مجلة النبأ    العدد  36     السنة الخامسة    جمادى الاولى  1420 ه

 

فن التوجيه

عناصر الدعوة الإسلامية

 

بعد الحديث عن حكم الدعوة الإسلامية وأن وجوبها كفائي، وأن ثمة فوارق بين الدعوة وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتحدث هنا عن أساليب الدعوة أو الطرق الصحيحة لممارسة الدعوة، أو ما يمكن أن أسميه بالعناصر الأساسية لإيصال الإسلام إلى الناس ودعوتهم إليه، ولا شك في أن القرآن الكريم ما كان له أن يهمل تلك المسألة، لذلك بين القرآن العناصر الأساسية والهامة للدعوة الإسلامية بآيات جلية المعنى صريحة العبارة.

قال تبارك وتعالى:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة، والموعظة الحسنة، وجادله بالتي هي أحسن. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (النمل: 125).

وقوله:( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) (يوسف: 108).

فعناصر الدعوة كما وردت في الآيتين الشريفتين:

1- الحكمة. 2- الموعظة الحسنة. 3- الجدال الحسن 4- البصيرة.

وهذه العناصر الواردة في القرآن الكريم نمرّ عليها أثناء التلاوة مرور الكرام، أو أن نستشهد بها في كيفية الدعوة وسلامتها إجمالاً دون الوقوف والتأمل في كل عنصر من تلك العناصر الأربعة، بل إنني أذهب إلى أكثر من الوقوف والتأمل وأبعد من ذلك.

أذهب إلى ضرورة دراسة كل عنصر من تلك العناصر دراسة موضوعية هادفة، وهذا ما قصدت بيانه.

أولاً: الحكمة

(الحكمة) في اللغة لفظ مشتق من (حكم) وهو المنع بقصد الإصلاح والضبط، لذلك سُمي لجام الدابة (حَكَمَة) لمنعها من النفور والعصيان.

فيقال حكمت الدابة أي منعتها من فعل لا أريده.

ومن هذا المعنى قيل (حكمت السفينة) أي ربطها لأمنعها من الإنسياب في الماء.

وقال أحدهم:(أبني حنفية أحكِموا سفهاءكم) أي امنعوا سفهاءكم(1).

وقد توسع استعمال اللفظ واشتق منه ألفاظاً متعددة لمعانٍ أخرى نحو قولك: أحكمت الصنعة أي أتقنتها، وحكمت السد أتقنته ومنعت تسرب الماء منه، وأحكم الله آياته أتقنها ومنع وقوع الخلل والاختلاف فيها.

والحكم هو القول الفصل المانع من الاختلاف والخصومة. وتارة ينصف بالعدل فنقول حكم عادل وتارة بالظلم فنقول حكم ظالم.

واشتق منها اسم الفاعل والمفعول والمصدر فنقول: حاكم ومحكوم وحكم وحكومة.

ومنها اشتق كلمة (حِكْمَة) وهي القول المحكم المتقن الذي لا يتسرب إليه خلل من كذب أو خطأ أو إبهام أو غموض أو غير ذلك.

وقد استعملت العرب لفظ الحكمة للطبيب لأنه يمنع المرض، وليس لأن الطبيب هو الحكيم أو أن الحكمة منحصرة في الطب. وإنما لأن الطب كان أحد مصاديق الحكمة واتسع مفهوم الحكمة حتى صار مفهوماً كلياً يندرج تحته مفاهيم متعددة، فكل عمل أو قول تتطابق مع الواقع وامتنع عليه النقد أو الرد والمعارضة كان عملاً أو قولاً حكيماً. فنقول قول حكيم، وسلوك حكيم، ورأي حكيم وهكذا.. لذلك كان الحكم أعم من الحكمة لأن الحكم يتصف بالظلم والعدل والحكمة لا تستعمل لا عند العدل فقط.

فنقول حكم بالحكمة أي فصل بين الناس بما يمنع الخلل، والنقص، والنقد، والمعارضة.. وهذا معنى قوله تعالى:( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) أي ألهمناه الحقيقة، والقدرة على بيانها وإظهارها بالألفاظ والجمل الفاصلة التي لا إبهام فيها وغموض.

فالقول الفاصل الذي لا توجد فيه ثغرة أو جهة ضعف تمنع من قبوله قول حكيم.

وقول الراغب الأصفهاني في )مفردات القرآن( مادة (حكم) بأن الحكمة هي«إيصال الحق بالعلم والعقل» ليس تعريفاً لمطلق الحكمة وإنما تعريف للحكمة المطلوبة في الدعوة الإسلامية.

وعرّفها ابن قيم الجوزي في )هامش التفسير القيم( ص344 بأن الحكمة هي«وضع الشيء في موضعه اللائق به».

وعرفها السيد الطباطبائي في تفسير الآية:( أدعو إلى سبيل ربك بالحكمة..) بأنها «الحجة التي تنتج الحق الذي لا مرية فيه ولا وهن ولا إبهام» (يراجع تفسير الآية في تفسير الميزان).

والملاحظ أن هذه التعاريف لجانب من جوانب الحكمة وليسا تـــعريفاً لمفهومها الكلي، ولكن كما ذكرت يمكن أن تصلح تعاريف للحكمة في الدعوة الإسلامية.

فإن مراعاة أحوال المدعو إلى الإسلام من الحكمة، أحواله المادية، والنفسية، والفكرية، والاجتماعية حتى أحواله العارضة فإن الحكمة مراعاة تلك الأحوال، وعدم مراعاتها ليس من الحكمة بل من الحماقة التي لا ينتج عنها سوى تنفير المدعو.

والقدرة على استعمال الحجة والبرهان من الحكمة فإن استعمال الدليل في غير موضعه، أو الحجة حتى لو كانت صحيحة في غير مناسبتها ليس من الحكمة.

اختيار أولويات المواضيع من الحكمة، واختيار الموضوع غير المناسب للمقام كذلك ليس من الحكمة.

كما أن دراسة علم الدعوة ومتطلباته من الحكمة في الدعوة، والارتجالية فيها خلاف الحكمة.

ثانياً: الموعظة الحسنة

الموعظة الحسنة عنصر هام من عناصر الدعوة الإسلامية وهي العلامة على مصداقية الداعية أو عدم مصداقيته، وبعبارة أخرى هي العلامة الفاصلة بين الداعية إلى الله الذي لا غاية له سوى الله، وبين الداعية إلى نفسه أو إلى شيء آخر غير الله تبارك وتعالى، لذلك وصفها الله سبحانه وتعالى (الموعظة الحسنة).

لأن الداعية الإسلامي لا يريد من الناس جزاءاً ولا شكوراً بل كل ما يريده منهم هو عودتهم إلى الله، وعبادتهم إياه.

والموعظة كما عرّفها الراغب الأصفهاني في )مفردات القرآن( هي «زجر مقترن بتخويف».

ونقل عن الخليل بن أحمد أن الموعظة هي «التذكير بالخير فيما يرق له القلب».

والواقعان كلاً من المعنيين صحيح فالزجر المقترن بتخويف يسمى موعظة، كما في قوله تعالى:( إني أعظك أن تكون من الجاهلين) (هود: 46).

وقوله تعالى:( واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن..) (النساء: 34).

فمعنى الوعظ في الآيتين هو الزجر المقترن بتخويف.

وكذلك التذكير بالخير بما يرق له القلب ورد في قوله تعالى:( يعظكم لعلكم تتذكرون) (النحل: 60). أي يذكركم لعلكم تتذكرون.

ولكن المعنى الأول هو الأشهر في استعمال لفظ الموعظة.

وأستطيع أن أعرف الموعظة الحسنة بأنها هي النصيحة الهادفة إلى الخير، والدّالة عليه؛ وهذا هو المعنى العام لكلمة موعظة، فالزجر موعظة ولكن الموعظة ليست في كل معانيها زجراً فقد تستعمل كلمة موعظة بقدر الأمر المستتبع للخير كما في قوله تعالى:( قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى) (سبأ: 46).

بمعنى قل إنما آمركم بأن تفعلوا واحدة من اثنتين أن تقوموا لله مثنى أو أفراداً.

والزجر أو الأمر أو التذكير أو غير ذلك مما يستتبع شيئاً ما يسمى نصيحة فإن كان المستتبع خيراً كانت موعظة حسنة وإن كان المستتبع شراً كانت الموعظة سيئة.

وقد وردت كلمة موعظة في القرآن بمعاني متعددة، منها على سبيل المثال، قوله تعالى:( فاعرض عنهم وعظهم) (النساء: 63) أي وحذّرهم وخوفهم.

وقوله تعالى:( يعظكم الله أن تعودوا لمثله إن كنتم مؤمنين) (النور: 117). أي ينهاكم ويحذركم.

ويمكن بعد ما تقدم أن نضع تعريفاً للموعظة الحسنة المقصودة في قوله تعالى:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) بأنها هي القول البليغ اللين الهادئ المتضمن لتخويف وزجر مع عدم التصريح بالزجر والتخويف أو الأمر أو التذكير، كالأمر بفعل ما يستتبع خيراً للفاعل أو التذكير بعاقبة الخير للأخيار أو الشر للأشرار بقصد الحث على فعل الخير وترك الشر.

ثالثاً: الجدال بالتي هي أحسن (الجدال الحسن)

والجدال كالموعظة دليلٌ وعلامة على حسن النية أو سوء النية عند الداعية، ولكنها في الجدال أوضح وأكثر دلالة على النية، وذلك لأن الجدال تباري مع الخصم وتبادل حجج لإثبات كل واحد صحة ما هو عليه. وهنا مكمن الخطورة، أو الشعرة الفاصلة بين النية الحسنة في الجدال والنية السيئة فيه. لأن المجادل يبحث عن النصر والتفوق في الجدال. فإن كان الجدال انتصاراً للذات (للأنا) كانت النية سيئة وإن كان الانتصار لله وإحقاق الحق كانت النية صالحة.

فقد يجادل الداعية بقصد الدعوة إلى الإسلام، وفي خضم الجدال والخصام الحواري يتحول القصد إلى سعي لإثبات التفوق الشخصي والمصداقية الأنانية. وبعبارة أخرى يتحول الجدال من السعي لإثبات صحة الإسلام وأحقيته في الاتباع إلى السعي لإثبات أن المجادل على حق وخصمه على باطل. وهنا يكون الجدال حول أمر شخصي وليس جدالاً موضوعياً هادفاً.

وهذا النوع من الجدال لا يصل بالمتجادلين إلا إلى العداء والتخاصم والتنازع لأنه ليس لله ولا لإحقاق حق، وإبطال باطل. وهو النوع الذي نهى الله تبارك وتعالى عنه في قوله تعالى:( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (البقرة: 197).

ويستطيع المرء أن يميز بين الجدال الحسن الذي لله ونصرة الحق، وبين الجدال السيء الذي للنفس ونصرة (الأنا) أو (النحن).

فالأول من أهم علاماته هو أن المجادل لا يرفض الحق إذا جاء من خصمه ويسلم له ويذعن إليه لأن الوصول إلى الحق هو الهدف فمتى وصلنا إليه سلمنا به.

ومن علاماته أيضاً عدم الخروج عن موضوعية الحوار.

ومن علاماته أيضاً أنه إذا ما وصل المتجادلون إلى مرحلة لا يسلم فيها أحد للآخر ينفصلوا عن وئام واحترام وعلى أمل مواصلة الحوار فلعل كل منهم كان عاجزاً في إثبات ما هو عليه.

وأما الجدال الباطل؛ فن من أبرز علاماته هو رفض رأي الخصم شكلاً وموضعاً وابتداءً حتى ولو كان بداخله يؤمن أنه حق لا شك فيه. لن الهدف في هذا الجدال ليس الوصول إلى الحق بل هو اكتساب انتصارات ذاتية. «أنا أسكتّ فلاناً» «أنا أفحمت علاناً» «أنا أهنت بكراً»... وهكذا.

فـ(الأنا) هي البداية وهي النهاية، وهي الموضوع وهي المحمول، والحق والإسلام لا ناقة له في الجدال ولا جمل.

ومن علاماته الخروج عن الموضوعية العلمية في الحوار إلى أمور شخصية وكشف عورات وتقاذف إهانات، ومن علاماته أيضاً الوصول في النهاية إلى حد العداء والرمي بالقبيح والقذف بالمنكرات، والتوهين بالشتم والسباب.

ولكي نصل إلى مثالية في الجدال ونحقق معنى الجدال الحسن الذي أمرنا الله تبارك وتعالى باتباعه كأسلوب في الدعوة إلى الإسلام، يجدر بنا أن نعرف معنى الجدال ومقوماته.

معنى الجدال:

الجدال في اللغة هو وضع الشيء على الشيء إذا كان من جنسه، فتقول جدلت الحبل أي وضعت بعضه على بعض حتى صار مجدولاً.

ونقول: جدلت المرأة شعرها أي وضعت بعضه على بعض فصار ضفيرة، ومنه أخذ جدول الماء إذ تعلو أمواجه بعضها على بعض.

وقد عرّفه الراغب الأصفهاني في المفردات مادة (جدل):«الجدال هو المفاوضة على سبيل المنازعة من جدلت الحبل أي أحكمت فتله». وهذا التعريف لا يبعد كثيراً عن معنى الجدال، إلا أنه يمكن لي أن أقرب المعنى بقولي «الجدال هو مراجعة القول بإعلاء بعضه على بعض على سبيل الغلبة» وبعبارة أخرى«وهو تبادل الحجج والبراهين في أسلوب حوار على سبيل تفنيد أحدهم قول وحجج الآخر وتثبيت قوله».

والجدال لا يبعد أن نسميه حواراً بزيادة قصد الغلبة، نحو قوله تبارك وتعالى:( فقال لصاحبه وهو يحاور أنا اكثر منك مالاً وأعزّ نفراً) (الكهف: 34)... الآيات.

ويتنوّع الجدال إلى حسن وسيء باعتبار هدفه وغايته، وباعتبار أسلوبه وطريقته.

فالجدال الهادف إلى إحياء عصبيات عرقية أو عنصرية أو طائفية، أو غرضه التعالي، والتفاضل الشخصي والأناني، أو بقصد الشهرة والتظاهر، جدال سيء. حتى لو كانت الوسيلة جيدة وعلمية.

وكذلك إذا كان أسلوبه الطعن والمغالطة والتجريح وكشف العورات والكذب جدال سيء حتى لو كانت الغاية سامية ونبيلة، فلا الوسيلة تبرر الغاية، ولا الغاية تبرر الوسيلة في الجدال السيء وأما الجدال الحسن فهو الذي يكون هدفه الأول والأخير هو الحق ولا سوى الحق والوصول إلى الحقيقة وليس إلى غيرها مع مراعاة الوسيلة العلمية الصالحة الشريفة.

مقومات الجدال الحسن

إن للجدال الحسن مقوماته التي يجب مراعاتها من اجل الوصول إلى المثالية فيه، بحفظ التوازن النفسي والمنطقي ليحول دون الخروج عن الموضوعية والابتعاد عن الهدف المنشود، ويمكننا أن ننوّع مقومات الجدال الحسن إلى: مقومات نفسية، مقومات منطقية أو جدلية.

أولاً: المقومات النفسية.

إن أهم مقوم نفسي للوصول بالجدال إلى أسمى أهدافه هو أن يضع المجادل هدف المجادلة وهو الإسلام أمام عينه بحيث لا يحيد عنه أبداً، ولا يتحول عنه بتاتاً، حتى لا يدع مجالاً لهوى النفس تحت ضغط المجادلة أن تنتصر لنفسها وتنسى هدفها الصحيح.

ثانياً: أن ينظر المجادل الإسلامي إلى خصمه باحترام، وتقدير لعقله ورأيه، ليقطع الطريق أمام نفسه الإمارة بالسوء أن تتكبر أو تتعالى.

ثالثاً: أن يلزم نفسه بخلق الإسلام الذي ينهى عن فحشاء القول ومُنكِر السلوك.

رابعاً: أن يبتعد عن الذاتية والأنانية والانتصار للذات.

وأما المقومات الجدلية أو المنطقية، فكثيرة أهمها:

أولاً: حسن الاستدلال وهو أن يكون الدليل ثابتاً ومباشراً على ما يريد الاستدلال عليه فلا يكون الدليل لشيء والموضوع شيء آخر.

وأن يكون مباشر أي دليل ليس بينه وبين الموضوع واسطة أو أن يكون بعيداً عن الموضوع.

وأن يكون الدليل مما يؤمن به الطرف الثاني من المجادلة، وإلا لما كان للدليل أثر في نفس المجادَل.

ثانياً: أن يكون البرهان صحيحاً نتج عن انضمام مقدمتين صحيحتين في الواقع الملموس للمجادل.

ثالثاً: أن يكون جواب الداعية الإسلامي حال المجادلة دقيقاً، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا أحسن الاستماع للطرف الثاني وفهم واستيعاب قوله، فإن العجلة والمقاطعة، والاستهانة تؤدي دائماً إلى عدم موفقية الإجابة على شبهات الخصم.

رابعاً: العفو عن زلات لسان الخصم، أو قوله غير المقصود منه، وعدم التركيز أو الوقوف عليه.

خامساً: عدم السماح بالخروج عن الموضوعية العلمية، أو تفرع النقاش والجدال.

سادساً: إذا أدرك الداعية أن الجدال سيأخذ شكلاً غير لائق، أو أنه سيصل إلى طريق مسدود فعليه بأدب إسلامي رفيع أن يرجئ المجادلة بحيث يدع الباب أمام خصمه مفتوحاً.

وإليك بعض النماذج لطرق الجدال الحسن نقلتها من كتاب (البلاغة العربية)(2):

(1)

المذهب الكلامي(3)

وهو أن يأتي البليغ بحجة قاطعة، ليبرهن على ما يدعيه على طريقة أهل الكلام، بحيث أن تكون هذه الحجة مسلمة عند المخاطب، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت بعد تسليم بالمقدمات المسلتزمة للمطلوب.

وقالوا: إن أول من وضعه الجاحظ، وقال: إنه لا يوجد شيء منه في القرآن!

وأجيب عليه بقولي أن القرآن مشحون بجميع أنواع الحجج، والأدلة، والبراهين ومن أمثلة المذهب الكلامي في القرآن الكريم قال تعالى:( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه) ، فقوله تعالى (وهو الذي يبدأ الخلق)، هذه الدعوى مسلّم بها عند الكافرين كما جاء في قوله تعالى:( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن الله) ، وقوله:(ثم يعيده) دعوى أنكرها الكافرون وقوله:(وهو أهون عليه) برهان ساطع، ودليل قاطع، على صحة الدعوى بالقدرة على إعادة الخلق، حيث أن إعادة الخلق أهون من بدئه الذي سلّمتم به، وإذا كان كذلك، يلزمكم التسليم بصحة هذه الدعوى.

ومن ألطف البراهين القاطعة التي تحمل في طياتها المذهب الكلامي قوله تعالى:( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال: من يحيي العظام وهي رميم؟ قل: يحييها الذي أنشأها أول مرة، وهو بكل خلق عليم) .

وقصة الآية: أن الأخنس بن شريق، أو عتبة بن الربيعة، جاء ببعض العظام البالية من المقابر، وطحنها بي يديه، وقال للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله): من يحيي العظام وهي رميم؟ والمقصود أنه أنكر دعوى الإعادة، فكانت الإجابة برهاناً دامغاً، حيث أن دعوى البدء مسلّم بها، وإنّ الإعادة أهون من البدء، فدعوى الإعادة صحيحة مسلتزمة لأن الخلق من موجود أهون من الخلق من عدم.

ومثله قوله تعالى:( يا أيها الناس! إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب) ، ونحو قوله:( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم؟ بلى وهو الخلاّق العليم) .

ومن أمثلة المذهب الكلامي في كلام الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) نحو قوله(صلى الله عليه وآله):«أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: فليبلغ الشاهد الغائب..».

تضمن هذا القول الشريف أعظم البراهين والحجج؛ فقوله:«وإن أباكم واحد» حجة على أن ربكم واحد، حيث أنكم تسلمون بأنكم جميعاً لأب واحد، وهو آدم.

فلا بدّ أن تسلموا نه لا يمكن أن يكوون الخالق لآدم أكثر من واحد، لأن ذلك من البديهيات. ثم إن هذه حجة ساطعة على دعوى عدم أفضلية جنس على جنس إلا بالتقوى، حيث أنكم تسلمون بأن كل الناس لأب واحد، إذاً فلا قربى لأحد منكم عند الخالق بجنس أو عنصر، وإنما القربى لديه تكون بقدر طاعته، سبحانه وتعالى.

(2)

التسليم الجدلي

ويسمى بالافتراض الجدلي: وهو أن يفرض المتكلّم حصول أمر محال الوقوع، ومشروط بحرف الامتناع -لو- أو منفي، ثم يسلم بوقوعه، أو إمكان وقوعه، تسليماً جدلياً، وذلك لإثبات ما بعده.

أقول: هو افتراض وقوع أمرٍ محال الوقوع، افتراضاً جدلياً، لإثبات ما بعده، وبإثبات ما بعده، والتسليم به، تصح دعوى المحالية للأمر المفترض وقوعه. نحو قوله تعالى:( ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه إله إذاً لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض) ، فقوله:( ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله) نفي الشريك، وقوله:(إذاً..) بمعنى إذا سلمنا بصحة دعوى الشريك، فلا بدّ أن نسلم بأن كل إله يذهب بما خلق، ويتعالى بعضهم على بعض، وهذا ما ليس بحاصل، حيث أننا نرى أن كل الخلق ذو نظام واحد، وذلك يدل على أن الخالق واحد.

ولو أن أحد الإلهين علا على الآخر، لكان المتعالي هو الإله الحقيقي الواحد الأحد. وبعد أن تثبت ذلك، يلزم التسليم باستحالة الفرض الذي فرض جدلاً، وهو دعوى الشريك، وهو المطلوب إثباته.

ونحو قول تعالى:( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ، وجود آلة غير الله أمر محال، ولكن افترضت صحته جدلاً بحرف الامتناع، وذلك لإثبات الدعوى بعده، وهو فساد السماوات والأرض، فإن صح فسادهما، صح وجود غير الله، وإن لم يصح فسادهما، بطلت دعوى وجود غيره، تبارك وتعالى. وحيث أن الواقع يثبت أن السماوات والأرض قائمتان بأمره، دلّ على بطلان الدعوة المفروضة.

أقول: قد وجدنا في القرآن الكريم من التسليم الجدلي، ما ليس بمنفي، ولا مشروط، نحو قوله تعالى:( ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذاً قسمة ضيزى) ، بمعنى أنه إذا سلمنا جدلاً بأن لكم الحق في التقسيم، فلا بدّ أن تسلموا بان تجعلوا ما تحبون لكم، وما تكرهون لله، قسمة ظالمة، ومن ثم يلزمكم التسليم بأنه ليس لكم الحق في التقوّل على الله سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم مشحون بتلك اللطائف والحجج الدامغة.

(3)

أسلوب الحكيم

أسلوب الحكيم من أدق وألطف أنواع البديع لأنه من الرادعات لأهل الفضول في الحديث.

وهو: أن يأتي المتكلم بجواب لمخاطب يقتضي ظاهره خطابه، ومخالفاً لمراده، مع علمه به.

وقالوا: إنه إتيان المخاطب بغير ما يترقبه نحو قوله تعالى:( يسألونك عن الجبال قل: ينسفها ربي نسفاً) ، فمراد السائل هو السؤال عن حقيقة الجبال، وفي السؤال فضول حيث أنه ليس من وظائف الرسل بيان مثل هذه الأمور، وإن كانوا عالمين بها، ولذلك كان الجواب على ظاهر السؤال مخالفاً لمراد السائل وهو (ينسفها ربي نسفاً) بمعنى أن هذه الجبال على عظمتها وضخامتها، ينسفها ربي نسفاً، وهذه من وظائف الرسل، وهو بيان صفات الله سبحانه.

ونحو قوله:( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) ، فالمراد من السؤال هو معرفة الأهلة، وأفلاكها، وظهورها، واختفائها، وهذه من المسائل التي قد لا يتحملها عقل السامع وفكره، ولذلك كانت الإجابة حكيمة، حيث أنها جاءت على ظاهر السؤال مخالفة للمراد، فبينت فوائد الأهلة للإنسان.

ونحو قوله(صلى الله عليه وآله) لمن سأله متى الساعة؟ فأجاب: وماذا أعددت لها؟، فالسؤال عن متى الساعة، فضول، وشغل النفس بما لا ينبغي الإنشغال به، بل يجب إشغالها بما يفيدها وهو إعداد النفس لها.

ونحو قول أمير المؤمنين(عليه السلام) لمن سأله عن المسافة بين السماء والأرض؛ فقال:«دعوة مستجابة».

السائل يسأل عن المسافة القياسية بين السماء والأرض، والفضول ظاهر في السؤال. ولكن الإمام (عليه السلام) تجاهل مراد السائل، وأجابه على ظاهر سؤاله فقال:«دعوة مستجابة».

(4)

القول بالموجب

القول بالموجب: قريب الشبه بأسلوب الحكيم، لأن القول بالموجب هو ردّ المتكلم قول المخاطب من فحوى كلامه، وذلك بأن يعمد إلى لفظ من ألفاظ حديثه، ويحمله على غير ما أراده المخاطب من دون تغيير في اللفظ.

نحو قوله تعالى:( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون: هو أُذُنٌ. قل: أُذُنُ خير لكم، يؤمن بالله، ويؤمن للمؤمنين، ورحمة الذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) (التوبة: 61). الأذن: هو السماع للناس غير المكذب لهم، قالها المنافقون بقصد الإيذاء للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).

ولكن الله سبحانه لم ينفها عن نبيه، وإنما حملها بنفس لفظها على غير ما أراده المنافقون. فحملها على حسن الخلق والرحمة للمؤمنين.

ونحو قوله تعالى:( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولله العزّة، ولرسوله، وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون) .

جعل المنافقون أنفسهم على طرفي نقيض مع الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) ثم نسبوا صفة حميدة لأنفسهم، وأخرى ذميمة للرسول، والمؤمنين، ثم رد الصفة الذميمة على المنافقين، من دون نفيها عنهم، لأنهما على طرفي نقيض، فبنسبة العزة للمؤمنين، فالذلّة تكون على المنافقين.

ومن لطائف القول بالموجب:

ما حكي أن خالد بن الوليد، سأل أحد أعيان الحيرة عندما فتحها، قال له: من أين خرجت؟ فقال الرجل: من بطن أمي. فعلام أنت؟ فقال: على الأرض. قال: فيم أنت؟ فقال: في ثيابي. قال: أتعقل لا عقلت؟ فقال: أي والله وأقيد! قال: ابن كم أنت؟ فقال: ابن رجل واحد! قال خالد: ما رأيت كاليوم قط إني أسأله وينحو في غيره! فقال الرجل: ما أنبأتك إلا عما سألت. فسل عما بدا لك.

فقصد خالد من السؤال الأول: من أي بلد جئت. فحمل الرجل الخروج على معنى، آخر عير المراد، ولكنه لم يغير ، ولم يبدل.

وقصده من الثاني: على أي عقيدة أنت، أو بأي دين تدين.

وقصده من الثالث: نفس قصده من الثاني.

وقصده من الرابع: أتفهم لا فهمت، فحملها الرجل على عقال البعير.

ومن الخامس: كم مضى من عمرك.

ومن لطائفه في الشعر قول أحدهم:

قلت: ثَقّلْتُ إذا أتيتُ مراراً قال: ثَقْلتَ كاهلي بالأيادي

قلتُ: طوّلت. قال: أوليت طولاً قلت: أبْرَمتُ، قال: حبل ودادي

وفي العدد القادم إن شاء الله نتحدث عن العنصر الرابع من عناصر الدعوة الإسلامية وهو البصيرة في الدين.

(1) بتصرف من تفسير القيم لابن القيم ص344 في تفسير الآية:(ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة).

(2) النماذج منقولة من كتاب المؤلف (البلاغة العربية) علم البديع.

(3) دكتور مصري أستاذ في الأدب العربي والشريعة الإسلامية.

 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 36

الصفحة الرئيسية