الاستبداد معالجات جذرية لرفع الداء

  علي عبد الرضا

تطرقنا في مقالنا السابق إلى الاستبداد السياسي والديني، وخلصنا إلى القول بأن الاستبداد الديني مسلك خطير أنتجته العصابة الأموية كوسيلة للحكم والتحكم برقاب الأمة، فهو وإن تمثل بالدكتاتوريات الحاكمة لطغيانها، وبطشها، وعنفها في ممارسة الحكم بما يخدم مصلحة الراعي لا مصلحة الرعية، والتحلل من جميع القوانين والتفلت من قيودها، لكن تبقى صورة واحدة متميزة طغت على الصور الأخرى، وإلا فإن هناك صور ومواقع لا تقل استبداداً عن الحاكم، وهي بحاجة أيضاً إلى معالجات جذرية وعنايات استثنائية، فبعض مجتمعاتنا ما زالت بعيدة كل البعد عن روح الحرية والديمقراطية وغير ملتزمة بأي مسؤولية اجتماعية أو شرعية قد تقف حائلاً دون استبداد الحاكم، لذلك فإنها تشترك مع الحاكم، وتتقاسم معه وزر نمو الاستبداد وبقاءه.

وعلى هذا تكون مكافحة الاستبداد عملية موجهة للأمة ككل، حكومات ومعارضة، أفراد ومسؤولين، فالوباء خطير ومستشري في كل عنصر من عناصر المجتمع بصور وألوان مختلفة ونسب متفاوتة.

وقبل الشروع بذكر المعالجات لابد من الإشارة إلى عدة مقدمات ضرورية:

            المقدمة الأولى 

)اعتبرت العصمة في مذهبنا -نحن معاشر الإمامية- شرطاً في الولي، فهي أعلى درجة متصورة في مقام حفظ الأمانة والحيلولة دون الاستبداد وتحكيم الشهوات، ومن الواضح أن إصابة الواقع والصلاح، وعدم الوقوع في المعصية حتى من باب الخطأ والإشتباه، وكذلك المحاسبة الإلهية وإيثار الوالي تمام أفراد الأمة على نفسه، إلى غير ذلك من الخصائص أمور تنتهي بواسطة العصمة والانخلاع عن الشهوة إلى درجة لا يصل إلى كنهها أحد، ولا يدرك العقل البشري حقيقتها.

ومع فقدان مثل هذه الشخصية المباركة يصعب الحصول على سلطان هو كأنوشيروان المستجمع لصفات الكمال، وله من الحاشية مثل بوذرجمهر في ذهنيته العلمية وفي استعداده لأن يكون حاشية تأخذ على عاقتها المراقبة الكاملة والمحاسبة التامة((1).

إذن الحصول على هكذا شخصيات لا يعد وارداً لغياب ولي الله الأعظم)عجل الله تعالى فرجه الشريف(ونوابه الخاصين فلا يبقى إلا نوابه العامون، وبما أن النائب العام هو فرد، والفرد كثيراً ما يخطأ وتأخذه الميول والشهوات يميناً وشمالاً، وتحركه المصالح والأنصار لغاياتها ومآربها، فالأولى والأفضل إناطة مهمة القيادة إلى مجموعة – ضمن شروط وضوابط معينة – تكون بمثابة شورى القيادة وتعمل بأكثرية الآراء منعاً للتصادم والتقاطع، وباستشارة أهل الخبرة والدراية والمؤسسات الفاعلة الأخرى تحقق الوئام والتماسك بين المجتمع وقيادته.

وليس هناك من شك بأن الله سبحانه يفيض على هذه الشورى عناية ورعاية خاصة ولهذا ورد ) ما اجتمعت أمتي على ضلال( فالشورى بحد ذاتها هي إيجابية تسجل لها قبل أن تسجل نتائج خطواتها اللاحقة.

فالقيادة الفردية في غياب الإمام المعصوم)عليه السلام( مرفوضة لأن مآلها إلى الفساد والاستبداد وهذا ما لا يحتاج إلى دليل، فصور الواقع المأساوي لسيطرة الاستبداد أمامنا جلية وواضحة وليست بحاجة إلى تعليق لأن الأِشياء تعرف بنتائجها.

  المقدمة الثانية

لاشك عندما تكون التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي خطيرة وعظيمة على عقيدته ووجوده وأمنه واقتصاده، وعندما تقوم دولة (أي دولة) على اتخاذ الفكر الإسلامي قاعدة وشريعة ونهجاً لها، وتلتزم به في جميع مواقع ومراكز الحياة والدولة التزاماً واقعياً وحقيقياً، يكون لزاما على (الكل) وتحديداً العلماء والحركات ورجال الفكر والقلم أن يقفوا مع هذه الدولة موقف التأييد والموافقة والإسناد بجميع خطوطه، لما تمثل هذه الدولة من فخر للإسلام، ولما تواجه من تحديات وصعاب مرحلية تتطلب تظافر الجهود والطاقات لدعمها وإمدادها بالشرعية والقانونية.

أما أن تكون هذه الدولة تحمل الطابع الإسلامي العام والمذهبي الخاص في شعاراتها فقط أو في بعض زوايا الحياة الهامشية، وتستبد في قراراتها ولا تتورع في عمل أي شيء للقضاء على الآخرين لأنهم يحملون أفكاراً لا تتناسب مع أفكارهم، وتطلب من (الكل) بما فيهم (علماء الأمة وحماة الشريعة) أن يقفوا معها ويباركوا خطواتها اللامشروعة، فهذا ما لا يرضاه العقل والمنطق السليم فضلاً عن الشرع.

هكذا حالات تتطلب وقفة نوعية متميزة وخصوصاً من (فقهاء الأمة) فقد جاء عن رسول الله )صلى الله عليه و آله( أنه قال:)إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله((2)، فالخطر عظيم يهدد كامل الشريعة لا حفنة من الأشخاص الذين استولى عليهم الشيطان ليس لهم هم إلا ملئ جيوبهم من حقوق الناس والتحكم برقاب الأمة.

إن إصلاح هذه الدولة بعد أن رفضت مختلف النصائح ومئات التوصيات من الواجبات المؤكدة، فأحياناً ضرر الصديق أبلغ من العدو، فإن العدو يأتي معلناً فسقه وفجوره وابتعاده عن الدين فتكون مهمة فضحه أقل كلفة وأسهل تحققاً عن أولئك الذين يأمرون الناس بالتقوى وهم عن التقوى بعداء. إن خطر علماء السوء على الدين أعظم من أي فئة أخرى طبقاً للحديث الوارد عن الإمام العسكري)عليه السلام((3)، لأن هذه الزمرة المتلبسة بلباس الدين تتلاعب بعقول الناس وبعقائدهم، والتلاعب بالعقائد لا يترك شيئا صحيحاً عند الإنسان إلا وقضى عليه وأفسده.

إن سيرة أئمة أهل البيت )عليهم السلام( حافلة بالمواقف ومتميزة بالقرارات الصائبة، فهي حجة علينا، ونحن محاسبون إن لم نأخذ بها ونستهدي بهديها وخصوصاً إن الحدود بين العدل والظلم باتت معروفة والمعالم بين الخير والشر باتت واضحة ومكشوفة وأخذت تظهر بكل تفاصيلها وجزئياتها، فلم يبقى شيء غامضاً وغير مفهوم نتردد فيه أو نختلف عليه.

وربما نعاب بأننا مثاليون لا ننظر إلى الحياة نظرة واقعية، ولا نماشي التطورات والتحولات الجارية في عالم الفكر والسياسة، ولكن هل الذي يضع حكومة الرسول)صلى الله عليه و آله( أو أمير المؤمنين)عليه السلام( نصب عينيه ويعتبرهما معياراً ومقياساً لمعرفة النظام القائم أو التشكيل الحاكم يكون معاباً في تصرفه أو خاطئاً في قياسه؟!.

إن الخطأ الذي وقع فيه ويقع فيه حالياً أغلب الذين يؤيدون ويقفون مع الحكام الظلمة والحكومات المستبدة هو أنهم ينظرون إلى الأشخاص والأشكال ولا ينظرون إلى الأفكار والمبادئ سقمها وصحيحها، حقها وباطلها، إن كرامة الفرد وماء وجهه –مهما كان شكله ومقامه- آخر ما نفكر به إذا كان شقه الآخر كرامة الشريعة وبقاءها بيضاء ناصعة، ومن الضروري أن تبقى المبادئ والقيم والأفكار نقية خالدة بعيدة عن بدع المغرضين واجتهادات الآخرين. أما الأفراد فمصيرهم الفناء الحتمي باستثناء صفحات التاريخ التي تحفظ بعض الأسماء كعادتها، بعضاً للاعتبار وصب اللعنات وبعض آخر للاقتداء وطلب الدرجات.

المقدمة الثالثة

إن الاستبداد لا يقاوم بالعنف والشدة ولا بالتي هي أخشن، إما يقاوم بالحكمة والتروي والتدرج وبالتي هي أحسن، لأن إقناع الفكر العام وإذعانه إلى غير مألوفه لا يتأتى إلا في زمن طويل وخصوصاً أن الناس تطبعوا على عبادة الفرد واعتبروا التسليم له مذهباً دينياً، وإن كل ميل عن الحاكم هو ميل عن الدين الحنيف!!

إن الذي يريد أن يحقق السلام والعدل ويرفع الاستبداد والظلم عن المجتمعات الإنسانية لا يمكنه أن يقوم بأعمال تناقض السلم في سبيل الحصول على السلم والعدل، ولو فرض وصول جماعة إلى غايتها عن طريق العنف. فمن يجزم بعدم دوران دولاب العنف والانقلابات مرة أخرى ليجرف معه في كل دورة يدورها أعداداً هائلة من الأرواح البريئة؟

إن العنف ليس هدفاً بحد ذاته، وإنما هو طريق من الطرق المختلف عليها، فإذا فقد هذا الطريق طريقيته، بل إذا تحول إلى طريق لاتجاه معكوس فهل يصح بعد ذلك أن نتمسك به ونتمسح بإذياله؟ إن العاقل من اختار الوسيلة الفضلى للوصول إلى الهدف، لأن الاختيار مسألة صعبة جداً ومعقدة وأي خطأ يحصل فيها ولو قيد شعرة سيبعدنا عن الهدف سنين وسنين، كالخط المستقيم إذا انحرف في البداية فإنه سينحرف أكثر كلما سار.

وليس صحيحاً أن نختزل الزمن بالعنف ولا نفكر بالآثار التي ستترتب عليها مسالة الوصول إلى الهدف، كما أن الوصول ليس نهاية المطاف بل بداية المتاعب، فكلما كان تحركنا سليماً في بدايته كانت متاعبنا قليلة عند قطف الثمار.

ثم إن ممارسة العنف من قبل جهة لا تعادل قدرتها السلاحية جزءاً من مليون جزء من قدرة الطرف المقابل لا تعني إلا إثارة الطرف المقابل ليجند كل طاقاته لتحجيم بل وللقضاء على هذا الطرف قبل أن يصل إلى هدفه وربما قبل أن يخطو خطوته الأولى.

كما إن العنف إذا تحرك وسرى لا يترك مجالاً لعمليات التغيير الفردي والجمعي أن تأخذ شكلها الطبيعي فيستحوذ على كل الأذهان والأزمان فيجعلها تفكر فقط وفقط بإزالة شخص المستبد والانتقام منه بأي صورة كانت لا طلباً للخلاص من الاستبداد. وهذه الفئة إن تحققت غايتها فلا تستفيد منها شيئاً لأنها استبدلت مرضاً بمرض وربما مرضاً أشد فتكاً من سابقه.

وعلى هذا يكون التغيير المسبق الذي يفرّغ ما احتوته أذهان الأمة من سلبيات وخصوصاً رذائل الاستبداد والاستعباد والخنوع والتزلف، ويزرقها بالأسس الواقعية لقيام النظام الشورائي وحكومة العدل، لهو الكفيل بحفظ الكرامة الإنسانية وإيصال مركب الحكومة إلى شاطئ الأمن والاستقرار.

المعالجات

إذا أردنا مكافحة الاستبداد، فعلينا أولاً أن نقف أمام نمو المقتضي لهذا الداء، وثانياً أن نوجد الموانع أمام تفشي هذا المرض وتوسعه وانتقاله إلى نقاط أخرى. ومثل ذلك مثل السيل، حيث ينبغي أولاً أن نقف دون حصوله، فإذا لم نتمكن من ذلك نقوم بالخطوة التالية وهي بناء الحواجز وإقامة السدود لكي لا يجرف المدينة ويخرب البلد.

ونحن هنا سنقوم بذكر بعض الخطوات الكفيلة أمام نمو المقتضي للاستبداد، والحواجز الضرورية الحائلة دون بقاءه وانتشاره في آن معاً.

أولاً: رفع الجهل

يقول بعض أهل الحكمة: )إن العلة المبقية هي العلة المحدثة( فما دام الجهل مسيطراً على الأمة يبقى الاستبداد مخيماً عليها، وما لم تبلغ الأمة مرحلة الرشد الفكري والحصول على العلوم الإنسانية الحياتية، سيبقى المستبد يصول ويجول وليس من أحد يقف أمامه أو يمنعه من ارتكاب آثامه.

فالاستبداد إنما ينمو ويترعرع ويعيش ويقفز إلى الحكم ويبقى بسبب جهل الأمة وعدم إطلاعها على حقوقها وكذلك عدم معرفتها بوظائف الدولة والحاكم بشكل خاص، والمستبد يعمل دائماً على تغيب العلم وغلق منافذ المعرفة على الناس بألف وسيلة ووسيلة، فسياسته مرتكزة على تجهيل الأمة وجعل أفرادها مخدوعين، يجرهم للجهة التي يريدها ويقذف بهم في مهاوي الردى وزوايا النسيان وهم يباركون خطواته ويشدون على يديه، فهم وسيلة المستبد وضحيته، بهم يسيطر وعليهم يتجبر، من أموالهم يسرق وبأموالهم يتكرم عليهم.

فالتزلف للمستبد وإظهار الخضوع له وجعله إلهاً وإشراكه مع الذات الأحدية ليس إلا نتيجة من نتائج الجهل الذي هو منبع لكل الشرور والأمراض.

والجهل والعلم اليوم هما اللذان يحددان سياسة الدول وكيفية تعاملها مع شعوبها والشعوب الأخرى، فهذه أميركا تكيل بمكيالين تتعامل مع شعبها بروح ديمقراطية بعيداً عن التسلط والتجبر لكون شعبها شعباً واعياً تتحكم فيه قوى مختلفة وتراقبه مؤسسات عديدة. وتتوفر فيه شرائط الديمقراطية. بينما تتعامل مع شعوب القارة الإفريقية وغيرهم بطريقة غاشمة مستبدة وكأنها تتعامل مع أسرى، وهذا يرجع إلى غفلة هذه الشعوب وجهلها بأبسط أمور الحياة.

فالعلم وحده الذي يستطيع أن يرفع طوق العبودية عن رقاب الأمة ويكسر قيود الأسر ويعلّم الناس حقيقة الحرية وإنها أفضل من الحياة، والشرف كل الشرف أن يعيش الإنسان عزيزاً مكرماً بدل أن يكون عبداً ذليلاً يتحكم به هذا المستبد أو يأسره هذا الظالم.

ثانياً: وضع الدستور وتحكيمه

تطور السلطة الهائل في شكلها وفي غاياتها وفي طرق ممارستها من جهة، وطغيان الإرادات الفردية الحاكمة على الحقوق المدنية، وخوف الأمة من ممارسة دورها الأساسي في المراقبة والمحاسبة من جهة أخرى، من أهم الأسباب الرئيسية التي حدت برجال القانون والحقوق إلى التركيز على وضع آليات معينة لكبح جماح السلطة والحيلولة دون حصول تعديات أو تصرفات فردية تخل بالنظام العام، فكان الدستور خير من يقوم بذلك وخير من يحكّم القانون على الجميع وفوق الإرادات، إرادات الحاكمين والمحكومين على حد سواء، فإن الناس أمام القانون وفي جميع مجالات الحياة الأخرى سواسية كأسنان المشط، كما قال رسول الله)صلى الله عليه و آله( لا ميزة أو أفضلية لأحد على أحد أو لحاكم على مزارع مستضعف، فالمساواة ضرورية هنا قبل غيرها.

وتنشأ أهمية وضع الدستور وتتضح ضرورته وكونه أمراً واجباً لابد منه لعدة أسباب:

الأول: إنه يبين شكل الدولة ونظام الحكم.

الثاني: ينظم السلطات ويحدد العلاقة بين الأجهزة المختلفة للدولة ويضع الحدود لكل منها.

الثالث: يقرر حقوق الأفراد والجماعات ويحدد الوسائل الأساسية لحمايتها وضمانتها.

رابعاً: يحدد ويقنن مسؤولية الحاكم والأمور التي يحق له التدخل فيها وما لا يحق له.

خامساً: يرسم الخريطة التفصيلية لعلاقة الحاكم بالأمة وبالعكس وطرق حل الاختلاف والتنازع.

على أن يشترط في كل القوانين أن تكون واضحة وصريحة ليس فيها خلط أو ضبابية تمنع الفهم وتشتت التفسير الذي تبتني عليه حقوق الأفراد وواجباتهم وعمل الحكام ومسؤولياتهم.

فالدستور خير من يضمن الحقوق العامة والخاصة ويمنع التعديات والتجاوزات، فإذا ضممنا له المخزون العلمي العظيم الذي يحمله كل فرد من أفراد المجتمع نكون قد وضعنا أهم عائقين أمام نمو الاستبداد والطغيان.

ثالثاً: تشكل مجلس رقابة

ربما يرى البعض أن وضع الدستور قد لا يحول دون قيام حكومة استبدادية أو قيادة فردية حيث أننا نرى بأم أعيننا كيف يحصل تعدي سافر على القوانين وكيف تصادر حريات الأفراد في أكثر من بلد وخصوصا في الدول البوليسية وذات الحزب الواحد وباسم القانون، حتى غدا الدستور ألعوبة بيد الحاكم ووسيلة للضغط على خصومه وملاحقة معارضيه، وبهذا يكون القانون غالباً عون للحاكم لتحقيق مصالحه الشخصية وغاياته الشيطانية، بينما كان المفروض أن يكون وسيلة ردع فاعلة بيد الأمة لتقييد الحاكم ولجمه عند الطغيان، وشده لو حصل الفلتان.

والجواب.. إن الدستور قد ينتهك وهذا متوقع ومحسوب كما أنه ليس غريباً في عالم السياسة الذي يستغل كل ثغرة ومجال يسنح له لتحقيق غاياته ومرامية، ولكن الشيء الذي يقف دون حصول الاختراقات والتعديات هو وجود مجلس أو جهاز قوي تناط إليه مسؤولية مراقبة المخالفين ومحاسبة المقصرين، وهذه الوظيفة الحساسة توكل إلى مجموعة من علماء الأمة ونوابها والخبراء والمتخصصين في مسائل الحقوق والقانون والمطلعين على مقتضيات العصر وخصائصه ومن قوى متعددة وتكتلات مختلفة على أن تعطى لهذا المجلس أو الجهاز صلاحيات واسعة لمراقبة الأفراد والمسؤولين سواء كانوا في أعلى السلطة أو في أسفلها، داخل الحكومة أو خارجها، كما يلزم وضع كل مستلزمات الحماية والقدرة تحت تصرفهم خوفاً من النيل منهم عند تحديد المقصر وعند محاسبة المتجاوز والمفرّط. وإلا فالمراقبة وحتى تشخيص الخلل لا تجدي نفعاً إن لم تتبعها محاسبة صارمة وشديدة لكل من تجاوز القانون وتطاول عليه، وهنا تكمن مهمة الردع الحقيقي ومدى تأثيرها الفعال على نفوس الآخرين.

ومنعاً لحصول أي التفاف على هذا الجهاز أو المجلس أو احتمال السيطرة عليه من قبل الحاكم ترغيباً أو ترهيباً، يجب على الأمة أن تتسلح بسلاح القوة والعزيمة وتراقب عن كثب السلطة الحاكمة ولا تأخذها في الله لومة لائم وإن أدى ذلك إلى هتك الحاكم وتعريته، المهم أن يكون القانون محترماً من قبل الجميع وفوق الجميع.

وفي هذا المجال يرى الإمام الشيرازي (دام ظله) أن لا عصمة لأي حاكم –وإن كان فقيهاً- من التعرض للوقوع في إغراءات الحكم وسوء استخدام السلطة، وإن الأمة طبق مسؤوليتها الشرعية (يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) يحق لها ومن واجبها مراقبة الحكومة والحاكم –بنفسها أو من ينوب عنها- ومحاسبته عند تحقق زيغه عن المهمة الموكلة إليه، وبهذا الطرح قنن لنا حفظه الله أصلاً دستورياً يتيح للأمة الرقابة ليس على الحكومة فحسب وإنما حتى على الفقيه والمرجع منعاً للاستبداد وحفظاً للبلاد.

والشيء الآخر الذي يمنع تجاوزات السلطان وتعديات الأعوان على القانون، هو وجود حكومة ظل واقعية تراقب الأمور عن قرب فتفضح ما حجب عن الأمة من تلاعب وتزوير فتسقط هذا لفساده وترفع ذاك لأمانته والتزامه بتطبيق القانون.

رابعاً: توزيع القدرة

ونقصد بها هنا كل شيء يمنح الحاكم القدرة على تقوية منصبه وتوسيع صلاحيته وإبقاءه مسيطرة على رقاب الأمة ومن طبيعة تمركز القدرة الاستبداد والتعالي وحب التوسع في الأمر والنهي، لذا يلزم توزيع القدرة –أية قدرة- تحقق للحاكم رغباته والنفوذ إلى المسؤوليات غير المناطة إليه ومنها:

1) الأحزاب الحرة: حيث تمنع تمركز القدرة في حزب واحد وتنمي حالة التنافس البناء.

2) الحرية الإعلامية: التي تكفل المراقبة، وكشف المستور، وإعطاء الوعي السياسي للأمة، تترجم مطالبها بخير لسان وتأخذ حقوقها بدون نقصان.

3) خصخصة الاقتصاد: ضمن شروط معينة يضعف سيطرة الحكومة والحاكم على اقتصاد البلد وتلاعبه المستمر في القيمة الشرائية والتوزيع والتصدير.

4) الفصل بين السلطات: لأن جمعها بيد واحدة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقه، فيجب أن تكون كل واحد منها رقيباً على غيرها.

5) استقلالية القضاء: باعتباره أخطر وسيلة قانونية تسمح للحاكم المستبد مصادرة الأموال والتعدي على الحقوق والقضاء على المعارضة.

6) تحييد القوات المسلحة وتوزيعها: لكي لا تكون طرفاً في النزاعات والصراعات السياسية، ولا تستغل إن تمركزت في إقليم أو ولاية محددة في عمليات التغيير القسرية كالانقلابات مثلاً.

7) إيجاد المؤسسات الدستورية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تحفظ التوازن في البلاد وتمنع سيطرة فرد أو مؤسسة على مركز القرار والقدرة.

8) إعطاء الحرية التامة للمراكز الدينية والتعليمية لكي تأخذ دورها في صقل وتهذيب أفراد الأمة، وتعلمهم الحاجات والعلوم الإنسانية الحياتية التي تحفظ حقوق الأفراد والأمة وتمنع تسلط المستبد.

9) خلق رأي عام قوي ومستنير من مختلف القوى والفاعليات المتواجدة في البلاد ليكون الضمانة النهائية ضد كل انحراف بالسلطة وكل استبداد بالقدرة والقرار.

خامساً: تنمية الفضائل

وأخيراً وليس آخراً.. فإن من عوامل نمو الدكتاتورية وبقاء الاستبداد، هو غياب الفضائل الأساسية التي يقوم عليها بناء المجتمع السليم. والغالب في الحكومات أنها تنبثق من نفس الشعوب فإذا كانت الأمة خائنة أو كاذبة أو منافقة. يظهر منها بعض أفرادها الذين هم بنفس تلك الصفات، وإذا ظهرت أخذت في توسيع رقعة الخيانة والكذب والنفاق في الحكومة والحكم والعكس صحيح أيضاً فـ)كما تكونوا يولى عليكم((4).

من أجل ذلك أكدت تعاليم الشريعة الإسلامية وعلماء الأخلاق والسلوك على بذر الأخلاق الحميدة والفضائل المجيدة وتنميتها بصورة سليمة في كل خلية من خلايا المجتمع لتكون خير عنصر يعتمد عليه عند تعيين المسؤوليات وتوزيع المناصب.

وهذا ما يتطلب رعاية خاصة وعناية تامة من قبل المشرفين والمربين، لأن الملكات في الإنسان مغمورة خيرها وشرها ومع الزمن تنمو وتكبر كالزرع ينمو تدريجياً حتى يعطي ثماره الحلوة أو المرة، ومن اليوم الأول لا يكون الإنسان عادلاً أو ظالماً، شورائياً، أو دكتاتورياً، وإنما مع الزمن يتغير، إن كانت بذرته وتربيته صالحة خرج إلى المجتمع نافعاً فاعلاً وحول إليه أيضاً ثماراً فاعلة طيبة، وإن كانت بذرته الأولى وما يحيط به فاسداً فإن الإنتاج لا يكون إلا من نفس الجنس.

وإذا أردنا أن نكون واقعيين علينا من الآن تنمية الفضائل وتركيزها في كل فرد وعائلة حتى نحصل في المستقبل القريب على نتائج ونماذج ربما تكون صالحة وقادرة على حمل الأمانة وتحمل المسؤولية.

وبهذه النقطة نكون قد انتهينا من ذكر أهم العلاجات الجذرية الفاعلة للقضاء على داء الاستبداد ورذيلة الاستعباد والله من وراء القصد.