في السادس والعشرين من رجب ذكرى وفاته:

أبو طالب (رض) سيد البطحاء ومؤمن قريش

محمد العماري

لم ترحم الأقلام المأجورة والمغرضة (وكعادتها مع المؤمنين) أن تنزل أقسى ما في سواد لجتها من الحقد الدفين القديم على الإسلام وأهله وحملته، وخصوصاً على من يكون له الحظ الوافر من الفضل في انتصاب قامة الدين الإسلامي الحنيف والسند الذي كان سواداً كاملاً تحت إمرة رسول الرحمة وحصناً حصيناً خيب مكائد وآمال زعماء ودعاة الجاهلية الأولى.. ليرموا بذلك سهماً مسموماً نحو هدفين وغايتين تداخلا فصارا شاخصاً واحداً لا يخفى على أي ذي لبٍّ واعٍ إنه هو المقصود بالذات وشمل معه عنوان آخر بالعرض.. فالعباسيون الذين أثاروا مسألة إيمان أو إسلام أبي طالب (اقتداءً بما ابتدعه معاوية بن أبي سفيان) لم يكن أبو طالب في هذه المسألة إلا وسيلة تبرّر لهم الحط من منزلة علي بن أبي طالب (رض) والانتقاص منه مستغلّين لذلك الظروف السياسية التي اكتنفت حياة أبي طالب عندما عجزوا أن يجدوا ما يرومون إليه في شخصية علي بن أبي طالب وعالمه المتكامل الذي لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسه من مدلهمات ثيابها.. فاتخذوا لذلك شتّى الطرق والوسائل فلم تجدهم أيها نفعاً أو ثمرة؛ وكيف ذلك وهو الذي كتم أعداؤه فضائله حسداً وحقداً وكتمها أتباعه خوفاً فخرج ما بين ذين ما ملأ الخافقين.

والحديث وإثارة الضباب حول شخصية أبي طالب وإن كان قليلاً نسبةً إلى غيره لكنه لم يواجَه من ناحيتنا بالأهمية الشافية، وهنا لا ضير أن نمرّ على هذه الشخصية ونقف عندها وقفة إجلال وإكبار لشخصه وشخصيته أولاً ولحبه خير البشر وخاتم الرسل إياه(1) ثانياً.

فهو عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، بن قصي، بن سهراب، بن مرّة، بن كعب، بن لؤي بن غالب، بن قهر، بن مالك، بن النظر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مظر، بن نزار، بن معد، بن عدنان..

هذا هو أبو طالب نسباً شريفاً يباهى به وأما أبو طالب ديناً واعتقاداً فنذكر أولاً ما روي عن كونه فارق الحياة ولن يسلم ونذكر لذلك أهم الروايات التي نصت على ذلك وهنّ أربع:

الأولى: عن العباس بن عبد المطلب أنه قال:(يا رسول الله هل نفعت أبو طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: نعم هو في ضحضاح من نار لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار).

الثانية: عن العباس بن عبد المطلب يقول:(قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينعرك فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم وجدته في غمرات من نار فأخرجته في ضحضاح).

الثالثة: عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:(أهون أهل النار عذاباً أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه).

الرابعة: عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذكر عنده عمّه أبو طالب فقال:(لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه ويغلي منه دماغه).

هذه الروايات تكاد تكون الرئيسية في ما روي ضد أبو طالب، وهناك روايات أخرى متعدّدة لكنها تختلف اختلافاً يسيراً مع ما ذكرناه.

وأشترك في نقل هذه الروايات كل من البخاري(2) ومن الغريب أن باب إيمان أبي طالب لا يوجد في الطبعة الأولى طبعة (بولاق) ومسلم في صحيحه(3) وطبقات بن سعد(4) ومسند أحمد(5) وتأريخ ابن كثير(6) وغيرها من المصادر. والذي يلفت النظر أن رواة هذه الأحاديث جميعاً بين كذاب مشهور عليه وبين نكرة غير معروف أو مدلّس مشهور أو وضّاع أثيم أو مجهول لا يؤخذ بحديثه.

وعلى سبيل المثال نذكر رواية واحدة بإسنادها، لنقف على جليّ أمرها وسيكون بعد ذلك المقصود واضحاً من وضع مثل هذه الأحاديث. فهذه الرواية نقلها مسلم عن أبن أبي عمير حدثنا سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الحارث قال: سمعت العباس يقول:(قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينعرك فهل نفعه ذلك قال (صلى الله عليه وآله): نعم وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح)(7).

وإذا انتقلنا إلى سلسلة رواة هذا الحديث فأول ما نصطدم بابن أبي عمير؛ وهذا مجهول لا يعرف له ظل؛ ثم ننتقل إلى سفيان الثوري فقد عرّفه الذهبي(8) بأنه يدلّس ويكتب عن الكذابين ثم نحن بإزاء عبد الملك بن عمير الذي طال عمره وساء حفظه. 

قال الإمام أحمد بن حنبل: ضعيف يغلّط.
 وقال بن معين: مخلط. وقال بن حيان: كان مدلّساً(9).

ولننظر إلى عبد الله بن الحارث فهو لا يختلف عن سابقه كما صرّحت المصادر في ذلك، وعلى هذه الوتيرة لو فتشنا عن سلسلة رواة هذه الأحاديث على اختلافها لرأينا أنهم من نمط واحد لا يختلفون ولقد أفرد الأستاذ عبد الله الخنيزي بحثاً طريفاً في سلسة رواة هذه الأحاديث ولم يخرج من جميع ذلك عن صادق واحد أو مرضي عنه على الأقل، وإنما اشترك في نقلها جمع الوضاعين والكاذبين وألقــــــــى على الأحاديث أضواء كشفت عن التضارب الفظيع الذي فيها؛ إما من حيث السند فإلى العباس خاصة.

فهذا معارض للحديث الذي نقله جلُّ المؤرخين عن العباس وفي مقدمتهم ابن أبي الحديد(10)، فإن أبي طالب ما مات إلا أن قال كلمة الشهادة مضافاً إلى شهادة الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).

والذي يؤلم أن عدّة من رجال التأريخ وأهل العلم نقلوا هذه الأحاديث على علاتها دون تمحيص أمثال مسلم، وابن سعد، وابن كثير، والبخاري.. وهذا الأخير كان يسجد لله شكراً إذا دوّن حديثاً، ولعلّه بدافع عميق سجد لله مرّات ومرّات على تدوينه لهذه الأحاديث وأيضاً فإن هذه الأحاديث المتضمنة أن أبا طالب في ضحضاح من نار مختلفة، ولكن اصلها واحد وراويها منفرد بها لأنها جميعا تستند إلى المغيرة بن شعبة الثقفي ولا يروي أحداً منها سواه وهو رجل ناقم على بني هاشم مغرض فيما يرويه عنهم لأنه معروف بعداوتهم مشهود ببغضه لهم والانحراف عنهم.

والمغيرة رجل فاجر وفاسق وزاني وشارب خمر ومعلوم فسقه وفجوره عند الأمة لوجوه منها:

أنه زاني فأسقط عمر بن الخطاب الحد عنه بتلقين الـــشاهد الرابع وهذه القصة مشهورة وعزله عمر عن ولاية البصرة ثم ولاه الكوفة فعزله عثمان بن عفان وولاه معاوية الكوفة حتى مات سنة 50 للهجرة.

فهذه هي الأحاديث التي وصلت إلينا ذكرناها إجمالاً وهذا هو حال رواتها من حيث النزاهة والقبول.

أما ما ذكر في هذا الصدد من القـــرآن الكريم حسب تأويـــــل بعض المفسرين؛ الآية:(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)(11).

ذهب بعض مفسري العامة ورواتهم على أن هذه الآية نزلت في أبي طالب عندما طلب منه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو على فراش الموت أن يقول كلمة الشهادة فامتنع فنزلت هذه الآية.

قال الرازي:(قال الزجاج أجمع المسلمون على أن هذه الآية نزلت في أبي طالب قال عند موته: يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشدوا. فقال (صلى الله عليه وآله): يا عم تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسك قال: فما تريد يا بن أخي؟

قال (صلى الله عليه وآله): أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول: لا إله إلا الله أشهد لك عند الله تعالى. قال: يا بن أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما رأى من شدة وجدك ونصحك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف فأنزل الله الآية إنك لا تهدي من أحببت.. الخ)(12).

وقبل أن نبحث في صحة هذا الإدعاء أو فساده نريد أن نعرض لرواة هذا التفسير ثم بعد ذلك بالأسلوب المتقدم كما يلي:

أ) ما رواه البخاري في صحيحه(13) عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه.

ب) ما رواه مسلم في صحيحه(14) عن حرملة بن يحيى التجيبي عن عبد الله بن وهب عن يونس عن أبي شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبيه.

ج) ما رواه السيوطي(15) عن أبي سهل عن عبد القدوس عن نافع عن أبي عمر.

ومن اجل أن نتعرف على هؤلاء الرواة لنقف على مدى ما يتمتع به هؤلاء الرواة من الثقة والاعتبار؛ نرى مثلاً سلسلة رواية البخاري فشعيب لم يعرف من هو المقصود بهذا الاسم فقد ذكر الذهبي(16) عدداً بهذا الاسم والغريب أن أغلبهم وصفوه بالضعف والكذب والجهالة وأن حديثهم غلب عليه الوهم وأمثال ذلك.. ولعل شعيب الوارد في سلسلة البخاري من هؤلاء المذمومين..

وأما الزهري محمد بن مسلم من الحاقدين على الإمام علي (عليه السلام) وقد وضعه ابن أبي الحديد(17) في قائمة الوضاعين ضد الإمام علي (عليه السلام) يقول قـــد روى الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل العباس (رضي الله عنه) وعلي (عليه السلام). فقال (صلى الله عليه وآله): يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي أو قال (ديني).

ومن هذا النوع من الأحاديث التي أوردها، وأما سعيد بن المسيب وضعه ابن أبي الحديد(18) في قائمة المنحرفين عن الإمام علي والوضاعين والكذابين، وأما أبوه المسيب بن حزم هو من مسلمي الفتح وقال مصعب الزبيري عنه: ورث ولده منه حزونه وسوء خلقه(19).

ولسنا نود أن نعلّق بأكثر مما أوردنا عن سلسة رواية البخاري في هذا الصدد فهل بعد أن وقفنا على أحوالهم نطمئن إلى أقوالهم عن أبي طالب.

وأما رواة سلسلة مسلم أو السيوطي لا يختلفون عن زملائهم السابقين وإذا اكتفينا من ناحية دراسة الرواة وأنهم غير صالحين للاعتماد عليهم في قبول هذا الحديث للأسباب الماضية.

نعود لنستعرض أقوال المفسرين فيها.. نجد أن الآية بين آيتين أخريتين وهي الوسط بينهما، الآية:(وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين) (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين). (وقالوا أن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون)(20).

فالآية الأولى مختصة بالمؤمنين تصف أعمالهم والآية الثانية تصف الذين لا يؤمنون مخافة أن يتخطفوا من أرضهم كما يزعمون (أي يُستلبون) وأما الآية الثانية الوسطى بينهما هي خطاب للرسول (صلى الله عليه وآله) يقول الله له فيها أن هداية أولئك ليس لحبك لهم فما أنت بالهادي لهم أي أنهم لن يهتدوا ولسماعهم الدعوى من الرسول فحسب وإنما بمشيئة الله(21).

وليست هذه الآية الوحيدة في القرآن التي تحمل هذا المعنى وهو نسبة الهداية لله فهي كآيات كثيرة منها هذه الطائفة من الآيات:

(ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء)(22).

(إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل)(23).

(أتريدون أن تهدوا من أضل الله)(24).

(أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون)(25).

(ويضل الله من يشاء ويهدي من يشاء)(26).

(من يهدِ الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً)(27).

وعند مقارنة هذه الآيات بالآية المتقدمة نراها تــحمل المعنى الذي تحمله تلك الآية ولا تختلف وكلها تشير إلى أن الهداية تكون بإعداد من الله تعالى ولكن في حدود اختيار العبد، لا أن نسلبه حرية الاختيار.

ولنزول هذه الآية عند أهل العلم سبب معروف وهو كالآتي:

أولاً: أن النبي (صلى الله عليه وآله) ضرب بحربة في خدّه يوم أحد فسقط على الأرض ثم قام وقد انكسرت رباعيته والدم يسيل على وجهه فمسح وجهه ثم قال:(اللهم أهدي قومي فإنهم لا يعلمون). فأنزل الله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت..الخ، فمنحوها إلى أبي طالب (رحمه الله) تحاملاً عليه وتوجيهاً للشبهة إليه مع العلم أن وقعة أحد كانت بعد هجرة النبي بثلاث سنين. والهجرة كانت بعد وفاة أبي طالب فتأمل!!.

وثانياً: أن قوماً ممن كانوا أظهروا الإسلام والإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله) تأخروا عنه عند هجرته وأقاموا بمكة وأظهروا الكفر والرجوع إلى ما كانوا عليه فبلغ خبرهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله) والى المسلمين فاختلفوا في تسميتهم بالإيمان، فقال فريق من المسلمين هم مؤمنون وإنما أظهروا الكفر اضطراراً إليه، وقــــال آخرون بل هم كفار وقد كانوا قادرين على الهجرة والإقامة على الإيمان، واجتمعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان أشراف القوم يريدون منه أن يحكم لهم بالإيمان لوجود رحمٍ بينهم فأحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تنزل ما يوافق محبة الأشراف إيثارا لتآلفهم. فلما سألوه عن حالهم قال (صلى الله عليه وآله) يأتيني الوحي في ذلك، فأنزل الله إنك لا تهدي.. الخ.

فهذان السببان قد وردا في نزول هذه الآية وكلاهما كانا بعد موت أبي طالب ووقعة أحد بعد وفاة أبي طالب بلا خلاف. مات قبل الهجرة وكان موته سبب الهجرة لأن الأمة روت أن جبرئيل(صلى الله عليه وآله) هبط إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة مات أبو طالب فقال له أخرج من مكة فما بقي لك بها ناصر بعد أبي طالب. وإذا كانت قد نزلت في الذين تأخروا عن النبي (صلى الله عليه وآله) على ما تقدم القول فيه فهي أيضاً نزلت بعد موت أبي طالب لأن النبي (صلى الله عليه وآله) هاجر يوم الإثنين من شهر ربيع الآخر على راس ثلاث سنين من موت أبي طالب.

وقد تبين مما ذكر أن كل المحاولات التي استهدفت النيل من شخصية سيد البطحاء ومؤمن قريش لا تقف أمام الدليل والتدقيق بأي وجه يذكر بل قد تثير ما لم يظهر للعالم من فضائل أبي طالب ومناقبه، وهنا لا بدّ أن نذكر منها شيئاً.

فقد ذكر أن أبا طالب(رضي الله عنه) عندما خطب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وسعى في تزويجه لخديجة بنت خويلد(رضي الله عنها) قال:(الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعل لنا بلداً حراماً وبيتاً محجوجاً وجعلنا الحكام على الناس ثم أن محمداً بن عبد الله ابن أخي ولا يوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه براً وفعلاً وحزماً وعقلاً ومجداً ونبلاً وإن كان في المال قل فإنما المال ظلٌ زائل وعارية مسترجعة وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك وما أحببتم من الصداق فعلي وله والله خطب جليل ونبأ شائع)(28).

فانظر ما تضمنته الخطبة من العصبية لسيد البشر والمعرفة بفضله والاعتراف بأن له (صلى الله عليه وآله) خطباً جليلاً ونبأ شائع فليت شعري من الذي يبعثه على الكفر بعد معرفة خطبه الجليل ونبأه الشائع وهو من أولي الألباب الذين أتاهم الله فصل الخطاب.

كما ذكر أن أبا بكر قال: إن أبا طالب ما مات حتى قال (لا إله إلا الله محمد رسول الله)(29). وذكر أن أبا بكر جاء إلى النبي بأبي قحافة يقوده وهو شيخ كبير أعمى فقال رسول الله لأبي بكر: ألا تركت الشيخ حتى تأتيه فقال: أردت يا رسول الله أن يأجرني الله أما والذي بعثك بالحق لأنا كنت اشد فرحاً بإسلام عمك أبي طالب مني بإسلام أبي الــتمس بذلك قرة عينك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): صدقت(30).

كما ذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قـــال لعقيل بن أبي طالب: أنـــا أحبك يا عقيل حبين حباً لك وحباً لأبي طالب لأنه كان يحبك(31).

ونذكر هنا طرفاً بسيطة من أشعاره الدالة على إيمانه وجملاً من أفعاله المحققة لإسلامه ومناصرته للنبي (صلى الله عليه وآله) ومنابذته لأعداء الله. ومن ذلك قوله(رضي الله عنه):

بظلم ومن لا يتقي الظلم يظلم
ولم تختضب سمر العوالي من الدم
جماجم تلقى بالحطيم وزمزم
نوائح قتلى تذعن بالتنرم
وأمر أتى من عند ذي العرش قيم(32)

 

لا حلام قوم قد أرادوا محمداً
يرجون أن تسعى في قتل محمد
كذبتم وبيت الله حتى تفلقوا
فيا لبني فهرٍ أفيقوا ولم تقم
وظلم نبي جاء يدعوا إلى الــــــهدى

أفلا يرى ذو اللب إلى جزالة هذا الشعر وقوته وجد قائله والشهادة للنبي بالنبوة والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، ولما سمع المشركون هذا القول من أبي طالب وقيام بني هاشم معه في نصرة النبي (صلى الله عليه وآله) سعوا بينهم واجتمعوا وقالوا: ننافي بني هاشم ونكتب صحيفة ونودعها الكعبة أن لا نبايعهم ولا نشاركهم ولا نحدثهم ولا نستحدثهم ولا نجتمع معهم في مجمع ولا نقضي لهم حاجة ولا نقتضيها منهم ولا نقتبس منهم ناراً حتى يسلموا إلينا محمداً ويخلوا بينا وبينه أو ينتهي عن تسفيه آبائنا وتضليل آلهتنا واجمع كفار أهل مكة على ذلك وعلم أبو طالب بهذا الحال فقال:

لؤي وخصا من لؤي بني كعب
نبياً كموسى خط في أول الكتب
ولا حيف فيمن خصّه الله بالحب
يكون لكم يوماً كداعية الغب
لعزاء من عصى الزمان ولا حرب
وأوصـــى بنيه بالطعان وبالضرب (33)

 

ألا أبلغا عني ذات بينها
ألم تعلموا إنا وجدنا محمداً
وإن عليه من العباد محبة
وإن الذي لفقتم في كتابكم
فلسنا وبيت الله نسلم أحمداً
أليس أبونا هـــــــاشـــــم شـــــدّ إزره

أنظر إلى هذا الإقرار الصريح من أبي طالب(رضي الله عنه) بأن محمداً نبي كموسى خط في أول الكتب، وهذا البيت يدل على إيمانه من وجوه منها: إيمانه بنبوة محمد وإيمانه بكتب الله تعالى التي لا يعرفها إلا المؤمنون ومعرفته بموسى بن عمران (عليه السلام).

وقوله ولا حيف فيمن خصه الله في الحب يريد بالنبوة منه والاختيار وكذلك لقد شهد المؤمنون بإسلام أبي طالب وأنه كان يقول: أسلم والله أبو طالب ببيت قاله وهو قوله:

نصرنا الرسول رسول المليك              ببيض تلألأ كلمع البروق

وقوله:

ولقد علمت بأن دين محمد           من خير أديان البرية ديناً(34)

وقوله:

مليك الناس ليس له شريك         هو الجبار والمبدي المعيد
ومن فوق السماء له بحق       ومن تحت السماء له عبيد(35)

وقوله:

يا شاهد الله عليّ فاشــــــــهد         آمـنت بالواحد أحــــــــــــد(36)

وكل ذلك غيض من فيض ذلك العالم المؤمن الذي ما مسته ألسنة الحاقدين لولا أن يدركوا مدى إيمانه وتفانيه في الإسلام وفي نبي الإسلام واستغلّوا لذلك كتمانه ذلك الإيمان الذي كان لغاية وهدف نبيل من شأنه الحفاظ على ديمومة هذا الدين الفتي الذي ولد للنور حديثاً وتحمل كل تلك المردودات والنعقات وفاءً لنداء الدين ولنبيه الأمين.

أبو طالب يكتم إيمانه

يعتبر بيت أبي طالب من البيوتات العريقة في مكة عموماً وفي قريش على وجه الخصوص، فقد كان هذا البيت مهيباً تتحاشاه قريش وكان سيدهم بلا منازع وكانوا يكنّون له الإجلال والاحترام والطاعة، وفي ظل ظرف البعثة النبوية الشريفة كان أبو طالب الناصر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والذائد عنه قبالة الهجمات القريشية التي حاول فيها عتاة هذه القبيلة منع نشر الرسالة الإسلامية واستهداف شخص الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وقد ظلت نصرة أبي طالب طي السرية والكتمان للحيلولة دون استيلاء عناصر قريش من المشركين على دفة القبيلة وعندها لن يستطيع أبو طالب من السيطرة على الأمور بمثل ما هو عليه من الزعامة والرئاسة التي استغلها في تأسيس قاعدة رصينة للرسالة المحمدية وقد اتضح هذا جلياً في ما ورد عن أبي لهب لما سمع قريش يتحدثون في شأن أبي طالب قوله:(دعوا عنكم هذا الشيخ فإنه مغرم بابن أخيه والله لا يقتل محمد حتى يقتل أبو طالب ولا يقتل أبو طالب حتى تقتل بنو هاشم ولا تقتل بنو هاشم كافة حتى تقتل بنو عبد مناف ولا تقتل بنو عبد مناف حتى تقتل أهل البطحاء فأمسكوا عنه وإلا ملنا معه. فخاف القوم أن يفعلوا فكفّوا)...

 

المصادر

1 ـ شرح نهج البلاغة: ج2/312 والاستيعاب: ج2/509 ودفاتر العقبى: ص222 ومجمع الزوائد: ج9/273 وغيرها.

2 ـ صحيح البخاري: ج6 ص33-34.

3 ـ صحيح مسلم: ج1 ص124.

4 ـ طبقات ابن سعد: ج1 ص124.

5 ـ مسند أحمد: ج1 ص206-207.

6 ـ تاريخ ابن كثير: ج3 ص125.

7 ـ صحيح مسلم: ج1 ص77 طبعة بولاق.

8 ـ ميزان الاعتدال: ج22 ص690 والغدير: ج8 ص23.

9 ـ ميزان الاعتدال: ج22 ص690 ودلائل الصدق: ج1 ص45.

10 ـ شرح النهج: ج3 ص312.

11 ـ القصص: 56.

12 ـ التفسير الكبير: ج2 ص25.

13 ـ صحيح البخاري: ج3 ص1074.

14 ـ صحيح مسلم: ج1 ص40 طبعة مصر صحيح: 1324.

15 ـ الدر المنثور: ج5/ ص133-134.

16 ـ ميزان الاعتدال: ج2 ص275-278.

17 ـ شرح النهج: ج1 ص358.

18 ـ شرح النهج: ج1 ص370.

19 ـ نسب قريش: 345. والجرح والتعديل: ج4 ص293-ق1.

20 ـ القصص: 55-56.

21 ـ تفسير البيان: للطوسي ج8 ص164.

22 ـ البقرة: 272.

23 ـ النحل: 37.

24 ـ النساء: 88.

25 ـ يونس: 43.

26 ـ إبراهيم: 40.

27 ـ الكهف: 17.

28 ـ السيرة النبوية: لابن هشام ج1 ص120 طبعة محمد علي القاهرة.

29 ـ شرح النهج: ج3 ص312.

30 ـ شرح النهج: ج3 ص311 وذكره أبو الفرج الأصفهاني.

31 ـ شرح النهج: ج3 ص312/ الاستيعاب: ج2 ص509.

32 ـ شرح النهج: ج3 ص312.

33 ـ ابن هشام في السيرة النبوية: ج1 ص319، الألوسي البغدادي: ج1 من بلوغ ص325- عبد القادر البغدادي: ج1ص216.

34 ـ تاريخ أبو الفداء: ج1 ص120.

35 ـ أبو الفتح الكراجكي (كنز الفوائد): ابن شهر آشوب في تشابه القرآن المخطوط.

36 ـ شرح النهج لابن أبي الحديد: ج3 ص315.