الوحدة.. رؤية في الاشكالية والجذور

أحمد سعيد

مقدمة

يقول بيتر كاند (تتحد الحداثة في نظرنا بمجموعة ضروب الجدة التي خلقتها حضارة الغرب منذ أن دخلت في طورها التسارعي. ولنتفق على تحديد بدايات هذا الطور بين نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين الفترة التي تم الانتقال فيها من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد صناعي وتختلف الآونة الصحيحة إذا كان من آونة بحسب البلد)(1).

بيتر كاند في هذا الوصف يعرض الوجه الداخلي للحداثة الغربية في طور نشوءها ولا يشير إلى طبيعة الانتقال في الاقتصاد الذي اعتمد بدرجة رئيسية على الاستعمار فهذه التغيرات والتراكمات التي عرفت باسم النهضة (التي ليست حركة ثقافية فحسب قد هدمت حضارات ارقى من حضارة الغرب في علاقتها بالإنسان وبالطبيعة وبالمجتمع والإلهيات)(2) قد قادت في مراحل لاحقة إلى أزمة عالمية لأنها انطوت على نزعة عرفت بالمركزة أو في الاسم المعاصر عولمة(3) لأنها تحاول فرض نموذج حضاري واحد.

ولاجل فرض هذا النموذج ينشأ تقاطع تلقائي مع المقدمات الحضارية ونزعات النهوض لدى الحضارات الأخرى ورغبة قاطعة بالإبقاء على عوامل التردي التي تؤدي دور النصير الداخلي للمركزة أو العولمة في البنية الحضارية للحضارات وبالتالي موقف العداء من الحركات الداعية للحفاظ على الذات أو الداعية إلى تطورها وبالنسبة للحضارة العربية والإسلامية نلاحظ حالة من الخصام بين التيارات النهضوية (الإصلاحية الإسلامية أو الإصلاحية الليبرالية أو التيارات الاشتراكية والقومية) وأخيرا مع الحركات الإسلامية من نفس المنطلق.

فالحضارة الغربية الحديثة تمارس اداءاً ثنائياً على صعيد الكون لأنها من جهة لا تزال ترفد التمدن الإنساني بمنجزات هامة إلا أنها من جهة أخرى تقطع على الشعوب الأخرى فرص ممارسة حياتها بالشكل الذي ترغب الأمر الذي يفضي إلى قيام أزمة عالمية تتمظهر من خلال حالة الاستقطاب والتربص المتبادل الذي يملي دراسة الذات والأخر بصورة متواصلة.

الأزمة الثنائية وثنائياتها

تطالع المتأمّل للذات عدة ثنائيات تمثل معالم الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي هي التخلف والتنمية أو الاستقلال والتبعية أو الوحدة والتجزئة يشكل كل طرف منها الغاءاً لمقابله إذ لا استقلال بدون إلغاء التبعية ولا وحدة يدون إلغاء التجزئة ولا تقدم يدون محو التخلف.

كما أن الحديث عن اي مفردة يتضمن الحديث عن كل المفردات الأخرى إذ ان الاستقلال يعني ضمناً التقدم والوحدة وان الوحدة هي الاستقلال والتقدم ويمكن قلب كل ذلك فنقول لا استقلال أو تقدم بدون الوحدة والاتحاد.

ولدى التمعن أن أي في هذه الثنائيات تشكل من خلال واقع اجتماعي موروثاً ضاعفه وفاقمه واقع عالمي ضاغط يمنع التخلص منه ويعمل على تكريسه وهكذا يتكون لدينا ثنائية الواقع من حيث العوامل وثنائية المظاهر ضمن تركيبة معقدة غالباً ما تجعل الباحث يدور في حلقة مفرغة وهو يحاول البحث عن حل، فهل يمكن ان نبدأ من إلغاء تأثيرات الحضارة الغربية الحديثة التي صارت تفرض نفسها من خلال القوة والحاجة في آن واحد ام من خلال إلغاء العوامل الداخلية التي سرعان ما يتدخل الغرب في الحفاظ عليها بحكم ما أشرنا إليه من دوافع في المقدمة؟

وهكذا يتظافر الواقع الداخلي والخارجي لتثبيت صورة الواقع في توازن خاص لا يمكن التفكيك بين مفرداتها في ضوء الظروف الفعلية العالمية مما يفرض إدراك حقيقة أولية خطيرة هي استعصاء البحث عن حل داخلي أو خارجي بل لابد من حل داخلي وخارجي في ان واحد بناء على ان التفكيك بين الذات والأخر أمر مستحيل ويمثل نتاج الحداثة الغربية وسمة العصر الحاضر الذي تسيطر فيه.

فالحل المفترض لابد ان يتم في إطار عالمي وان يتغلب في الداخل والخارج معاً أو انه سوف لن يرى الغلبة لا في الداخل ولا في الخارج.

هذا بالطبع بغض النظر عن نقطة الشروع أو لحظة الانقلاب التي لا شك انها إن بدأت لابد أن تمتد وإلا فإنها ستتغلب لتعود إلى ما كانت عليه.

وقبل البحث في حقيقة هذا الواقع الذي نعني به عدم إمكان التفكيك بين الذات والأخر لابد من الإشارة إلى بعض المصطلحات التي نستخدمها في البحث هي (الاندماج) أو الوحدة (التعدد) أو (التجانس).

فالاندماج، هو الإطار الذي ينتج من خلال وجود أواصر قادرة على ضبط عوامل التفكك الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، والاعتقادي، وهذا قائم على أساس افتراض أي وحدة قابلة بحكم قدرتها على النماء والحركة على قبول حالة الاندماج (الوحدة) أو مضادها حالة التفكك (التجزئة) وان الأمر متوقف على طبيعة الأواصر التي تقرر الوضع النهائي.

التجانس هو العناصر المشتركة التي تصلح كمقومات لبناء مجتمع واحد (الأمة) (4).

والتعدد، هي العناصر التي تؤدي إلى الاختلاف والافتراق التي تعيق الاندماج ولا تجعله مستحيلاً.

وحين يصار إلى البحث عن الأواصر التي يمكن ان تخلق الاندماج فأن ما يلوح منها هو الاتي:

عوامل الاندماج (الأواصر)

القوة، وتتمثل بالسلطة أو القدرة على القهر والغلبة التي تتاح لفئة أو فئات (جماعات، أحزاب، قبائل) في إطار منتظم اجتماعي بحيث ينتج عنها ضبط وسيطرة قادرة على معادلة العوامل الدافعة إلى التفكك أو التغلب عليها وتنشأ عن تناقص المصالح أو اختلاف العقائد.

اما المصالح فهي درجة من (التواثق المصلحي تساهم في التألف بين مختلف الفئات ذات المصلحة في المنتظم السياسي)(5).

الوعي! وهو شيوع ثقافة أو معتقد تساهم سلباً أو إيجابا في تشكل روابط لصالح بقاء الأمة أو تفككها.

هذه العوامل قد توجد في صورتها الإيجابية التي تصب في صالح بقاء الأمة مجتمعة وقد يوجد بعضها فقط الأمر الذي يعني أن الحالة النهائية هي ليست سوى محصلة التناقص بين عوامل التفكك الموجودة في الأمة بصورة طبيعية وتلقائية وبين العوامل المضادة لها والتي غالبا ما تولد من نمو فئة أو تطور وعي أو نشوء ظروف ولذلك فهي إضافية.

وعليه فأن الأمم تختلف في درجة تماسكها من حيث اعتمادها على هذه العوامل بدرجات مختلفة مما يحدد في النهاية درجة تماسك الأمة الاجتماعي والسياسية والاقتصادي.

فربما قامت أمة اعتماداً على أساس الوعي الديني أو على أساس الاتحاد المصلحي أو اعتماداً على القهر ويمكننا ان نرى في الدول القومية شكلاً من إشكال التوافق المصلحي المعتمد على وعي أو قوة بعض الفئات بضرورة الارتباط على أساس التجانس العرقي.

غير ان التجانس العرقي قـــد لا يـــكــون عاملاً وحـــيداً لبـــــناء أمة فالأمة الإيطالية (وجدت وحدتها في صراعها ضد السيطرة النمساوية)(6) وقد سجل التاريخ نزاعات وحروباً دامية بين أبناء العرق الواحد من اجل اختلاف المصالح وبالنسبة للامة العربية التي تتجانس قومياً لم تستطع إنجاز وحدتها قبل الإسلام بل كانت القبائل تعيش نزاعات مستمرة بعد حرب البسوس(7) اشد نماذجها ضراوة وطولا إذ دامت ما يقرب من أربعين سنة متواصلة.

بينما نرى في الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً متماسكاً للدولة يعتمد على التجانس العرقي وهناك نماذج تعيش تعدداً قومياً وعرقياً أو دينياً دون أن يؤثر ذلك على الوحدة السياسية أو يضعف الأواصر الأخرى الاقتصادية مثلاً.

ومن هنا فأن التجانس هو أحد أهم العوامل ولكنه ليس العامل الوحيد (التجانس القومي، التجانس الديني) وجدير بالذكر أن هذه العوامل قد توجد بشكل تلقائي ولا دخل للإنسان في إيجادها من قبيل الانتماء القومي فالإنسان ينتمي إلى عرق معين قهراً أما الغير تلقائي فانه الانتماء إلى دين معين إذ بإمكان الإنسان ان يغير دينه ومعتقداته.

التنوع في الواقع

ولو تجاوزنا هذه المصطلحات فأننا سنجد أنفسنا بازاء التعدد الذي يعيشه العالم الإسلامي والذي لم يساهم الغرب في صناعته فالتعدد المذهبي نشأ اثر الصراعات التاريخية كما ان قيام دولة إسلامية سيطرت على بقاع واسعة من العالم أوجد أواصر دينية بين شعوب غير مــتجانسة قومياً كــما انه حين سمح للناس بالبقاء على دياناتهم سمح بالتعدد الديني واقام نموذجه الخاص بناء على خلق أواصره الخاصة به.

غير ان التطورات اللاحقة انتهت إلى إنهاء الأواصر وبالتالي بروز التعدد الديني والمذهبي والقومي بصور مختلفة في الأشواط التي قطعها الإسلام منذ عصر البعثة وحتى العصر الحاضر بصورة إشكالية.

لانه من الطبيعي حينما تضعف أي آصرة فأن النموذج يسعى إلى الاستعاظة عنها بأواصر أخرى ولهذا فأننا في العالم الإسلامي نرى تيارات متعددة لإنجاز الاندماج بحسب كل حالة فمثلاً في زمن الدولة العثمانية حاول المصلح جمال الدين الأفغاني استعادة الأواصر بناءاً على الرابطة الإسلامية وهي محاولة لبناء تكتل إسلامي في مواجهة الغرب على أساس الدين كرابطة واسعة لضبط عوامل التعدد المذهبي الذي كان حينها مشكلة العالم الإسلامي الرئيسية حيث كانت تركيا وإيران يتصارعان على أساس التعدد المذهبي. ويؤدي الاستغراق في الصراع إلى إفساح فرصة للنفوذ الغربي الذي كان نفوذاً اقتصادياً وسياسياً.

وحين بان للنخب العربية بأن الدولة العثمانية آيلة للزوال حاول العرب في أحد اتجاهاتهم ايقاض التجانس القومي كبديل عن الرابطة القهرية التي كانت الدولة العثمانية تستند إليها لضم الممالك العربية إلى ممتلكاتها وغفل هؤلاء عن الواقع الذي قاد إلى التعدد أصلا لم تقدم حلول عملية لضبط عوامل التعدد الأخرى المذهبية والدينية ومشكلة الاقليات القومية التي تعيش على نفس الرقعة الجغرافية.

ومن هنا فأن الإشكالية الفعلية في العالم هي البحث عن آصرة فحين يصار إلى اعتبار الإسلام كآصرة تعمل المذاهب كعوامل تفكك وكذلك الديانات الأخرى وحين يتم اعتمـــاد الرابــــطة القومية فـــأن، العامل الديني والمذهبي سيعمل كعامل تفكك ولهذا فأن عملية الاندماج ستبدو كمشكلة تحتاج إلى بحث واسع دقيق لا يغفل أي عامل حتى ينتهي إلى اتخاذ طريق بعينه لتحقيق الاندماج وتحرير الواقع من هذه الإشكالية التي صارت تنقل العالم الإسلامي برمته في خطوات سريعة نحو التردي دون ان تستطيع النخب على اختلاف مشاربها من التصدي له ومن ثم النهوض به لاعادة الأمة إلى سابق عهدها.

وتكمن حقيقة الأشكال في انه عملية سعي للبحث عن هوية معاصرة امام تكرار الهوية السابقة أو خلق هوية سواها مغايرة لها أو تشابها في هذا المعلم أو ذاك لكن كل حل يصطدم بعقبة بسبب حالة التعادل التي لا تجد سبيلاً لإيجاد قوة ترجح كفة أحد الطرفين وبغض النظر عن طبيعة هذه الهوية.

ومن هنا فأن الأزمة عميقة الجذور وتمتد مع الواقع الذي نشأ في الجزيرة العربية مع اللبنات الأولى عندما جاء الوحي في عمق الصحراء وفي غفلة من العالم المتحضر آنذاك فاقام حضارة وارسى قواعدها وصارت تمتد مع التاريخ حتى وصلت إلينا بالصورة الحاضرة.

فالإسلام لم يكن ابن عصره ذاك كما تصور البعض وانه حين انتهى ككيان سياسي انتهى إلى الأبد لا بل انه صار يستيقظ داخل رحم كل من الاتجاهات الدينية والقومية وليفرض حضوره مجدداً.

فالواقع العالمي اليوم يرتبط بالإسلام بصورة كلية لأن الكثير من الشعوب صارت ترى فيه جزءاً أساسيـــا من هويتها الـــقومية أو أحيانـــاً كل هويتها سواء كانوا عرباً أو غير عرب وهذه الشعوب كلها تتحفز للنهوض وحين يفشل بعضها فأن البعض الأخر سينجح حتماً.

كل ذلك يدفعنا إلى دراسة الإسلام من زاوية إنتاجه للاندماج (الوحدة) في ذلك العصر من اجل تفهم المسارات الممكنة للوحدة المعاصرة طالما سلمنا بأن الإسلام لا يمكن إنكار حضوره كعامل معاصر فعال وليس مجرد ذكرى جميلة.

العرب وجذور الازمة

يمكن افتراض جملة أسباب موضوعية لاختيار العرب كحملة للدين خارج الأسباب الغيبية إلى نجهلها منها.

الموقع الجغرافي ـ الخلفية الثقافية ـ الأمة البكر

1- الموقع الجغرافي: امتازت الجزيرة العربية بموقع يساعد على امتداد الدين في العالم القديم (آسيا، أفريقيا، أوربا بسرعة مذهلة لغرب الجزيرة من أفريقيا وأوروبا وبالفعل فقد ولدت اكبر دولة إسلامية في ذاك العصر بعد أن اكسب إسلام العصر الأول من الأطلسي إلى بحر الصين من جهة  بثورة اجتماعية قطعت مع التصور الروماني للملكية بوصفها (حق استعمال وتفريط وإفراط) وحالت دون تكديس الثروة في قطب من المجتمع وتكديس الفقر في القطب الأخر واكتسبه من جهة ثانية بوحى إلى كنس المذاهب المغلقة وامتيازات إمبراطوريتي فارس وبيزنطة المتحجرتين)(8).

ولو لا هذا الموقع الوسط لما قدر للإسلام مثل هذا الانتشار السريع في الأجزاء الرئيسية للعالم المعروف آنذاك وأعطاه القدرة على خوض الحروب الخاطفة التي مكنته من تحطيم الإمبراطوريات الكبيرة ليصبح القطب الأوحد في العالم.

2- الخلفية الثقافية: أما بالنسبة للثقافة فقد امتاز العربي بثقافة توحيدية عريقة موروثة عن ديانتهم الحنفية التي طعمت بالوثنية قبيل ظهور الإسلام بقليل وهذا يعني أن الوثنية حالة طارئة وغير راسخة الجذور في الوقت أن الإطار العام للدين ظل محتفظاً بالكثير من الأبعاد الصحيحة في اصولها العامة فقد (كانت أديان العرب مختلفة لأهل الملل والانتقال إلى البلدان والانتجاعات فكانت قريش وعامة ولد معد ابن عدنان على بعض دين إبراهيم)(9).

والى جانب ذاك فأن العرب عموماً كانوا يعظمون الخلق الرفيع ولهذا فأن النبي لم يأتيهم بشيء ينكرونه وقد رأوا انه جاءهم بشيء يحبونه ويفتخرون به كالعفة والشجاعة والكرم وسوى ذلك من مكارم الأخلاق ولم يكن يخاصم الا الأصنام والأخلاق السيئة التي ينكرونها.

3 - الأمة البكر: من الواضح أن الانسجام مع الدور المفترض أي بناء حضارة عالمية تستند إلى الوحي وهو دور يحتاج إلى قدر كبير من الانسجام مع الذات أي عدم وجود ثقافة وحضارة سابقة يعيق قبول القيم الجديدة أو تساهم في استيعابها في الموروث الحضاري والثقافي الخاص ولذلك استطاع العرب الذين هم بلا موروث ثقافي مغاير للإسلام لو لا الموروث القبلي قبول الإسلام واصبح عنصر بناء الآمة الإسلامية بعد خوضه صراعاً ضد ثقافة القبيلة (مزيج من الوثنية المستوردة والأعراف القبلية) وتم تأسيس قوة سياسية حاربت استغلال القبائل ودويلات المدن في الجزيرة ثم بنت دولة متفوقة من خلال ممارسة أول تجربة اندماج إسلامي قوامه (دولة دينية وعقيدة إنسانية ومصالح تمزج بين المادي والروحي في تناغم واضح)

الإسلام أسس وحدته (الاندماج) على أساس الوعي بدرجة رئيسية وليس على المصالح وحدها أو القهر والقوة بل عبر استخدام كل هذه العناصر بحسب الضرورات التي تفرض أساسية وأهمية الوعي لأن الإنسان كائن واعي يتحرك بالوعي وتبعاً له وعلى هذا الأساس سعى الإسلام إلى الحفاظ على هذا العامل لأنه بشكل العمود الرئيسي للسلطة وللدولة والاصرة الأولى في عملية الاندماج.

غير أن الذي حصل لم يكن كذلك فأن تكوّن الدولة وانتاج الإمبراطورية أدى إلى ترك عملية تواصل الوعي بالكيفية التي يجب ان تكون متصاعدة قادرة على الوقوف بوجه التحديات فأن التحديات ليست هي نفسها التي واجهت الدعوة في بدايتها فان المواجهة هناك مع العرب وهم متماثلون ثقافياً كان الإسلام بالنسبة لهم بديلاً مقبولاً متفوقاً لكن عندما انتشر الإسلام وضم أعدادا كبيرة من البشر ومع البشر أديانا وأفكارا وأعرافا وأقواما كان لابد من إنتاج وعي متفوق قادر على تحقيق نفس الحالة التي حصلت مع العرب بينما لم تحاول السلطة إنتاج هذا التطور بل عمدت إلى العكس إذ غلبت ثقافة واعراف القبيلة وبذلك ساهمت في إيقاف حركة الوعي عند الحد الذي ورثته وصار الوعي حكراً على قلة واعية ولكن مبعدة وممنوعة عن نشر الوعي.

ولهذا فأن الاصرة ضلت هشة واعتمد على القهر أو المصالح وأيقاظ العصبية وهذه العوامل كانت بلا شك قوية ولكن قوتها لم تكن قادرة على كبح عوامل التعدد إلى مالا نهاية بل إنها صارت تكبحها مؤقتاً ومنها عمدت الأديان والقوميات والمذاهب إلى العمل مرة أخرى كل لتطوير نفسه والثبات في المواقع التي يملكها ويسيطر عليها.

والصورة التي نصل إليها ان الاندماج كان هشاً وان عوامل التفكك صارت تستيقظ لأن السلطة كانت تعمل على إيقاظها أما بصورة مباشر أو بصورة غير مباشرة فبالنسبة للقبيلة كانت السلطة مضطرة إلى إيقاظ العصبية لأنها كانت عاجزة عن الاستناد إلى الوعي ولا بديل للوعي سوى العصبية، والعصبية لم تكن قد ذابت في إطار الأمة (القومية) ولهذا فان النتيجة كانت هي الإطار وهذا ما قاد إلى خلق عامل ضعف للسلطة بالنتيجة، أما بالنسبة للأديان فأن مبررات الاندماج في هذا الوعي غير موجودة لانه يقوم بناءاً على افتراض وجود بديل افضل أما بالنسبة للمذاهب فأن المذاهب كانت عبارة عن رغبة للوقوف بوجه توجهات السلطة التي كانت تروج لاراء خاصة (ثيوقراطية) تفرض على الآخرين التصدي لها باعتبار ذلك انحرافاً عن النهج الصحيح.

وهكذا آلَ كل شيء إلى قيام آصرة معينة قائمة على أساس القهر والغلبة وهي اضعف أنواع الأواصر جميعاً إذ سرعان ما تنهار وتخلي مكانها إلى أواصر أقوى ولهذا سرعان ما انهارت السلطة الأموية وتركت المجتمع وقد استيقظت فيه كل عوامل التفكك التي قمعها الإسلام في بداية ظهوره.

الهوامش

(1) المجتمع الحديث في أبعاده الأساسية تأليف مجموعة مؤلفين فصل ظهور المجتمع الحديث . بقلم بيتر كاند ص31، دمشق 1983.

(2) من اجل حوار الحضارات الدكتور روجية غارودي ص 11.

(3) راجع مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية العدد 433 تشرين أول 1999 ص 37.

(4) المجتمع العربي المعاصر الدكتور حليم بركات صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ص 14.

(5) علم السياسية الدكتور حسن صعب ص 337.

(6) مصدر سابق المجتمع العربي المعاصر ص 59.

(7) تاريخ اليعقوبي صادر عن دار الثقافة والنشر قم، ايران، ج 1، ص 335.

(8) مجلـــة دراســــات عربية. الجوامع المشتركة بــــين الاصولـــيات الإسلامي المعاصرة، روجية غارودي. تعريب خليل احمد خليل ص 11.

(9) تاريخ اليعقوبي ج 1، ص 354.