المفاوضون الناجحون.. من التصعيد إلى التعاون

فاضل الصفار

كثيراً ما تضعنا الحياة سواء في الإدارة أو في البيت أو في مجال العمل في مواقف نحتاج فيها إلى التفاوض والحوار..

ولا عجب أن نكرّس لهذا الأمر شيئاً من وقتنا واهتمامنا لأن تجنبه أو الغفلة عنه سيكلفنا المزيد في سبيل الوقوف أمام أضراره.

لا شك أن كل واحد منّا يملك العديد من التجارب فضلاً عن مهارته في التفكير والمشورة للوصول إلى الحلول المناسبة في أوقات الأزمات إلا أننا نبقى مهما بلغنا من التجربة والتفكير بحاجة إلى بعض الطرق الأخرى التي قد تكون أسهل من غيرها وأقل منها خسارة.. أو أكثر ربحاً.

وهناك خطوات ومراحل عمل تشكل القواعد العامة للمفاوضة الناجحة عند كثير من المفاوضين الناجحين نمر عليها على عجل.

التهيئة والاستعداد المسبق

وأول بوادر التهيّؤ هو التحضير لبعض الأسئلة التي ينبغي أن نسأل أنفسنا عنها قبل أن نسأل بها الشريك..

1 ـ لماذا اجتمعنا؟

2 ـ ما هي الموضوعات التي تحظى بالأولوية في النقاش؟

3 ـ كيف نوفر عناصر النجاح لمحادثاتنا؟

إن تحديد الأجوبة من الطرفين يشكل أبرز القواعد التي تنظم سلوكنا جميعاً وتمنهج بحثنا بشكل فاعل وبنّاء كما تحمينا من الوقوع في شراك التوتر وسوء التفاهم.. فالسؤال الأول يحدد موضوع الاجتماع والغاية منه والثاني ينظم جدول المصالح والأعمال حسب الأهم فالأهم والثالث يميّز لنا الخطوط الحمراء من الخضراء وبالتالي يعرفنا أين نضع أقدامنا في الحوار وأين المناطق المحظورة..  وبمعنى آخر يشخص لنا قواعد إدارة الحديث وهذه الثلاثة تشكل توفير أول بادرة للتعاون المطلوب من الطرفين مما ينعكس إيجابياً على جو ونمط المحادثات في المراحل البعدية..

فإن المفاوضات الناجحة تلك التي تتميز بأنها:

1 ـ واضحة من حيث الموضوع (مشكلة، أو صراع، أو تطوير تعاون) ونحو ذلك.

2 ـ تخوض في جوهر الموضوع دون هوامشه.

3 ـ يراعى فيها فن إدارة الحديث.

وهنا من المناسب أن نذكر بنقطة جوهرية أخرى في المفاوضات هي معرفة حدود الطرف الذي نفاوضه ودرجة صلاحياته..

إن الشخص المفاوض في الغالب يؤثر على النتائج إذ من الواضح أنه لا يتحدث عن نفسه بل له صفة تمثيل لجماعة أو مؤسسة أو نحو ذلك، فحتى نضمن لنا ولمفاوضاتنا النجاح المطلوب علينا أن نشخّص ما هي الصلاحيات المخولة إليه أولاً. فإن من المؤلم أن نكتشف بعد إنهاء جولة المفاوضات الطويلة والمتعبة أن الطرف الذي كان يفاوضنا غير قادر على اتــخاذ قرارات فــي شأن ما تفــاوضنا عليه..

إن أي غموض يساورنا في هذا البعد سينعكس علينا سلباً في أبعاد عدة إذ:

(1) قد يخلق فينا الشعور بالإحباط والفشل.

(2) يضطرنا إلى تكرار المفاوضات مع شخص أعلى مستوى وأكثر صلاحيات... وفي الغالب ستكون في ظروف صعبة ومملة..

(3) وربما يسبب لنا المزيد من الألم الروحي لأننا نشعر آنذاك بأننا قد بذلنا المزيد من الوقت والجهد الثمينين بلا فائدة كما قدمنا آخر ما يمكننا من الرعاية والصبر والتنازلات من أجل الوصول إلى حل يرضينا ويرضي طرفنا الآخر ولكن بلا ثمر..

إذن لنحدد صلاحيات الطرف الآخر قبل أن نخوض معه في الحوار..

تحديد مصالحنا.. ومصالح طرفنا الآخر..

هناك محوران مهما تدور عليهما رحى كل مفاوضة هما:

المصالح والأهداف.

وفي كثير من الأحيان نخلط بينهما فتضيع علينا فرص كثيرة للتفاهم.

إن الهدف آخر ما نريد التوصل إليه في الطموح ـ على اختلاف المراتب طبعاً ـ بينما المصلحة تشكل الدافع والحاجة الذي يحرك السلوك لذلك فهي تكون مقدمة للأهداف وليست هدفاً بعيداً بذاته.. لو أردنا أن نوضح هذا بمثال في الطالب المجد في دراسته إذا سألناه لماذا أنت مهتم بدراستك؟

سيجيب مثلاً: لأني أريد النجاح.. ولو سألناه ثانية ولماذا تريد النجاح؟

سيجيب لأن ذلك يجعلني مقبولاً في الوظائف والأعمال التي أشغلها وبالتالي سأتمكن أن أعيش مرفهاً..

فهنا يتضح أن الهدف هو الرفاهية في العيش بينما النجاح كان مصلحة تحقق له هذا الهدف فاختلط الأمر عليه إذ كان ينبغي أن يكون النجاح هو الهدف بينما المصلحة هي الرفاهية والفرق من حيث النتائج على الأعمال كبير فإن من يرى أن الرفاهية هدفه فإنه قد يسعى لتأمينها بأي طريقة حصلت ولو كانت غير مشروعة أو غير لائقة به.. بينما من يرى النجاح هدفاً فإنه لا مجال لسلوك غير الطرق الصحيحة لأن النجاح له أسباب وعلل طبيعية وهي بمثابة مقدمات منطقية للوصول إليه ومن هنا نجد أن الناس يتميزون في هذا بين أصحاب الأهداف السامية وأصحاب المصالح وفي الغالب والهدفيون هم الذين يحظون بدرجات عالية من الاحترام والتقدير..

إذن التمييز بين الأهداف والمصالح أمر في غاية الأهمية لإحراز النجاح في المفاوضات لأن تعيين الأهداف يجعلنا متمسكين أكثر بشرائطها بينما المصالح التي تعترض الأهداف فهي قابلة للتبديل والتغيير فإذا انتبهنا أين يكمن الهدف وأين يكمن المصلحة سنتمكن من تعويض المصلحة بأخرى من أجل ذلك الهدف..

ونعود للطالب ثانية.. فإنه إذا حدد بدقة هدفه وهو النجاح فإنه عليه أن يسلك طرقه وقد يحرزه عبر الدراسة في كلية الهندسة أو في كلية الطب أو غيرهما فإن هذه كلها طرق إلى ذلك الهدف.. بينما إذا صار النجاح مصلحة والغاية هو العيش الوفير فإنه قد يضحي بالنجاح من اجل العيش وبالتالي يضل الطريق الصحيح للتقدم..

وهذه ـ خلط المصالح بالأهداف ـ إحدى أهم عوامل الفشل في المفاوضات.

المدير الناجح

ومن هذا يتضح أن المدير الناجح في فن التفاوض.. الذي يجمع الأهداف مع المصالح ولا يحسب هذا على حساب ذاك..

طبعاً أن يكون الإنسان هدفياً ويضحي بالمصالح من أجل الهدف فهذه صفة فضلى لا يتمتع بها إلا النوادر من الأشخاص.

كما أن الأفراد المصلحيين ـ غير الهدفيين ـ هم أيضاً من النوادر فإن الطابع العام على الأفراد حتى الكثير من العاملين المؤمنين أنهم يجمعون بين الأهداف والمصالح معاً نعم قد تختلف درجة أهمية الأهداف على المصالح أو بالعكس عند بعض الأفراد إلا أن الشكل العام أن الأفراد يسعون لأن يجمعوا بين أهدافهم وطموحاتهم وبين مصالحهم وهو أمر ليس بمذموم بل ربما يكون معقولاً إذا كان حاوياً على شرائطه الشرعية والمنطقية الصحيحة فإن الإنسان بطبعه له حاجات ودوافع لتصرفاته وسلوكه كما أن له أهدافاً وطموحات فحيث أن القدرة في الغالب محدودة على المثالية في الفضائل، فليس من الحكمة تجاهل واحدة على حساب الأخرى ولعل ما ورد في الشرع الحنيف يشير إلى هذا كقوله سبحانه: (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)، وقول رسول الله (ص): (لا رهبانية في الإسلام) وقولهم (عليهم السلام): (ليس منا من ترك دنياه لآخرته وليس منا من ترك آخرته لدنياه).

فإن من الطبيعي أن يفكر الأشخاص في مصالحهم كما يفكرون في أهدافهم فعلى المدير الناجح أن يسعى لأن يمنهج المصالح بإتجاه الأهداف بشكل منطقي ومدروس حتى يجمع بين الفائدتين..

وأما إذا أراد أن يصنع من الأفراد عناصر هدفية فقط فهو وإن كان من المهمات النبيلة إلا أنه أمر صعب وفي الغالب غير مقدور بل وقد يعده الأفراد شعارياً أو مثالياً إذن خير الأمور أوسطها.. ومن أوسطها أن يكون المدير مراعياً لمصالح الأفراد في الوقت الذي يقودهم إلى الهدف.

وبهذا يظهر أيضاً أن من غير الإنصاف أن يتسرّع المدير في الحكم على بعض الأفراد ويحشرهم في زاوية المصالح والأنانيات لأنهم يسعون للجمع بين المصالح والأهداف وفي المقابل فإن من الحكمة أن نسمح للأفراد أن يعبروا عن مشاعرهم وحاجاتهم بصراحة ووضوح لنضمن تعاطفهم الإيجابي وحماسهم المستمر في سبيل العمل..

فإن تجاهل مصالح الأفراد وحاجاتهم قد يشعرهم بعدم التقدير والاحترام أو يشعرهم بأنانية الإدارة الأمر الذي يحسسهم بالإحباط وبالتالي الصدمة النفسية تجاه العمل والعاملين.. وما يترتب على هذا من المفاسد والآثار السلبية أوضح من أن تخفى.

كما من سمو الأفراد التفكير في الأهداف أكثر من التفكير في المصالح فإن إحراز الأهداف إحراز للمصالح المشروعة أيضاً في الغالب بينما العكس فهو غير صحيح في الغالب أيضاً.

إن من العقبات الرئيسة التي تحول دون صراحة الأفراد وذكرهم للمصالح الحقيقية التي تحفزهم أثناء المفاوضات أو إدارة العمل هي خشيتهم من عدم تلقي ما يعبرون عنه تلقياً حسناً فيصنفهم في مصاف المصلحيين وهو أمر قد يشعرهم بأنهم باتوا في نظر الآخرين دون المستوى اللائق أو فقدوا مصداقيتهم.

فإذا كانت الإدارة من أول الأمر ملتفتة إلى هذا البعد وقدرت في الأفراد هذا الشعور والإحساس فإنها ستحظى بالمزيد من الاحترام والتعاون..

إذن.. لنعود ثانية إلى المفاوضات الناجحة.. فحتى يتمكن المفاوضون أن يحرزوا التعاون والتنسيق مع بعضهم البعض عليهم أن يميّزوا أولاً بين المصالح والأهداف ثم يصبونها بإتجاه الأهداف ليضمنوا رضى أطرافهم ورضاهم أنفسهم عن نتائج الحوار ومن هنا فإن المنطق يدعونا لأن نعطي فرصة جيدة لتفهم مصالح الطرف الآخر وتحديد أهدافه..

فلا داعي للإصرار على تحقيق أهدافنا فقط ونغض الطرف عن أهداف الآخرين ومما يخالف الحكمة أن نتجاهل مصالح الطرف الآخر ونتنكر لحاجاته في الوقت الذي نريد أن نضمن مصالحنا وحاجاتنا.

المفاوضات الناجحة

فإن المفاوضات الناجحة هي التي يضمن الجميع فيها أهدافه ومصالحه بالمقدار الممكن الذي يفرضه التفاهم والإتفاق.

·       وهناك خطوات مهمة ينبغي مراعاتها في ذلك؛ أولاً:

اسأل نفسك قبل الشروع في الحديث

ما هي مصالحنا الأساسية التي أريد أن أحققها من هذه المفاوضات؟

وبعد تشخيص الجواب أعرضه على طرفك الآخر في أثناء الحوار بشكل واضح ومنطقي، فإن هذا الجواب سيكون المعرّف لمصالحك أيضاً.. وعندها يتمكن طرفك الآخر من أن يتحدث مباشرة عنها ويأخذها بنظر الاعتبار في نفس الوقت الذي يبدأ يقدر مواقفك وسلوكك تجاه القضايا بلا حساسية وسوء ظن لأنه عرف الدافع.

إن البعض يستصعب التعبير عن حاجاته ومصالحه ويتركها متخفية وراء الكلمات ومطاوي الباطن.. وهذا أمر قد لا يعود عليه بالنفع بقدر ما يعود عليه بالفشل. لأن القليل من المفاوضين ينفذون إلى مكامن الأسرار ليعرفوا الدوافع الحقيقية للأفراد بعد زحمة المشاكل وسخونة الحوار وجهوده المضنية..

وإذا صادفنا نحن هكذا أفراد فينبغي أن لا نتعب أنفسنا في الظاهر كثيراً قبل أن نغور إلى أعماقه لنتعرف ما هي مكامنه وخفاياه التي لم تساعده الظروف أو القدرة عن التعبير عنها لأن معرفة مكامن الأفراد تجعل مفتاح الحل بيدك ولننظر إلى هذا المثال:

الموظف: طلبت مقابلتك يا سيادة المدير بشأن، زيادة الرواتب فمنذ مدة ونحن نستحق الزيادة لما نبذله من جهد ونمتلك من مهارات!!.

المدير: ربما يكون كلامك صحيحاً إلا أننا فعلاً في ورطة مالية وأزمة متعسرة ولا نمتلك إمكانية ذلك!.

الموظف: نحن نقدّر الظرف المالي الصعب إلا أن أمثالنا في الدوائر والمؤسسات الأخرى يتقاضون أكثر مما نحن نتقاضى بل ربما يعادل راتبي راتب الموظف العادي عندهم!!.

المدير: ليست المشكلة في راتبك فقط فإننا إذا رفعنا راتبك سوف يأتي الآخرون ويطالبون بزيادة رواتبهم فهذا سيفتح علينا باباً لا نقدر على غلقه!!

الموظف: على هذا لا تلومونني إذا قدمت استقالتي لألتزم بالوظيفة في مؤسسة أخرى!!

المدير: أرجوك أن تكون هادئاً وتقدّر وضعنا قبل أن تفكر في الإستقالة فإني لا أستطيع أن أرفع راتبك وحدك!!

الموظف: أنا أيضاً أرجوا أن تفكروا في وضعي ومؤهلاتي وخدماتي فإني بدأت أشعر أنكم لا تقدرون من يتعاون معكم بإخلاص.

وأنت ترى.. إن هذه المناقشة توصلت إلى باب مسدود فإن الموظف يلح على مصلحته والمدير هو الآخر يصر على موقفه ومصلحة مؤسسته فأين الحل؟ ومعلوم أن هذه صورة مصغرة عن مشاكل كثيرة وعويصة في مجالات العمل المختلفة وليست في الدوائر والمؤسسات بل تشمل دوائر أصعب وأوسع أيضاً.. وفي الغالب تصل إلى الإنفصال الروحي والعملي في الأفراد أو إلى حالة التمرد والسلبية فيهم، وسواء بقوا في العمل أو خرجوا عنه فإنهم سيشكلون جواً متوتراً يصعب على الحل والأمر أصعب في الجماعات فإنها في الغالب تصل إلى الانقسام وإعلان التصعيد بين هذا الطرف وذاك.

مفتاح الحل

إذ من الواضح أن انشطار الأمر إلى موقفين متصلبين على طرفي نقيض يقطع الطريق أمام الحلول المنطقية كما في مثالنا السابق: (أطالب بزيادة راتبي) وفي المقابل: (لا أقدر على المزيد). بينما الحكمة تقتضي من المدير في هذه الصورة أن يقرأ ما وراء الموظف وما خفي من دوافع وحاجات ومصالح.. كما كان يستدعي الموقف السليم من الموظف أن يدخل البيوت من باب آخر أفضل وأوسع ماذا كان يمكن أن يفعلا؟.

* كان ينبغي عليهما أن يحددا مصالحهما الأساسية المتعلقة بموضوع المال فإن من المؤكد أن المدير الخبير الناجح لا يحب التفريط بموظف جيد وكفؤ.

ولكن في نفس الوقت لا يريد أن يوّرط نفسه في المزيد من المشكلات الجديدة سواء مع الأعلى منه في الرتبة أو سائر العمال والموظفين..

والموظف هو الآخر لا يحب التفريط بمؤسسته وزملائه الذين عمل معهم وتعرف عليهم ويحظى معهم بالود والاحترام لقاء مؤسسة لا يعلم بعد ما هو مصيره فيها. هذا أولاً وثانياً..

* الجمع بين مصالح الطرفين.. فكان يمكن أن تأخذ المناقشة هذا الشكل:

الموظف: سيادة المدير.. طلبت مقابلتك بشأن زيادة راتبي.

المدير: فهمت.. وأنا أقدر لك جهودك واستحقاقك لذلك وأتفهم الضغوط التي يسببها لك الوضع الاقتصادي العام ولكن نحن الآن في ظروف لا نتمكن من أن نرفع من الرواتب ولكن صحيح لماذا تطالب بزيادة راتبك الآن؟

الموظف: إنني أشعر أن كفاءاتي عالية ولي خبرة طويلة في هذا المجال وهناك زملاء لي يتقاضون في مؤسسات أخرى أعلى مما أنا أتقاضى.

أنظر: هناك دافع يتخفى وراء هذا الكلام وهو (عدم التقدير للكفاءة).

المدير: هل تقصد أنك لا تشعر بالاحترام والتقدير المناسب؟

الموظف: مضافاً إلى ذلك إلا أني أشعر بالتعب من  الضغوطات المالية وقد عرض عليّ عمل آخر في مؤسسة ثانية ولكن بأجرة أكبر.. ولكنني لا أحب أن أترك عملي هنا!

المدير: أنا سعيد بهذا الكلام وأرجو أن نسعى معاً لترتيب حل مناسب يرضيك ويرضينا!! (فهنا ألقى المدير بعض المهمة على الموظف نفسه أيضاً لكي يفكر في الحل وبعبارة أخرى دعوة غير مباشرة من المدير لوجدان حل نصفي يرضي الطرفين ويضمن مصالحهما). (وأنا أعدك بأني سوف أهتم بالأمر وأناقشه مع المعنيين.

الموظف: وأنا أيضاً أعدك بأن أكون مقدراً لما تعانونه من مشاكل وصعوبات..

وبعد هذا يمكن للمدير بعد أن تعرف أن جزء من المشكلة عند الموظف الكفوء هو الشعور بالظلم لحقوقه وكفاءاته: أن يبادر بأمور تجمع بين الحقين كأن يعطيه مكافأة مالية على بعض الخدمات. أو يعطيه إجازة وفيرة مع بطاقة تذاكر وأجور الفندق مثلاً كجائزة، أو يرفع من مكانته في العمل ونحو ذلك فإنه بهذا يكون قد أشعر الموظف أن كلامه لم يذهب سدىً بل أثر أثره وأخذه المدير بنظر الاعتبار وهذا يعطيه المزيد من التفاؤل والإخلاص في العمل والاطمئنان بالمستقبل.. كما يشعره بأن المنطقية في التعامل توصل إلى التوافق دون غيرها، وفي نفس الوقت يكون قد أبعد المشكلة من المزيد من الأزمات المالية ومطالبة الموظفين الآخرين بزيادة رواتبهم أيضاً بل يكون قد دفعهم أكثر للمزيد من العمل والإخلاص ليكونوا مثله.. وبعبارة أخرى يكون قد زرع فيهم القدوة الحسنة.

إذن.. من المشاكل التي تعكّر أجواء التعاون وتزيد من الانقسامات أثناء المفاوضات.. أن يشعر الإنسان أن الآخرين لا يتفهمون أو لا يقدرون مصالحه ولا يهتمون بكفاءاته..

خطوات باتجاه التعاون

لهذا يتمكن أن يتبع بعض الخطوات في هذا السبيل ليؤثر بالآخرين باتجاه التعاون:

1) عبّر بوضوح عن مصالحك.. وصارح شريكك لماذا أنت مهتم بموضوع الحوار أو بهذه المهمة أو تلك، حتى تحظى باحترامه ورعايته لها بدقة ومن الضروري أيضاً أن تتعرف جيداً إلى مصالح طرفك الآخر حتى تزيد من فرص التوصل إلى نتيجة مرضية لكما.. فبدون هذه الصراحة والوضوح قد يصعب أن تتوصلا إلى جوهر النزاع وبالتالي يصعب عليكما تفهم المصالح الهامة المشتركة بينكما وهو أمر من شأنه أن ينتهي بكما إلى الفشل..

فإن من الصفات الهامة للمفاوض الناجح هي القدرة على فتح مغالق الطرف الآخر ليعبر عن حاجاته ومصالحه بوضوح ومباشرة وبقلب مفعم بالأمل..

وقد قلنا سابقاً إن من أهم المفاتيح في هذا السبيل عرض السؤال عليه:

(مثلاً): لماذا فكرت في التفاوض؟ وهل هناك أسباب دعتك إلى ذلك؟

إن الكثير من المفاوضين يخشون في بعض الأحيان أن يستمعوا لحاجات أطرافهم في الأزمة لأنهم يشعرون أن هذا ربما سوف يلزمهم بالمزيد من المسؤولية الأدبية أو الأخلاقية بتحقيق حاجاتهم أو تلبية طلباتهم مع أن هذا خطأ في الغالب بل إن التجارب العملية للوسائط في حل الأزمات تدلنا على أن استماعنا إلى دوافع شركاءنا وتفهم حاجاتهم يشعرهم بالقرب والتعاطف والإخلاص والثقة وهي من الصفات المهمة التي لها دور كبير في إنجاح المفاوضات وإبدال حالة النزاع فيها إلى تفاهم ثم تعاون..

فإن المنطق والحكمة والإحساس بالثقة والأمان تجعل من الطرفين يحترمان مصالح بعضهما البعض وبالتالي بذل المزيد من الاهتمام لتصفية النزاع.

2) اكتشف المصالح المشتركة بينكما..

فليس هناك مفاوضات لا تحتوي على مصالح مشتركة بين أطرافها فلولا المشتركات لكان من المتعذر أن يجلسوا معاً على مائدة واحدة أو يشعروا بضرورة الحوار فإن المشتركات خير ما يجمع الشتات في الحرب وفي السلم.. ألم تر إلى الأعداء كيف يجمعهم الهدف المشترك والمصالح المشتركة، بيما يفرقهم لو تعددت الأهداف والمصالح. إلا أن بعض المفاوضين يتناسون هذه الحقيقة فيركزون بشكل أساسي على ما يفرقهم أكثر مما يجمعهم.. في حين ينبغي أن نعمل باستمرار على تحديد المصالح المشتركة بيننا وبين أطرافنا لنشدهم إلى  التفاهم أولاً ثم التعاون ثانياً.

فالنقطة الأكبر في هذا المجال وعي المصالح المشتركة والاستعداد النفسي لرعايتها وإعطاءها المزيد من الواقعية والإنصاف..

فإن الأطراف مهما كانت عاقلة وحكيمة فإنها إذا لا تدرك ما يجمعها فإنها في الأغلب ستعمل فيما بينها كخصوم أو أعداء بقصد أو دون قصد وربما يسعى كل طرف منهم للانتصار على الآخر وهزيمته هزيمة ساحقة..

ولا يكفي أن نصرّح بأننا نريد التلاحم والاتفاق كما لا يزرع فينا الوثوق والاطمئنان ما ينادي به أطرافنا من المظلومية وحب الحوار والتعاون، ما لم نجسد ذلك معاً بإيجاد نقاط تمركز تجمع كلماتنا وتوحد آرائنا وبالتالي نضع أيدينا في بعضها من أجل الحل ولا توجد أفضل من نقاط الاشتراك سواء في الهموم أو في المصالح أو في الأهداف يمكن أن تهيء للإتفاق والتفاهم..

ولا ننسى المثل الشعبي المعروف (عدو عدوي صديقي) فإن المشتركات تبدل الأعداء إلى أصدقاء كما أن المختلفات قد تبدل الأصدقاء إلى خصوم..

(ولننظر إلى هذا المثال) حتى نعرف أن الجو المشحون في الحوار والتفاوض يفرضه علينا التفكير المنحصر بالمصالح الخاصة شئنا أم أبينا..  أو قل تجاهل القواسم المشتركة، بينما يمكن ببعض الجهد والتفكير والتشاور أن نوجد العديد من منافس الحرب وبالتالي نجمع الكلمة على المحبة والتعاون

الحكومة: إن المعارضة تسبب لنا الكثير من المشاكل وتثير علينا الرأي العام مما يعرقل الخطط السياسية والاقتصادية المرسومة!!

المعارضة: بل إن الحكومة هي التي تسبب لنا الكثير من الإحراج بمنع صحفنا من الانتشار وغلق منافذ الكلام أما مفكرينا!!

الحكومة: في الوقت الذي تعاني منه الدولة من أزمات اقتصادية شديدة ووضع أمني قلق لا ينبغي للمعارضة أن تفتح علينا جبهات جديدة إن ذلك يثقل كاهل الدولة ويشغلها في غير المهم الآن.

المعارضة: مَن البادئ هل نحن أم هم؟ فإنهم لو تركونا نتكلم بما نراه مناسباً ويصب في صالح الدولة والشعب معاً لكان فيه الكثير من الفائدة ولما تعرقلت مسيرتنا فنحن لا ننتقد نقداً هداماً بل نريد النقد البناء!

لاحظ.. لو استمر هذا الرد والبدل سوف لا يصل إلى حل لأن كل طرف يريد أن يفرض رأيه ويجر الطرف الآخر للقبول بأولوياته.. ومعنى هذا إلغاء المشتركات..

ومن ا لواضح أنه لا يرضى أحد بأن يتجاوزه الآخرون أو يلغون آراءه وأولوياته في الوقت الذي هو يراها أنها الأهم والأكثر منطقية وواقعية..

لذلك ربما تتصاعد الأزمة وتتحول إلى صراع دائب لا يحمد عقباه لذلك كان يفرض عليهما المنطق والحكمة التفكير في القواسم المشتركة وبلورة الرؤية فيما يجمع المختلفات..

فمثلاً: كان يمكن للحكومة أن تفكر فيما يهم المعارضة أيضاً ويبدو من خلال الحديث السابق أن ما كان يهمها هو حرية الرأي وفسح المجال لها لأن تبدي رأيها فهذه نقطة مهمة تشكل الدافع الذي يقف وراء الكثير من السياسات التي تعمل عليها المعارضة.

كما كان للمعارضة أن تفكر فيما يهم الحكومة.. وهو مسألة استقرار الأوضاع وعدم التحريك السلبي للرأي العام باتجاه الخطط المرسومة..

التركيز على المشتركات

فما هو الحل الذي يجمع كلا الطرفين؟.

1ـ أن تفسح الحكومة المجال للمعارضة لأن تتكلم ولكن مع الإتفاق معها على بعض النقاط التي يمكن أن تثيرها في قنواتها الإعلامية.. فهذا ضمان لحرية الرأي للمعارضة وضمان للاستقرار الذي تطمح إليه الحكومة.

2ـ أن تطرح المعارضة أهمية الاستقرار للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الذي تطمح إليه الحكومة في أعلامها وتعطي البدائل المناسبة وتتعاون مع الحكومة من أجل تنفيذها..

(كنماذج) مثلاً: فتح الأسواق المشتركة أو دعوة التجار إلى دعم بعض المشاريع الاقتصادية وتشجيع الاستثمار الإيجابي.

وفي البعد الاجتماعي: تطرح المشاكل وتطرح الحلول وتساهم في حلولها كإيجاد مؤسسات خيرية واجتماعية أو تشجيع أصحاب القدرة على ذلك وهكذا..

لاحظ: فإن هذه الخطوات لا تجعل من المعارضة وجوداً سلبياً في نظر الحكومة بل يعطيها الثقة بأنها وجود إيجابي يمكن أن يساهم في تحسين أوضاع البلد وفي نفس الوقت يعطي المعارضة فرصاً أفضل للمزيد من العمل والتنمية الإيجابية.. وهذا ما كان يحصل لو تجاهل كل طرف لمصالح الآخر..

إذن وعي الأطراف بما يجمعها مع بعضها أمر مهم ينبغي الإلتفات إليه دائماً ولكن يبقى هذا متعذراً إذ لا يتم قبله تحديد المصالح المشتركة بشكل واضح ومباشر ليضمن كل طرف ما يراه من أولوياته..

إن مثل هذا الوعي والانتباه يزيد بشكل فعال وملحوظ من إمكانات التفاهم حتى مع ألد الخصوم فإن بتحديد المشتركات والسعي لاحترامها ورعايتها في أشد الظروف صعوبة يشعر الجميع بأهمية التعاون المشترك والتفاهم المثمر بشكل إيجابي وبناء.

ولهذا لعل من المناسب أن يسأل كل طرف قبل دخوله في التفاوض:

·       ما الذي يجمعنا مع الطرف الآخر؟

·       وما هي القواسم المشتركة في (الآلام أو الآمال) بيننا وبينه؟

ليسهل علينا اكتشاف الأمر

ولا ننس في بعض الأحيان قد تغيب المشتركات من سلّم الأولويات فعلى المفاوض الحكيم أن يسعى لخلق مشتركات تحظى بالأهمية بين الطرفين من أجل توافقهما..

وهذا دور صعب إلا أنه في غاية الأهمية في حالات انعدام القواسم المشتركة في أنظار الطرفين بل يدل على درجة عالية من الحنكة والكفاءة..

نوّه إلى مصالح الآخرين

3) نوّه إلى مصالح الطرف الآخر واستند إليها في الكلام.. وبتعبير أوضح:

اعمل على أن يشعر طرفك الآخر أن مصلحته مأخوذة بنظر الاعتبار والأفضل من هذا: اعمل على أن يدرك طرفك الآخر أن مصلحته في تلبية حاجاتك ومراعاة مصلحتك ليس استجابة لضغوط أو تخلصاً من مشاكل بل لأن مصالحه تتحقق بتحقيق مصالح الآخرين.. ويحظر هنا مثال قد يكون مناسباً لتوضيح هذه الفكرة..

أحد المدراء الكبار لإحدى الشركات الأمريكية تولى منصبه في فترة عصيبة جداً وكادت الأزمة المالية أن تودي بالشركة ورجالها نهائياً..

ففكر في أن يحصل على قروض للشركة تنقذهم من ورطتهم.. فقدّم طلبه إلى الحكومة الأمريكية وكانت مصلحته تقوم على الحفاظ على شهرته كمدير ناجح للأعمال بينما كانت مصلحة الحكومة الأمريكية تقوم على قواعد الاقتصاد الحر وعدم مد يد العون للشركات المنهارة..

فحينما قدم المدير المزبور نتائج انهيار الشركة وفقدان حوالي مائة ألف عامل لأعمالهم استند في خطابه لمفاوضيه من أعضاء الكونغرس على مصالحهم السياسية والشعبية في تحقيق ذلك إذ وقف مخاطباً يسألهم:

هل من مصلحتكم فقدان أصوات ناخبيكم من عمال الشركة؟

هل يناسبكم أن يتحمل الضمان الاجتماعي هذه النفقات الكبيرة التي ستصرف على عمال مهرة كهؤلاء؟.

هل في صالحكم أن تتدهور الأوضاع الاجتماعية (تزعزع أوضاع عدد كبير من الأسر ـ ارتفاع معدل الجريمة ـ ازدياد نسبة العاطلين) بشكل واضح في واحدة من الولايات؟ وبهذا الأسلوب المعقول جعل مفاوض الشركة الناجح رجال الكونغرس يدركون بأنفسهم كم من مصالحهم ومصالح الحكومة سيصان إذا تمت تلبية طلب هذه الشركة(1).

وهذا الأسلوب يمكن أن نستخدمه مع مفاوضينا بشكل وبآخر..

يمكن للموظف الذي تحدثنا عنه سابقاً، أن يسأل مديره:

هل من مصلحتك الاحتفاظ بالخبراء والأكفاء في العمل؟

كما يمكن للمعارضة أن تسأل الحكومة:

هل من مصلحتك أن تحتفظي باستقرار في الرأي العام وثقة أكثر لدى الشعب..

كما يمكن أن تسأل الزوجة زوجها الغاضب:

أليس من صالحك أن يسود في البيت الجو الهادئ والعلاقات الحميمة؟

فمن الواضح أن الإجابة ستكون (نعم) وكلمة نعم هنا ستفرض نفسها على الجميع لأن يعملوا بشرائطها ويلبوا متطلباتها بشكل أكثر جدية وإخلاص..

إذن من صالحنا أن نتفهم مصالح محدثنا ونرعاها له مهما أمكن ونحسسه بأن مصالحه في تفهم مصالحنا ورعايتها أيضاً ولهذا الباب مفتاح ومفتاحه أن نسأله:

هل يرضيك أن نتوافق على تجميد الأزمة فعلاً؟

هل تشعر بأن التنازل بعض الشيء يوفر لنا المزيد من المصالح المشتركة؟!

ومن الواضح أن المفاوضات الرامية إلى التعاون يبحث أطرافها عن حلول الصراع التي توفق بين المصالح المتضاربة بين الأطراف في نقاط مشتركة ترضيهما معاً، ومن هنا قلنا ينبغي أن نحدد ما هي مصالحنا بشكل واضح وما هي مصالح أطرافنا وتمييز المختلف منها من المؤتلف لنتغاضى عن الأول ونركز على الثاني ليكون الحوار أكثر جوهرية وأقرب إلى الحل.

صياغة المشكلات

وهنا من الضروري أن نذكّر بنقطة قد تكون جوهرية في المفاوضات وهي صياغة المشكلات بشكل واضح ودقيق..

إن فن صياغة مشكلات المفاوضات بشكل ناجح وموفق يقوم في الغالب على القدرة على إظهار المصالح المتناقضة لكل الأطراف..

فحين نرى أن عدداً من المفاوضين غير المحنكين يقومون بتحديد مشكلات مفاوضاتهم على مستوى عام ومبهم وأحياناً متحيزين إلى مصالحهم وحدهم وكأن الطرف الآخر لا وجود له أو ليس له رغبة أو طموح يتطلع إليه..

لذلك نعود إلى مثال الموظف السابق.. نجد أن المفاوض غير المؤهل يحدد المشكلة هكذا: لا أرفع راتبك ولا أسمح بأن تتكلم بذلك..

وكأن هذا هو الموضوع والمشكلة فقط وتحتاج إلى حل؟

والحل هو: تهدأت الأوضاع بالقسر لا بالاقتناع..

وبعكسه الموظف غير الحكيم هكذا يتحدث: أريد زيادة راتبي ولا أتحمل أكثر من هذا هضماً لحقي..

وأنت ترى أن هذا مطب كبير لا يصل في يوم إلى الحل إلا بالانفصال أو تصعيد التوتر وربما سراية الأزمة إلى العمال الآخرين وهكذا تجد النار ما ينفخ فيها ويزيدها تأججاً..

بينما الحكمة تقتضي أن يسأل المدير نفسه ماذا يمكن أن أفعل لكي أضمن قناعة الموظف وفي نفس الوقت لا أكلف الشركة ما لا تطيق؟

ماذا يمكن أن نفعل حتى يشعر الموظفون الإكفاء بالاحترام والتقدير (مصلحة الموظفين) بحيث لا تقع الشركة في أزمات داخلية صعبة (مصلحة الإدارة) إن هذا السؤال يحفز في أذهان الإدارة الكثير من مواهبهم وخبراتهم للوصول إلى صيغة مناسبة وطريق وسط يوفق بين المصالح المتضاربة في مصلحة مشتركة تجمعها ثانية على التفاهم واستمرار التعاون والعمل المشترك.

أذن فن المفاوض الناجح يعتمد بشكل كبير على قدرته على وجدان المصالح المتنوعة لأطراف الصراع ومن ثم التوصل إلى صياغة مرضية تجمع مصالحهم..

1 ـ احترام الصراع: ص213 ـ 214 بتصرف.