فن التوجيه

.. البصيرة.. وشخصية الداعية

محمد عصمت

في العدد السابق من مجلة النبأ ذكرت أن عناصر الدعوة الإسلامية هي الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال الحسن. والبصيرة.

وتحدثت عن ثلاثة منها وبقي عنصرها الرابع وهو البصيرة.

البصيرة

البصيرة وإن كان اشتقاقها من البصر إلا أنها شيء آخر غيره، أهم وأدق وأوسع وأشمل من البصر، لأن البصر ما هو إلا وسيلة لنقل الصور الخارجية إلى الذهن مثلها مثل وسيلة السمع، والشم، واللمس، والذوق وهو ما يقال عنها الحواس الخمسة.

وقد عرّفوا البصيرة بأقوال أهمها ما قاله الراغب الأصفهاني في المفردات:)يقال لقوة القلب المدركة بصيرة، وقد قال قبلها؛ البصر يقال للجارحة. وجمع البصر أبصار وجمع البصيرة بصائر((1).

والواقع هذا ليس سوى تعريف للفظ وليس لتعريف المعنى أو حتى تقريب مفهوم المعنى إلى الأذهان.

وأستطيع أن أعرف معنى البصيرة بأنها: قوة خفية أو ملكة وهبها الله للإنسان لإدراك حقائق الأشياء، أو إدراك الجوانب الخفية من الموضوعات، ولا يأتي ذلك إلا بعد الإحاطة بجميع جوانب الموضوعات.

والبصير كالخبير وهو معنى أخص من معنى العالم، فالعالم هو من يعرف شيئاً عن كل شيء، وأما الخبير فإنه يعلم كل شيء عن شيء، ومن ثم يتصف الله سبحانه وتعالى بالعلم والخبرة معاً لأنه عالم بكل شيء خبير بكل شيء على حدة، وبعبارة أخرى: عالم بالعموم خبير بالأجزاء.

والبصيرة تأتي عن طريق قوة الملاحظة والقدرة على التمييز بين الموضوعات والنفوذ إلى الفوارق الدقيقة بين المتشابهات في المواضيع.

والبصيرة في نوعها مثل القوى والملكات الموهوبة إلى الإنسان منها ما هو قوي، ومنها ما هو ضعيف، أي أنها تتقارب في درجات القوة والضعف. وتتفاوت من شخص إلى آخر، بل أنها تتفاوت عند الشخص الواحد في المواضيع. فنجد شخصاً ما بصيراً في السياسة، ولكنه غير بصير في الاقتصاد، أو بصيراً في شؤون الزراعة وليس كذلك في شؤون الصناعة، وهكذا..

عوامل تنمية البصيرة عند الفرد

ومن أهم عوامل تنمية البصيرة عند الفرد:

أولاً: دراسة الموضوعات دراسة شاملة حتى يصل الفرد إلى إحاطة وإلمام بكل موضوع.

ثانياً: النظر إلى الموضوعات نظرة تفصيلية.

ثالثاً: معرفة الفوارق بين الموضوعات.

رابعاً: النظرة النقدية للموضوع وهو السعي لمعرفة محاسنه ومعايبه.

خامساً: التجارب والممارسة.

هذه عوام تؤدي إلى زيادة قوة البصيرة وإنمائها في الموضوعات بشكل عام، ولكن إذا كان المراد تنمية البصيرة في الدين الاسلامي، فإن هذا الموضوع (الإسلام) يحتاج إلى عامل آخر يزيد عن كل تلك العوامل في الأهمية ألا وهو عامل الوجدان والحب لهذا الدين.

فالإسلام دين الفطرة التي تنطبق تمام الانطباق مع الوجدان.

والإسلام دين حي لا يمكن أن يعطي خفاياه وجوانب من حقيقته إلا لمن أحبه وأولاه ولاءً خاصاً.

فإن للوجدان قدرة خاصة تفوق قدرة العقل على الوصول إلى حقائق الأشياء، ومعرفة وإدراك ما يعجز العقل عن معرفته وإدراكه بوسائله المتاحة. فالوجدان لا يعتمد البرهان والاستنتاج في وصوله إلى الحقائق والخفايا. فإن ميدان الوجدان أوسع من ميدان العقل الذي يعمل في ميدان المحسوسات ولا يستطيع الخروج عن ميدانها، لذلك يكون الوجدان وسيلة لإدراك ما يعجز لعقل عن إدراكه.

وهذا المعنى ما أشار إليه رسول الله )صلى الله و عليه و آله و سلم( حين قال لسائل سأله:)استفت قلبك وإن لم يفتك الناس(.

فالوجدان السليم الذي يعبّر عنه بالذوق يرشد صاحبه إلى الحقيقة وقوله تبارك وتعالى:)بل الإنسان على نفسه بصيره، ولو ألقى معاذيره((2) .

يؤكد الدور الحقيقي للوجدان الإنساني داخل كل فرد، وقدرته الفائقة في الكشف ومعرفة الحقائق والوصول إليها مهما كانت الحواجز والموانع الموصولة إليها.

لذلك قال العرفاء في بيانهم لحدود العقل وقدرة التذوق الوجداني ووصولها إلى ما يصل إليه العقل قالوا: )العقل كالمطية يصحبك إلى قصر السلطان ولا يدخل معك عليه(.

وهذا يعني أن العقل يوصلك إلى بوابات حقائق الموضوعات ولكنه لا يستطيع إدراك المعاني الحقيقية فيها وإنما ذلك مرده إلى الذوق والوجدان السليم. ولا شك أن هذا في غالبه في الموضوعات الاعتبارية.

ومن ثم فإن البصيرة في الدين الإسلامي من لوازم الداعية لأنها من العناصر الأساسية في الدعوة الإسلامية.

لذلك يلزم الداعية قوة النظر والملاحظة في محاسن الإسلام سواء كان في الشق التشريعي والعبادي أو في شقه الإيمان (العقائدي).

ولا يتحقق ذلك إلا بأمرين أولهما عقلي والثاني وجداني، فالعقلي هو دراسة هذا الدين دراسة تمحيصية الغرض منها معرفة الحقائق الكامنة فيه. ودراسة العقائد والشرائع الأخرى ليكتسب الداعية الفوارق بين ما هو حق صحيح, وما هو باطل خاطئ، حيث أنه لا يمكن اكتساب القدرة على التمييز إلا بمعرفة الشيء وضده، ومعرفة المتشابهات.

وأما الثاني الوجداني هو تنمية الذوق الرفيع والوجدان المتوازن المستقيم لتنمية الشعور بالحقائق وإدراك معانيها.

هذه هي البصيرة المراد بيانها في موضوع أصول الدعوة الأربعة، الحكمة، الموعظة الحسنة، الجدال الحسن، البصيرة.

موضوعات فن التوجيه (علم الدعوة)

ذكرت أن الدعوة الإسلامية علم قائم بذاته أو كذلك يجب أن يكون، وإن كان هذا العلم مكون من عدة علوم ومعارف مختلفة تترابط بعضها البعض وتتلاءم لتشكل علم الدعوة، نحو علوم اللغة، وعلوم الفقه، وعلم المجتمع، وعلم النفس، وما شابه وشاكل من علوم ومعارف ذات العلاقة بالدعوة الإسلامية. وهذا ما سأبينه في الأعداد القادمة إن شاء الله تعالى.

وحيث أن الدعوة علم قائم بذاته فلا بد أن يكون هذا العلم في موضوع، وموضوع علم الدعوة: هو الداعية، المدعو، المدعو إليه.

ثلاث موضوعات ترابطت وشكلت موضوعاً واحداً هو موضوع علم الدعوة.

تعريف الموضوعات

الداعية: هو الفرد أو الجماعة المتأهلة لتولي مسؤولية الدعوة إلى الإسلام والدخول ضمن المجتمع الإسلامي (الأمة الإسلامية) وهم المعنيون بقوله تعالى:)ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير(.

المدعو: هو الفرد أو الجماعة الخارجة عن الإسلام، أو التاركة له والمعنية بالعمل لإدخالها أو حثها على التمسك بالإسلام ودخول مجتمعه.

المدعو إليه: أما المدعو إليه وهو الإسلام بجزئياته الأساسية التوحيد، العقائد، والعبادات، والشرائع والأمة. (فصلت بين التوحيد والعقائد باعتبار أن التوحيد هو بوابة الدخول في الإسلام).

وبحث هذه الموضوعات الثلاث الداعية، المدعو، المدعو إليه هو بحث علم الدعوة.

أولاً: الداعية

قد سبق وعرفت الداعية الإسلامي بأنه الفرد أو الجماعة المتأهلة لدعوة. وتعتري الداعية الإسلامي أحوال يجب دراستها والوقوف عليها، فالبحث إذا يدور حول الأحوال التي تعتري الفرد أو الجماعة الإسلامية المؤهلة للدعوة ونبدأ بدراسة أحوال الداعية الفرد.

وأهم ما يجب دراسته حول أحوال الفرد الداعية أربعة مباحث:

المبحث الأول: الشخصية الذاتية للداعية.

الثاني: قدرات الداعية.

الثالث: أخلاقه وسلوكه.

الرابع: موقعه من المدعو، والمدعو إليه (توجهاته).

المبحث الأول

الشخصية الذاتية للداعية

تعريف الشخصية: الشخصية كمفهوم عام هي مجموعة التفاعلات الداخلية في الإنسان تظهر هذه التفاعلات على سلوكه الخارجي وتنعكس على تصرفاته في مواجهة الأحداث التي تعتريه، وكذلك في مواجهة الأفراد المحيطين به فيؤثر ويتأثر بهم. وكل فرد من أفراد المجتمع الإنساني يتميز عن غيره في تلك التفاعلات المنعكسة على سلوكه.

وشخصية المرء هي التي تتضمن اتجاهاته، ودوافعه، وقيمه، ومبادئه، وما ينتمي إليه، وغير ذلك من سمات تظهر على سلوكه الخارجي فتكسبه ثباتاً على نمط حياتي ثابت، فتتمايز حينئذٍ شخصية الأفراد في المجتمع الانساني، ومن خلال ذلك يمكن تمييز أو تصنيف الشخصية أو تحديد معالمها.

أمثلة على ذلك:

إذا نظرنا بعين الملاحظة إلى شخص ما من الأشخاص بقصد التعرف على شخصيته ورسم ملامح عامة وأولية لها. فإن أول ما نلاحظه فيه هو تشابه تصرفاته، وثبات سلوكه في التعامل مع الأفراد المحيطين به والذين يتعامل معهم، وكذلك اتجاه الأحداث العارضة له، وهذا السلوك وإن اختلف في شكله وصورته إلا أنه لا يختلف في جوهره لأنه نابع من شخصية واحدة.

مثال الشخصية الأنانية

إن كل فرد من أفراد الجنس البشري مهما كان قد جُبل على حب ذاته والسعي لصالحها، وهذه الحالة حالة طبيعية ولكنه إذا زاد هذا الحب وصار السعي لصالحها على حساب مصالح الآخرين تتحول الحالة حينئذٍ من حالة طبيعية إلى حالة مرضية يمكن أن نسمي هذه الشخصية بالشخصية الأنانية.

ونلاحظ في صاحب هذه الشخصية أنه يتصرف مع كل شيء حوله بطريقة خاصة يظهر معها بوضوح الزيادة في حبه لنسفه عن الحالة الطبيعية بحيث يصل إلى حالة ينكر فيها وجود غيره، وإن كل ما حوله يجب أن تكون مرايا يرى فيها نفسه هو فقط.

وتدفعه هذه الحالة إلى توظيف كل طاقاته وقدراته ومواهبه لخدمة ذاته حتى أنه يوظف دينه ومعتقداته لهذا الغرض.

وشخصية فرعون كما صورها القران الكريم تمثل أبرز معالم الشخصية الأنانية فإن قوله كما ورد في القرآن: )لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد( دليل على انكاره وجود الآخرين من حوله، وتجاهل كل السبل إلا سبيله، فإن حصره لحسن الرأي في رأيه، وسبيل الرشاد في سبيله يوضح أبعاد الأنانية في شخصيته.

ولم يقف عند حد توظيف قدراته وإمكانياته لخدمة شخصه. بل إنه سعى إلى تسخير ما حوله من طبيعة للغرض نفسه. فإننا نجد فرعون في معرض حواره مع موسى)عليه السلام( )قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين( (2)، فإن ملك مصر كان لغيره وسيكون من بعده لغيره.

ولكن الأنانية أعمت عينيه عن رؤيا الحقيقة والواقع. فتوهم أنه الأوحد وأنه فريد عصره ووحيد جيله، وفلتة دهره. وأن الحق معه وليس مع غيره و.. إلى ما لا حد له من الوهم والخيال الكاذب.

ومن معالم شخصية الفرد الأناني كثرة الحديث عن نفسه وعن إنجازاته وممتلكاته وما ينفرد به عن غيره من مواهب وقدرت. في الوقت نفسه الذي يوهن فيه غيره ويسفه قدراته ويقلل من شأنه.

وهذه الصفات نلاحظها في قول فرعون السابق، فإنه قد ذكر نفسه في هذه العبارة القصيرة حوالي ست مرات: 1- في قوله يا قوم. أي يا قومي نسبة القوم إليه 2- الضمير العائد إليه في قوله (لي) 3- وفي قوله تحتي 4- ضمير (أنا) في قوله (أنا خير منه) 5- الضمير المضمر العائد إليه المقابل لقوله على خصمه (مهين) 6- وكذلك المقابل لقوله (ولا يكاد يبين).

بمعنى هو مهين وأنا غير مهين، وهو لا يكاد يبين وأنا أبين.

وكذلك نلاحظ في الشخصية الأنانية استغلاله للدين للوصول إلى مصالحه الذاتية.

وهذا المعنى ظاهر في قول فرعون:)ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم..( فهو يخشى على تبديل الدين الذي فيه صالحه.

ومن مجموع سمات الشخصية الأنانية نجد أن سلوك تلك الشخصية ثابت في محور واحد هو محور (الأنا) وإن كل ما يدور حولها ينصب في خدمتها.

ومثال الشخصية المادية

فإن الشخصية المادية نموذج آخر من نماذج الشخصيات الاجتماعية المتعددة.

وأهم ما يميز تلك الشخصية هو أن صاحبها يتصرف بطريقة واحدة في جميع معاملاته مع الأفراد والمجتمع من حوله حتى الحوادث الطارئة عليه وهي طريقة الأخذ والعطاء مع ميول الملحوظ إلى جانب الأخذ دون العطاء. حتى في السلوك العاطفي والوجداني لهما ثمن مادي، فإن أراد إشباع عاطفته أو سعى للأمان الاجتماعي والاطمئنان، لا يسعى لتحقيق ذلك من خلال الطرق الصحيحة والطبيعية بل يسعى إلى شرائها بالمادة.

ولا يميل صاحب الشخصية المادية إلى ما وراء المحسوسات من إيمان وحب وعاطفة وما شابه ذلك من معنويات، وإن أحتاج إلى شيء منها فبثمنها المادي.

وهناك نماذج أخرى عديدة اذكر منها نموذجاً آخر قبل ذكر الشخصية الإسلامية وهي الشخصية الخيالية.

الشخصية الخيالية

لكل فرد من أفراد الجنس البشري خياله ودنياه غير الواقعية، ولا يوجد أحد من البشر ليس له دنيا يخلقها هو ويعيش فيها على هواه، لذلك تجد أن النفس تميل إلى دنيا من صنعها فإنها تعيش فيها كما تريد. وأما دنيا الواقع يعيش فيها الإنسان بغير إرادته، في دنيا الخيال يفعل المرء ما يريد وفي دنيا الواقع يصطدم بالقيود والقدرات والإمكانات والإمكانيات.

ولا يوجد من له وقت يستريح فيه من دنيا الواقع فيسافر في دنيا الخيال، ومَن من البشر لم يهرب من سجن الواقع إلى حرية الخيال.

ومَن من البشر لم يفعل في خياله ما عجز عن فعله في واقعه.

وكل هذه الحالات طبيعية حتى يتحول سلوك الشخص في الواقع إلى سلوك خيالي.

وبعبارة أخرى يتعامل الشخص مع الواقع المعاش بما يتعامل معه في الخيال، ومن ثم يخلط الواقع بالخيال.

ولهذا تجد الشخصية الخيالية تميل إلى الخرافة والوهم وانتظار المعجزات وتجده يسارع إلى الإيمان بالخرافة، حتى أنه إذا طولب بالإيمان بالواقع فإنه لا يحلو له الإيمان إلا إذا خلط هذا الواقع بكثير من الخرافات والأوهام.

وتتميز تلك الشخصية بميوله إلى العاطفة أكثر من ميوله إلى العقلانية وتتميز كذلك بالعدوانية تظهر هذه السمة بوضوح متى تعرضت أفكاره وعقائده للنقد أو نوقشت عقلائياً.

فهو يصنع في خياله ما يؤمن به في الواقع، ويصنع في خياله عدواً لينتصر عليه في الواقع.. وهكذا.

وصاحب الشخصية الخيالية دائماً ما يكون في حالة تخلف عن غيره والمجتمع الذي تتفشى فيه الشخصية الخرافية مجتمع لا يمكن له أن يتقدم ويساير تطور الأمم والمجتمعات من حوله.

والشخصية الخيالية حالة مرضية تحتاج إلى علاج وإصلاح سواء كانت فردية أو جماعية.

الشخصية الإسلامية

أقصد بالشخصية الإسلامية هنا شخصية الفرد المعتقد بالإسلام ديناً، والعارف بحقيقته واقعاً والملتزم بشرائعه سلوكاً.

ولا شك أن الشخصية الإسلامية ليست من سنخ الشخصيات التي ذكرتها كنماذج (الشخصية الأنانية) والمادية، والخيالية، وليست كذلك قسيماً لها، ولا هي من نوعها.

وإنما هي من سنخ الشخصيات الدينية الأخرى ونوعها كالشخصية اليهودية أو الشخصية المسيحية.

وإنما ذكرت الشخصية الإسلامية هنا باعتبار ما قصدته من وراء قولي الشخصية الإسلامية وما أقصده منها هو الشخصية العقائدية، التي تشترك مع الشخصيات (الأنانية، المادية، الخيالية) في الثبات السلوكي.

لأن الدين الإسلامي يتميز عن غيره بأن عقيدته تتداخل في التفاعلات الداخلية للإنسان ولها نحو علاقة مباشرة في توجيه تلك التفاعلات، كما للدين الإسلامي تأثيره المباشر على سلوك الفرد.

ومن خلال هذا الاعتبار للشخصية الإسلامية يمكن جعلها قسيم الشخصيات النفسية الأخرى.

وقبل الدخول في مميزات وخصائص الشخصية الإسلامية يلزمنا بيان تثير الإسلام على الفرد المنتمي إليه في التفاعلات الداخلية المؤثرة على السلوك. إن أهم ما ركز عليه الإسلام اهتمامه هو بناء فرد متوازن نفسياً لتكون من مجموع الأفراد المنتمية إليه أمة متوازنة اجتماعياً وخالية من الأمراض الاجتماعية لأن سلامة المجتمع والأمة مرهون ومتوقف بسلامة أفراده ولعل هذا هو المعنى المراد من الوسطية التي وصف بها الله الأمة الإسلامية بقوله تعالى: )وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس( (3).

صحيح إن كلمة (وسطاً) في الآية تعني العدالة، ولكن ملكة العدالة لا تأتي إلا بالتوازن والسلامة النفسية للأفراد داخل المجتمع. لأنه لا يمكن أن تكو أمة خولها الله سبحانه وتعالى للشهادة على الناس وهي أمة مريضة اجتماعياً وأفرادها غير متوازنين نفسياً.

لذلك اهتم الإسلام بإصلاح الفرد من داخله، فألزمه قبل ممارس العبادات والتشريع الإيمان والتصديق، ثم إصلاح النية قبل الدخول في إتيان العبادة.

وذلك بغرض موافقة الممارسات العبادية النابعة من داخل الإنسان مع رغبته وميوله، فلا صلاة إلا بنية ولا صوم إلا بنية، ولا حج إلا بنية وهكذا..، فتتطابق الرغبة الداخلية مع السلوك فيحدث التوازن، على عكس الفرد المنافق الذي يمارس التعاليم الإسلامية والعبادات بغير رغبة منه وبعدم إيمان داخلي أو واعز ذاتي، ومن ثم لا يتفق سلوكه مع ما بداخله، في هذه الحالة يحث خلل نفسي وعدم توازن.

ومن هنا تظهر الشخصية الإسلامية في أسمى مظاهرها، وثبات سلوكها في مواجهة الأحداث ومع الأفراد المحيطة بها.

فمثلاً نجد الفرد صاحب الروح الإسلامية ثابت في مواجهة الظلم أو الفساد سواء صدر هذا الظلم من قريب له أو من بعيد عنه.

بل إنه ثابت السلوك في مقاومته نفسه إن صدر الظلم منه هو. وهذا ما نسميه (الإنصاف) أي أن الإنسان المسلم كما يقاوم الظلم من غيره ينصف الناس من نفسه وهذه الروح تنبعث من الإمتثال إلى قول رسول الله)صلى الله و عليه و آله و سلم(: )لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.. ويكره له ما يكرهه لنفسه( وفي معنى آخر:)لا يكون المؤمن مؤمناً حتى ينصف الناس من نفسه(.

وكذلك رضاه بالعدل، فإن الشخصية الإسلامية ثابتة السلوك في الرضى بالعدل ودعمه حتى لو كان هذا العدل قد صدر من خصم أو عدو له، وهذا أيضاً مقياساً للتوازن النفسي عن الشخصية الإسلامية. وعكس ذلك مرض يحتاج صاحبه إلى علاج وتقويم، فالذي يرفض العدل ويسفهه إن صدر ن خصم أو عدو. ويرضاه من الصديق والحبيب، والذي يقبل الظلم من صديق أو حبيب ويرفضه ويقاومه من خصم أو عدو، والذي يكون حكمه ونظرته للأمور وفق هواه إن أحب أكلّت عينه عن العيوب، وإن بغض أبدا المساوئ. مثل هذه الشخصية يختلط عندها الأمور وتتشابه الموضوعات ويفقد الروح الإسلامية وسلامة النفس.

والشخص المسلم يستطيع أن يصنع من نفسه شخصية إسلامية ناجحة عن طريق ترويض النفس بقبول عقائد الإسلام، والرضى بشرائعه ونهجه.

والتأمل العقلي والوجداني فيما بين الإسلام وبين يغره من العقائد الأخرى سوف يحدث عنده الاقتناع الكافي لإشباع الروح بمصداقية هذا الدين القويم.

بل إن ترك النفس إلى فطرتها الأولى والتخلي بينها وبين ما خلقها الله تبارك وتعالى عليه كفيل لسلامتها وحسن اختيارها.

ولا شك أن النفس التي أردتها هنا غير النزعات في النفس الأمارة بالسوء، والداعية الإسلامية يلزمه أن يكون صاحب شخصية إسلامية متوازنة ثابتة السلوك مع الأحداث والأفراد، وأن يكون سلوكه موافقاً لشرع الله، وروح الإسلام. وأخص الداعية الإسلامي بلزوم الشخصية الإسلامية لأن الداعية هي الشخصية المحورية التي يدور حولها البحث، وبه يقبل الناس الإسلام. وبه أيضاً ينفر الناس منه.

فإن رأى الداعية أن نفسه تقر العدل من الصديق، ولا تقره من العدو. أو إن رأى نفسه تثور في مواجهة ظلم صدر من شخص نكرهه، ونقره أو نبرره إن صدر من شخص نحبه. في هذه الحالة على الداعية أن يعيد النظر في تقويم شخصيته لأنها حينئذ شخصية غير منصفة ومريضة.

ويمكن معالجة هذا المرض متى ما عرفنا أسباب البغض والحب أو الأسباب الحقيقية والدوافع التي دفعت صاحب هذه النفس في الثورة أو في التبرير.

لأنه أحياناً يثور إنسان في وجه ظالم ليس من أجل الظلم، وإنما من أجل أشياء أخرى يمكن أن تخفى علينا.

وإجمالاً: يلزم الداعية الإسلامي أن يتمتع بشخصية إسلامية مثالية ثابتة متوازنة في أمرها. لأنها دليل على مصداقية ما ينتمي إليه، ومصداقية على التزامه بما انتمى إليه، وقوة تمسكه به.

لذلك كانت لشخصية الداعية في القوة والضعف أثر بالغ في نجاح الدعوة أو فشلها.

هذا أهم ما يمكن أن يقال في مسألة شخصية الداعية.

 وفي العدد القادم إن شاء الله نتحدث عن قدرات الداعية.