مجلة النبأ    العدد  36     السنة الخامسة    جمادى الاولى  1420 ه

كيف تقهر الشعور بالنقص 

كريم المحروس 

مقدمة 

واجه المجتمع الغربي تحديات كثيرة بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر الميلاديين، أدت إلى تحولات جمة في المعتقد والفكر والسلوك. وكان من نتاج الثورات الفرنسية والأمريكية والروسية فضلا عن الثورة البريطانية الموسومة بـ(الثورة الجليلة) تحطيم الاتجاهات الكنسية وسلطاتها السياسية والاجتماعية والدينية. وعلى الأثر نشأت حركة التجرّد من الدين ومتعلقاته التربوية على أنقاض السلطة الدينية الحاكمة آنذاك . واستمدت هذه الحركة أصولها ومناهجها مما ذهبت إليه المدنية الاغريقية من تجرد خالص عن الدين وابعاده التربوية واعتباره نتاجا لظروف بشرية معينة أدت بالخيال والفكر إلى ولادته ، ومن ثم تطوره إلى شكل طقوس خرافية.

ولعل من العوامل التي أدت إلى فكرة التجرد من الدين في بلاد الغرب، والاستمرار في الاستهانة بالأمور التربوية وما تتطلبه من ضوابط، هي سيادة تلك المؤثرات الفردية التي انتجتها المادية وشغف جمع رأس المال والثروة بلا حدود أو ضوابط.

ورغم اختلاف التحديات التي واجهت المجتمع الاسلامي عن تلك التحديات التي واجهت الغرب، الا ان المغالاة في الابتعاد عن الدين، قد طبع آثاره على المجتمعات الاسلامية نتيجة تبني بعض من المسلمين للفكر الوافد دون دراسة او تمحيص، وايمانهم بمقدرته على الخلاص من عوامل التخلف والاستعمار. لكن انوار الحقائق بدأت تجتاح العقول يوما بعد يوم لتؤكد فشل المناهج الغربية الارضية في بناء مجتمع سليم، قائم على القيم التربوية السليمة. كما استبعدت نجاح الفكر التربوي الغربي في الاندماج وسط مجتمعات اسلامية متدينة، تعتقد بالآثار الغيبية لخالق الكون الواحد الذي انزل شريعته ورسله، وضمنها مناهج تربوية تغطي كافة الاحتياجات وتنظم كافة دوافعها، وتوجهها بالاتجاه الامثل.

من هنا نجد الفوارق كبيرة وكثيرة بين الشخصية القائمة على اسس فكرية اسلامية صافية، قد تصل إلى درجة كبيرة من المثالية في السلوك، وبين الشخصية الغربية التي عرفت بالضياع وعدم الاتزان.

فالعقد النفسية هي من الامراض الشائعة في مجتمعات الغرب. وتذهب بعض التيارات المؤيدة للفكر الغربي إلى القول بان المجتمع الغربي لا يخلو من بعض التوجهات الدينية المميزة. فالكاثوليكية او الارثوذكسية اكثر التزاما من البروتستانت مناصري مارتن لوثر الموصوف بالمتحرر من عقائد المسيحية الكاثوليكية المتطرفة. لكن السمة البارزة في المجتمعات الغربية هي الايمان العميق بحركة ونمو الطبيعة، وبخرافية الاثر الآلهي في الارض. وان كان هناك اثر فهو لايتعدى مرحلة تاريخية مضت.

فالعقل والتجربة هو مقياس ومعيار كل شيء، ذلك استلزم تدخل القوانين لاقرار الحرية للانسان كفرد مستقل في سلوكه ومعتقده ورؤيته للحياة، ولتسخر كافة الصلاحيات له بالتصرف في نفسه دون ان يكون للتشريع السماوي دخل او توجيه. فأدى ذلك إلى تنامي العقد النفسية ، لكون الانسان الغربي لايرى معنا لذاته اذا فقد الثقة في هذه القوانين الوضعية لسبب طارئ. لذلك ترى بعض الشرائح المجتمعية في الغرب تتجه إلى العبثية او تسعى لتبني او اعتناق عقائد خرافية تلبي عندها بعض الحاجات الروحية كعلاج آني لتوتر الذات البشرية، ولكنها في نفس الآن تتجه إلى موازنة المتطلبات الروحية والحاجات المادية الجشعة.

بينما يتميز الاتجاه الاسلامي باعتماده الكلي على التشريعات الالهية في كل صغيرة وكبيرة ، ويرى ان التربية وابعادها ومتعلقاتها ليست من تشريع البشر وانما من صنع رباني.

فالحرية ليست من معطيات قانون وضعه الانسان بل عطاء الهي. وكذلك النفس البشرية وما تمارسه من سلوك ليست من نتاج حضارة بشرية بل من مشيئة ربانية وضعتها بين مسلكي الخير والشر، واودعت فيها ارادة لم تقدر الجبال على حملها، وسنت لها منهجا فيه تمييز لها عن كافة الموجودات. كما في قوله تعالى:

( انا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال فأبين ان يحملنها فأشفقن منها. وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا) .

وامام تطوع الانسان في جهل ذاته وقيمتها، وما اسفر عن ذلك من ابتعاد وغربة عن طريق السعادة الحقيقية والاطمئنان والرضى، هنا، نلقي الضوء على واحدة من اخطر العقد النفسية، هي «عقدة الاحساس بالنقص» التي كانت ولا تزال احد مظاهر تبني الانسان للمناهج الارضية في تسيير حياته فضلا عن انها نتاج ارادة الانسان المنحرفة وتخليها عن المنهج الرباني.

الاحساس بالنقص شذوذ عن الطبيعة البشرية  

تتميز الشخصية الاسلامية بقوة ارادة وصفاء روحي ونفسي، خالية من الامراض والعقد، وهناك الكثير من الآيات والروايات التي تبعث على تسخير ذلك للبناء السليم للشخصية الاسلامية. ولعل من ابرز ما يتوجه اليه التشريع الاسلامي في مصادره، فكرة السعي نحو الكمال الذاتي، والاحساس بقوة الشخصية ومؤهلاتها في العلاقة مع ما حولها.

فالآيات الكريمة تقول:

( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (1).

( لقد خلقنا الانسان في احسن تقويم) (2).

( واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة قالوا اتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء . ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك . قال اني اعلم ما لا تعلمون . وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبؤوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين . قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم . قال يا ادم انبئهم باسمائهم. فلما انبئهم باسمائهم قال الم اقل لكم اني اعلم غيب السموات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون . واذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا الا ابليس ابى واستكبر وكان من الكافرين) (3).

هذه الآيات تؤكد على المكنة العظيمة للانسان التي اودعها الباري عز وجل فيه، وهى من الاسس التي تجعل من الانسان كائنا متميزا عن غيره من المخلوقات، كما ان تكريم الله سبحانه وتعالى للانسان في هذه الايات الكريمة وغيرها دليل على عظمة هذا الكائن، مما يدعو ذلك الانسان لأن يعتز بهذه المكانة ويزداد ثقة في ذاته واحساسة بالوصول إلى درجة من الكمال بطريق التزام ما شرعه الباري من تشريعات عظيمة.

ويعلم الرسول(صلى الله عليه وآله) قدر الانسان ومكانته. فعن الامام علي(عليه السلام) قال(صلى الله عليه وآله):

«ما من شيء اكرم على الله من ابن آدم. قيل : يا رسول الله ولا الملائكة؟! قال : الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر»(4).

وفي الحديث القدسي قال تعالى :«خلقت الاشياء لأجلك وخلقتك لأجلي»(5).

وفي هذه الاحاديث المباركة دلالة صريحة حول مكانة الانسان وتكريم الباري عز وجل له وتسخير الكائنات لخدمته وحاجته.

من هنا فالانسان المسلم الساعي لدرجات الكمال وفق منهاج الشريعة الاسلامية، لايعتريه احساس بالنقص امام المخلوقات عامة. وهذا يستوجب قوة في ذاته تتحدى اية عقبات قد تعترض طريقه، ولا يمكن لهذه العقبات ان تطبع اثرا سلبيا على نفسه . وان اخذت منه بعض المآخذ في حالة من حالات الضعف، فانه قادر على السيطرة والعودة إلى الصفاء الروحي والنفسي في ساعة تفكر وتقييم للذات. وهذه الحالة من الانتصار على الاثار السلبية النفسية تعطي الانسان طاقة جبارة للوقاية وتجنب الوقوع مرة اخرى في اية مزالق.

ولعلّ من اخطر الامراض النفسية التي تغلب ذات الانسان في احيان كثيرة وتوجهه نحو الانحطاط والانعزال عما سخره له ربه، هو جهل الانسان بذاته و احساسه بالنقص والضعف امام عدد من التحديات التي تعترض طريقه. فحينما يتفكر في الكيفية التي تمكنه من المواجهة والسيطرة يجد نفسه لاتطاوعه على الاقدام لتحقيق الغلبة او مجاوزة التحديات، بل يحس بخواء نفسي وروحي لايعينه على الوقوف بحزم وقوة لتحقيق الانتصار وتسخير ما حوله لذاته. وهذا الحال خلاف اهداف الخلق، حيث يقول الباري عز وجل في آية كريمة:( الله الذي خلق لكم السموات والارض وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بامره وسخر لكم الانهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار) (6).

ففي هذه الاية اشارة واضحة إلى هيمنة الانسان وتسخيره للسموات والارض وما فيها وما بينها وما تفرزه من ظواهر كالليل والنهار وغيره. وليس من الحكمة او من الانسانية ان يجد الانسان نفسه ضعيفا او يحس بالنقص امامها، بل ان ارادة الباري عز وجل في تسخيرها للانسان دليل قاطع على ان نفس الانسان وذاته اقوى من ان تنالها هذه المخلوقات. وبالتقدير سليم للذات امام هذه المخلوقات الهائلة والعظيمة تجد الانسان يزداد ثقة وقوة في نفسه.

واما متعلقات الاحساس بالكمال بين بني البشر، فهناك عوامل كثيرة تجعل من الانسان متميزا عن غيره، وهناك دوافع اوجدها الله سبحانه وتعالى في الذات البشرية تساهم في نمو حالة من التنافس الايجابي المحفز لذات الانسان للسعي نحو الكمال. فالتقوى هي من اعظم ابعاد التحريك للذات الانسانية للوصول إلى درجة الكمال برغم التسخير الالهي للكائنات في خدمة الانسان. اي ان السيطرة والهيمنة على المخلوقات وتسخيرها، ليست هي المقياس الالهي لتمييز بني البشر، كما انها ليست العامل الاوحد لغلبة انسان على اخر. ففي الاية الكريمة المباركة قال سبحانة وتعالى:( انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم) (7).

وقد تعتدي الذات الانسانية على نفسها بان تتطوع لتحط من قدرها وتتنازل عن قيمتها التي اودعها الله سبحانه وتعالى، فاذا بالانسان يجد نفسه صغيرا امام من حوله من المخلوقات. وتسوء هذه الحالة حين يصل الانسان مع الزمن إلى قناعة تامة بالعجز والقصور، فيرى ان الكمال هو نصيب لكل شيء يجده امامه، ولايرى في افق ذاته الا كتلة تسيرها الظروف المحيطة ومصادر القوة.

فعن الامام علي(عليه السلام) قال:«من جهل قدره جهل كل قدر»(8). «هلك امرؤ لم يعرف قدره»(9).

1: ماهية عقدة الاحساس بالنقص

اطلق علماء النفس اسماء اخرى لعقدة الاحساس بالنقص ، نحو «عقدة الاحساس بالحقارة»، «عقدة الاحساس بالضعة»، «عقدة الاحساس بالضعف».

فالعقدة في معناها اللغوي: ما يمسك الشيء ويوثقه.

والعقدة النفسية: هي اضطراب نفسي ينشأ عن كبت يؤدي إلى تصرفات شاذة أو مستغربة(10).

ويعرف المؤلفان النفسيان (كوران) و(بارترج) معنى العقدة النفسية بانها: الوقوف امام (صراع المشاع) وقوفا يسبب ظهور اعراض ناتجة عن عواطف مكبوتة.

ويقول الباحث الغربي (سارجنت): عند النظر إلى العقدة بمعناها الاضيق نجد انها تعني: اجزاء مكبوتة لأحدى الخبرات المؤلمة بسبب صراع لم يتحلل(11).

فمعنى الاحساس: حس الشيء او به: شعر به او ادركه(12).

ومعنى النقص: القدر الذاهب من الشيء بعد تمامه أو (طرء عليه نقص في دينه او عقله) او الضعف، اي نقص العقل(13).

ولعل مثال مدير الشركة الخاسرة ينطبق على مثال العواطف المكبوتة والصراع النفسي الذي لم يتحلل، فهو يرى نفسه امام خيارين؛ اما ان يعاقب منفذيه وغيرهم لأهمالهم او سوء تصرفهم، وهو امر يساعده على التخلص من التوتر النفسي الداخلي. او يتقدم بالنصح والارشاد إلى موظفيه وعماله، لأن الاستعاضة عنهم بغيرهم لايراكم خبرات الشركة او ينميها. فهذه الخطوة رغم انها نابعة من النضوج العقلي، الا انها بحاجة إلى عوامل تصريف لما اختلج نفس مدير الشركة من عواطف مكبوتة.

ولا يرى علم النفس الارضي حلا للعواطف المكبوتة الا بالتصريح بها امام شخص آخر، او انها قد تصرف بغير ارادة في حلم يراه الانسان يصب فيه جام غضبه في عراك مع وحش من الوحوش الضارية او سجان خسر المعركة امامه في نزال امام حشد عام، او غير ذلك.

بينما الاتجاه الاسلامي يرى ان الامر يحمل في ذاته حلا قبل انعقاده، فحينما تكون نية الانسان خالصة لخالقه، ويتوكل على الله تعالى حال بذل اي جهد، ويرى في هذا الجهد وسيلة لنيل رضا الباري عز وجل وخدمة عباده، سواء في اطار الحي او القرية او المدينة او البلد او غير ذلك، فعامل الخسارة لا تتولد عنه عواطف او خبرات مؤلمة. فيكفي ان يفوض الانسان امره لخالقه ويقرن هذا التفويض بخطوات ايجابية مشحونة بالامل، ثم يعيد الانسان الكرة من جديد مع تفادي عوامل الخسارة.

( ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (14).

وعن الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله) قال :« خصلتان ليس فوقهما من البر شيء، الايمان بالله والنفع لعباده، وخصلتان ليس فوقهما من الشر شيء، الشرك بالله والضر لعباد الله»(15).

2 - بين العقدة النفسية والشعور بالنقص :

لم يولد الانسان متكاملا في عقله وبدنه. وهو بحاجة لسنوات من الخبرة يكتسبها من المحيط الذي ينتمي اليه ليصل إلى درجة يكون بها متصرفا في شؤونه الخاصة، ويصل إلى حالة من الاستقلال النسبي يستكمله في العلاقة مع المحيط البيئي والاجتماعي.

وهنا يرد الخلاف بين العلماء الارضيين والاسلاميين حول العوامل المثلى في انماء قدرات الانسان بحيث يتجرد عن كل المشكلات والعقد النفسية.

فيرى الارضيون ان بناء الانسان يأتي نتيجة تبني الدولة لمجموعة مناهج قائمة على اسس من العقل والتجريب وبعضا من السلوكيات الروحية بأله غير مفارق يساهم في تقريب الحقيقة والواقع. بينما يتجه الاسلاميون إلى اهمية ايصال الانسان بعقيدته وخبراتها التي تراكمت منذ خلق الكون وليس منذ خلق الانسان فحسب، لان خلق الكون جاء قبل خلق الانسان. وخلال الفترة الفاصلة بين الخلقين حدثت الكثير من المتغيرات الكونية التي لا يمكن تجاهل اثارها في طبيعة الانسان الاول، وامتداد هذه الاثار وانعكاساتها على طبيعة النفس البشرية خلال مراحل التاريخ الانساني.

ويعد التفسير العقائدي الذي يوضح طبيعة النقص في النفس البشرية وحاجتها الضرورية لخالقها هو التفسير الحقيقي للنفس البشرية. فالانسان يعاني نقصا لكونه خلق من عدم. « اننا مجبرون على ان نولد ومجبرون على ان نموت.. نحن مجبرون على ان نبعث وان نحاسب على اعمالنا، وان نساق إلى الجنة او إلى النار وفق هذا الحساب العادل المحفز.. اننا مجبرون على ان ننتمي إلى هذا الاقليم او ذاك... مجبرون كذلك على ان نخضع لمتطلبات حياتنا البيولوجية والحسية، وعلى ان نتقلب في تجاربنا النفسية بين الحزن والفرح والغم والانشراح والخوف والطمأنينة، والتمزق والتوحد... والمساحة المتبقية لممارســة حريتنا انمــا منحت لنا لتمييزنا عن سائر خلق الله وتفضيلنا على العالــمين»(16).

اذا الاحساس بالنقص لايعد مرضا نفسيا بل امرا طبيعيا تكمله الارادة التي اودعها الباري عز وجل في الانسان . فبها يسعى الانسان لتحسين قدراته وتنميتها، وبالاحساس بالنقص تنمو حوافز التحريك لارادة الانسان نحو ايجاد انجع الحلول لسد النقص. فمن يجد نفسه بحاجة للماء والغذاء، ذلك يحفزه نحو بناء السدود واصلاح الاراضي وزراعتها.

ويرى الاسلام ان الشعور بالنقص يكون ايجابيا حين يكون متعلقا برضى الله سبحانه وتعالى. حيث يسعى الانسان إلى تصعيد نشاطه العبادي سواء في سلوكه تجاه ربه او تجاه المخلوقات، لانه لن يصل إلى عبادة خالقه بحق العبادة. فيتجه إلى عبادته باقصى طاقته وجهده. فهذه الحالة في نظر الاسلام صحية وليست مرضية او سلبية.

ولكن حين يتحول الاحساس بالنقص تجاه الاشياء إلى عقدة نفسية، فهي تعد مرضا يشعر بسببها صاحبها بعدم الاتزان النفسي والتخبط في السلوك، وقد لا يشعر بذلك في احيان كثيرة ويدعي سلامة مواقفه وتفكيره، لغلبة هذه العقدة على اللاشعور.

فالانسان الذي يدخر طاقاته وجهوده في مواجهة الصعاب وعقبات الحياة، ولا يرى في التحديات باعثا لبناء موقف نفسي ايجابي لقهر هذه التحديات . فمصيره في اغلب الاحيان الفشل الذريع في تحقيق نصر ايجابي. وهذا الامر قد يصل به إلى الشعور بالذنب او عدم الثقة في ذاته وما حولها. فتتولد لديه خبرات مؤلمة مكبوته تثير في نفسه الضعة والحقارة.

فتجد بعض المصابين بهذه العقدة وقد انعزلوا عن المجتمع خوف التحديات. وقد يعتزلون الحياة ويفضلون الاعتكاف بعيدا عن مسببات التوتر. وقد يكون ذلك باتجاهين نفسيين:

1- فهناك من يرى في ذاته انسانا متقدما على المجتمع في جميع مناحي الحياة، ولذات السبب يجد في المجتمع مخلوقات لا تستحق الحياة لانها لاتمتلك عقلا يتفهم معطياته. ويشير القرآن إلى ذلك في قصة فرعون واستكباره.

2- وهناك من يجد في المجتمع مخلوقات لايمكن مجاراتها او حتى الاختلاط معها، فلا يرى في ذاته انسانا نظيرا للمخلوقات التي على شاكلته. خلافا لقول امير المؤمنيين الامام علي(عليه السلام) :«الناس اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق».

«فالمصاب بهذه المشكلة يتصور انه افضل الناس جميعا، فهو في الرياضيات اذكى من (انشتاين) وفي الشعر ابرع من الجواهري، وفي القانون اعلم من رئيس المحاكم، وفي الطب اعرف من المختصين.. ولا يكون متزن السلوك لانه يندفع كل الاندفاع في سبيل الحصول على التقدير والاحترام كأنه يريد ان يشتري انتباه الناس وعطفهم.. او انه ينسحب انسحابا تاما من المجتمع. اي فيه درجة هائلة من ( حب الذات ).. في الوقت الذي يعترف صاحب (الشعور بالنقص) بنقصه ويؤمن بحدود امكانياته، ويحاول ان يصلح وضعه قدر استطاعته..» (17).

واذا ما اردنا البحث عن عقدة الاحساس بالنقص كحالة مرضية تتصف بها بعض المجتمعات البشرية، فالمقارنة بين مجتمعات عاشت تحديات متشابهة، قد توصلنا إلى مظاهر هذه العقدة . فالحربان العالميتان الاولى والثانية قد اسفرتا عن استعمار دول كبرى لأخرى . فألمانيا واليابان والدول الاسلامية استعمرت من قبل دول الحلفاء لعشرات السنين . لكننا نجد المجتمع الالماني والياباني قد فاقا في عطائهما الاجتماعي والاقتصادي دول الاستعمار نفسها . فاليابان لازالت تسجل عجزا اقتصاديا في الميزان التجاري الامريكي قدره 25 %، وتقف الولايات المتحدة عاجزة امام الصادرات اليابانية، وهكذا الامر بالنسبة للعلاقات الاقتصادية اليابانية مع دول العالم برغم كون اليابان جزرا تعاني شحة الاراضي الزراعية وتغلبها الزلازل ولاتمتلك ثروات ارضية كالنفط وغيره . وعرف عن اليابان انها خرجت من الحرب مستسلمة ومهزومة بعد القاء الولايات الامريكية قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناكازاكي، وقتل بسبب هذه الحرب والتدمير النووي اكثر من ثلث الشعب الياباني . واما بالنسبة لالمانيا فقد شهدنا توحد شطراها الشرقي والغربي في قصة اذهلت العالم، وتعد اليوم دولة رائدة بين دول العالم الحر، سياسيا واقتصاديا.

من جهة اخرى استعمرت بلاد المسلمين، ولم تتعرض لهزائم شديدة في حروب طاحنة، الا ان هذه البلاد لازالت تعتبر من دول التخلف او ما اصطلح عليه ببلاد العالم الثالث. وتجد من بين مبررات التخلف ان بلاد المسلمين كانت تعيش تحت وطأة المستعمر. فهل يختلف استعمار اليابان والمانيا عن استعمار بلاد المسلمين؟

فالشعور بالنقص قد ضرب اطنابه في بلاد المسلمين، فلا تجد الا تبريرات ومواقف سلبية تلقي بالتبعات على الاستعمار ومخططاته وما نتج عنه من انظمة سياسية واجتماعية واقتصادية دكتاتورية متخلفة. وهذا ما اطلق عليه في علم النفس بـ (التعويض السلبي) الذي اشار اليه المفكر الجزائري مالك بن نبي بـ (القابلية للاستعمار).

فاليابانيون عوضوا مخلفات الحرب وما نجم عنها من اثار سلبية مدمرة، بعطاء ايجابي وجهود مشحونة بالامل، وتضحيات جمة، لاعادة البناء على جميع الصعد، برغم توقيعهم لعقد الاستسلام والقبول باستعمار بلادهم، ومعالجة اثار الهزيمة بتحقيق نصر يعيد لهم الثقة في ذواتهم، واتخذوا من الهزيمة العسكرية والسياسية باعثا على استثارة كوامن ذواتهم وما تحوي من طاقات خلاقة.

واما بلاد المسلمين فقد اخذت ترثي احوالها وتأسف لهزيمتها، وكأن الهزيمة نهاية حتى لماضيهم وما حققته من حضارة . وبرغم تلك الامكانات البشرية والثروات النفطية وغيرها التي لم يحض بنعمتها اي بلد من بلاد العالم فضلا عن التاريخ الحضاري المجيد الذي لاتفنى عطاءاته في ايه مرحلة حاضرة ومستقبلية، الا انك تجد حالة التخلف وكأنها قدر لايمكن السؤال عن رده.

وهنالك الكثير من التنظيرات الفكرية السياسية والاقتصادية في هذا الشأن، قام بها عدد هائل من المثقفين المسلمين، الا انها لم ترقى إلى دور ريادي يتصدر مسيرة النصر على التخلف والتبعية والدكتاتورية .

مظاهر عقدة النقص

هناك مظاهر متعددة لعقدة الاحساس بالنقص، ومتداخلة في احايين كثيرة، ذلك ان العقد النفسية عامة متشعبة التاثير ومتنوعة الاسباب . والناس ليسوا افرادا متساوين او متشابهين في استجاباتهم للمؤثرات المحيطة حتى نتمكن من وضع قانون عام ينطبق على جميع افراد البشر . ولذلك فالمظاهر في هذه العقدة ليست واحدة . وقد تجتمع بعضها في شخص واحد فيصاب بهذه العقدة . وقد يبرز فيه مظهر واحد من هذه المظاهر المتعددة لنتمكن من الجزم باصابته بهذه العقدة . واما من حيث الفترة الزمنية التي تجعل من عقدة الاحساس بالنقص مرضا يتطلب التدخل لعلاجه فهو نسبي . وقد يصاب المرء ايضا بهذه العقدة في ظروف محددة دون ظروف اخرى . فقد يهاب شخص شخصا اخر لنقص ولكنه يمتلك قوة تحريك تجعله شخصا مميزا بالثقة امام جمهرة من الناس.

من هنا يختلف المتخصصون في تحديد مظاهر عقدة الاحساس بالنقص . فتجد بعضهم مثلا ينسب ظاهرة التكبر إلى عقدة الاحساس بالنقص، لكون المصاب بها يسعى للتعويض عن النقص بالتكبر على الاخرين، بينما نجد متخصصين آخرين يجعلون منها عقدة مستقلة تناظر العقد النفسية الاخرى، ولها مظاهرها واسبابها ونتائجها . وقد ترجع الاسباب في اختلاف المتخصصين بتحديد العقد النفسية واسبابها وطرق علاجها إلى اتجاه نظرتهم للنفس البشرية في كونها مخلوقة لهدف محدد وفق منهج يحدده الانسان نفسه او يرسمه له خالقه .

فالاتجاه الاسلامي يرجع الامور كلها إلى ماهية الحياة في نظر الانسان .

ففي الاية الكريمة :( انا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) .

وفي سورة الجن الآية16:( وان لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا) .

فان كان الانسان يهدف إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وعبادته، فان مقياس الامور متعلق بالنسبة اليه بمدى سعيه لتحقيق هذا الرضا، فيرى في الامراض والعقد النفسية نتيجة لبعده عن الباري عز وجل وتكاليفه، بينما يرى المتخصصون الارضيون في العوامل المادية سواء البيئية او الوراثية اسبابا رئيسية ليس فوقها اسباب .

من هنا تختلف وتتعدد مظاهر عقدة الاحساس بالنقص، ولكننا سنحاول جاهدين ان نذكر اهم هذه المظاهر .

1- الحساسية المفرطة :

يشترك المنافق مع المصاب بعقدة الاحساس بالنقص في احد العوامل المتعلقة بالحالة النفسية .

يقول الامام علي(عليه السلام):«نفاق المرء من ذل يجده في نفسه»(18).

فالمنافق يظهر خلاف ما يبطن لظروف يراها قاهرة احيانا لم يشأ الايمان بها او مواجهتها لضعف، ولا يجد حلا الا بالمسايرة الظاهرية ولكنه يكن العداء لها . بينما المصاب بعقدة الاحساس بالنقص لا يمارس هذا السلوك، ولكنه يشترك مع المنافق في شدة الحساسية تجاه من حوله .

فالمنافق يخاف ان يفتضح امره بينما المصاب بالداء النفسي يتصور ان الكلام السلبي في احاديث الاخرين موجهة ضده . ويعبر القران الكريم عن هذه الصفة بقوله: ( يحسبون كل صيحة عليهم) (19).

فحينما يستمع المصاب بعقدة الاحساس بالنقص لخطاب زميل له او مقال او حوار يكون حاضره، فانه يتتبع كلماته بتعمق وتركيز شديد ومن ثم يرصد ما يتشابه او يلتقي بما يشعر به، ويحاول ان يجد الكلمات او الوصف القريب مما يعانيه داخله من نواقص او غير ذلك، وبعد لحظات تجده وقد احمرت وجنتاه او سالت منه بعض الدموع اما لغضب او خجل. وعند انتهاء زميله من الخطاب او الحوار تجد ان العلاقة قد ساءت. وربما يفصح المريض نفسيا بان زميله قد فضحه او تدخل فيما لايعنيه، فيكن له العداء.

وقد يبذل احد جهودا جبارة في سبيل انسان آخر بغرض ان يحضى بكلمات استحسان او شكر او تقديـــر منه، ولكنه حين يجد في المقابل اهمالا لاسباب ربما تكون غير متعمدة، تجده في الحالة المرضية وقد رثى لنفسه، فيتوقف عن العطاء للاخرين بحجة ان الناس لايستحقون بذل جهد في سبيلهم.

وحكي ان بناء استدعي لتوقيع عقد بناء احد المنازل، ولما انتهى من بناء نصف المنزل جاءت زوجة صاحبه لمتابعة سير البناء . فلما وصلت إلى مطبخ المنزل ابدت وجة نظر للبناء حول المواد المستخدمة في صناعة خزائن المطبخ . وبعد ساعات قليلة جاء صاحب المنزل ليؤكد على اهمية انهاء بناء المنزل خلال المدة المتفق عليها في عقد البناء. فما كان من البناء الا ان امر عماله بايقاف العمل والرحيل إلى منازلهم. وحينما اعرب صاحب المنزل عن استغرابه لهذا التصرف، قال البناء وهو غاضب:

لماذا لم تخبرني بادئ الامر بأنك غير واثق من مقدرتي وكفاءتي على بناء منزلك ؟

هذا الموقف يعبر عن ضعف في ذات البناء، ففي اصل الامر ان البناء غير واثق من نفسه في بناء المنزل على أفضل واكمل وجه، بينما موقف الزوجة وصاحب المنزل كان عاملا في بروز الحقيقة إلى السطح. وكان الانسب ان يعبر البناء عن غضبه ان لم يقدر على المحاورة والمشاورة، ولكن الامر لايستدعي التوقف عن البناء. فروح التغلب على عقبات الطريق وتقبل النقد لم تجد لها مكانا في نفس البناء.

فالانسان الذي يصاب بعقدة الاحساس بالنقص وان كان قادرا وكفوء، فهو لا يمتلك قدرة تحمل النقد وان كان في موضعه السليم.

2- الكذب والتواني:

يقول الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله):«لايكذب الكاذب الا من مهانة نفسه عليه»(20).

وعن الامام علي(عليه السلام):«قرنت الهيبة بالخيبة»(21).

ويذهب المعقد بالنقص في احيان كثيرة إلى خلق هالة من التعظيم حول نفسه، فيتصور نفسه شخصا مهما يهابه الجميع ولا يرقى احد إلى منزلته. وحين يجد نفسه محرجا امام امر يتطلب وقفة مخلصة وشجاعة، فهو يسعى في المقابل للتملص او الخروج من هذا الموقف منتصرا امام الاخرين، وان كان الانتصار وهميا، لكنه يجد في نفسه خواء وانهزاما يضمره ولا يفصح به امام الاخرين.

فالكاذب يتعمد الكذب حين يجد في نفسه ضعفا، ولا يتحمل تبعات مصارحته، وقد يضطر للكذب لان الحقيقة لاتروق له، وفي نفس الوقت لاتثير هذه المواقف في نفسه بواعث للتغيير إلى الافضل والاحسن.

وذكر ان شخصا كان له صديقا في قرية بعيدة، يزوره حين تضيق به سبل المدينة وضوضاؤها، فيتنزه بين بساتينها، ويفضي ما في داخله إلى صديقه من آلام وتحديات اعترضته خلال الكفاح من اجل لقمة العيش في المدينة.

من جهة اخرى كان الصديق القروي يحكي لصديقه المديني نجاحاته ومنجزاته العظيمة في مقاومة ظروف الطبيعة القاسية في القرية، فالمطر لايهطل الا قليلا والزراعة لا تنمو، ومدخول القرية لا يكاد يطعم اهلها. لكن الصديق القروي يحكي عن محصول عظيم لفت انتباه الحكومة ومسؤوليها، واضطروا على الاثر إلى توقيع عقد وصفقة شراء لمحصوله كلما حان وقت القطاف. واما المزارعين فهم يحجون يوميا إلى بيته لتلقي نصائحه في فن الزراعة وسبل قهر تحديات الطبيعة.

وحدث ان حصل الصديق المديني على وظيفة في احدى مؤسسات الزراعة التابعة لوزارة الري والاعمار في العاصمة. وبادئ الامر طلب منه اعداد دراسة ميدانية حول سبل قهر الظروف الصعبة للطبيعة في انماء الزراعة وتطويرها. وكان هذا الامر باعثا على ان يلجأ إلى صديقه القروي، لكنه اكتشف ان مزرعته اكثر انحطاطا من غيرها، وان الهيبة التي تحدث عنها ليست الا سرابا.

3- الصراع النفسي والانعزال :

الاحساس بالنقص يولد تراجعا نفسيا مستمرا « فالصراع كما كان يعرفه فلاسفة القرن السابع عشر: هو التصـــادم بين سلطان النفس على الانفعالات.. وسلطان الانفعالات على النفس»(22).

فالانسان المعقد بالاحساس بالنقص تتنازع في ذاته الانفعالات، فان كان ذو نظرة ايجابية فانه يبذل طاقته لتسخير هذا الصراع نحو اعادة بناء النفس بعد اكتشاف ضعفها. وان كان ذو نظرة سلبية فهو يزداد مرضا واضطرابا وعذابا وربما انهيارا تاما.

عن الامام جعفر الصادق(عليه السلام):«من ساء خلقه عذب نفسه»(23).

وعن الامام علي(عليه السلام):«سوء الخلق نكد العيش وعذاب النفس»(24).

وسئل الامام علي (عليه السلام) عن ادوم الناس غما فقال:« سوء الخلق»(25).

هذا الصراع النفسي يجعل من الانسان كتلة من الهم والغم، فلا يلتفت إلى من حوله، فهو مشغول بمعركة خاسرة سلفا. ذلك يؤدي به إلى الانعزال والانطواء على ذاته، لايفكر في الخلاص بل مستسلم، لا ارادة له. ولا تجده قريبا حتى إلى اقرب المقربين منه لان ذلك القربى تزيده احساسا بالنقص، حيث يتصور ان الاخرين اكثر منه كمالا إلى درجة لا يمكن اللحاق بهم او مناظرتهم.

فعن الامام الصادق (عليه السلام):«الرجل يجزع من الذل الصغير فيدخله في الذل الكبير»(26).

فربما يبدأ الاحساس بالنقص بعامل صغير جدا لا يترك اثرا سلبيا على النفس، لكن الامتدادات الفكرية السلبية يضخم هذا العامل يوما بعد يوم. فتجد الانسان المعقد وقد رسم في ذهنه نتائج سلبية مبنية على قصص وحوادث لا وجود لها، ثم يرتب عليها موقفا، فيزيده الموقف ضعة ونقصا، لا قوة وشجاعة. وعلى الاثر تنمو اعراض هذا المرض باختلاقات وهمية اخرى يسطرها المصاب دفاعا عن ذاته المعقدة.

4- الحقد والحسد:

قد يصل احدهم إلى منصب رفيع في احدى المؤسسات او المنظمات الاجتماعية او غيرها، نتيجة تفانيه واخلاصه في عمله، الا ان ذلك قد لايروق لاحدهم، فتراه يسعى لاسقاط قدره، ويتهمه بتهم واهية ويكن له كل الحقد او الحسد، لانه خسر منصبا كان يطمح اليه بدون ان يقدم من نفسه شيئا .

وروي ان فقيرا مر على قصر المأمون العباسي، وحينما اخذته روعة القصر وجماله ونعيمه انشد شعرا:

( يا قصر جمع فيك اللؤم والشؤم                  متى تعربد في اجوائك البوم )

فسمع المأمون بيته، فأمر بأحضاره، ثم سأله عن سبب هذه الابيات.

فاجاب الفقير بأنه ذلك الفقر المدقع الذي يعيشه، والذي يقابله نعيم وترف في القصر. فحقد هذا الفقير على القصر ادى إلى رجاء منه بتحول قصر المأمون إلى خربة تعشعش فيها البوم، ولان في هذا التحول فرصة ليتمكن من خلالها الفقير من دخول القصر كي يجد فيه مستراحا او كسرة خبز تخفف الم جوعته.

فعن الامام علي (عليه السلام):«الحاسد يفرح بالشر ويغتم بالسرور».

وعنه (عليه السلام):«الحسد مطية التعب».

وعنه (عليه السلام) قال:«ذووا العيوب يحبون اشاعة معايب الناس ليتسع لهم العذر في معايبهم»(27).

فالحقد والحسد وما يتبعها من عمليات الاسقاط تعبر عن نقص في الشخصية، لا يجرأ على اثرها صاحبها مواجهة الحقيقة، بل يتجه إلى وسيلة العاجزين .

وقيل بان «حادثة وقعت في سنة 1929م خلفت حساسية وطنية داخل الدوائر التعليمية. تدفق المثقفون من جميع انحاء امريكا إلى شيكاغو للاطلاع على المشكلة. فمنذ سنوات قليلة قدم شاب اسمه روبرت هاتشينز إلى بيل، حيث عمل نادلا وحطابا ومدرسا وبائع ملبوسات. والان، وبعد مضي ثماني سنوات، انتخب رئيسا لاحدى اكبر الجامعات الاربع في امريكا، جامعة شيكاغو. وكم يبلغ من العمر؟ ثلاثون سنة!، امر لا يصدق!

حرك المثقفون رؤوسهم دهشة، وجاء الانتقاد مزمجراً حول الفتى المدهش، انه كذا وكذا - صغيرا جدا تعوزه الخبرة - افكاره التعليمية ضئيلة. حتى ان الصحف شاركت في التهجم عليه.

وفي يوم انتخابه، قال صديق لوالد روبرت هاتشينز: فوجئت هذا الصباح عندما قرات في الصحف مقالات تهاجم ابنك.

اجاب هتشينز الاب، نعم، كان كلام الصحف قاسياً، لكن تذكر ان لا احد يرفس كلبا ميتا، اي كلما كان الكلب مهما، كلما ازدادت قناعة الناس في المضي في رفسه»(28).

5- الاستعلاء والرغبة في الانتقام:

ويظهر هذا السلوك بشكل جلي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم . فالحاكم يجد في نفسه امتيازا على الناس . فالناس عامة وهو اخص منهم بالتصرف في شؤون البلاد ومن عليها . وقد نصت بعض الدساتير بجعل الحاكم فوق كل اعتبار، ومن حقه ان يمارس شتى اصناف الادارة المنفردة، وعلى رعيته ان يطيعوه، وعليهم ان يؤمنوا بقوة ان تقديس الحاكم واحقــــيته في مطلق الحكم هو لتركيز السلطات، ولتحقيق وحدة الشعب والدفاع عنه وعن اراضيه!!

وهو الامر الذي دعا ميكافيلي الايطالي ان يضع كتابا اسماه بـ )الأمير(. ويقول فيه:«على الأمير الذي يجد نفسه مرغما على تعلم طريقة الحيوان، أن يقلد الثعلب والاسد معا، إذ أن الاسد لا يستطيع حماية نفسه من الاشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه امام الذئاب».

ثم يقدم ميكافيلي عددا من النصائح للامراء:«وهكذا فمن الخير ان تتظاهر بالرحمة وحفظ الوعود والشعور الانساني النبيل والاخلاص والتدين، وان تكون فعلا متصف بها، ولكن عليك ان تعد نفسك، عندما تقتضي الضرورة، لتكون متصفا بعكسها . ويجب ان يفهم ان الامير ولاسيما الامير الجديد، لا يستطيع ان يتمسك بجميع هذه الامور التي تبدوا خيرة في الناس، اذ انه سيجد نفسه مضطرا للحفاظ على دولته، لان يعمل خلافا للاخلاص للعهود، وللرأفة والانسانية والدين»(29).

وتتسم افكار ميكيافيلي التي قدمها للملوك والرؤساء والامراء بسلوك تعويضي خطر. فالرغبة في الاستعلاء والانتقام هما مسلكان عرفا بهما الملوك والامراء والرؤساء منذ ما قبل ميكافيلي بقرون عديدة، للتظاهر امام الناس بالعظمة والجبروت، وهو الامر الذي يجعل الناس يحجمون عن فكرة التغيير او التنمية السياسية. وجاء ميكافيلي ليظهر حقيقة العرش ومن عليه، وربما اضفى شرعية ومبررا لسلوك النظام السياسي الدكتاتوري.

وعلى اية حال، الانظمة السياسية غير الشرعية تشعر في ذاتها ضعة ونقصا رغم الهيبة المصطنعة التي تظهر بها مؤسسات هذه الانظمة، ذلك يجعلها متأهبة ومتوثبة على الدوام، خوف تحرك شعبي جاد يحمل طابع العمومية.

فعن الامام الصادق (عليه السلام):«ما من احد تكبر او تجبر الا لذلة وجدها في نفسه»(30).

فلم تكن صفة التكبر يوما وسيلة للحفاظ على امن البلاد واستقرار الحكم، بل ان ابليس نفسه اخرج من الجنة بسبب استكباره، حين قال:( أأسجد لمن خلقت طينا، انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) .

ويقول الامام علي (عليه السلام):«اياك والكبر، فانه اعظم الذنوب.. وهو حلية ابليس»(31).

الهوامش

(1) سورة الإسراء: 70.

(2) سورة التين: 4.

(3)  سورة البقرة: 30-34.

(4)  ميزان الحكمة: ج1 ص360.

(5)  كلمة الله: ص169.

(6)

(7)  الحجرات: 13.

(8)  الحياة: ص115.

(9)  نهج البلاغة: ص181.

(10)  الرائد: جبران مسعود ص1038-1039.

(11)  العقدة النفسية: عباس مهدي البلداوي 1978م.

(12)  المصدر السابق: ص48.

(13)  المصدر السابق: ص1526.

(14)  الطلاق: 3.

(15)  بحار الأنوار: ج77 ص137.

(16)  التفسير الإسلامي للتاريخ: د.عماد الدين خليل 1981م.

(17)  العقدة النفسية: عباس مهدي البلداوي.

(18)  ميزان الحكمة: ج10 ص151.

(19)  سورة المنافقون: 4.

(20)  ميزان الحكمة: ج3 ص347.

(21)  نهج البلاغة: ص471.

(22)  تراث الإنسانية: المجلد الثاني ص951، نقلاً عن (العقد النفسية).

(23)  ميزان الحكمة: ج3 ص154.

(24)  المصدر السابق: ج3 ص153.

(25)  المصدر السابق: ج3 ص153.

(26)  المصدر السابق: ج3 ص443.

(27)  الطفل بين الوراثة والتربية: ج2 ص312.

(28)  دع القلق وابدأ الحياة: دايل كارنيجي – دار ومكتبة الهلال.

(29)  الأمير: ميكيافيللي ص24 بيروت 1970.

(30)  ميزان الحكمة: ج3 ص443.

(31)  ميزان الحكمة: ج8 ص298.

يمكن مطالعة القسم الثاني من هذه المقالة في العدد 37

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 36

الصفحة الرئيسية