من أعلام التجديد

المرجع الكبير الميرزا  مهدي الشيرازي(قدس سره) ودوره في تجديد حوزة كربلاء

احمد البدوي  

العالم الشيعي بما يملكه من مخزون فكري، بخلت به أكثر المدارس الأخرى لفارق المصدر والمنبع والمستقى، كون المفاهيم وكل الأشياء في طبيعتها تعرف وتميّز فائقيتها من تمييز مصدرها، واسها الذي انطلقت منه وتأسست عليه الرؤية للكون والإنسان عالم زاخرُ بالعلماء، وقطار طويل ويأبى ان ينتهي، ومركب ما يذوي فيه راكب الا وصهل جوادٌ آخر فيه. لكن ليس كل من ركب كان حاديا للمسيرة فالتاريخ لا يسجل في الركب الا من ركب صهوة التاريخ. ولم يقع عنها قليلون. هم الّذين أعادوا للناس ثقتهم في كونهم أمة يفتخر المجد بان يكون لها. وقليلون هم الذين خالطوا الناس، ووجهوهم سمت دينهم وسويّة، وكانوا قدراً متيقناً من كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) (إن عشتم حنوا إليكم، وان متم بكوا عليكم) بل أعظم من ذلك حينما يكونون، قد أعطوا جيلا من الأجيال، ومرحلة في الدعوة زخماً تعبوياً.

كربلاء تنفتح على جيل جديد

غالبا ما كان لفترات طويلة عوام الناس يغطيهم جهلٌ في أمور دينهم وسلوك دنياهم. المحدّد في شريعة دينهم، وهذا هو بالذات كان سبباً رئيسياً خطراً في تخلف الأمة في كل الجوانب. من هرم السلطة وتقبلها وانحصارها في عالم واحد. إلى سفوح الثقافة والاجتماع وكل الأبعاد التي تتأطرها الحياة.. بلى هو سبب ركود الأمة وسباتها. وهذا ما وعاه.. سماحة آية الله العظمى السيد الميرزا مهدي الشيرازي الذي كانت مقدمتي هذه انطلاقاً في توضيح خطاه، بعد أن مرّت الذكرى الأربعون لرحيله رحمة الله عليه وهذه الأجيال تذكر من أعطاها أو أعطى الحياة نفحة تزيد من عبق رحيقها المكنون في إنسانيتها.

وعى السيد الميرزا مهدي الشيرازي واقع الأمة. في انقباض الوعي الإسلامي.. أو اندثاره لفترات طويل.. وعى ذلك منتصف النصف الأول لهذا القرن سيما وهي مرحلة زمنية تمثل نهوض المفاهيم الشيوعية والغربية، داخل الوسط الشرقي وترويجها من نفس مثقفي الأمة المتغربين أو المخترقين ثقافياً. لذلك خرج سماحة السيد الميرزا. منطلقاً من واجبه الديني ومن مبادئه الإنسانية ودوره في كونه صاحب أمانة في خطوة أعطاها كل الأهمية وهي توعية الجيل الجديد بالذات فقد اهتم اهتماماً كبيراً في قضية نشر الدين بين أبناء الأمّة، وتوعيتها، وبكل السبل ذات المدخل النفسي الناجح لإرساء روح الدين ونفثها في روح الشباب فكان ان (روّج أحكام الدين وقيمه، أمر الوعاظ والخطباء واصحاب المنابر بتوضيح الأحكام الدينية وشرح المسائل الشرعية والتلطف مع الشباب والجيل الصاعد وجذبهم بالخلق الحسن والقول الرصين والأدلّة المحكمة إلى ظلال الدين الوارفة والابتعاد عن التوجهات العلمانية التي تستثني الدين عن معترك الحياة، فكان من نتيجة هذا المسعى النبيل ان تربى جيلٌ من الشباب الواعي والمتفهم لاحكام الإسلام، وقد تأثّر بجهده الخير في ترويج الإسلام ونشر تعاليمه الكثير من أهالي كربلاء بينهم الطلاّب والأساتذة، فصاروا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعقدون الندوات والمناظرات حول مبادئ الدين ويشكلون الهيئات والجمعيات الدينية، فازدهرت من جراء ذلك مدينة كربلاء بدروس تفسير القرآن وبحوث الأخلاق، وأنشئت العشرات من الجوامع والزوايا الدينية وتم إعادة بناء جوامع كانت في طور التخريب واصبحت ملأى بــالمصــــلين وابتدعت حفلات ومهرجانــــات عالميــــة لاحياء ذكرى مولد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كربلاء)(1).

وهذا بدوره أدى إلى إيقاظ باقي المراكز الدينية الشريفة في روعة الانتباهة الجديدة وأهميتها في طريق نشر الدين وترسيخه، فتبع ذلك محافضات عدّة في إقامة المهرجانات والحفلات ونظام التزيين في الولادات الميمونة لأئمة الهدى(عليهم السلام)، وإظهار الحزن في شتى مظاهر أيام الوفيات ليبقى قادة الدين ورموزه معلماً لاثبات معالمه في سماء المذهب.

هذه الخطوة من الأهمية بمكان أنها جعلت الشاب يستيقظ على حركة الحياة، وفي شغافه نقش حجري لمعالم دينه فلا يخشى الطروحات الاختراقية الوافدة من غرب الأرض، بل يحاكمها بما عنده (لان قلب الحديث كالأرض الخالية وألقى فيها قبلته) وكونها مبادرة أمير المؤمنين عليه السلام في قوله (لقد بادرتك بالأدب قبل ان يقسو قلبك) أي قبل ان يكبر فيكون اقل تقبلاً بعد فوات العمر وابتعاده عن الشباب فيصعب هذا الأمر الهدايتي وكما أوصى الإمام الصادق(عليه السلام) احد دعاته في البصرة حينما جاءه ومعه بعض الخيبة فوجهه إلى الشباب منهم بتعليل أنهم (أكثر تقبلاً) واقربيتهم إلى الاعتناق في كثير من الأمور الاعتقادية.

أما على صعيد الجيل الحوزوي العلمي. الجيل الذي يمتلك من المركزية في حيوية الأمة ما يفوق أي تأثير آخر لأفراد الأمة في الوسط الديموغرافي، فهو الجيل المعوّل عليه للمستقبل في الاستنهاض والحركة، وهذا ظاهر وجدانياً ويمتلك واقعاً لا نقاش في مصداقيته، فهذا الجيل امتلك من الأهمية على يد السيد الميرزا مهدي الشيرازي، ما فاق باقي الاهتمامات في نفس ذات الطالب ومنهج تحصيله العلمي، وطرق تكوينه الكمالي له. فكان السيد(قدس سره) ان تخطّر خطورة موقع المنهج وأهمية إنشاء جيل علمي جديد قادر على تحمّل العصر بأزماته ومواكبة تطوراته وكذلك اختصار طريق قطف الثمار، فقد بادر في خطوات جديدة في دراسة العلوم للابتعاد عن السلبية التي يملكها المنهج القديم الذي يفضي أحيانا إلى التركيز على بعض الجوانب الثانوية من قبيل الاعتدال اللفظي لتوصيل المفاهيم، وهنا وصف أحد الاخوة بان خطوة السيد عملية ترغيب للشباب لكن الحقيقة، ان الترغيب يوجد لشيء منفور منه طبيعياً.. بينما ليس الحال هكذا في العلوم الحوزوية، بل من طبيعتها أنها مرغوبة، فهي علوم الحكمة الإنسانية، وعلوم الحقيقة الكونية وعلوم الدنيا في تحكيمها العلاقات الدنيوية، بكل أبعادها فـ(ما من واقعة الا ولها حكم) لكن السيد الميرزا (قده) انتبه إلى الوضع الذي لا يلائم هذا الزمان في الدرس وعجلة الحركة العلمية ودورانها السريع، وظهور المدارس الأكاديمية التي تملك ميزات عصرية موجهة في المنهج وان ضعفت في المضمون.

السيد الميرزا(قده) راعى هناك بعداً نفسياً.. وكذا بعداً تقنياً في التلقين. فقد وضع السيد اختباراً في كل مرحلة دراسية وهذا امر لم تعهده الحوزة العلمية من قبل، وجعله حرّاً. باعتبارها خطوة تجديدية وتحتاج إلى مرحلية وتدرج، وكذا قد يكون اجتهاده في حرية الاختيار. بإيمانه في نفس حرية ذلك، ليكون الطالب منطلقاً بعيداً عن أي ضجر يلازمه في امتحان، وفي نفس الحين ارصد جوائز مالية. وورقة تشهد بنجاحه ومقدار جائزته كي تصنع للطالب اعتزازاً في تطوره وازدياده وسلطته العلمية على الدرس، وتكون المنافسة رسمياً وللمفارقة الرائعة هنا. كون هدف الامتحان هو التحصيل التام صعوداً في ارتقاء الطالب، بينما عند الطالب كان التحصيل سبيل الهدف وهو تجاوز الامتحان ابتداءً فكان الأمر ذا حل نفسي إقناعي، اقرب إلى الدبلوماسية الفردية في المعالقة بين الإستاد والطالب، على هذا الامر.

هذا الامتحان على ما ينقل كان في السنة ثلاث مرات، رأس كل أربعة أشهر في أول ربيع الأول ورجب وذي القعدة، ومدته عشرة أيام واستمر هذا النهج جاريا في الحوزة العلمية في كربلاء حتى بعد وفاة السيد. بالإضافة إلى ذلك إعطاءه وقتاً كثيراً في توجيه الطلاب إلى قدر العلم ومنزلته وابراز معالم الأهمية في الدرس بتكثيف ذلك وطرق القصص، والعبر، والحكم في مدار العلم.

معاضدة لهذه الآفاق، اعتنى في نفس ذات الطالب فكان سخياً في جعل الطالب مستغنياً، مكتفياً، متفرغاً للدرس لا يشغله شاغل دنيوي. المهم ان السيد الميرزا مهدي الشيرازي(قده) كان يرعى طلاب العلم اشدّ ما يكون ويوصي بهم خير وحية ويبجلهم ويتحمل سلبياتهم لتحويلها بحسن أخلاقه إلى إيجابيات.. كي يكون صانعاً للإنسان والجيل، فكان يتلطف إليهم ويوليهم عناية خاصة فقد تربى تحت نظره الشريف جماعة كبيرة من الشباب الواعي، الذي اصبح من دعاة المستقبل. فالطالب في بادي الاحتكاك اتسقت ظروفه موضوعياً حتى إذا ما ثبت على قدميه، يكون الشبل قد أصبح أسدا، فلا يحتاج عريناً آخر.

كما قام السيد(رحمة الله عليه) ضمن مشروعه في تنمية الحوزة العلمية بكربلاء ورفع علمها عالياً في سماء المعرفة بتربية رعيل كبير من العلماء و الفضلاء و الخطباء و الموجهين و أقام فيها مدرسة هي المدرسة المعروفة بالسلمية في مركز كربلاء المقدسة، وساهم أيضا في تعمير مدارس كثيرة في كربلاء وأحيى فيها الدروس و نشط حركة الدراسة و التدريس و الكتابة فيها كذلك، وقام أيضا بدور تأسيسيّ هام، للطالب وغيره، وهي المكتبات العامة في كربلاء، ولم يكن حينها الا المكتبة العامة الحكومية، التي يملؤها الفكر الغربي أو المتغرّب بشتى ألوانه، فكانت هذه المكتبات الإسلامية بديلاً معرفياً، وإصلاحا اجتماعياً، للحفاظ على وعي الأمة وطريقة تفكيرها، وتصورها وتصديقها لحقائق الكون، وعلاقة الإنسان بالإنسان وربه والكون.

لذلك من جراء هذه الأبعاد الأربعة، منهج الطالب، وذات الطالب (نفسيته)، ومعيشته، ومؤسسات الحوزة وما يتبعها من مكتبات ومنتديات وغيرها، كان لذلك انجذاب الكثيرين من الشباب إلى سلك الروحانية، وارتداء اللباس الديني، والتفرغ لدراسة العلوم الإسلامية، والقيام بالدور الملقى عليهم في حركة بلدهم وما يعتوره ويعتركه من صراعات لذلك، فلقد أُعطي الشيعي قيمته الاجتماعية وسط المجتمع، وموقعه الحضاري في تأثيره على حركة الأمة، فكانت أجدى أوفر، واجذب، كمحطة شبابية ترى هنالك جدوائية في حركة الحوزة والانضمام إليها ليس الدرس وفقط وانما حركة المجتمع ودخوله إلى المعترك، وتأثيره في المسيرات الأخرى وقوة إزائية للفكر الوضعي الوافد من الغرب، خاصة وان ذلك الوقت هو الأكثر كثافة في خروج الطروحات الفكرية والفلسفات، الشائعة بين الشباب. لذلك برزت، في محافظة كربلاء بالذات.. شبيبة أكثر التزاماً وصلاحاً وقتئذ، وذاك ظاهر في كثرة الهيئات الدينية بأشكالها والتجمعات، التي يفوق عدد الشباب فيها غيرهم، وهذه الهيئات التي تكفلت، إقامة المآتم والمواليد، ودروس التفسير العامة والأخلاق، وعرض وتوضيح المسائل الشرعية، وكانت هذه الحفلات، تستقطب وجوداً جعلها حفلات عالمية.. بل ثبتت في توسيع الحفلات واعلامياتها ودعوتها.. لتكون رسمياً في شكلها العالمي.

مع السيد محسن الحكيم، والمد الشيوعي

و كما هو معروف ان الموجة الحمراء، للمد الشيوعي، موجة غطّت لجتها كثير من أبناء الأمة حينها، فتناميها بالذات عهد حكومة عبد الكريم قاسم بعد ثورة 1958م/ 1387هـ. هذه الموجة التي أخذت وجرفت معها مدنا كثيرة، واهانت معها حرمات، واهدرت أعراضا ودماءً. فلقد كان الموقف مخيفاً، وخطراً، وحرجا في وقت يصعب السيطرة عليه، وهنا تأتي الحكمة (الازمة تلد الهمة).. ونظرية (التحدي والاستجابة) فهذا الكيان بات يهدد كيان الإسلام، ولابد من الهمة والحكمة، هنا كان دور السيد (فقد بادر إلى استنهاض هم  مراجع الدين الكبار في النجف الاشرف لاتخاذ موقف جماعي قوي ازاء الخطر الإلحادي على العراق والعمل على تكفيره وتنفير الناس منه حفاظاً على الإسلام ونصرة لدينه، وبفضل مساعيه ومجهوداته في هذا المجال واجتماعه التاريخي مع المرجع الديني الكبير آية الله العظمى المرحوم السيد محسن الحكيم أصدر الأخير بيانه التاريخي في إظهار مساوئه الشيوعية والكشف عن صبغتها الإلحادية، وكان لهذا البيان أثره الكبير في تحجيم هذا المدّ وتفشيل محاولات دعاته ومنظريه حتى باتت أفكارهم وخياراتهم مرفوضة بالمرة من جانب الشعب العراقي المسلم(2) مع ان مدينة كربلاء كانت تحصّنت إلى حد يفوق المحافظات في ذلك لسابقة الوعي المرسخة عند أهل البلدة.

(1) الشاهرودي، نور الدين، أسرة المجدد الشيرازي، قم، مؤسسة الفكر الإسلامي 1413هـ، ص 263.

(2) الشاهرودي، نور الدين، اسرة المجدد الشيرازي، قم، مؤسسة الفكر الإسلامي، ط 3، 1413هـ، ص 271.