الوسطية .. المرتكزات و المجالات

علي عبدالرضا

[email protected]

لعلّنا لم نخطئ إذا قلنا إن أشد الأخطار فتكاً بالأمة الإسلامية، تلك التي تصيبها من الداخل و تجعلها تعرض عن المنهج الوسط الذي دعى إليه الحق تعالى حيث يقول سبحانه (وان هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)(1)، لان كل ابتعاد عن النمط الوسط يولد التصدع و الشرخ في كيان الأمة، وكلما كبر هذا الشرخ كثرت الفتن،و تشعبت الآراء الخاصة و تفككت العرى والأوصال.

ومن هذه الثغرة بالتحديد استطاعت بعض الأمم و أصحاب الأفكار المسمومة ان ينفذوا إلى قلاع المسلمين و يتحكموا بمصائرهم وقدراتهم، والا لو كان الاعتدال حاكماً فيها و الموزونية مسيطرة على مختلف أفعالها لعاشت الوحدة بكل معانيها و لتهيبتها بقية الدول.

إن (انعدام الوسطية) اظهر الغلو في فهم الحقائق إفراطا وتفريطاً، وأولد تيارات وفرقاً سياسية وفكرية متطرفة يلعن بعضها البعض ويكفر كل اتباع طائفة، اتباع الطائفة الأخرى، فصرنا أشداء على إخواننا، رحماء على أعداءنا، أقوياء على من ساعدنا، أذلاء أمام من حاربنا.

ولكي نقف على جذور السرطان الذي شل جسد الأمة الإسلامية، نرى من الضروري الرجوع إلى الاصطلاح والمفهوم لمعرفة الاصول اللغوية التي قام عليها هذا الاصطلاح، و المرتكزات الأولية التي قامت عليها القاعدة من نصوص قرآنية وأحاديث شريفة واجماع وعقل، و المجالات الحيوية التي تتحكم فيها قاعدة الوسط، فقهية كانت أو حياتية، واخيراً نتطرق إلى المستثنيات من قاعدة الوسط.

اللغة و الاصطلاح

(وَسَطَ الشيء، (يَسِطُه) وَسطاً، وسِطَةَ: صار في وسطه، يقال وسط القوم، ووسط المكان، فهو واسط. والأوسط: المعتدل من كل شيء(2).

الراغب الأصفهاني يقول في مفرداته ان الوسط: ماله طرفان متساويا القدر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد إذا قلت: وسطه صلب، وضربت وسط رأسه بفتح السين، ووسط بالسكون، يقال في الكمية المنفصلة كشيء يفصل بين جسمين نحو وسط القوم كذا. والوسط تارة يقال فيما له طرفان مذمومان يقال: (هذا أوسطهم حسباً)، إذا كان في واسطة قومه وأرفعهم محلاً كالجود الذي هو بين الإسراف والبخل، فيستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط و التفريط فيمدح به نحو السواء و العدل و النصفة، نحو (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) وعلى ذلك (قال أوسطهم)(3). أما الفيروز ابادي فيرى الوسط: عدلا فيقول: الوسط، من كل شيء أعدله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أي: عدلا خيارا(4). والى ذلك ذهب أبو هلال العسكري، عند ما قال: الوسط يضاف إلى الشيء الواحد فنقول قعدت وسط الدار، ولا يمكن ان نقول قعدت وسط الدارين، و الوسط يقتضي اعتدال الأطراف إليه، و في الدارين هناك تباين، و لهذا قيل الوسط العدل في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) والوسط اسم الشيء الذي لا ينفك من الشيء المحيط به جوانبه كوسط الدار ووسط رأسه(5). و الوسط للمذكر و المؤنث و الواحد والجمع: المعتدل، يقال مثلا (شيء وسط) أي بين الرديء و الجيد(6).

غير ان ابن أبي الحديد يرى ان الوسط هو خيار كل شيء(7) أما الطبرسي فلا يرى فرقاً بين العدل و الخيار لان معناها في نظره واحد فيقول: الوسط: العدل، و قيل الخيار ومعناهما واحد لان العدل خير و الخير عدل. واخذ من المكان الذي يعدل المسافة منه إلى أطرافه، وقيل بل أخذ من التوسط بين المقصر و الغالي. قال صاحب العين: الوسط من كل شيء أعدله و أفضله(8). و النتيجة ان الوسط: خيار و عدل وقصد كل شيء.

أما اصطلاحاً فالوسطية: حالة خطابية أو سلوكية محمودة تعصم الفرد من الميل إلى جانبي الإفراط و التفريط. ومفهوم الوسطية قديم قدم العدل الذي يمتد إلى عمق التاريخ، فكان لفظ الاعتدال معبراً أساسيا عن مفهوم الوسطية و الموزونية التي تنشدها الشعوب المضطهدة و المقهورة أما لفظ الوسطية، فكان نادراً في كتب اللغة و الأدب باستثناء الفترة الأخيرة التي اخذ بها يتوسع على حساب المصطلحات الأخرى.

 مرتكزات قاعدة الوسط

(1) القرآن الكريم :

حيث جاء بلفظ الوسط ومشتقاته

قال تعالى: (حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى)(9).

وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)(10).

وقال تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم)(11).

وقال تعالى: (قال أوسطهم ألم اقل لكم لولا تسبحون)(12).

وقال تعالى: (فوسطن به جمعا)(13). كما جاء بألفاظ أخرى..

قال تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك)(14).

وقال تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا وكان بين ذلك قواما)(15).

وقال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولاتبسطها كل البسط)(16).

وقال تعالى: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين)(17).

وقال تعالى: (ولا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها و ابتغ بين ذلك سبيلا)(18).

وقال تعالى: (وأوفوا الكيل و الميزان بالقسط... فاصلحوا بينهما بالعدل و اقسطوا)(19).

وقال تعالى: (وان طائفتان من المؤمنين... فاصلحوا بينهما بالعدل و اقسطوا)(20).

(2) السنّة المطهرة :

فقد وردت في السنة الروايات ما يدل على هذه القاعدة باللفظ أو المفهوم.

منها: عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول نحن نمط الحجاز، فقلت وما نمط الحجاز؟ قال أوسط الأنماط، ان الله يقول (وكذلك جعلناكم امة وسطا) ثم قال إلينا يرجع الغالي وبنا يلحق المقصر(21).

ومنها: عن الباقر(عليه السلام) قال: يا معشر الشيعة، شيعة آل محمد، كونوا النمرقة الوسطى يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي(22). والمراد بـ(كونوا أهل النمرقة الوسطى) كما كانت الوسادة التي يتوسد عليها الرجل إذا كانت رفيعة جدا أو خفيفة جداً لا تصلح للتوسد بل لابد لها من الارتفاع و الانخفاض حتى تصلح لذلك.

ومنها: عن العباسي قال: استأذنت الرضا(عليه السلام) في النفقة على العيال فقال: بين المكروهين، قال: فقلت: جعلت فداك لا والله ما أعرف المكروهين، قال: فقال لي: يرحمك الله أما تعرف ان الله عز وجل كره الإسراف وكره الإقتار فقال: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا وكان بين ذلك قواما)(23).

ومنها: قال أبو جعفر(عليه السلام) لابي عبد الله(عليه السلام): يا بني عليك بالحسنة بين السيئتين تمحوهما، قال: وكيف ذلك يا أبه؟ قال مثل قوله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) ومثل قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط). ومثل قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا) فأسرفوا سيئة، و اقتروا سيئة (وكان بين ذلك قواما) حسنة فعليك بالحسنة بين السيئتين(24).

ومنها: ما جاء في وصية أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الحسن(عليه السلام) عند وفاته: (واقتصد يا بني في معيشتك، واقتصد في عبادتك، و عليك بالأمر الدائم الذي تطيقه)(25). أي الامر الوسط.

ومنها: الدعاء المروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) حيث يقول: و أسألك القصد في الغنى و الفقر(26).

ومنها: قول علي(عليه السلام): الاعتدال خير و الإفراط شر(27).

ومنها: قول علي(عليه السلام): ما عال امرؤ اقتصد(28).

ومنها: قول الصادق(عليه السلام): ضمنت لمن اقتصد ان لا يفتقر، وقال الله عز وجل (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو) والعفو الوسط، وقال الله عز وجل(والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) والقوام الوسط(29).

ومنها: ما جاء عن الصادق(عليه السلام): ان القصد أمر يحبه الله عز وجل و ان السرف يبغضه(30).

ولا يخفى ان القصد هنا: بمعنى الطريق الوسط المستقيم، و الاقتصاد: رعاية الوسط الممدوح في جميع الأمور، وترك الإفراط والتفريط في جميع المسائل الدينية و الحياتية.

(3) إجماع المتشرعة :

فبعد صريح الآيات، وصحيح الروايات اتفقت كلمة العلماء في الفقه و الأخلاق ونحوهما على ان الوسط هو خير الطرق وأقومها، وهو الموصل إلى الغاية المرضية من قبل الحق تعالى، والموافق لقصد الشارع المقدس، وكل ما خرج عن ذلك الحد مذموم ملوم ومحاسب دنيا وآخره، والذي يراجع أبواب الفقه وفروعها المختلفة يقف على موارد كثيرة تدعو للأخذ بهذه القاعدة، ومن تلك الأبواب؛  الأطعمة والاشربة حيث يقول سبحانه (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) والإسراف خلاف الوسط كما أن الزهد حالة وسطى بين التمحض في الروحانيات والوغول في الماديات، والشجاعة كذلك وسط بين التهور و الجبن وهكذا الأمر يجري في الاقتصاد، الاجتماع والعلاقات الإنسانية.. حيث يقول سبحانه (واقصد في مشيك).

وفي هذا الصدد يقول اية اله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتاب الفقه ـ الاقتصاد ما نصه:

(والتوسط وان كان حسناً في اغلب الامور، كما قال سبحانه: (وكذلك جعلناكم امة وسطا) وفي الحديث: (خير الأمور أوسطها) لكنه في الأمور الخيرية الأحسن السرعة إلى حد لم يكن إسرافا وإهلاكا)(31).

(4) العقل :

والمرتكز الرابع لهذه القاعدة هو العقل الذي تقوم عليه عملية إدراك الأحكام الشرعية من غير طريق النقل و الإجماع، وفي ما نحن فيه فقدنا عدد كبير من الآيات، ويفوق ذلك من الروايات المتظافرة، واجماع متحقق، وسيرة متشرعة قامت على إقرار القاعدة، ومع ذلك فان العقل يحكم بان كل إفراط وتفريط وكل غلو وتساهل مرفوض وقبيح من قبله ومرفوض من قبل المنطق الإنساني السليم، ومن الفطرة و العقل النفور من الشدة والتطرف و الميل نحو الاعتدال والموزونية.

ثم ان العرف هو الآخر يرفض التطرف في الفكر و الممارسة، ويمدح التوسط في الخطاب و السلوك والذي يرتضيه العرف يؤيده الشرع.

والنتيجة المستخلصة من مجموع ما تقدم ان الحمل على التوسط من الأمور التي دعت إليها شريعة السماء و تعاليم الأنبياء(عليهم السلام)، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء عرف ان الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع و غرضه،وما من كلية شرعية ألا وهي قائمة على التوسط، واما التشديد المخالف للحكمة أو التخفيف المخالف لها أيضا فهو خروج عن روح الشرع ومذاق المتشرعة.

الوسطية في الدين و الحياة

بما ان الإنسان مكون من سلالة من طين، ومن نفخة من روح، و ان لكل منهما مطالب وحاجات فقد جاءت التشريعات والتعاليم المرتبطة به منظمة على أساس الآمرين مراعية (حق الروح)  و(حق الجسد) فلا روحانية مقترة، ولا مادية مسرفة، بل تعادل وتوازن بينهما، لان إهمال أحدهما إهمال للإنسان المكرّم.

وبما ان الإنسان تتحكم فيه نزاعات فردية و تسلطية تتعارض مع النزاعات الاجتماعية التي تأخذ قسطاً كبيراً من حريته، لذا دعت الشريعة إلى تنمية الحس النوعي عند الفرد لجعله يهتم بالآخرين كما يهتم بنفسه. فقد جاء عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) انه قال: أعدل الناس من رضى للناس ما يرضى لنفسه وكره لهم ما يكره لنفسه(32).

فوسطية الإسلام لا تقتصر على جانب محدد و انما شاملة للجوانب الأخرى، ويمكن مشاهدة ذلك في اغلب مجالات الدين و الحياة.

وسطية بين الارتماء في أحضان الدنيا و بين الرهبانية المنقطعة فقال في ذلك: (وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة و لا تنس نصيبك من الدنيا)(33).

وقال (ربنا آتتا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة)(34).

ووسطية بين الإسراف و التقتير حيث يقول: (والذين أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا وكان بين ذلك قواما)(35)، ويقول (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا)(36).

ان القصد في المعيشة من الأمور التي اولتها الشريعة كامل الاهتمام أفردت لها حيزا كبيراً من عنايتها ولعل الأحاديث التي وردت في هذا الباب تزيد على كل ما جاء في الأبواب الأخرى، ومن جملة الأسباب ان بقاء المجتمع و استمرارية الحياة الإنسانية قائمة على الاقتصاد في المعيشة وفي كل شيء، فعن أيوب بن حر قال: سمعت رجلا يقول لابي عبد الله(عليه السلام): بلغني إن الاقتصاد و التدبير في المعيشة نصف الكسب فقال أبو عبد الله: لا بل هو الكسب كله، ومن الدين التدبير في المعيشة(37)، و عن علي(عليه السلام) انه قال: القصد في المعيشة نصف المؤونة(38).

ووسطية بين التكالب على الأكل و الشرب و بين ممارسة الرياضات المهلكة و الانقطاع عن الغذاء حيث قال تعالى (كلوا و اشربوا ولا تسرفوا)(39)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): عليكم بالقصد في المطاعم فانه، ابعد عن السرف، واصح للبدن، و اعون على العبادة(40).

ووسطية في اللباس بين ما يوجب شهرة بالجودة وشهرة بالرذالة (فالمتقون فيها )الدنيا( هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد) (41) أي انهم لا يلبسون ما يلحقهم بدرجة المترفين ولا ما يلحقهم بأهل الخسة و الدناءة  أو يصير سبباً لشهرتهم بالزهد كما هو دأب اغلب المتصوفة.

ووسطية في العلاقات الإنسانية، بين التصلب و الليونة، لا تكن لينا فتعصر ولا يابساً فتكسر، بين الحب و البغض فإذا أحببت فلا تفرط وإذا أبغضت فلا تشطط، وفي البعد والقرب عن الناس و المجتمع، فعن علي عليه السلام انه قال: خير الناس النمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي(42)، أو قول لقمان لابنه: يا بني لا تقترب فيكون ابعد لك.. ولا تبتعد فتهان(43).

ووسطية في السلوك بين التباطؤ والهرولة، أو بين خفض الصوت و ارتفاعه، في هذا قال تعالى: (واقصد في مشيك و اغضض من صوتك)(44).

ووسطية ايضاً عند القراءة في الصلاة بين الجهر والاخفات حيث يقول تعالى: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها و ابتغ بين ذلك سبيلاً)(45). أو لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها و ابتغ بين ذلك سبيلا أي التبعيض على عين في السنة.

الأمة الوسط.. الأمة الشاهد

لا شك ولا ريب إن الأمة الإسلامية، هي خير أمة أخرجت للناس، وهي الأمة الوسطى التي عناها سبحانه وتعالى في قوله: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس)، فإذا كان في الأمة من ليس هذه صفته فكيف وصف جماعتهم بذلك؟، و من لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع تمر، كيف يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟ وإذا كان الوسط يعني العدل و الخيار و الفضل، وهي صفات لا تطلق على كل مسلم وبالخصوص العدالة التي لا تثبت الا بالحس و البينة وتحتاج إلى ترويض و تربية استثنائية، فكيف نسمح لانفسنا ان نطلق عليها (وسطية) و(شاهده) في نفس رسول الله(صلى الله عليه وآله) نقول:

المعني بالوسط هم الأئمة الأطهار(عليهم السلام)  فقد روى بريد العجلي عن الباقر(عليه السلام) قال: نحن الأمة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه و حجته في أرضه، وفي رواية أخرى: إلينا يرجع الغالي، وبنا يلحق المقصر، وروي الحسكاني في شواهد التنزيل بإسناده عن سليم بن قيس، عن علي(عليه السلام) ان الله تعالى إيانا عنى بقوله (لتكونوا شهداء على الناس) فرسول الله(صلى الله عليه وآله) شاهد علينا، ونـــحن شهداء علــى خـــلقــــه، وحجته في أرضه، ونحـــن الذين قال الله: (وكذلـــك جعلناكم أمة وسطا)(46) وفي الوقت الحاضر فان مثال الاعتدال والوسط و الشاهد الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وهو الحجة الباقية على الأرض.

 ويمكن ان يكون المراد بالأمة الوسط من كان بتلك الصفة، لان كل عصر لايخلو من جماعة هذه صفتهم، ولو خليت قلبت. و على هذا إذا كان المراد بالوسط المعنى الأعم فهذا يشمل كل من التزم بالوسط قولا و عملا من أهل القبلة. و إذا كان المراد المعنى الأخص فهذا لا يخرج عن حدود الأئمة الأطهار (عليهم السلام).

 ما لا يجوز التوسط فيه

كما قلنا الأصل في جميع الأشياء الاعتدال و الوسطية الا ما خرج بالدليل، والمستثنيات من ذلك قليلة جداً وهذه أهمها:

المسائل الاعتقادية أو أي اصل من اصول الدين لا تقبل الوسط ولا التجزئة ولا التبعيض، فمن أراد ان يأخذها عليه أن يأخذها كلها أو يتركها كلها، أما أن يأخذ ببعض ويترك البعض الأخر أو يقف عند نقطة معينة لأنها توافق أهوائه و الأديان الأخرى فهذا ما لا يسمح به إطلاقا، وفي ذلك قال تعالى: (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون ان يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا)(47).

الأمور التي فيها نص صريح كالقصاص والحدود وبعض أبواب الفقه الأخرى تستثنى من هذه القاعدة لان التوسط في امور محددة لا تقبل الزيادة أو النقصان هو بمثابة تلاعب و تعدي على تعاليم السماء، كما هو اجتهاد مقابل النص وهذا مرفوض جملة وتفصيلا.

في بعض المسائل الأخلاقية و السلوكية لا وجود لحالة الوسطية فيها، فليس عندنا وسط بين الكذب و الصدق، الاحترام و الاحتقار، القناعة و الحرص، الانتقام و العفو، الحلم و الغضب، الفضيلة و الرذيلة، العلم و الجهل، فهذه صفات  متضادة ليس فيها وسطية وانما فيها دعوة لاتباع الفضائل الحميدة و الابتعاد عن الرذائل.

نعم.. عندنا أمور مستحبة يحبذ فيها الأقدام والإسراع كالأمور الخيرية ولذا قال سبحانه: (فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله)(48). وهناك أمور يراد منها تحصيل اكبر قدر من الأجر و الثواب كالذي يحمّل نفسه اشد التكاليف و أصعبها، أو ذاك الذي لا يأخذ إلا احمز الأمور واشدها لأنها تحوي الخير الكامل و الثواب الشامل.

الهوامش

(1) الأنعام 153.

(2) المعجم الوسيط ج2 ص1030.

(3) مفردات الراغب مادة وسط ص869.

(4) القاموس المحيط ص893.

(5) معجم الفروق اللغوية ص572.

(6) المنجد مادة وسط ص900.

(7) شرح النهج ج17 ص29.

(8) مجمع البيان ج2 ص224.

(9) البقرة / 238.

(10) البقرة / 143.

(11) المائدة : 89.

(12) القلم / 28.

(13) العاديات / 5.

(14) لقمان / 14.

(15) الفرقان / 76.

(16) الإسراء / 29.

(17) الأعراف / 31.

(18) الإسراء / 110.

(19) الأنعام / 152.

(20) الحجرات / 9.

(21) تفسير البرهان ج2 ص160.

(22) بحار الأنوار ج70 ص101.

(23) سفينة البحار ج4 ص130.

(24) سفينة البحار ج8 ص451.

(25)  سفينة البحار ج7 ص309.

(26) شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج11 ص217.

(27) المصدر السابق ج6 ص205.

(28) سفينة البحار ج7 ص309.

(29) من لا يحضره الفقيه ج2 ص64.

(30) الخصال ص10.

(31) الفقه الاقتصاد المجلة الأول ص8.

(32) البحار ج75 ص25.

(33) القصص / 77.

(34) البقرة / 201.

(35) الفرقان / 67.

(36) الإسراء / 29.

(37) سفينة البحار ج7 ص310.

(38) شرح النهج ج18 ص108.

(39) الأعراف / 31.

(40) غرر الحكم.

(41) نهج البلاغة خطبة 193.

(42) لسان العرب ج7 ص429.

(43) بحار الأنوار ج13 ص417.

(44) لقمان / 19.

(45) الإسراء / 110.

(46) بحار الأنوار ج22 ص441.

(47) النساء / 151.

(48) فاطر / 32.