أعلام لا تغيب

عبدالله موسى

شجرة العلم والاجتهاد

عُرفت عائلة الشيرازي بالمكانة العلمية السامية ومفاخر الزهد والتقوى ومعاني الأخلاق والتصدي السياسي حيث فتحت هذه العائلة الكريمة أبوابه بعد أن كان موصداً أمام أهل العلم، فتزعمت هذه العائلة قيادة الأمة الإسلامية لأجيال متعاقبة سواء على صعيد المرجعية الدينية العليا أم على الصعيد السياسي، وقد عرفت الحوزات العلمية في إيران والعراق وغيرها من البلاد الإسلامية العديد من الأساتذة الأكفاء والمدرسين الكبار والدعاة والمبلغين.

وربما توجد صفات مشتركة بين أغلب العائلات الدينية عموماً إلا أننا نجد أن أكثرها، لا يتوارث أبناءها ما أسسه آباءهم إلا القليل ومنها هذه العائلة الكريمة فمنذ اكثر من مائة وخمسين عاماً، وعائلة الشيرازي تتناقل موروثها العلمي والأخلاقي «الأدبي» أباً عن جد، فق فقهوا رسالتهم فأعطوا للإسلام كل حياتهم وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل إعلاء مبادئه وترسيخها في ضمير الأمة وأصل هذه الشجرة المباركة، بدأ بشخصية العالم الجليل والمرجع الكبير الذي ذاع صيته في أرجاء العالم الإسلامي وهو المرجع السيد الميرزا محمد حسن الشيرازي الذي أخذ عنه بيت الشيرازي مراتب العلم العليا وشرف الفتيا والتصدي لمظاهر الظلم والفساد الذي دبت مظاهرة إبان حياة الميرزا محمد حسن الشيرازي ثم ظهر من بعده علماء أفذاذ ومراجع كبار ومنهم الشيخ محمد تقي الشيرازي الذي هو أشهر من نار على علم، حيث مثّل الإسلام كله في زمن كان متعطشاً له للتصدي الظلم والاستعمار واستطاع أن يحرر العراق من ربقة الاستعمار الأجنبي، وبرزت شخصية المرجع الكبير السيد الميرزا عبد الهادي الشيرازي ونال المرجعية العليا لفترة، ومن ثم المرجع الكبير والسيد الفاضل السيد الميرزا مهدي الشيرازي، ومن ثم المرجع الأعلى السيد محمد الحسيني الشيرازي(دام ظله) وقد لاقى رموز هذه العائلة الكثير من المصاعب خصوصاً من قبل الحكام الظلمة، وإلى الآن يتعرضون إلى الملاحقة والسجن والقتل، فقد هاجر سماحة الإمام المرجع الكبير السيد محمد الحسيني الشيرازي بعد قرار الإعدام الذي أصدرته بحقه السلطات العراقية عام 1391 ليكمل مسيرته من هناك ثم رحلته إلى إيران والتي يقيم فيها سماحته في مدينة قم المقدسة منذ عشرين سنة مضت.

وقد ضحّت عائلة الشيرازي بأحد علماءها وأدباءها الكبار حيث استشهد آية الله السيد حسن الشيرازي على يد نظام صدام في بيروت عام 1980م في محاولة من هذه العصابة للحد من النفوذ الذي مثله جهاد الشهيد ونشاطه في المنطقة العربية والإسلامية والعالم أجمع، وشاء الله تعالى أن تستمر المسيرة حيث انتشرت المؤسسات الدينية والعلمية للتعريف بمذهب أهل البيت في كل أصقاع الأرض.

من أعلام هذه الأسرة

وبمناسبة الذكرى الأربعين لوفاة العالم الجليل والفقيه اللامع والمرجع الكبير آية الله العظمى السيد مهدي الشيرازي نتبرك بذكر بعض النتف من حياة هذا العالم الكبير المولود في مدينة كر بلاء عام 1304هـ والذي درس مقدمات العلوم الدينية فيها حيث كانت حوزتها تضم فطاحل العلماء والمحققين والمدرسين، لذا جاء بناء شخصيته العلمية بهذه القوة التي شهدت بها فترة مرجعيته.

وقد تنقل السيد الميرزا مهدي الشيرازي بين المدن المقدسة في العراق مشتغلاً فيها بالبحث والتدريس والتحقيق، فكانت وجهته الأولى سامراء حيث الآثار الخالدة للمجدد الشيرازي فيها ثم انتقل إلى مدينة الكاظمية والتي كان يومها من المراكز العلمية المرموقة واستقر فيها لسنتين، وكانت رحلته ما قبل الأخيرة إلى مدينة النجف الاشرف حيث أقام فيها ما يقرب من عشرين سنة نال فيها مرتبة الاجتهاد العالية وأصبح من الفقهاء البارزين ثم انتقل إلى مدينة كر بلاء إلى حين وفاته.

وقد تتلمذ السيد الميرزا مهدي الشيرازي على يد كبار عـــلماء عــــصره من أمثال المرجع السيد الميرزا علي آغا نجل المجدد الشيرازي والعالم المجاهد الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي والعلامة الكبير الآغا الهمداني صاحب (مصباح الفقيه) والمرجع الكبير السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي صاحب (العروة الوثقى) والأستاذ المحقق الشيخ محمد حسين النائيني وآية الله العظمى السيد الحاج آغا حسين ألقمي وحصل على إجازات في الرواية من أساتذته ومنها إجازة الرواية من المحدث الشهير الشيخ عباس القمي (صاحب مفاتيح الجنان).

ورجع الناس إليه في التقليد بعد وفاة السيد (آغا حسين القمي) وذاع اسمه وصيته في سماء المرجعية.

عنصر التجديد في مرجعية السيد الميرزا الشيرازي

عمل المرجع الكبير على إيجاد صيغ من النشاط الذي لم يكن معهوداً من قبل ومنها البرامج الاحتفالية في مدينة كر بلاء والتي أصبحت فيما بعد نموذجاً احتذت به مدن النجف الاشرف والكاظمية وسامراء كالاحتفال بمولد أمير المؤمنين ومهرجانات دينية أخرى وكانت مظاهر الحزن والحداد في محرم وصفر تعم كل مدينة كر بلاء، فترتدي المدينة حلة السواد وكذا الأمر في مناسبات وأيام مواليد الأئمة? تتزين المدينة بالكامل ويمكن اعتبار فترة مرجعية السيد الميرزا مهدي الشيرازي بأنها العصر الذهبي للتدين في العراق ومدينة كر بلاء بالخصوص.

وفيما يخص الدراسة الحوزوية فقد ابتكر ساحته أساليب جديرة في تدريس المناهج ووضع نظاماً خاصاً للامتحانات الدورية ووضع مكافآت وجوائز للمتفوقين فيها، حيث لم يكن هذا الأمر معمولاً به من قبل، وقد شجع ذلك الكثيرين على الانخراط في صفوف الحوزات الدينية وارتداء الشباب للباس الديني وتربية جيل علمي ديني متميز.

ولم تثنيه مشاريعه الكثيرة ومنها بناء العشرات من المساجد والزوايا الدينية وتعهد مهمة التبليغ عبر تلامذته وطلاب الحوزات الدينية في المدن المقدسة عن انكبابه على التأليف والتي طبع منها:

ذخيرة العباد ـ ذخيرة الصلحاء ـ الوجيزة ـ  تعليقة على العروة الوثقى ـ تعليقة على وسيلة السيد أبو الحسن الأصفهاني ـ بداية الأحكام..

و من المؤلفات المخطوطة:

شرح لم يتم على العروة الوثقى ـ رسالات في مباحث أصولية ـ رسالة في التجويد ـ رسالة حول فقه الرضا ـ  كشكول في مختلف العلوم ـ الدعوات المجربات ـ هدية المستعين في أقسام الصلوات المندوبة ـ رسالة في الجفر ـ أجوبة المسائل الاستدلالية..

وقد كان سماحته شاعراً مميزاً وأديبا بارعاً ومن قصيدة له في مدح سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء سلام الله عليها يقول فيها:  

فتلألأ الورى فيا بُشراها
بسنا ناره أضاء طواها
لمعات أهدى الأنام هداها

 

درة أشرقت بأبهى سناها
لمع الكون من سنا نور قدسٍ
يا لها لمعة أضاءت فأبدت

 

وكان من العلماء الزاهدين المرتاضين  وكان يرى أن العلم لا يحصل إلا بالزهد.

من مواقف السيد الميرزا مهدي الشيرازي

كانت فترة مرجعية الميرزا مهدي الشيرازي تمثل الجيل الثالث للنهضة الإسلامية الحديث بعد عهدي المجدد الشيرازي والشيخ محمد تقي الشيرازي، وكانت التحديات تترى على الأمة الإسلامية، فكان المد الشيوعي قد استفحل في العراق فما كان من سماحته إلا أن يقف وبكل عزمه لإيقاف هذه الموجات الإلحادية، مما أدى هذا الموقف بالتآزر مع مواقف مراجع المسلمين الآخرين، إلى فشل الهجمة الشيوعية في العراق وانحسار نفوذها.

وكان له مواقف أخرى للضغط على الحكومة الإيرانية وتغيير مسلكها اللااسلامي واستطاع أن ينفذ بعض المطالب بمساعدة علماء آخرين من إيران والعراق في خطوات أثرت على مجرى الأحداث في إيران حيث استجابت لمطالب وفد العلماء الذي يضم السيد الميرزا الشيرازي والسيد القمي وعلماء آخرين ثم عادوا إلى مقرهم في كر بلاء.

وقد اهتم سماحته كأسلافه من العلماء في استنهاض همم العشائر العراقية المسلمة وارشادهم إلى طريق الجهاد المقدس.

وله مواقف أخرى من قضية المسلمين الأكراد في شمال العراق وحرمة مقاتلتهم إلى غير ذلك من المواقف المشرفة والتي عرفت بها جمهرة العلماء المجاهدين الذين نذروا كل حياتهم لخدمة الإسلام والمسلمين.

رحم الله صاحب الذكرى، ورزقنا الله اتباع نهجه، نهج أهل بيت النبوة ومذهب الحق القويم...