شروط النهضة   مدخل إلى الأبعاد

عبد الرزاق الجبران

استيقظت أجيال القرن الثالث عشر الميلادي و هي تجد آباءها على ملّةٍ من الجهل طالت حتى ابسط معارف البشرية، و هم مؤسسو قيمها الصحيحة و الصاعدون بها إلى مجد معرفي اعتزت به الأجيال اللاحقة فكيف بالمعاصرة الماضي الرسالي ليس له وجود في وعيهم. ممن ينحدرون في تكوينهم العقيدي.. »مسلمون و فقط« في اسمهم.. و إلا فمسلم الاسم و المعنى.. نابض بالحياة.. ليس للجهل شيءٌ فيه.

و في نفس الحين كان الغرب توّاً قد استيقظ من سبات القرون الوسطى التي دامت في ظلامها عشرة قرون بدأتها بالخامس الميلادي حتى ثمار الإرهاصات الأولى عند الخامس عشر الميلادي. حينما انفك العقل من رِبِق الكنيسة ليطلب الحقيقة، فانطلقت الصدامات في الأفق الأوروبي علمية، اجتماعية، أساسياته المثقف و الثائر.. احتضن تلك الأبعاد ليذهب بالواقع إلى حال جديد.. الواقع النظري أو العملي. مع إن هذا الاحتضان بأقصى طاقته لم يستطع أن يصل بالإنسان إلى حقيقته.. لانه كان بعيداً عن مصدر الحقيقة في السماء.. و إذا التمس سماءاً.. فإنما هو إطار آخر من سماء الكنيسة الضالة.

فانطلاقاً من النهوض عن فراش تلك الظلمة و ركودها.. كانت التسمية. لكن هذه التي تسمى نهضة جلبت معها خطوة. أسس لها إن تكون خطوة إنسانية حينما علتها رتوش المفاهيم و الألفاظ.. و الأساليب الأخرى.. هذه الخطوة هي الاستعمار بشكله الأول الذي أخذ نمط الغزو بعد سنحة زمنية قليلة من الاكتشافات الجغرافية، التي مهدت لذلك. كان مفهوم الاستعمار (بسين طلبه) هو طلب الاعمار، و إن الغربي هو الرجل الأشقر الذي له المركزية في توجيه العالم.. و إن البشر خلقوا إما سادة أو عبيداً..

و انهم الأوصياء على البشرية باعتبار البشرية الصفراء.. و السمراء و السوداء، لا تستطيع أن تقود نفسها. بينما الوصايا التي أرادوها على القاصرين.. كانت يوماً ما ثوبًا تلقائياً للشرق في خطه الحضاري. الصيني، الهندي، الفارسي، البابلي، المصري.

لهذه المقدمة دخل محالة زادت الطين بله، و ذلك في إن الأيام الأخيرة للدولة العثمانية التي ساهمت بدورها في ترسيخ الجهل الإسلامي، مع ما هي عليه من عنوا ن عام في امتدا ديتها للخلافة الإسلامية.

في هذه الحقبة دخلت الأُمّة مأزقا آخر.. و هو تفرغ الأوروبي للإبقاء على جهل الأمة، و السيطرة على حركتها، و بذل فنونها الخبيثة في الاستثمار السلبي لنهضتها لتوسيع رقعة الجهل، أو إيقاف صياح ديك اليقضة و إخراسه. فيقضة الشرق تعني نوم مصالحهم و موتها.

بعد ذلك و في الأثناء ظهر من الأُمة، من يعي الأُمة و حقيقتها، واجبها و كنه قدرتها، فبدأ التاريخ يكتب بأقلام جديدة رسمت لانفسها قواعداً و شروطاً خاصة للنهوض بالأمة الإسلامية من جديد، هذه الشروط أو الرؤى في النهوض تتفاوت بعض الشيء و تتباين أحيانا، و قد تلتقي تماماً أحيانا أخرى فبدأت القافلة الإصلاحية مسيرتها، و بدأت الأجيال تفتح درباً للتكامل في الشروط.. و مع ذلك بقيت المشكلة السباتية على ما هي، لاسباب عدّة، من أبرزها هو تغيير شكل الأزمة و أسلوب الأعداء في تثبيتها، و ذلك للتغيير الذي يطرأ على الواقع، و يتبعه تغيُّر المواجهة المنبثقة عدَّتُها عن مقاييس الواقع أي إن المرحلة التي عالجها الرائد الفلاني، اختلف واقعها، فاختلفت إشكاليتها، لذلك لابد من رؤية جديدة أخرى تتسق مع الهدف والغاية التي تملكها الرسالة فلقد بزغ نجم جمال الدين الأفغاني في إطار إصلاحي معين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر اتسم بأبرز بعدين في مواجهة داخلية و خارجية، داخلية مع الاستبداد، و خارجية مع الاستعباد بينما تلميذه محمد عبده، أعطى أولوية للجانب التربوي على المواجهة. فرأى إن تربية المجتمع و تأهيله، هو الأهم، و لابد إن تصب الجهـــود فيه و اســتمراراًٍ مع الخط، فتلميذ محمد عبده (محمد رشيد رضا) أيضا، اختلف مع أستاذه في وجهة الإصلاح، و تلميذ رشيد رضا (حسن البنا) أنطلق في أبعاد أكثر، مع الإنماء للأولى.. بالإضافة إلى التفاوتات في هذا و ذاك، و كذلك الطهطاوي كان يختص بغير ما عند أستاذه العطّار. فالحقبة المتقاربة، الممتدة جغرافياً من محمد إقبال، و أبو الأعلى المودودي فالكواكبي، و الافغاني، و تلامذته.. حتى عبد الحميد بن باديس، و منذ ذلك الزمان، مع عدم إخفاء أسماء لامعة أيضا في ذلك الافق شكّلت رؤىً أعانت المسيرة إلى يومنا هذا، والذي بلورت المدرسة الشيعية أكثر من غيرها ذلك، خاصة مع صعودها إلى مراكز القمة في الصراع، و تشكيل الحركات التي تنادي بالحاكمية الإسلامية و التي أن وجدناها في أدبيات المدارس الأخرى، فإنما هي من تأثُّر مصلحي هذه المدرسة بأحقية هذا المفهوم (الحاكمية) حينما برز الخط الشيعي أمام أعينهم في التاريخ البعيد.. و القريب.

مع كل ذلك فالعالم الإسلامي، لم يزل في قصوره أمام إماتته، مع أن القرن العشرين كان حافلا بزيادة كمية المفكرين و المثقفين الذين صبّوا جُلَّ جهودهم بل معظمها في تقعيد شروط، و محاولة استلهام ذلك، من الموروث الإسلامي. أي بالذات التأسيسات الإلهية، و التي هي إن عرضت شروطها الحقيقية، استطاعت الأمة الخروج من أزمتها و النهوض برسالتها، مع قيد اختيار الإنسان لذلك، و هذا الاختيار أيضا له مقدمات تؤديها الرسالة في عملية صيانة الإنسان من جديد.

ما هو المنهج في تحديد تلك الرؤى، هل هو فهم النص الإسلامي و الاكتفاء به و أي فهم منه؟ الحرفي، أم المقصدي الغائي الذي يتناول روح الحرف و معناه، أم مادّة الحرف، و ضمنيته، الملصوقة في حس و واقع واحد (ضمن التركيب الوضعي للالفاض )ام مشكلة التحديد تكمن في قضية فهم الواقع قبل كل شيء، و عملية ارتباط النص بالواقع، ام التاريخ هو صاحب الدور في تحديد منهج النهضة.. ام التوأم و التلاقح.. في استخدام كل معرفة لها مدخل و لو ببعد خفيف. هل القضية تقتصر على النظرية ام الإشكالية في نقد الفعل و تقييمه أي هل أن النص مفروغ من قرب فهمه و تماميته، و لو وصلنا إلى كمالات الشروط النهضوية، التي لا شك في وجودها في الموروث المعصوم (الكتاب و السنة) ام الإشكالية في عدم إرادة الإنسان للنهضة و إشكاليتها باعتبارها (المقتضي الفلسفي)(1) ام المشكلة في (وجود المانع و هو الاستعمار) ام المشكلة في عدم الشرط و هو الوعي ام في تفاوت وجودية تلك الأبعاد.

الموضوع يمثّل واجباً علمياً كفائياً في النظر إليه ليتفقهوا في حقائقه كي يرجعوا إلى قومهم، خاصة أن الشروط (للنهضة) متغيّرة، بتغيير الزمان، فلا يكفي تحديد زمني معين.. لتعيُّن  واقع آخر، و أن ارسوا الثوابت، فما هي ثوابت الشروط و ما هو المتغير فيها، فهنا تأتي جدلية الثابت و المتغير، خاصة في مدخليته الفقهية في تغيير الأحكام، لذلك كان فضاءه بين الفقهاء في قمته هذه الكفائية في الواجب. او الواجبية قبل ذلك تنطلق من كون الموضوع ينشد تحقيق غاية الرسالة او الإرسال بالأحرى..

هل اتسق المصلحون على منهج واحد في النهوض بالأمة، هل الخروج بالأمة من أزمتها هو آية التغير الجذري (لا يغير الله ما بقوم..) ام ان البيئة هي التي تفرض التغيير، ام التحديات الخارجية و الابتلاءات الخارجية.. ام هل التغييرمنحدر ينفتح بتغيير السلطة ام بتغيير واقع الناس، هل برفع الاستعمار ام برفع القابلية للاستعمار(2)؟.

الأمر للقيادة في أولويته للنهوض ام للقاعدة (للراعي ام للرعية)؟ ثبوت القيادة التحجري ام المنفتح على مستحدثات الواقع؟ للرعية في الانطباع النفسي للمجتمع بخرافات الأجيال الجاهلة، و النزعة الاستصحابية لكل غبار السنين و محل أخطاء التوجيه، لحقب متوالية.. راكمت الغبش بعضه فوق بعض المرجعية و دورها في الصعود و الانحطاط.. المرجعية المتحركة ام الخامدة .

النهضة ليست بيسيرة، لابد ان تؤسس لها قواعد في هرم تقعيدي يمتلك ذروته المقصد الديني الأعلى ثم تنحدر قواعد التحرك لتكون الاستفادات العلمية في منهج فلسفة حركة التاريخ و الحضارة و النهوض، كما قد تختصر في نظرية التحدي والاستجابة(3) لان التاريخ يعيش قافية هذه القصيدة على شكل سنَّة لا تتخلف و لا تختلف و ان الحضارات بناؤها و انهيارها يركن إلى ظروف التحدي و قَدَرَ الاستجابة و نوعها لتطول النظرية في أبعاد تحليلية تعتمد التاريخ أساسا للتحليل.

معرفية الصعود و السقوط تاريخياً

المطالعات التي امتدت أخيراً إلى أفق السنن و سلطتها في حركة المجتمع هذه راكمت قناعات موضوعية عن شتى المعارف التي أكدت على هذه السلطة السننية و ان المجتمع أوله كآخره طالما الإنسان هو الإنسان أداته الحجر ام الكمبيوتر. لذلك منذ خروج هذه الإثارات  اصبح للتاريخ مركز مهم بين العلوم لا كما كان ساردا لأخبار الماضي يسلك في حفظه مسلك المعتز بما خطي من أجداده للترنم به و فقط. لا عبرة و لا إعتبار حتى ان الفترات الأخيرة شهدت من شَهِدَ بان التاريخ يمثل المصدر الثاني للمعرفة البشرية بعد القرآن.. و ا الواقع التاريخي يتحدث بلسان الحدث الصارم في حتميته إذا ما توفرت شروطه مرة ثانية، و النهوض و الانهيار و الانجبار و الانكسار، أشكال للحركة الإنسانية تكررت على أرضه منذ ان عرف الحركة و الاجتماع، فالإرادة الإنسانية كانت الركن الأول في تشكيل تلك الصور الإنسانية، و قدرة التحدي لمعركة الإنسان مع أخيه الإنسان و مع الطبيعة و مع الخالق، و قدرة الاستجابة العقلية و حركة الوعي داخل ذهنه للواقع و مقدار ارتباطه و فهمه للواقع، و كذا طلبه الحقيقة، و كدحه في إيجادها.

علاقة النهضة بالتاريخ علاقة خبرة منطلقة من كمالية و يقينية التجربة و تأكدها الأسمى في عالم الواقع فالتجارب علم مستحدث كما هو كلام الإمام الأمير عليه السلام، فهنالك كثيرٌ من ملامح النهوض و البناء و الإنماء لمجتمع الإنسان. بل لا يمكن إيجاد الملامح تــلك إلا فــي فضاء التـــاريخ و ما وجد في فضاء الحكماء إلا و يعود في وجوده من استلهام التاريخ، لذلك لابد ان يطرق التاريخ من كل أبوابه في منهجية البحث عن شروط النهضة.

هل انتهى التاريخ و عاش حتمية قدر الراسمالية و الصيغة الأمريكية الجديدة و وقف الى هذه المرحلة و لن نستطيع نحن ان نجد أنفسنا فيما رفعته رسالتنا و ان رسالتنا لن تعود إلى واقعها الحقيقي الذي يتأطره السمو و التسامي، ما هو حال الصحوة الإسلامية التي لاحت في الأفق لقافلة القرن العشرين، و هي تعيش إرهاصات مرحلة قادمة لا نعرف قدرها طالما الإنسان صانع لقدره، أي مرحلة ما بعد الألفين. ام سيصل إلى مرحلة الصدام و الصراع في نفس الخط الذي تسير عليه البشرية أنها في صراع تام بل هي داخل معمعة الصراع الذي يشكل الاس الأول في فلسفة الحق و الباطل، و الخير و الشر، لكن هذا الصدام الأخير سيصل إلى ذروته.

فكيف تتعامل الأُمة مع هكذا قنوات ثقافية تبلور رؤى و تستحدث اشكالات التعثر في سمت الصحوة الإسلامية، و هي لا تخطو خطوة عن أُخرى حتى تجد أنّ السابقة غير اللاحقة فتحتاج إلى فكر آخر. و هنا تدخل قضية الشكل الحركي للصحوة.

و هو أهم شكل تطلبه لوحة النهضة بل يُمكن ان يُتم اللوحة كما يراه كثير من روادها، لذلك لابد من طرق هذه الأبعاد النهضوية و معرفة الواقع و بالتالي نظام الأولويات، فيرى ما هي الأبعاد الأولى في التحرك لبزوغ النهضة و بالتأكيد للمرحلة الزمنية دورها في تحديد الأولويات للأبعاد.. لان المشكلة تكمن في الواقع و الواقع يعيش حركة الزمن. و كذلك يعمد إلى التاريخ للوقوف على مشارف لحظاته التي استبطنت أحداثا جساماُ و بالتالي عبرةً و حكمةً. و الحكمة لا تثبت إلا عن معرفة فهو بالآخرة ذو معرفة كبيرة بالذات في العلوم الإنسانية و ما يتعلق بها و هذه الذاتية.. ذات خصوصية محورية في إشكاليات صعود الإنسان و هبوطه، و تكامله و انهياره. فلابد من معرفة الحضارات التي ارتقت ممن كان رقيها و التي دامت طويلاً.. بايٍّ كان دوامها، و التحديات التي رافقت الحضارات كيف استجيب لها.. و من استطاع ان يستمر أمامها و من لم يستطع و سبب عدم استطاعته ،دور الدين في ذلك.. دور الفن.. دور العلم و الثقافة. دور الروح، و دور المادة و الجدلية بينهما، دور السيف، المجتمع ام الفرد. الاولى بالاهتمام في ثماره..، الحرية و قدرها، ما يحتاجه الفرد منها و ما يحتاجه المجتمع، و متى تملّك الحرية، قبل التأهيل أم بعده إذن هناك قنوات كثيرة لابد ان تعالج في عملية الصعود الحضاري، لذلك العمل ليس و مثقفوا الأُمة اطرقوا أكثر هذه القنوات لكن يا ترى هل أعطوها حقها و هل رافقوا تغيراتها. لا أظن، فنحن نرى خلافاً داخل نفس المؤسسة الإسلامية على مفهوم واحد يجرُّهم الى مشكلات ليست بالهينة. و كل ذلك ناتج عن مشكلة فهم الواقع لا مشكلة الأيديولوجية. و مشكلة فهم ملامح النهوض و السقوط بين المجتمع و الإصغاء إلى التاريخ.

المصادر

1 ـ كما هو معلوم في الفلسفة إن العلة تتحقق بـ(المقتضي، وعدم المانع، و الشرط) و هنا نستطيع أن نسحب مفهومية العلمية التي تعيشها الحركة الحياتية على موضوع شروط النهضة لأننا نريد أن نجد العلة التي تحقق نهضة ما ثلة أمام الأجيال.

2 ـ المفهوم قرّره مالك بن نبي في مصطلح (معامل الاستعمار)

3 ـ لأر نولد تيونبي المؤرخ الإنكليزي.