المحكمة الجنائية الدولية سوط الديمقراطية على ظهور الأبرياء

حيدر البصري

لكي يضمن المجتمع الدولي حمايته لحقوق الإنسان الطبيعية تلك الحقوق التي ضمنت له من أصل خلقته حيث خلقه الله حراً كان لابد له من التفكير بالطريقة التي يضمن من خلالها تحقيق هذا الغرض (حماية حقوق الإنسان) من الاعتداء عليها وانتهاكها.

لقد أخذت هذه المهمة جانباً كبيراً من اهتمام المختصين في قضايا القانون الدولي، فقد أدركوا ضرورة إيجاد الوسائل الكفيلة بحماية الحقوق الطبيعية للأنسان.

و في سبيل تحقيق هذا الغرض سار المجتمع الدولي على مدى حقب من الزمان خطوات في هذا المجال واتخذ وسائل عديدة على مدى الأزمان وقد تمثلت تلك الوسائل في:

1 ـ   الوسائل ذات الطابع التشريعي والقانوني، وذلك بصياغة قانون عالمي لحقوق الإنسان.

2 ـ  عقد المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي يمكن من خلالها تنظيم الحقوق المدنية وغيرها.

3 ـ  حماية الاقليات والمطالبة بتوفير الحريات لهم.

4 ـ منع التفرقة بين الناس بكافة أنواعها العرقية، والدينية، والتفرقة التي تقوم على أساس اللون، واللغة.

5 ـ و آخر هذه الوسائل كان إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.

و تعتبر الوسيلة الأخيرة من بين تلك الوسائل هي مورد البحث هنا.

لقد طبّلت وسائل الإعلام الغربية كثيراً للترويج لهذه المحكمة والتعريف بأغراضها من كونها المؤسسة القضائية التي يمكن من خلالها معاقبة مرتكبي الجرائم بحق الإنسانية ودرجاً على النهج الذي سارت عليه وسائل الإعلام الغربية في الترويج للمحكمة سارت وسائل الإعلام في بلداننا -  والتي يتجسد في اغلبها انتهاك حقوق الإنسان مما دفع بالشعوب المقهورة من بلداننا إلى أن ترتقي بأحلامها إلى عالم الخيال، فتعلق أمالاً على تلك المحكمة في ان تكون بادرة خير تنبئ بقرب انتهاء عهود الظلم ليحل محلها عهد ملؤه الحب والعدل والأمن والسلام في ظل سيادة أحكام القانون الدولي عن طريق هذه المحكمة.

إلا إننا يجب علينا أن نتعامل مع قضية إنشاء هذه المحكمة بموضوعية تامة في ضوء الظروف المحيطة بإنشائها وأن لا نتخذ من إنشاء هذه المحكمة مخدراً يقعدنا عن النظر في المسألة بعمق كي نحصل على النتيجة الواقعية.

ففي ظل النظام العالمي الجديد نظام القطبية الواحدة والذي يتحكم فيه بمصير العالم اجمع قطب واحد علينا ان نسأل أنفسنا سؤالا وواقعيا هو: هل يمكن لمحكمة كهذه في ظل الظروف الحالية التي تسود العالم إن تحقق الغرض الذي أنشئت لأجله أم إن هناك عوائق يمكن أن تحول بينها وبين غرضها؟

إن الإجابة على سؤال كهذا تقتضي منا التعرض لمجموعة من النقاط نخرج من خلالها بصورة واضحة تعكس لنا بجلاء الجواب على السؤال المتقدم. والنقاط مورد النظر نلخصها بالتالي:

1 ـ ما هو الغرض الذي من اجله أنشئت المحكمة.

2 ـ ما مقدار الاستقلالية التي تعمل هذه المحكمة في إطارها.

3 ـ من هو المنفذ للأحكام الصادرة من المحكمة.

4 ـ و أخيراً الكيفية التي يتم من خلالها تنفيذ أحكام المحكمة.

و نحب أن نوجه نظر القارئ الكريم إلى إننا سوف نؤجل الخوض في النقطة الأولى الغرض من إنشاء المحكمة إلى آخر البحث لان من خلالها تظهر نتيجة البحث الأساسية وما عداها سنتناول بقية النقاط على الترتيب وكما يلي:

مدى الاستقلالية الذي تتمتع به المحكمة

لقد أكدت القوانين الوضعية كثيرا على ضرورة استقلال القضاء، فما هو السر في ذلك التأكيد، وما هي الفائدة المرجوة من وراء استقلال القضاء.

يعتبر استقلال القضاء وعمله بحرية تامة بعيداً عن المؤثرات الخارجية التي يمكن أن تؤثر على الأحكام التي يصدرها ضمانا لعدالة القضاء.

و لكن تجدر الإشارة إلى أن الدعوة إلى الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية لا يقصد منه الفصل التام بين السلطات، كما فهمه البعض، إذ أن الفصل التام بين السلطات سيقود بالنهاية إلى انعزال كل ســـلطة في مجالها الـخاص وممارستها وظيفة محددة تقتصر عليها، ولكن المقصود الحقيقي من وراء هذا المبدأ هو عدم تأثر السلطة الواحدة من هذه الثلاث بالسلطات الأخرى في عملها المختص بها.

نقول في ضوء الوضع الاستبدادي السائد في العالم هل تتمتع المحكمة الجنائية الدولية كسلطة قضائية عالمية بالاستقلال اللازم والذي يهيئ لها الأرضية المناسبة لممارسة عملها في بسط العدل بحرية تامة ام إنها لا تتمتع بتلك الحرية والاستقلالية اللازمة؟

يستطيع الإنسان بناءاً على فهمه للواقع الدولي أن يحكم وبشكل قاطع بأنه ليس للمحكمة تلك الاستقلالية التي تتمكن من خلالها على العمل، وإصدار الأحكام بحرية تامة بعيداً عن مصالح القطب المتسلط الذي يحكم العالم.

و نسوق مثالاً على ذلك إضافة إلى ما سنذكره من أمثلة في البحث عن الغرض من إنشاء المحكمة آخر البحث إن القطب المسيطر كان قد صوّت إلى جانب السلفادور وإسرائيل ضد قرار أقرته الجمعية العامة بأغلبية (94) صوتاً يدعو ذلك القطب إلى التوقف عن جميع الأنشطة التي حكمت المحكمة الدولية بعدم قانونيتها بل الأغرب من ذلك ان مجلس الشيوخ وبعد مضي اقل من أسبوعين على صدور الحكم كان قد صوّت بأغلبية ساحقة لصالح صفقة ريغان بتخصيص (100) مليون دولار على سبيل العون العسكري للكونترا.

أذن فالمحكمة وحتى ولو كانت تتمتع بالاستقلالية التي تتمكن من خلالها من إصدار الحكم فإنها مجبرة على أن تضع بعض أحكامها قيد الحفظ في أرشيف المحكمة إذ لا سبيل إلى تنفيذها على البعض بداً.

من هو المنفذ للأحكام التي تصدرها المحكمة

ثم أنا نرغب في أن نخطو خطوة إلى الأمام ونغادر مرحلة إصدار الأحكام لنخوض في المرحلة التي ما بعد إصدار الحكم، وهي مرحلة التنفيذ، وهنا يحق لنا أن نسأل عن المنفذ الحقيقي والأمين والذي تقع على عاتقه مسؤولية تنفيذ الأحكام التي تصدرها المحكمة.

فان قيل إن المنفذ هو مجلس الأمن الدولي. فنقول بناءاً على ذلك من الذي أعطى مجلس الأمن الدولي تلك الصلاحية التي تمكنه من تنفيذ الأحكام في حق الآخرين.

ثم لو فرضنا مشروعية ذلك الأمر ولكن هل يعد مجلس الأمن الدولي بمستوى المسؤولية التي أنيطت به من الخوض والتصرف في قضايا مصيرية تخص مصير العالم ككل أم انه لم يكن بمستوى تلك المسؤولية.

نقول من خلال استقرائنا للواقع مما لا يخفى على الجميع إن مجلس الأمن ما هو إلا مؤسسة انفردت بنفسها واتخذت لها دوراً تسلطيا بعيداً عن مصالح الدول الأعضاء. فبمجرد أن يتعارض قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي مع مصلحة وستراتيجية واحد من أعضائه ترى ذلك العضو وانطلاقاً من مصلحته الخاصة يقف ضد ذلك القرار بكل تبجح.

فانطلاقاً من ذلك لا يصدر مجلس الأمن قراراً بالاتفاق إلا إذا كان موافقاً لمصلحة تلك الدول الخمسة دائمة العضوية فيه فقط ولا حساب لمصالح الدول الأخرى.

إذن فالأحكام التي تصدر من المحكمة لا يمكن لها التنفيذ في إطار مجلس الأمن الدولي إذ إن تنفيذها سيصطدم بمصالح الدول الكبرى وعليه يجب أن تكون أحكام المحكمة تراعي جانب مصالح الدول الأعضاء في مجلس الأمن وإلا فلا يرجى لأحكامها أن ترى النور يوماً.

ثم إن الأمر قد تغير بعد حرب الخليج وحرب البلقان والتي خاض فيها حلف شمال الأطلسي حرباً ضد يوغسلافيا تماماً فلم يعد هناك رأي لجميع الدول الأعضاء في مجلس الأمن إنما الأمر هو أمر الولايات المتحدة الأمريكية فقط، فقد لاقت الولايات المتحدة الأمريكية معارضة في مجلس الأمن وخصوصاً في مسألة حرب يوغسلافيا ولكنها مع ذلك ضربت بآراء الآخرين عرض الجدار.

عليه فأن أحكام المحكمة - في ضوء الظروف الحالية يجب أن تواطيء مصالح الولايات المتحدة.

هذا فيما لو قيل بان مسؤولية تنفيذ الأحكام تقع على عاتق مجلس الأمن، وأما لو قيل بان المنفذ هو هيئة الأمم المتحدة فنقول أيضا متى ثبت أن ردعت هيئة الأمم المتحدة ظالماً عن ظلمه، ومتى تمكنت تلك الهيئة الدولية من العمل بحرية تامة وبعيداً عن مصالح وإستراتيجيات الدول العظمى، آو الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد فهيئة الأمم المتحدة وهذا مما يؤسف له ما هي إلا أداة بيد الدول الاقوى في العالم، وان يكن لها دور في المجتمع الدولي، فلا يتعدى ذلك الدور الأمور الإنسانية، من قبيل تقديم المساعدات الغذائية والدوائية ووسائل الإنقاذ. أما المسائل الخاصة برفع الظلم عن كاهل الشعب، وتجويع شعب، وتقتيله فليس ذلك الأمر من اختصاص هيئة الأمم المتحدة بل ولا تقدر عليه أبدا إذ  لا يسمح لها حين ذلك بممارسة دور كهذا.

عليه عادت مسألة تنفيذ الأحكام التي تصدر من المحكمة في كل الأحوال إلى القطب المسلط على رقاب العالم اجمع وأنت تعلم الكيفية التي يتعامل من خلالها ذلك القطب مع الأمور كما وتعلم الستراتيجية التي يسير عليها في معالجة القضايا التي تخص العالم ككل.

الكيفية التي يتم من خلالها تنفيذ أحكام المحكمة

لو تمت السيطرة على جميع العقبات التي تواجه المحكمة وتم حلها، فأن العقبة الكئود التي تتمثل في كيفية تنفيذ تلك الأحكام التي تصدرها المحكمة لا يمكن حلها والسيطرة عليها.

فبعض الأحكام مثلا يصطدم بمسألة الكيل بمكيالين فلا يمكن بناءاً على ذلك بغض النظر عمن هو المنفذ لأحكام المحكمة تنفيذ تلك الأحكام. أو بعبارة أخرى سيتم تنفيذ الأحكام في حق البعض دون البعض الآخر إذ إن هناك دولا بمقتضى الكيل بمكيالين يجب أن تبقى بعيداً عن طائلة القانون.

كما إن هناك عقبة أخرى تقف أيضا في طريق عمل المحكمة إلا وهي مسألة التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

إن هذا المفهوم مطاطي يستطيع الكل تشكيله وتغييره حسب ما يريد ووفق الستراتيجية ستراتيجية مصالحه التي يتبناها.

ففي الوقت الذي يعد التدخل لإنقاذ عشرات الآلاف أو الملايين من الناس والذين يعانون من نير الظلم وتسلط أنظمة ما تدخلاً في الشؤون الداخلية للدولة لايعد هذا العمل كذلك حين تدخل فرقة من القوات الخاصة (الكوماندوز) بلدا من البلدان لتختطف رئيس ذلك البلد.

و في الوقت الذي يعد أمر تغيير نظام يحكم رقاب الناس بالنار والحديد، ويمارس ضدهم شتى أنوع التقتيل والتجويع والتدمير تدخلا في الشؤون الداخلية للدولة، لا يعد الأمر كذلك عندما تحرك خيوط مؤامرة تسقط من خلالها رؤوس من خلال الانقلابات العسكرية او الثورات.

و هناك عقبات أخرى تصطدم بها أحكام المحكمة.

بناءاً على ذلك لا يمكن لاحكام المحكمة ان ترى النور يوماً ما لم يتم الاتفاق دوليا على هيئة مستقلة تنطلق من مصالح الدول كافة تمنح صلاحية تنفيذ أحكام المحكمة بعيداً عن سلطة وتأثير الدول الكبرى.

و إلا فلو بقيت الحال هكذا فسوف تملأ رفوف المحكمة بملفات الأحكام التي لا يرجى لها أن ترى النور، وسوف تكون الأحكام الصادرة كلها أحكاما مع وقف التنفيذ ولكن ليس على غرار تلك الأحكام التي تصدر من المحاكم الأخرى والتي يوقف التنفيذ فيها مراعاة لحال المحكوم عليه من كونه ليس من أهل السوابق وغيرها من مبررات وقف التنفيذ التي تبحث في محلها. وإنما تعتبر هذه الأحكام موقفة التنفيذ إجبارا وقسراً إذ لا سبيل إلى تنفيذها أبداً اللهم إلا في حق الضعيف من الدول والناس.

أما من ناحية الغرض الذي أنشئت المحكمة لاجله، وهل حققت المحكمة غرضها فنقول:

لم تكن للديمقراطية فيما مضى من السنين تلك المكانة في نفوس الناس كما هي عليه الآن. فقد كانت الأنظمة على اختلافها عادة ما تحكم شعوبها بالقوة والقهر. كما ان المعيار السائد في الكيفية التي تتصدر الدول من خلالها المكانة المتقدمة من ناحية تأثيرها السياسي هو مقدار ما تملكه من قوة، لذا تجد الحرص من قبل الدول على إظهار كونها تتمتع بالقوة على أوجه. وقد يتعدى الأمر مرحلة الاستعراض إلى مرحلة إظهار القدرة عمليا ذلك الذي جر العالم إلى حربين عالميتين راح ضحيتها ملايين البشر فضلا عما أهدر من الثروات.

إن الوضع الحالي للعالم وإن كان لم يتغير جذرياً إلا انه على الصعيد الداخلي للدول لا ننكر نشوء المؤسسات الديمقراطية تلك التي تعلم من خلالها الجيل الجديد ضرورة استبعاد القوة في حل الأمور وإن الأمور إنما تسير سيراً صحيحاً عن طريق الممارسات الديمقراطية.

انطلاقا من ذلك لا يكون الغرض من إنشاء المحكمة سوى إضفاء الصفة الشرعية على الديمقراطية المدعى توفرها في قيادة العالم. وما سكوت ذلك القطب المتسلط على إنشاء هذه المحكمة سوى دليل على عدم فاعليتها وقدرتها على تحقيق ما أنشئت لأجله ما دام نفسه مستثنى من أحكام تلك المحكمة عندها يكون إنشاء محكمة كهذه في صالحه لا في ضرره فهو موجب لتخدير الشعوب كيما تسكت عن الاستبداد والتسلط الدوليين. فذلك القطب اذن كان قد اتخذ لنفسه مكاناً فوق القانون الدولي وعليه انتفى الغرض من إنشاء المحكمة بكون الجميع متساوين في امتثالهم أمام الحق والعدل.

و نحن إذ ندعي ما ندعي من اتخاذ القطب الأوحد مكانا فوق القانون الدولي لم نطلق قولنا جزافا ودون دليل، وإنما نثبت مدعانا عن طريق التصريحات التي أدلى بها مسؤولوا ذلك القطب ومؤسساته ومن تلك التصريحات نورد ما يلي:

لقد صرح الوزير شولتز قائلاً: »إن ميثاق الأمم المتحدة ليس ميثاقا للانتحار، فالقانون سلاح بجانبنا، ويعود الأمر ألينا في استخدامه إلى ابعد مدى«.

كما أن تعسف القطب في استعمال حقه في النقض الـ(VETO) في مجلس الأمن ضد القرار (11 1 3) القاضي بدعوة جميع الدول إلى مراعاة أحكام القانون الدولي.

هذا من جهة، ثم انه باستقراء الوقائع التي عرضت على المحكمة يتبين لنا ا ن الذي يمثل أمام المحكمة لم يكن الجاني الأصلي إنما هو ضحية ذلك الجاني عادة في حين ينعم الجاني الحقيقي بالحرية والأمان بعيداً عن طائلة أحكام المحكمة.

فبعد انتهاء الحرب الطاحنة في البوسنة والهرسك على سبيل المثال والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء ترى من هو ذلك الذي مثل أمام المحكمة هو شاب في السادسة والعشرين من العمر، في حين كان المتسبب الحقيقي في تلك الجرائم المروعة حسبما يظهر للجميع هو زعيم الصرب، وإن كان هناك ذنب للجنود فإنما هو بتنفيذهم لارادة أولئك الزعماء الذين دفعتهم إلى ذلك نزواتهم الشريرة وأحقادهم الدفينة.

و بما إن المفروض ان الجاني الحقيقي هو الذي يجب أن يقدم للمحكمة، وبما أن المحكمة لم تستطع أن تنال من أولئك الجناة الحقيقيين، يكون الغرض بناءاً على ذلك -  الذي أنشئت من أجله المحكمة قد انتفى بعدم قدرتها على تحقيق ما تقدم.