلب الأمر ذلك ولا يحرف منه قيد أنملة إرضاءً للآخرين أو خوفاً من سلطان جائر.

الهوامش

1 ـ كاتب سعودي.

2 ـ سيد محمد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه. بيروت: دار الشروق، 1983م، ص9.

3 ـ سيد محمد قطب، منهج الفن الإسلامي، بيروت: دار الشروق، 1987، ص6.

4 ـ السيد حسن الشيرازي، العمل الأدبي، نظرات في الأدب والفن. بيروت: دار الصادق، 1969. ص11 وص26.

5 ـ عبد الرحمن الباشا، نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، السعودية: جامعة  محمد بن سعود الإسلامية، 1985م، ص92.

6 ـ مجلة البعث الإسلامي، العددان (1ـ 2)، رمضان وشوال 1401هـ، الموافق تموز وآب (يوليو وأغسطس 1981م،)، ص86، عدد ممتاز عن الندوة العالمية للأدب الإسلامي.

7 ـ سورة الأحزاب، آية رقم 39.

8 ـ سورة الأنبياء، آية رقم 92.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد42

الصفحة الرئيسية