مراكز الدراسات.. ترف فكري أم ضرورة عصرية ؟!

عبد الله موسى

[email protected]

من المسلمات التي أفرزتها التجارب العالمية، أن للمؤسسات البحثية دوراً ريادياً في قيادة العالم إلى ناصية التقدم والتطور، واعتبرت مراكز البحوث والدراسات، إطاراً لولادة المشاريع الإستراتيجية الفاعلة ، فقد شهدت الكثير من الدول في قارتي أوربا وأمريكا قفزات علمية، امتلكت من خلالها زمام المبادرة وبنت قواعد مستقبلية استناداً إلى نظريات أمسها وواقع يومها، وعملت على لملمة هذه القواعد النظرية والطموحات المستقبلية عبر تفعيل أنواع من الدراسات، أخذت مع التطور شكل مراكز متخصصة في السياسة والاقتصاد والعلوم الأخرى، وقد مرت هذه المراكز بفترات من الخمول والنشاط حسب الوضع العام لهذه الدول، وكانت لأوربا الخطوة الأولى في هذا المجال، ثم انتقل نشاط البحوث والدراسات إلى الولايات المتحدة ومن بعدها (الاتحاد السوفياتي) والذي فتح باب تصنيف العالم إلى المعسكرين، الرأسمالي والاشتراكي وأصبحت أولويات كل مــن المــعسكــريــن في مــجال البحوث الاستراتيجية تنصب في الجانب التنموي والعسكري وقد أخذ الأخير اهتماماً غير عادي من قبيل دعم الدولة لهذه المراكز بميزانيات ضخمة، وبدأت مراكز الدراسات الاستراتيجية (العسكرية) تنشئ غرفاً للعمليات العسكرية الخاصة لتنتقل بخبرائها ومتدربيها إلى أرض المعركة وتكسبهم المهارات العملية للحرب مروراً باحتمالات الحروب الراهنة لفترة البحث ومن ثم انتهاء بالخطط المستقبلية المشبعة بالدراسة التحليلية القادرة على اعتبارها خططاً جاهزة تحت الطلب متى شاءت، وربما يرجع العامل الرئيسي وراء الاهتمام بالدراسات العسكرية هو حالة التنافس التي أخذت مساحة تاريخية طويلة لتسكن بانهيار الكتلة السوفياتية..

وقد حتّمت وتيرة النمو المتسارع في أنشطة المؤسسات الأخرى في الغرب وتزاحم أولوياتها إلى ظهور نوع من الحاجة لبرمجة هذه الأنشطة وصبها في خدمة الأهداف المرسومة لسياسة الدول الغربية، وكما يقولون فإن الحاجة أم الاختراع، فأخذت الجامعات الغربية تمد أصحاب القرار بمئات الدراسات والبحوث في مختلف الاختصاصات العلمية والسياسية والإدارية.

توسع نطاق البحوث

سبق وأشرنا إلى أن المؤثر الفاعل الأول في عملية النهضة على المستوى العالمي هي مراكز البحوث والدراسات والتي تطفّلت على أدق التفاصيل في أوراقها لبعض الموضوعات التي لم يكن النظر إليها ذو أهمية بحثية لانتفاء حاجة المجتمع البشري لمثل هذه الدراسات آنذاك.

وقد جاء التوسع على نمطين أفقي وعمودي، فعلى مستوى التوسع العمودي دخلت بحوث هذه المراكز مرحلة من التقدم الذي شاركت في صنع لبناته الأولى فأصبحت بعض الدراسات أسس لنظريات في الاقتصاد والمجتمع والسياسة وغيرها من المجالات الحيوية، وحصلت على نوع من تراكم الخبرات بحيث استحدثت على إثر ذلك حقول هامة تطلبتها مراحل تطورها وازدياد الحاجة لملئ بعض الفراغات الحيوية.

أما التوسع الأفقي فجاءت آثاره بعد الانتشار الحضاري العالمي ومنه التقدم التكنولوجي وتطوير الوسائل البحثية والتعليم وذلك في العقود الأولى من القرن العشرين الميلادي ولم يتعد هذا التوسع بادئ الأمر سوى الدول القريبة من أوربا والولايات المتحدة لعدة أسباب ومنها عدم مواءمة بعض تطبيقات هذه البحوث والدراسات على بعض المجتمعات.

المسلمون ومراكز الدراسات

تخلفت الدول الإسلامية في الكثير من المجالات العلمية الحديثة ولا تزال بعض هذه الدول تعيش الأمية والجهل المطبق في الوقت الذي وصل فيه العالم إلى التعليم المشاعي ومحاولة إرغام الآخرين على تقبل الثقافة الواحدة، ولسنا هنا بصدد الحديث عن أسباب ذلك لتشعب هذا الموضوع وإنما نكتفي بذكر العلاقة السلبية التي تربط المسلمين بمراكز الدراسات حديثها وقديمها.

ولا يخفى أن بعض الدول الإسلامية حاولت تقمص بعض النماذج الوافدة إليها مع شيء من التعديل لأن المجتمع الإسلامي لم يكن يتقبل غير المنهج الذي جاء به الدين الحنيف، وقد حدث هذا في مصر أولاً وشمال أفريقيا بالدرجة الثانية، وكانت مناهج التعليم هي أولى النقاط مثاراً للنقاش والخلاف في مجتمع محافظ كالمجتمع المصري.

والتركيز على قطاع التعليم كمفصل أساسي للبحوث والدراسات الإسلامية والتي ترد عادة بالترادف (العربية الإسلامية) على اعتبار أن الدول العربية هي مركز العالم الإسلامي ومصر بالذات لنفوذها الواسع في الدول العربية الأخرى والتراث الحضاري الإسلامي الذي تمتلكه والتصادم الثقافي المباشر مع الغربيين إبان غزو نابليون، ومن هذا جاءت أهميتها، فتأسست عدة مراكز بدائية بعضها مدعوم من قبل السلطات الرسمية والوزارات، والأخرى أخذت شكلاً مستقلاً في بحوثها الاجتماعية والسكانية. ومع هذا ظلت هذه البحوث والدراسات خاضعة لاعتبارات سياسية ظرفية مما اضطر بعضها إلى العمل بنوع من السرية، ولا شك فإن عملية تسييس هذه المراكز التي يفترض أن تتمتع بالإستقلالية التي يتطلبها أي بحث علمي وضعها في بعض الأحيان موضع الإتهام، وعلى سبيل المثال كانت أغلب المؤسسات البحثية التابعة للجامعة العربية مرتبطة بشكل أو بآخر ببعض الدائر الخارجية التي كانت تمتلك القرار السياسي، ولها الحق في مصادرة أي دراسة لا تتماشى وسياساتها الخاصة. وبالتالي بروز نوع من الدراسات المدجّنة والتي تنصب أهدافها في خدمة تيار التبعية، هذا فيما يخص الدراسات السياسية والاقتصادية، أما الدراسات والبحوث العلمية فرغم عدم تماسها المباشرة بالقرار السياسي إلا أنها عاشت نكسة حقيقية في بعض البلدان الإسلامية فتعرض العلماء والخبراء إلى نوع من الإهانة المعنوية، فعندما يستقدم أحد خبراء البلد وبعد الوعود باستثمار تجربته العلمية، يصل إلى بلده منتشياً وهو يحمل الشهادات التي تدل على كفاءته وتفوقه والذي أبى إلا أن يسخره في خدمه هذا البلد، وفي غضون أيام يجد نفسه أميناً لأحد مخازن الجمارك أو مدرساً فــي أحد المناطـــق النائية، لذا فــإنه يقف أمام خيارين الأول العودة من حيث أتى وهذا ما يكلفه كثيراً أو أن ينسى أنه من العلماء ويختار ميتته المفضلة بهدوء.

مقومات إنشاء مراكز البحوث

إن الرؤية المشوشة التي خلقتها عملية التقليد الأعمى لكل ما يصدر عن الغرب والتعامل مع نتاجاته كنصوص مقدسة جعل من بعض مراكز البحوث والدراسات تكرر نفسها مرتين، الأولى بنقل التجربة الغربية وترجمتها الحرفية لنصوصها ومحاولة تعشيقها مع التركيبة الفكرية والاجتماعية للمجتمع المسلم،والثانية بمحاولة تعميم هذه التجربة في كل البلدان الإسلامية دون الأخذ بنظر الاعتبار الظروف المحيطية والتي هي أحد العوامل الهامة في عملية النمو الطبيعي لأي دراسة علمية ووضعها في جوها الملائم، وقد اتضحت فداحة هذه الأخطاء عندما وجدت بعض هذه المراكز نفسها تفتقر إلى أدنى مصداقية في التطبيق العملي والتعامل مع مادتها الرئيسة وهو الإنسان، واللافت للنظر أن هذه الحالة السلبية لا تزال معمولاً بها في اكثر البلدان الإسلامية الأمر الذي جعل من هذه المراكز ديكورات واستعراضات لا تسترعي انتباه أكثرية الأمة، بل خلقت لها جواً خاصاً يعبر عن آرائها وفذلكاتها في مؤتمرات وندوات لا تعدو كونها منتدى ثقافي خاص بطبقة النخبة، بينما كان العكس من ذلك عندما أسس الأوربيون مراكزهم التي ارتبطت مباشرة بالجامعات التي تمثل اكبر شريحة واعية في المجتمع ومن ثم ربط بحوثها بالتطبيق العملي عبر المشاريع التي تنفذها الجامعات من خلال مخابرها أو وضعها ضمن برامج التخطيط الجامعية المتواصلة.

لذلك فإن معرفة مقومات إنشاء مراكز البحوث والدراسات هي عملية فنية معقدة تتطلب تكاتف الدراسة النظرية مع التطبيق العملي وعرض النتائج على الواقع وبيان مدى فائدة البحث وكيفية تطويره ليكون في خدمة الإنسان.

وتبدأ هذه العملية من اختيار موقع المركز إلى عملية ربط بحوثه النظرية بالواقع العملي، حيث يؤخذ في نظر الاعتبار مكان إقامة المركز بحسب توفر عناصر قيام المشروع المتفق عليها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وتهيئة الظروف الملائمة لإدامة العمل في مشروع المركز طبقاً لعملية التخطيط هذه كالاعتماد على الكوادر الكفوءة والاستشاريين وأهل الخبرة وإخضاع خطة المشروع إلى عملية برمجة متقنة خصوصاً في المشاريع العلمية الحساسة وتوفير نظام أمن تقني يجنب المحيطين بالمشروع آثار الأخطاء المحتملة الوقوع أثناء التجارب العلمية، وكذلك يجري الأمر على البحوث والدراسات الإنسانية بكافة تفرعاتها والتي يجب ضمان حرية البحث فيها دون ربطها بالأجهزة السياسية بما يفسد عليها صفة البحث العلمي المحايد إلا فيما يخص تنسيق العمل والدعم الذي يمكن أن تقدمه الدولة لتطوير هذه المراكز وتسهيل اجراءات الربط بينها وبين الجامعات والمعاهد العلمية وترتيب علاقاتها الخارجية.

ومن المقومات الأساسية لضمان استمرار مشاريع مراكز البحوث والدراسات هي عملية التقويم والمراجعة شبه الدورية لها وفرز البحوث التي يمكن أن نطلق عليها تسمية البحث الناجحة والمميزة وتفعيل أمر ربطها بالمؤسسات ذات العلاقة في زمن مناسب، وقد عانت مراكز البحوث والدراسات في البلدان الإسلامية من افتقارها للتوقيت المــناسب لإصــداراتها حتى في الـــمجالات الثقافية والفكرية ولسنا ببعيدين عن مرحلة بحوث الحداثة والعصرنة التي قضت عدة سنوات في أروقة المحافل الثقافية العالمية ومن ثم وصولها إلى البلدان الإسلامية لتبدأ المناقشات والمناظرات تشرّح جسماً عفا عليه الزمن وتستنفذ الساعات والأيام في محاولة لتسليط الأضواء عليه واستنباط الرأي المقابل وتتفنن الصفحات الثقافية للصحف والمجلات بابتكار العناوين المترادفة والمزدوجة، في الوقت الذي تجتاح العالم موجة فكرية أخرى تناست أو ألغت الصراعات السابقة، فيجد المسلم نفسه في دائرة مفرغة لم تحدد فيها المواقف أو النقاط التي تجعله مواكباً على الأقل عن طريق النقل بتوقيت متوازن مع الحدث العالمي، لذلك فن عملية ربط البحوث والدراسات بخطة زمنية محددة، من العوامل الهامة التي تجعل من هذه البحوث والدراسات أكثر حيوية وتضمن اشتراكها بفعاليات تطور المجتمع.

حاجة أم ضرورة

ذكرنا أن الحاجة كانت وراء تأسيس مراكز البحث في الغرب وبعدها أخذت أبعاداً أخرى جعلت منها ضرورة نتيجة للتطور العلمي الهائل الذي حصل خلال القرنين الماضيين، فماذا يمثل البحث بالنسبة للمسلمين وفقاً لهذين التصنيفين.

إننا لا نستطيع أن ننكر تصاعد وتيرة التقدم في البلدان الإسلامية بنسب متفاوتة من كل النواحي وإن كانت ليست بالمستوى المطلوب قياساً لما وصلت إليه بعض المجتمعات الدولية، بيد أن أحداً لا يستطيع المراهنة على إمكانية ثبات هذه النهضة واستمرارها نتيجة للتخبط الذي يسود عملية النمو الذي تعيشه البلدان الإسلامية وعدم خضوعها إلى أشكال ثوابت كالتي ذكرناها بالنسبة للنهضة الأوربية مثلاً، يضاف إلى ذلك حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصاد والتي عصفت بالكثير من هذه الدول وحولتها نتيجة أخطاء حكامها من دول غنية إلى دول تحت مستوى الفقر وهنا لا بد أن نشير إلى أن مثل هذه الأخطاء كانت سبباً في نهــوض بعض الدول وتحولهــا إلى دول تــستـنــد إلــى منطق العقل على كافة الصعد والمستويات، وهذا ما حصل لليابان وألمانيا وغيرها من الدول التي خرجت من كوارث الحروب المدمرة.

وتأسيساً على ما سبق، فإن وجود مراكز البحوث والدراسات بالمواصفات العلمية يعتبر حاجة ماسة لانتشال هذه المجتمعات من الجهل والتخلف، وهو ضرورة لأن الهوة تتزايد بين هذه الدول المصنفة تحت (مجموعة الدول النامية) ومنها الدول الإسلامية وبين الدول المتقدمة في كل المجالات، وإن فعل مراكز البحث ضمن الظروف الحالية لهذه الدول بإمكانه وضع المجتمعات الإسلامية على أول الطريق لقيام النهضة الشاملة، وهذا لا يعفينا من توجيه النقد لبعض هذه المراكز القائمة حالياً في بعض الدول الإسلامية والتي تعبر عن حالة ترف فكري، عبر طرح المشاريع الـــوهميـــة والتي لا تســتند إلى أي أســـاس عملي، واختيارها غير الموفق هذا أوقع الكثير مــن السياسات في وهـــم لا يزال يـــسكر الــكثيرين ويقيدهم بحيث لا يستطيعون الإفلات من كوابيسه، والتنصل عن مبادئه التي أصبحت لهم بمثابة الدساتير المقدسة.

إعادة البناء

تعتمد عملية تسريع البناء المجتمعي والارتقاء به إلى المستويات الحضارية على نوعين من المعالجة، في كل المجتمعات البشرية منذ القدم، الأولى عملية هدم الأسس البالية والغريبة عن التركيبة الحضارية لهذا المجتمع والذي تأتيه من عدة طرق كالموروث الحضاري السلبي أو تبني مناهج غير صالحة لنمو المجتمع وتطوره وما ينتج عن ذلك من استهلاك لقواه الفاعلة وهدر لطاقاته، ولا شك فإن هذه العملية بحاجة إلى المختصين القادرين على اتخاذ الوسائل الناجعة، حيث أن عملية الهدم هذه لا تعني التخريب وإنما هي عبارة عن تشذيب يستند إلى قواعد يحددها الخبراء فالقواعد الأخلاقية والأسس الشرعية هي حقل خاص بالعلماء والمراجع القادرين على استنباط الأحكام إضافة إلى المختصين بالعلوم الأخرى كعلم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة في عمل جماعي يضمن إعادة بناء المنظومة الفكرية للمجتمع ومن ثم البدء بخطوات هذا البناء مع الأخذ بعين الاعتبار الطبيعة الجغرافية والسكانية والتركيبة الأثنية لبعض المجتمعات الإسلامية، ويظل هذا البرنامج خاضعاً للتعديل تبعاً للمتغيرات التي غالباً ما تحصل مع التطور والتي يحددها الخبراء المختصون في مراكز البحوث،كما أن عملية التخصص تعد أهم مقوم في إنجاح هذه المشاريع، والجدير بالملاحظة هنا أن عملية البناء التنموي تختلف من حيث السرعة في الإنجاز والتطبيق حسب التركيبة الفكرية والثقافية لكل مجتمع.

وفي مجتمع كالمجتمع الإسلامي الذي يحتوي على الكثير من التلونات العرقية والقومية والتأثيرات الخارجية يجب البحث عن حلول جذرية لتشييد قاعدة رصينة تقوم عليها عملية البحث الهادف إلى تطور المجتمع الإسلامي وإجراء تقييم لكل المراحل التي مرت بها الأمة، وقد داب علماؤنا المعاصرون على التركيز على هذه النقطة الهامة ومنهم سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (دام ظله) فقد خصص مئات المؤلفات التي تحدثت عن عملية النهــضة المــبرمجــة منها كتاب (السبيل إلى إنهاض المسلمين) الذي يعتبر دراسة معمقة في تنظيم العملية التنموية في المجتمع الإسلامي إضافة إلى العناوين الأخرى التي وضعت شروط النهضة وشروط الانتصار في المرتبة الأولى لخطة إنقاذ المسلمين وإعادتهم إلى المسار الذي رسمته شريعة الإسلام الحنيف...