نقاط مضيئة عن رجل وضاء 

أبو مصطفى الحسيني

كان المرحوم المقدس آية الله العظمى السيد ميرزا مهدي الحسيني الشيرازي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ: تقيا، ورعا، عابدا، زاهدا، متواضعا، شاعرا، كثير المحفوظات، جيد الخط.. من صفات تقدم في كل واحدة منها، مما لا تتوفر في الآخرين غالباً ـ بتلك النوعية ـ منفردة فكيف بها و هي مجتمعة فيه. و لكن التركيز ـ هنا ـ على الصفات الأكثر نضارة و تألقا.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يحب أن يلي أعماله الشخصية بنفسه قدر الإمكان، مع اعتزاز أولاده ـ الذكور و الإناث ـ بخدمته عن إخلاص.

و حتى (شاي العصر) لم يكن يطلبه من أحد المتواجدين بقربه: فإن قدم له فبه و نعم و الشكر لله تعالى، و إن نسي فلينس و الحمد لله رب العالمين.

ذلك: ان منع مزاولة الآخرين لأعمالهم اليومية يحتاج ـ حسب رأيه ـ إلى عامل يندر وجوده في حياته المعيشية.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يبغض النوم فيقاومه، و مرت عليه فترة لم ينم فيها يوميا أكثر من ساعتين. و كان ينصح من يراه ينام كثيرا ـ حسب رأيه ـ: أخر النوم إلى القبر، فسوف تنام هناك طويلا.. طويلا.. إلى أن تتهرأ أضلاعك من كثرة النوم.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ (حافظا) للقرآن الكريم عن ظهر القلب.

و كان (تاليا) للقرآن الكريم ـ بين الطلوعين ـ بصوت موح: يسمعه جميع من في الدار، و طائفة من الجيران و المارة.

و (حفظ القرآن الكريم) يشتمل على فوائد عديدة و مهمة: التأمل في كلام رب العالمين حتى في الأوقات الاستثنائية التي لا يتمكن الإنسان فيها من النظر في المـــصحف الشريـــف، الانغمار في الإيحاء الإلهي عند الحاجة من دون تجشم عناء البحث عن الآية الكريمة التي تنطبق على الوضع الحادث و تحمل إلى الإنسان الحل المناسب، مساعدة الكاتب و الخطيب و المحاضر و نحوهم في اختيار آيات كريمة داعمة لمواد الكتابة و المنبر و المحاضرة و نحوها، التشرف بالتلاوة في الفرص المتاحة التي لا يحمل الإنسان فيها المصحف الشريف أو لا يجد سبيلا لفتحه، الاستشهاد بالآيات الكريمة عند الحوار أو إسداء النصائح أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر و ما أشبه، التوصل إلى الثواب الجزيل المعد لحافظ القرآن الكريم، الذي بشرت به النصوص الدينية و الذي وضع فيه العلامة النوري ـ صاحب موسوعة (مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل) كتابا مستقلا

و (تلاوة القرآن الكريم) ـ بين الطلوعين ـ بصوت موح: تلقين ذاتي يفتقر إليه ـ في من يفتقر ـ المرجع الديني الذي يعيش عصور الانحطاط حتى يحلق في أجواء المسلمين الرواد في عصور المعصومين الأربعة عشر?، و نشر أجواء إلهية معنوية في أزمنة طغيان الأجواء الإلحادية المادية.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ (مربيا) لأنجاله: كي يواكبوه في المسيرة الإسلامية أيام حياته، و حتى يواصلوا الدرب بعد وفاته. و نجح في الهدف الأول نجاحا باهرا، و نجح في الهدف الثاني نجاحاً عظيما. و العشرات من البلاد شواهد، و المئات من المشاريع أدلة، و الألوف من الناس ألسنة، و الملايين من الصفحات مضابط

و تفصــــيل القول ـ في هـــذه النقطة بالذات ـ يحمل (سلبيات) غير مـــقصودة أتوماتيكيا، لا داعي للاقتراب منها من قبل من لا يؤمن إلا بـ(الإيجابيات) المقصودة من قرارة القلب.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ (حسن الأخلاق): في كل زمان، و في كل مكان، و بالنسبة إلى كل أحد، و بالنسبة إلى كل شيء.

و كان العديد من المقربين إليه يرجونه التخفيف منه كي لا يعتدى عليه، و كان يرفض ذلك بحسن أخلاق يدعوهم إلى تكرار الرجاء.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يحافظ على (ماء وجه) الآخرين أكثر مما يحافظ على (أعز الأشياء) لديه: سرق أحد تآليفه ـ و كان مقلا مجيدا في التأليف ـ من قبل أحد زملائه، فاحترقت أعصابه في داخله و لم تحترق كلماته في وجه الزميل و حتى لم تلتهب شكاته في المنتديات. و سرق أحد تآليفه ـ و كان مقلا مجيدا في التأليف ـ من قبل أحد تلاميذه أيضا، فاحترقت أعصابه في داخله و لم تحترق كلماته في وجه التلميذ و حتى لم تلتهب شكاته في  المنتديات كذلك. دع عنك مسروقات (مكتبته الخاصة) ـ في زمن ندرة الكتب ـ من قبل بعض زملائه و تلاميذه. و فيها بعض (الدورات) المهمة كـ(الوافي) في الحديث الشريف.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ ذا همة قعساء في تسلق مدارج التقوى و الورع منذ أيام شبابه فكيف بسنوات النضج فمرحلة الشيخوخة. و قد عثر ـ بعد وفاته ـ على (قصاصات ذاتية) يحذر فيها نفسه من أن يفتح عينيه يوم القيامة فيرى ان قائد (ثورة العشرين) آية الله العظمى الشيخ محمد تقي الشيرازي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يتقدمه في (ركب المتقين الورعين)، مع أن الشيخ كان آية في التقوى و الورع إلى درجة أن البعض كان يميل إلى الاعتقاد بأنه (صاحب العصمة الصغرى).


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ مع علمه الغزير.. الغزير.. يتجه نحو (المعنويات) حتى تتصوره (عابدا جاهلا) يهرب من (ميادين العلم) ليلتجئ إلى ساحات (العبادة الجاهلة). فكان ينجذب ـ عند سنوح حتى أدنى فرصة خلال أعماله اليومية ـ إلى: تلاوة القرآن الكريم، الذكر، الدعاء، الزيارة

و لم يكن هذا من ذاك، بل كان (جهادا أكبر) في ممارسة تمزيق (حجاب العلم) الذي هو آفة آفات العلماء الربانيين.

و كان لأجل ذلك ـ عند ذكر أو تذكر صور من العلماء المعتدين بعلمهم ـ يهدر غاضبا تارة، و ينفجر ضاحكا أخرى، و يبكي آسفا ثالثة

و ذات مرة رأيت دموعه تنحدر على خديه فكريمته البيضاء و هو يتذكر الكلام البشع لأحد العلماء المعتدين بعلمهم في مقام المقارنة بين علمه و علم العباس ـ صلوات الله عليه ـ قائلا: كيف تقارن علمك الظني في أحسن الفروض بعلم العباس الذي تربى و ترعرع في حجر و كنف أمير المؤمنين و السبط الأكبر و سيد الشهداء بالإضافة إلى زمالته مع زين العابدين و علي الأكبر و السيدة زينب.. صلوات الله عليهم أجمعين؟!


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ غريبا في فرز (الأهم) عن (المهم)، و في تحمل ضغوط (المهم) الذي ينام في عظامه لصالح (الأهم) الذي تفرضه الظروف المرجعية عليه:

نقل أحد أنجاله آية الله السيد محمد صادق الشيرازي ـ حفظه الله تعالى ـ ما يلي:

كان والدي ـ قدس سره ـ متيقظا في ساعات السحر مشغولا بالمطالعة، و كنت ـ ربما ـ أستيقظ للقيام بصلاة الليل. و لم أره ـ بالرغم من معنويته الفائقة ـ يقوم بصلاة الليل. و بعد التأرجح بين الإقدام و الإحجام، تجرأت ـ ذات مرة ـ فاعترضت عليه متسائلا: لماذا لا تقومون بصلاة الليل؟! فأجاب ـ برفق و تواضع ـ التكليف الشرعي بالنسبة إلى من يتصدي للمرجعية هو أن يحمل الأجوبة الصحيحة لأسئلة المقلدين فورا فلا يحيلهم إلى غد و بعد غد، لا القيام بصلاة الليل.

و إذا عرفنا انه كان ـ أيام إقامته بمدينة (سامراء المقدسة) كطالب من طلاب الحوزة العلمية بزعامة قائد (ثورة العشرين) ـ يدخل (السرداب المقدس) في كل يوم من أيام شهر رمضان المبارك و لا يخرج منه الا بعد الفراغ من تلاوة (ختمة) للقرآن الكريم في جلسة واحدة، نعرف مدى ما كان يعانيه من شدّة ضغوط (المهم) على أعصابه.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يرى: الكفران و يصبر، و يرى التخاذل و يصبر، و يرى الخيانة و يصبر و كان يقدر ـ في إمكاناته ـ أن يستخدم الدنيا في سبيل ذاته فلا يرى الكفران و التخاذل و الخيانة و لكن: هيهات.. ثم هيهات..

كان كثيرا ما يردد ـ بصدد التعامل الدنيوي المطلوب منه بإصرار و بعناد شديدين ـ: لا تجعلوا عنقي جسرا يوم القيامة ـ في سبيل مآربكم الشخصية.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يسير وراء (دينه) و لا يسير وراء (دنياه)، فالاعتبارات الدينية عنده مقبولة و الاعتبارات الدنيوية عنده مرفوضة:

كان زميلا لآية الله العظمى السيد حسين القمي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ  في درس الشيخ محمد تقي الشيرازي. و كان يعتقد به دينيا. و رأى ـ عندما أصبح مرجعا دينيا ـ وجوب تأييده فأيده، ضاربا بالاعتبارات الدنيوية المتنوعة و الضاغطة عرض الجدار.

و إليك نموذجا واحدا:

كان السيد حسين القمي يعاني من آلام في الرجلين مما يجعله يركب (الحمار) في تنقلاته، و كان صاحب الترجمة ـ ربما ـ يواكبه سائرا و هو راكب. و عندما يتعرض بعض المقربين إليه في ذلك، لا يكترث به قائلا: إنني أعتقد بالسيد دينيا، و أرى وجوب تأييده مرجعيا. مع أنه كان يتمكن من أن يختار لنفسه طريقا آخر يأخذه إلى المقصد، من دون أن يساير السيد بتلك الحالة. إنه المؤمن يتمسك بالاعتبارات الدينية حتى على حساب الاعتبارات الدنيوية.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يبكي: عندما يسمع و حتى عندما يتذكر أحد مواقف الآخرة، و عندما يسمع و حتى عندما يتذكر إحدى مفردات مصائب أهل البيت ، و عندما يسمع و حتى عندما يتذكر ما يجري على الإسلام و على المسلمين. و لكنه لم يكن يبكي حينما تعصره الظروف: قساوة قسرية تارة، و زهدا اختياريا أخرى.

كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ من المصاديق البارزة للحديث النبوي الشريف:

(قال عيسى بن مريم للحواريين: تحببوا إلى الله، و تقربوا إليه.

قالوا: يا روح الله! بماذا نتحبب إلى الله، و نتقرب؟؟

قال: ببغض أهل المعاصي، و التمسوا رضى الله بسخطهم.

قالوا: يا روح الله! فمن نجالس إذن؟

قال: من يذكركم الله رؤيته، و يزيد في عملكم منطقه، و يرغبكم في الآخرة عمله)(1).

و لا يزال بعض من رأوه ـ حتى بعد مضي أربعين عاما على وفاته ـ متميزين على بعض من لم يره في: تذكر الله تعالى، و العمل الصالح، و الرغبة في الآخرة. و ذلك: من جراء رؤيته و منطقه و عمله.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ مع الناس و لم يكن معهم في نفس الوقت.

و كان هذا.. شعور من يلتقي به من مختلف نماذج الناس: قريب منه و لكنه غريب عنه، قريب إلى حد القرابة و غريب إلى حد الغرابة.

فهل هذا.. يفسر ســـر تــشرفه بلقاء الإمام المنتظر ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف و نحن معه ـ أم تشرفه بلقاء الإمام يفسر سر هذا..؟ لا أدري، و إن كان التأمل في كثير من (التشرفات) يقودنا إلى الاعتقاد بأن: هذا.. مقدمة طبيعية للتشرف، و التشرف عامل استمرار و تعميق و صفاء لهذا.. و العلم عند الله تبارك و تعالى.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ (صاحب كرامات) على ذمة روايات العديد من المتصلين به، من أمثال: طي الأرض بين النجف و كربلاء المقدستين في إحدى مناسبات الزيارات المخصوصة لأمير المؤمنين عليه السلام، و تلقي رسالة شفوية من الإمام الكاظم?  قبيل وفاته

و لم تكن (الكرامات) بعيدة عن صاحب سيرة وضاءة متلألأة، جعلت البعض يعتقد في بعض الحالات انه الإمام المنتظر ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف و نحن معه ـ مما جعله ينتفض مغضبا من هذه الجرأة العظيمة مبينا له: انني محمد مهدي، بن السيد حبيب الله الشيرازي، أخ السيد عبد الله و السيد جعفر، أخو حرم السيد عبد الهادي الشيرازي و حرم السيد علي النوري، و السيد المجدد الشيرازي عم والدي، و الشيخ محمد تقي الشيرازي من أخوالي


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ من خيرة تلامذة الشيخ محمد تقي الشيرازي المعروفين بشدة التقوى و عمق العلم و عظم الجهاد، و كان الشيخ خير تلامذة قائد (ثورة التنباك) آية الله العظمى السيد محمد حسن الشيرازي (المجدد) رضوان الله تعالى عليه المعروفين ـ كذلك ـ بشدة التقوى و عمق العلم و عظم الجهاد، و كان المجدد مضرب المثل: في التقوى إلى حد الكرامة، و في العلم إلى حد نسبة أفكار آية الله العظمى الشيخ مرتضى الأنصاري ـ رضوان الله تعالى عليه ـ إليه،(2) و في الجهاد إلى حد قيادة (ثورة التنباك) و مع ذلك كله: لم يكن ـ يوما من الأيام ـ يتحدث عن تقواه أو علمه أو جهاده... حتى إلى اقرب المقربين إليه.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يقيم صلاة الجماعة ثلاث مرات يوميا ـ الفجر و الظهر و المغرب ـ حسب المواصفات التالية:

ـ إقامة الصلاة في أول وقتها دائما.

ـ عدم التخلف عن إقامة حتى صلاة واحدة، في جميع الفصول الأربعة، و في كافة أوضاع (كربلاء المقدسة) الاجتماعية و السياسية و نحوهما، و في مختلف الحالات الشخصية

ـ مزاولة طائفة من (المهام المرجعية): ذهابا، و ايابا، و بعد إقامة الصلاة إلى الفراغ عن النفر الأخير من المراجعين.

ـ التطويل، كي يذوق المأمومون بعض طعم الصلاة. و حيث ان صلوات الجماعة كانت كثيرة آنذاك، فلم يكن التطويل مخالفا لأدب صلاة الجماعة: (صل صلاة أضعفهم)ـ كما ورد في الحديث الشريف ـ لأن (الأضعف) كان يتمكن من أن ينخرط في أكثر من (صلاة جماعة سريعة).

ـ الخشوع العميق الذي يجعل من يسمع صوته من المأمومين يحلق في أجواء معنوية رائعة الجمال.


كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يتقدم (موكب عزاء رجال الدين) ليلة عاشوراء عبر مسيرته الطويلة ـ من المدرسة الهندية إلى المخيم، ثم إلى الصحن العباسي الشريف، ثم إلى الصحن الحسيني الشريف، ثم إلى المدرسة الهندية كذلك ـ بدموع غزيرة مستمرة، و لم يكن يتخلف عن الاشتراك في سنوات الشيخوخة، و حتى في فترات النقاهة.

كان ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يقيم (عزاء أهل البيت عليهم السلام) بداره يوميا بعد طلوع الشمس و قبل بدء دوامه، و كان هو (الناعي) بنفسه مع صوت متهدج و دمع جار. و كان يشعر بالخيبة عند حدوث ما يمنعه عن ممارسة هوايته المفضلة: نوبة مرض، زيارة مفاجئة خارج البرنامج

(1) بحار الأنوار ـ العلامة المجلسي: ج 77/ ص 149/ ح 60.

(2) راجع كتاب (السيف المنتضى في قتل المرتضى). مخطوط من كتب خزانة آية الله الشيخ كاظم التبريزي رضوان الله تعالى عليه.