المخلصون .. وتحديات الاغواء

من المحاضرات الأخلاقية لسماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي(دام ظله).

قال الله تعالى في محكم كتابه (فوعزتك لأغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين) هناك فرق بين المخلِص والمخلَص هو ان الاول يخلص لله وينذر أعماله كلها له تعالى لا لغيره بالانفراد او بالشركة، ويصور القرآن الكريم هذا المُخلِص بعدّة آيات منها (و ما أمروا الا ليعبدوا الله مخلِصين له الدين) بينما تأتي صيغة المفعولية من الله تعالى للمُخلَص وهو ما ختم تعالى عليه بالأخلاص والفرق واضح بين المخلِص والمخلَص، حتى أن قضية تربص الشيطان لبني آدم بعد طرده من الجنة كانت قد استثنت (المخلَصين) بنص الآية (فوعزتك لاغوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلَصين) فهؤلاء الذين استخلصهم الله تعالى خارجون عن قبضة الشيطان بينما تقع فئة (المخلِصين) ضمن عامة من يشملهم الأغواء الشيطاني لأن الاستثناء يشمل الفئة الاولى فقط وقسم الشيطان كان لمعرفته بسيطرته على بعض المخلِصين وامكانية حرفهم.

و يذكر القرآن الكريم المخلِص والمخلَص في عدة آيات فيما يرتبط بالأنسان ويبقى المقياس عند الله تعالى هو (المخلص) اما فيما يخص الاحكام التي تتعلق بالانسان فإن الأخلاص من الانسان الى ربه فقط (و ما أمروا الا ليعبدوا الله مخلِصين له الدين) وعمل الانسان لا يتعدى اكثر من هذا، ويمكن ان يصل الانسان الى الدرجة الثانية (المخلَص) بتعميق اخلاصه لله تعالى لينال تلك الدرجة الرفيعة.

الواقعيات

في الحياة أمور مادية وأمور واقعية، وكثير من الأمور المادية لا واقعية لها ولو اخذنا مثالاً على ذلك شخصان يجلسان الاول يتمتع بهدوء اعصابه وتمالكها بينما الثاني على العكس من ذلك من النوع الذي يثور ويرد الصاع صاعين ما الذي يحصل معه، سيبدأ وضعه الاجتماعي بالتخلخل ثم يجد نفسه وحيداً، هذه في الأمور المادية بدليل ان الــشخص الأول استـــطاع إمتلاك صحته ودينه وكرامته في المجتمع بينما فشل الآخر في ذلك وهذا يرجعنا بطبيعة الحال الى تربية الانسان لنفسه، وفي نفس سياق المثل الأول لو أعطينا لشخصين قرصين من الخبز الأول زاهد يكتفي بنصف قرص والثاني خلافه لا يكتفي حتى بضعف الكمية وهذا من الاشياء المادية أيضاً والتساؤل هنا هل هناك واقعية لهذه الامور المادية، هل القرص الواحد من الخبز يشبع الناس بالتساوي ام لا؟ مع انهم متساوون مادياً! الأمر يرجع الى التعود كما في الكثير من تصرفات الانسان فهل هناك واقعية لهذا التصرف؟ والجواب كلا لان هذا الشيء يخضع لـعوامل تربية الانسان ونشأته اما المعنويات الواقعيات لا يــختلف فـــيها الناس وهذا ما اشار اليه أمير المؤمنين(ع) في دليل قبح الجهل والذي مضمونه ان الجهل يتبرأ منك ودليل جمال العلم ان غير العالم يريد ان يُنسب الى العلم والذي لا يمتلك حظاً من العلم يريد أن يوصف بالعالم فالعلم له واقعية والعقل له واقعية وكذلك الاخلاص، وهكذا فالانسان يحب ان يمتدح بالاخلاص ويكره ان يوصف بعكسه وبنسبة واقعية ذلك تكون الآثار المترتبة عليها.

العاملون المخلَصون

و بعض العاملين في الغالب من المبتلين بهذه المسألة وهي ضعف الأخلاص فقد لا توجد درجة المخلَص وفي بعض الاحيان لا يوجد المخلِص كذلك وعلى المؤمن ان يفكر ويراجع ذاته هل هو يعمل لله؟ هل هدفه الاخير هو الله تعالى، روى صديق لأحد العلماء في احد المدن الاسلامية وكان لا يشارك كثيراً في البرامج الاجتماعية للناس في آلامهم وآمالهم وصادف ان توفى احد قصابي البلدة فحضر هذا العالم وصلى عليه ثم وقف عند قبره وقرأ القرآن ودعا له على غير عادته فسأله الحاضرون عن سبب ذلك وهل ان هذا القصاب قريب له فروى هذا العالم قصته مع هذا القصاب. فقال هذا القصاب ساعدني حيث لم يساعدني أحد وكان يقرضني دون أن يعرفني ويعلم بعدم إمكانيتي فلم يكن يأمل ان ارجع له ماله يقول العالم فكنت أتردد عليه لشراء اللحم فيعطيني دون ان يسألني عن النقود وتكرر الأمر عدة مرات، وقد اعجبت كثيراً لاخلاص هذا الرجل الذي يعطي دون مقابل وقد سألته يوماً هل ان احداً اوصاك بي؟ او انه يعرفني فاجاب بالنفي وقال لاني رأيتك صاحب عيال ورجل علم وتقوى فاحببت ان أخدمك ويقيني بأنك سترجع المال عند ما تملكه.

و هذه القصة تنفعنا في عدة موارد منها الأخلاص لمن يمد يد العون لنا فلهذه الواقعيات آثارها فيقول أمير المؤمنين(ع) في ذلك (ان لنا محبين لو قطعنا هم بالسيوف إرباً إرباً ما زادوا فينا الا حباً) فلماذا هذا الحب هل هو لشخص أمير المؤمنين(ع) ام أنه حب لله وفي الله ويقول (ان لنا اعداء لو العقناهم العسل المصفى ما زادوا فينا الا بغضاً) وهذا البغض مجبولة عليه نفوسهم.

و هناك قسم من المحبين المخلِصين، يعملون بأخلاص مع اهل الله وما يروى من قصص آدم(ع) كما في بعض الكتب أنه لما نزل الى الأرض أمر الله سبحانه وتعالى الحيوانات التي كانت موجودة آنذاك على الأرض لتحتفي بآدم وتحييه، لأنه وحيد على هذه الأرض فتوافدت عليه الحيوانات ومنها الغزال والذي أظهر عطفاً أكثر لآدم(ع) فمسح آدم على رؤوس الغزلان ففاحت منها روائح المسك، ولما التحقت هذه الغزلان بباقي القطعان التي لم تذهب لتحية آدم والتي شمت هذا العطر الفواح وسألت عن مصدره قلن ان الله خلق مخلوقاً جديداً وهو نبي واحتفلنا به فجازانا ومسح على رؤوسنا، وعندها ذهبت بقية الغزلان لآدم(ع) لتحيته ولكن بقصد الحصول على المسك الا انها لم تحصل عليه ومع غض النظر عن هذه القصة ومدى صحتها وقبولها او ردها الاّ إننا نستفيد من مفادها ان للاعمال واقعية من الخير والشر وكل مسألة واقعية يظهر الله تعالى لها آثاراً مادية لتكون دليلاً عليها، وقد لا تشاهد عيوننا هذه الآثار ولا نسمعها ولا نحس بها، ومن نفس المثال السابق لماذا لم تحصل بقية الغزلان على المسك؟ لان القطعان الأولى أتت لله بينما الثانية في سبيل الحصول على الماديات.

جزاء الاخلاص

و الامثلة كثيرة في هذا المجال، فيقال ان رجلاً أعرابياً نظم بيتاً من الشعر بحق أمير المؤمنين(ع) في حرمه الشريف ولم يكن في بيت الشعر هذا  وزن ولا جمالية ولا إبداع لفظي فيه وعندما قرأه موجهاً قلبه وروحه لصاحب الضريح(عليه السلام) سقط أحد القناديل الذهبية الذي كان معلقاً في سقف الحرم على الأرض، فقال الحاضرون إن هذا اكراماً من أمير المؤمنين(ع) لهذا الرجل لأن القنديل مثبت بحديد لا ينحل، واثارت هذه الحادثة أحد الشعراء المعروفين فألّف قصيدة عصماء جميلة بليغة وهو يقول اذا أعطي الأعرابي قنديل ذهب فماذا ستكون هديتي، أخبر أصدقاءه أنه سيذهب ويقرأ قصيدته في حرم أمير المؤمنين(ع) وعند وصوله شرع بقراءة القصيدة، وبدأ يردد أبياتها فلم يسقط أي شيء ولم يتحرك أي شيء وبعد ما اكمل قصيدته جاء عند الضريح المقدّس للأمام(ع) وأخذ يعاتب الإمام(ع) وكيف أن بيت الشعر الضعيف الهجين افضل من قصيدتي هذه ويقال ان هذا الرجل رأى في منامه أمير المؤمنين(ع) وبعد محاورة معه(ع) قال له: أنت قلت الشعر للقنديل ومدحته فخذ جائزتك منه بينما كان مدح الاعرابي لي لا لشيء آخر.

و هذا الابتلاء الشيطاني كثيراً ما يتعرض له العاملون وبالخصوص في مسألة الأخلاص لأن الكثير من الناس يضعون أمامهم أهدافاً مادية من وراء اعمالهم ومشاريعهم حتى طلبة العلوم الدينية معرضون لهذا الامتحان فربما يدرس احدهم لتُقبّل يديه ويحترم وتجبى له الأموال او يكون عالماً او خطيباً لينال الهيبة والوقار، وهذهِ المسألة فيها الكثير من الخطورة فبعد هذا التعب المرير والطويل يقال له انت لم تصنع كل هذا الا لأجل الرياء والسمعة، وهذه المرحلة من اصعب المراحل على الانسان ان يربي نفسه على الأخلاص يدرب نفسه عليه فاذا ما وصل الى هذه المرتبة السامية سوف يرشح الى الدور الأسمى الذي يختاره الله لهذا الانسان وهو دور المخلَص لذلك فنحن أمام طريق بعيد الى درجة المخلِص وهناك طريق أبعد الى درجة المخلَص ومن مخلَص الى مخلاص - أي مبالغة من اخلصه   طريق أبعد وليس القضية تؤخذ بظاهرها كما في مثال اعتناء العالم بقصاب من أجل بعض المال الذي أقرضه فقد يحدث هذا الأمر كثيراً معنا بل بالآثار الوضعية لهذه الأعمال، لذلك نرى ان درجــات الأخـــلاص لله لها آثار وضعية يلمسها الكثيرون ومـن منا لـم يـر أن هناك من يتعلمون لله الا انهم قلة نادرة ولا تقاس هذه الدرجة أي الاخلاص بالقياسات البشرية فربما نعد أحدهم من المخلصين لكن الله تعالى لا يعده منهم وهنا فما الفائدة المرجوة من دراسة عشرات السنين او اعمالنا او جهادنا اذا لم تكن خالصة لوجه الله، فإذا كانت لله تعالى ستظهر أثارها علينا خطوة خطوة في حياتنا وبعد وفاتنا وهناك الكثير من الأحاديث في هذا المجال.

و الأخلاص مرتبة صعبة كما اسلفنا لأننا نستطيع تكييف انفسنا بحيث يرانا الغير نبدو كالمخلصين خصوصاً وأن بعض أهل العلم والمعرفة لهم دراية كافية بالوصول الى هذا الهدف في حين أن غير العلماء لا يتسنى لهم ذلك أو أنهم لا يعرفون ذلك أصلاً بينما العلماء لهم طرقهم الكثيرة في الوصول الى هذه المعرفة لذا فان اخلاص العلماء العارفين يقابل بأجر مضاعف وكذلك زلة العالم عقابها مضاعف.

و بروز مشكلة الظهور بمظهر الأخلاص الكاذب يتحملها المحيطون بهذا المرائي بينما تظهر للمخلِصين آثار واقعية لا تظهر بسرعة على هذا المخلص ولا تظهر بعمق ووضوح وما أن تترسخ هذه الآثار حتى يبلغ المخلِص درجة المخلَص ثم الى المخلاص لذلك فأن الثغرات التي ينفذ منها الشيطان والتي أكد عليها هي جانب الأخلاص حيث يصفها القرآن بقوله (الا عبادك منهم المخلصين) فاولئك خرجوا عن ساحة شر الشيطان، لأن الله تعالى قد أمضى على إخلاصهم ورفعهم الى هذه الدرجة.

لذلك ينبغي أن يدعو المؤمن ربّه وأن يسأله التوفيق في أعماله، فتكون كلها لله مبلّغاً كان ام مدرساً ام مرجعاً أو صاحب مؤسسة أو أي عمل او دور من ادوار الحياة.

الطريق الى الاخلاص

للتشجيع والتشويق أثر في نفس الأنسان لبلوغه درجة الإخلاص فإذا ما وصل الى هذه الدرجة انتفت فائدة هذا التشجيع، لان المخلص لا تتأثر همته بالتشجيع أو التثبيط ومن هذه النقطة فرّق الشيطان بين درجتي الأخلاص فأعلن عن استعداده لأغواء الجميع بما فيهم المخلِصين وأستثنى الفئة الثانية الذين استخلصهم الله فلا يستطيع معاداتهم، لذا فان التشجيع والترغيب يؤثر بدرجات على تنمية روح الاخلاص لله تعالى وكذلك التثبيط، فلو الف احدنا كتاباً في سبيل الله او أعطينا درساً ما، وتعرضت هذه الأعمال للانتقاد، فغالباً ما يؤثر هذا الانتقاد على مسيرة هذه الأعمال وقد يوقفها لعدم وجود حالة الأخلاص التامة، وقد يحصل أن التشجيع أو رغبة الناس هي الحافز وراء الأعمال وكان منشأها ليس الأخلاص لذا فان حالة التثبيط او لرغبة الغير او التشجيع تتساوى في كونها الدافع وراء المضي في العمل، فكيف قاوم العلماء السابقون إغراءات الشيطان ومنعوه من الاقتراب؟ كانوا يدرسون لله ويعملون لله وتظهر عليهم الآثار الوضعية فقد ربّوا انفسهم وروضوها وسحقوا أنف الشيطان.

نحن نخاف الأفعى ونفر منها ونهرب من الظالم، وخوفنا هذا ناتج من معرفتنا للافعى والظالم بينما قد لا نعرف عن ماهية الشيطان ولا نخاف منه بمثل خوفنا من الاعداء الماديين، فلو قرأنا الحديث (ان في قلب ابن آدم لمّتان لمّة من الشياطين) الى آخر الحديث هل نتألم ونرتعب من هذا الأمر لن يحصل هذا الأثر لاننا لا نعرف الشيطان حق معرفته، أما الائمة(عليهم السلام) فأنهم يعرفونه حق المعرفة، وفي مضمون الحديث الشريف يقول(ص) ان الانسان إذا بلغ أربعين سنة ولم يكن عنده اخلاص مسح الشيطان على جبينه وقال بأبي وجه لن يفلح أبداً)

و لن يكون الأنسان مقطوعاً عن رحمة الله الا ان الأمر يكون صعباً والانسان في عمر الشباب يكون  أقدر على سحق الشيطان والتغلب عليه بينما تمثل فترة الاربعين بداية ضعف القوى الا عند النادر من الناس والشيطان يعرف هذا الشيء ويحسبه، لذا فمن الواجب على الانسان ان يزن نفسه ويجربها، لا يجعل حجته في الانشغال بالعمل والدراسة أو في شؤونه الخاصة، قبل ان يصعب عليه الأمر أكثر ويصل الى الغشاوة التي تحجب عنه نور اليقين الى اعماقه ويجب عليه ان يميز ما هو الشيطان وما هو الأخلاص ونحن اذ نستشعر وقع هذه الكلمات وكأنها حقائق وربما غيرنا أما مدى اهتمامنا بها كواقع فهو الأسا س الذي تبنى عليه هذه الحقائق.

و ما دام هذا الانسان فيه لمة الشيطان ولمة الملك فأنه لا يستطيع التركيز وقد جعل الله ذلك اساساً لمعادلة اعمال الأنسان، وطلاب العلوم والعاملون يتعرضون لعدم الإخلاص اكثر من غيرهم كما تظهر اثاره واضحة أحياناً عليهم وقد يستفيد غيرهم منها، وفترة الشباب هي المرحلة المثالية لتعديل سلوك الإنسان، لذلك يجب أن يربي طالب العلم وغيره نفسه على التعود على سحق جبين الشيطان ويبدأ بهذه الخطوات بالاتكال على الله ويسأله التوفيق في ذلك ويزن نفسه دائماً ليصل الى درجة الاخلاص ومن ثم الى درجة المخلصين،إنشاء الله تعالى وصلى الله على رسوله الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين .