مجلة النبأ    العدد  36     السنة الخامسة    جمادى الاولى  1420 ه

الاستبداد السياسي.. والديني

وحدة في الأهداف.. والأساليب..

علي عبد الرضا

قالوا في الاستبداد

وللتعريف مؤيدات

شيء من اللغة

اتعس انواع الحكومات

اتعس انواع الاستبداد

شيء من التاريخ

لا يخفى أن الاستبداد وباء فتاك تصاب به بعض الأمم في بعض مراحل تاريخها، وهو أسوأ أنواع الإدارة السياسية وأكثرها خطراً على الإنسان، وتأخيراً للعمران، وتمزيقاً للأوطان.

وبما أن الاستبداد هو تصرف من الحاكم وفق أهوائه ونزواته بمصير الناس، حيث لا تراعى كرامة لإنسان أو حرمة لأديان..

فمواطن الحكومات المستبدة يتميز غالباً بالسلبية المطلقة والتشاؤم والقلق وعم الاستقرار، فلا وجود للطاقات البناءة أو الإبداعات الخلاقة وهكذا تحرم البلاد من عطاءات أبناءها..

والمجتمع الذي يتحكم فيه الاستبداد هو مجتمع خامل، معطل، متراجع في كافة مرافق الحياة ووجوهها، يسوده التخلف، وتسيطر عليه الخرافة، وتنعدم فيه القيم وتموت فيه الفضيلة..

فالاستبداد إذن.. بأساليبه المتشدّدة، وآراءه الفاسدة، يقتل حوافز الأفراد وطموحاتهم ويحول المجتمع إلى جثة هامدة ينال منها العقاب، وتنهشها الذئاب ويهددها الأغرب.

شيء من اللغة

المعجم الوسيط: الاستبداد لغة، هو اسم لفعل (استبدّ) يقوم به فاعل (مستبد) ليتحكم في موضوعه (المستبد)، فلا بد أن يتجسد الاستبداد في شخص أو فئة، يقال: استبد به: انفرد به، واستبدّ: ذهب. واستبد الأمر بفلان: غلبه فلم يقدر على ضبطه، واستبد بأميره: غلب على رأيه، فهو لا يسمع إلا منه(1).

لسان العرب: استبد فلان بكذا، أي انفرد به، فيقال استبد بالأمر يستبد به استبداداً إذا انفرد به دون غيره(2).

شرح نهج البلاغة: الاستبداد بالشيء، التفرّد به(3).

الصحاح: والى ذلك ذهب الجوهري في الصحاح حيث قال: استأثر فلان بالشيء استبد به(4).

القاموس المحيط: كما أشار الفيروز آبادي إلى المعنى ذاته عندما قال: استأثر بالشيء استبد به، وخص به نفسه(5).

طبائع الاستبداد: ويعرف الكواكبي الاستبداد بأنه: اقتصار المرء على رأي نفسه يما تنبغي الاستشارة فيه(6).

فالاستبداد لغة: هو الانفراد (بالشيء) فيكون الانفراد (بالحكم) استبداداً به..

وللتعريف مؤيدات أخرى

أما تعريف الاستبداد فهو:

- تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف تبعة(7). هذا ما يراه الكواكبي.

- أما محمد عبده فيعرّف المستبد بأنه الذي يفعل ما يشاء غير مسؤول، ويحكم بما يقضي هواه، وافق الشرع أو خالفه، ناسب السنة أو نابذها، ومن أجل هذا ترى الناس كلما سمعوا هذا اللفظ أو ما يضارعه صرفوه إلى هذا المعنى ونفروا من ذكره لعظم مصابهم به، وكثرة ما جلب على الأمم والشعوب من الأضرار(8).

وقد عرّفت موسوعة السياسة الاستبداد: بأنه حكم أو نظام يستقل بالسلطة فيه فرد أو مجموعة من الأفراد دون خضوع لقانون أو قاعدة ودون النظر إلى رأي المحكومين(9).

فيما عرفت الموسوعة الفلسفية العربية الاستبداد: بأنه الانفراد بالأمر والأنفة عن طلب المشورة أو عن قبول النصيحة حيث ينبغي الطلب والقبول(10).

إذن فالاستبداد: هو تصرف مطلق في شؤون الآخرين، وتعدي على حقوقهم الطبيعية والمدنية.

وأما ما ذهب إليه ابن خلدون عندما اعتبر استبداد الحاكم على قومه والانفراد دونهم بالملك هو أمر واقع بمقتضى طبيعة الحكم القائم على تغلب عصبية قبلية معينة، فهو تعسف يرفضه المنطق والعقل السليم ولا ترضاه أية شريعة قانونية أو مثل إنسانية.

قالوا في الاستبداد:

أ- القرآن الكريم:

صحيح أن كلمة (الاستبداد) لم يأت ذكرها في الكتاب الحكيم ولكن معانيها ومرادفاتها أو ما يضارعها أمثال: الطغيان التعسف، الظلم، الفساد، قد تعد بالمئات ولعل أغلب السور القرآنية تطرقت إلى معنى الاستبداد بصورة أو بأخرى وهذه بعضها:

( إذهب إلى فرعون إنه طغى) (11).

( أتواصوا به، بل هم قوم طاغون) (12).

( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) (13).

( بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم) (14).

( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (15).

( فأما من طغى وأثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى) (16).

( إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم) (17).

وفي آيات أخرى هناك ذم للاستبداد من خلال عرض النقيض له ففي خطاب الحق تعالى للفرد يقول:( وشاورهم في الأمر) (18)، أما للجماعة فيقول:( وأمرهم شورى بينهم) (19).

ب - الإمام علي (عليه السلام):

التجربة الأقدس والأنموذج الأطهر لحاكمية الإسلام بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) هي خلافة أمير المؤمنين(عليه السلام) فهي التي رسمت الخطوط العامة لكيفية تصرف الحاكم مع شعبه وخصوصاً مع معارضيه وحـــددت كذلك حقوق الراعي والرعية والواجبات المفروضة على كل طرف، لذلك-في كل زمان ومكان- نعتبر (حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام)) المعيار في تقييم الحكومات، والمحك في تشخيص الحكام، فتجربته (عليه السلام)غنية وثرية وفيها الكفاية للساعين وراء العدل والحرية والتقدم.

وهناك زخم عظيم من الأقوال والروايات التي تحث على نبذ الاستبداد والأخذ بمبدأ الشورى والعدالة في الفكر والعمل وأغلبها إذا لم نقل معظمها واردة عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهذا تأكيد آخر على الأهمية التي يوليها الإمام (عليه السلام) لهذا المرض الفتاك وكيفية الخلاص منه، منها:

من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها(20).

الحازم لا يستبد برأيه(21).

خاطر من استبد برأيه(22)

من استبدّ برأيه زل(23).

من استبد برأيه خفت وطأته على أعدائه(24).

من استبدّ برأيه فقد خاطر وغرر(25).

بئس الاستعداد الاستبداد(26).

حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ويضم إلى علمه علوم الحكماء(27).

ما تشاور قوم إلا هدوا إلى رشدهم(28).

إنما حض على المشاورة لأن رأي المشير هدف ورأي المستشير مشوب بالهوى(29).

شيء من التاريخ

كالعادة في أغلب القضايا الأساسية والمسائل الفكرية، لا يقف أصحاب الفكر والنظر على نقطة ثابتة أو موقف محدد، خصوصاً إذا كانت هذه المسائل تتداخل وتترابط معها أهواء وميول ومصالح شخصية وثارات فئوية وفي بعض الأحيان ممارسات لا أخلاقية.

والاستبداد لا يشذ عن هذه القاعدة فكان ولا يزال واقعاً في دائرة عدم الاتفاق والاختلاف، وقد لا يصل إلى نقطة التلاقي في ظل ظروف الأوضاع القائمة التي جعلت من بعض المفكرين والمنظرين سلعاً رائجة تتناقل بين أيدي السلطات الحاكمة لترويج بضاعتهم الزائفة وتزويق فعالهم الشريرة فتشاهد وتسمع بين حين وآخر سقوط القطب الفلاني في مصيدة الحكم الكذائي، وتراجع المصلح العامل وانضمامه لجوقة المتزلفين المهرجين للظالم المستبد، فبات الوضع أكثر خطراً وأدق حساسية باعتبار أن عموم الأمة تنظر إلى العالم والمفكر والمصلح نظرة إعجاب وتقديس وإنه المنظر والهادي للطريق والمرجو منه أن يكون كلمة الأمة أمام السلطان وحاميه إذا جار الزمان، فها هي ترى بين ليلة وضحاها يتحول العالم النحرير والمفكر اللالمعي إلى بوق لهذا وموله لذاك، ولا عجب أن تتخلخل الموازين وتنقلب تاركة وراءها اوركسترا تعزف لحن الخلود والبقاء للحاكم المستبد والظالم الطاغي.

ويجب أن لا نغفل أن التاريخ نقل إلينا أيضاً جوانب مضيئة وأنواراً ساطعة سطرت ببيانها وقلمها -وأحياناً بدماءها- أمجاد الخلود ورسمت سبل الخلاص من وباء الاستعباد ومرض الاستبداد. ومن الإنصاف أن نذكرهم ونذكر مواقفهم المشرفة الحصيفة التي أغنت الفكر وأثرته..

ويبرز من هؤلاء:

أفلاطون:

إن المستبد يستولي على السلطة بالقوة ويمارسها بالعنف، بعد ذلك يسعى أولاً إلى التخلص من أخطر خصومه، ويكثر من الوعود، ويبدأ بتقسيم الأراضي مما يجعله شعبياً ومحبوباً، وهو ما ينفك يفتعل حروباً ليظل الشعب بحاجة دائمة إلى قائد، وهذه الحروب تفقر المواطنين من خلال ما يدفعونه من ضرائب باهظة، فيضطرون إلى زيادة ساعات العمل مما لا يدع لهم وقتاً للتآمر على المستبد، والحرب تساعده على التخلص من معارضي سياسته، حيث يقدمهم إلى الصفوف الأولى في المعركة. إن ذلك كله يدعو إلى استياء الجماهير، حتى أعوانه الذين رفعوه إلى السلطة، وهنا لا يجد أمامه إلا القضاء على المعارضة بما يملكه من وسائل العنف والقوة، فيزيد من تسلحه، ومن حرسه الخاص من المرتزقة مما يتطلب نفقات طائلة، فيلجأ المستبد إلى مزيد من نهب خزائن الشعب الذي يدرك –بعد فوات الأوان- أنه وضع في حالة استعباد مسيّس(30).

رفاعة الطهطاوي:

إن الملوك الذين لا يهمهم سوى أن يرهبهم الناس، فيستعبدون رعاياهم لجعلهم أكثر خضوعاً، إنما هم وباء الجنس البشري، فمن ملك أحراراً طائعين، كان خيراً ممن يملك عبيداً مروعين(31).

خير الدين التونسي:

المهم أن لا يطلق أمر الوطن لإنسان واحد، كائناً من كان، وعلى أي حال كان(32). فيتصرف بعضهم بحسب الـــفوائد الشخصية لا باعتـــبار مصلحة الدولة والرعية، والاستبداد هو عدم اعتبار رأي الجماعة ومن هنا فهو الحكم تحت تأثير الهوى الشخصي والتصرف بمقتضى الشهوات(33).

جمال الدين الأفغاني:

الإنسان الحقيقي هو الذي لا يحكم عليه إلا القانون الحق الموسس على دعائم العدل الذي رضيه لنفسه(34).

محمد عبده:

إن الاستبداد المطلق ممنوع، منابذ لحكمة الله في تشريع الشرايع، فإنه نبذ للدين وأحكامه، وسعي خلف الهوى ومذاهبه، وذهاب لخفض كلمة الله العليا، وفرق لإجماع السلف الصالح من المؤمنين، إذا لم يبيحوا في جميع أمورهم أن يتولى عليهم من يخالف الكتاب والسنة إلى أحكام شهوته وهواه(35).

عبد الرحمن الكواكبي:

المستبد إنسان، والإنسان أكثر ما يألف الغنم والكلاب، فالمستبد يود أن تكون رعيته كالغنم ذلا وطاعة وكالكلاب تذللاً وتملقاً. وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خُدمت خَدمت وإن ضُربت شَرست، بل عليها أن تعرف مقامها هل خلقت خادمة للمستبد؟ أم هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ والرعية العاقلة تقيّد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزت به الزمام، وإن صال ربطته(36).

آية الله النائيني:

ما دام أساس الاستعباد والاستبداد مترسخاً في هذه البلاد فإن القضاء عليه واستبداله بالعلم والمعرفة أمر مستحيل، وما دام السلطان لم يع بعد حقيقة السلطة وإنها عبارة عن إقرار النظام وان مهمته كمهمة الراعي، وما دام يرى نفسه مشاركاً لله عز اسمه في الملك والتدبير والأسماء الحسنى، فإنه بالنتيجة سيعتبر رفض الأمة له وللواقع البائس الذي تعيش، وسيرى عدم الرضوخ له والسعي للتخلص منه تمرداً عليه، وسيعتبر إعانته ومساعدته على هذا الظلم والتفرعن وطنية، وسيعمل على استئصال الفريق الذي يعتبرهم خارجين عن طاعته ويقوم بتقريب الفرقة الثانية التي يظن فيها حب بقاءه ويهيء لهم مدارج الرقي(37).

علماء الفعل:

مرّ الشيعة وعلماءهم بالتحديد بظروف صعبة وشرسة قلّ مثيلها وقد نجزم بأن الفئات والمذاهب الإسلامية الأخرى لم تمر بما مروا أو يلاقوا عشر ما لاقوا لأسباب باتت معروفة للجميع!.

فالحكام الذين حكموا البلاد الإسلامية أوجعوا هذه الفئة –بالخصوص- بأشد أنواع العذاب وصبوا عليهم أشد الويلات والمصائب، ويأتي في طليعة من نزل عليهم حقد الحكام وجور السلاطين، علماء الشيعة الأفذاذ من الذين تفرّدوا في الوقوف والتصدي لطغاة زمانهم، وشمروا عن سواعدهم لمواجهة تيارات الاستبداد وموجات الظلم والتعسف، وعلى إثر ذلك قتل من قتل منهم وشرد من شرد ولم يسلم منهم إلا القليل القليل ممن ساعدته الظروف المكانية من التخفي والهجرة لمناطق نائية. وربما مراجعة متواضعة لتاريخ علماء الشيعة تكشف عمق المعاناة والمأساة التي جرت عليهم وتجري حالياً على بعضهم سواء كان ذلك في العراق أو في بلدان إسلامية أخرى.

والحقيقة إن ما كتب أو قيل في الاستبداد يقف إجلالاً وإكباراً أمام السيل الجارف من المواقف الشجاعة والبطولية لعلماء الشيعة من الذين نذروا أنفسهم لترسيخ أسس الحق والعدالة ومقاومة الظلم والاستبداد، وحتى الذي وصل إلينا لا يحكي كل الحقيقة أو يصف الصورة بالكامل، لا شك أنه قليل م كثير وما خفي أعظم.

ثم إن غدر السلطان والتشرد من الأوطان جعل جل أفكارهم تتوجه نحو الوسائل العملية للخلاص من استبداد المستبدين فلم تسنح لهم الفرصة للكتابة عن هذا الوباء العضال أو المواضيع الأخرى للحكومة الإسلامية المنشودة، وربما كانت هناك كتابات في هذا المجال أو ذاك وعدم ووصولها إلينا لا يعني عدم وجود نتاجات وذلك لأن نار الحقد والغدر والكراهية لم تترك شيئاً إلا وقضت عليه. أليس من أولوياتها طمر وإخفاء كل ما يمت إلى موضوع الاستبداد والظلم بصلة؟ حتى أصبحت ظاهرة حرق المكتبات الشيعية أو مصادرتها حالة عامة لم تسلم منها حتى المكتبات الخاصة والشخصية.

ولا نريد أن نذهب بعيداً فالوقت الحاضر تتجلى فيه صور الحقد والبغض على الفكر الشيعي الأصيل بأظهر صورها تشترك فيها عدة جهات وأطراف بعيده وقريبه، محسوبة وغير محسوبة بعلم وبدون علم بشكل أو بآخر. فنشاهد بين حين وآخر حملات تشهير مقصودة ونيل من زعامات دينية مرموقة لا يرقى إليها الشك لكونها رفضت الاستبداد ونادت بالشورى والديمقراطية كمبدأ أساسي من مبادئ الحكومة والقيادة.

ومن سنن الطغاة أنهم يسيرون على نهج واحــــد في مواجهة المصلحين والمجددين وكأن طريقتهم في المواجهة وإلقاء التهم والتسقيط والظلم واحدة يتواصون بها جيلاً بعد آخر، حتى أن الحق تعالى عندما يرى تهمة رسله وأنبياءه واحدة مكررة –ساحر أو مجنون- يستهزء بهم فيقول:( أتواصوا به، بل هم قوم طاغون) (38).

أتعس أنواع الاستبداد

قيل أن الاستبداد أصل لكل فساد، وهو بيت الداء لجميع العلل والأعراض، ولا يمكن حصره في جهة محددة أو نطاق مشخص، فهو فيروس لا يمكن السيطرة عليه ينال كل من يقف أمامه، ولا يسلم منه أحد إلا وتشكل بصوره وأشكاله المختلفة، فلكل فرد أو جماعة استبداد من نمط معين يزيد ويضعف تبعاً للبيئة التي عاش فيها والمحيط السياسي الذي يدور في فلكه.

ورعاية للأهم نغض الطرف عن الاستبداد الفردي مع ماله من تأثير كبير على الحياة الاجتماعية، ومع علمنا الكامل بأن الاستبداد لا يتجاوز الفرد من طرف الفاعل والمفعول وإن مظاهره الجلية حاضرة في كل فرد من أفراد مجتمعاتنا الإسلامية بنسب متفاوتة، إلا أننا سنضع الثقل كل الثقل على الاستبداد الجمعي في الفكر والممارسة والمتصل بعموم الأمة.

فالفرد عندما يستبد قد تتخطى آثاره بعض الدوائر المحيطة به إلا أنه يبقى ضمن دائرة الخاص والمعقول، أما استبداد الجماعات –الحكومة مثلاً- فلا يقف نحو خط معين ويتخطى المسموح والمعقول.

إن الانفراد بالرأي في ما تجب المشورة فيه، وفي طريقة ممارسة فحواه من دون أصحاب العلاقة يعد نوعاً من أنواع السيطرة والحكم، ومن أجلى مصاديقه استبداد الحكومات وهو (أتعس أنواع الاستبداد) لما يترتب عليه من تصرف مطلق في شؤون الرعية بلا خشية حساب ولا خوف من عقاب.

ثم إن المتبادر من إطلاق لفظه –استبداد- الحكومات الدكتاتورية الظالمة ولا غير، فهي المقصودة والمعنية وبفسادها يفسد المجتمع وبإصلاحها يصلح المجتمع فالناس على دين ملوكهم، ولا يكفي إذا أردنا العمل أن نبدأ بالفرد والمجتمع أولاً في حين أن الحاكم والحكومة يعيشون حالة استبداد مطلقة، فلا بد أن نوجه خططنا وتحركنا على الجذور والأساس، وبالتحديد السلطات الحاكمة مضافاً إلى الأفراد.

أتعس أنواع الحكومات

يمكننا القول بسهولة أن حكومة السلطان أقل ضرراً من حكومة-علماء السوء-، لأن الأولى مبنية على القهر والغلبة أي أنها تتحكم في مملكة الأجسام، والثانية مبنية على الخدعة والتدليس أي على عالم الأرواح والقلوب. والاستبداد وإن قام على القهر والغلبة إلا أنه مؤقت يزول مع زوال المؤثر بينما الآخر يقوم على الخدعة والدجل والنفاق وهذا ما ينطلي على الأكثرية فيسهل السيطرة عليهم وعلى قلوبهم بالتحديد، وكلما خفيت حقيقة علماء السوء، كلما سهل عليهم الدخول إلى قلوب الناس وأخذ الزمام بأيديهم.

فالذي لا يرى في معاوية إلا كاتباً للوحي، وأمثال عمرو بن العاص، ومحمد بن مسلم، ومسلم بن مخلد والمغيرة بن شعبة إلا الخلّص من الصحابة والتابعين، ربما يسهل السيطرة عليه وقيادته نحو الجهل والظلام والتبعية. وعلى هذا الوتر الحساس استطاع بنو أمية ومن تمسح بهم من علماء سوء أن يضربوا وينالوا مرادهم ويمزجوا بين السلطة والدين ويشكلوا حالة فريدة لم يأت أحد بها من قبلهم، وابتعدوا عن الشورى واستبدوا وروّجوا بأن الخليفة غير مسؤول أمام الشعب. وباسم الدين حصروا الخلافة في البيت الأموي وباسم الدين جعلوا حياة الترف والبذخ واللهو طريقة لبقاء السلطان، وباسم الدين اعتمدوا على القوة والبطش في محاربة خصومهم وتثبيت دولتهم وباسم الدين فعلوا ما فعلوا..

والشيء الملفت أنه ما من مستبد سياسي إلا واتخذ له صفة قدسية، يشارك بها الله جل جلاله، أو تعطيه مقام ذي علاقة مع الله سبحانه، وانه وحده ولا غير صاحب الحق الإلهي وهو الذي ( لا يُسأل عما يفعل) وهم يُسألون.

أو أنه يتخذ بطانة من علماء السوء –أهل الدين- المستبدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله ويروجون بضاعته الفاسدة، ولا يهدفون إلا صيانة المقام السامي ورعاية الإمام الحامي!!. فعلماء الأزمان والأديان صنوان لا يفترقان تجمعهما الحاجة للإحاطة برقاب الأمة والسير بها نحو أهدافهما المشتركة.

فالاستبداد الديني أو السياسي الممزوج بالدين خطره أعظم وأكبر على الدين والأمة، والحكومة المنبعثة من هذا الاستبداد أقسى أنواع الحكومات.

وتأكيداً لما قلنا يمكننا أن نقف على خطر هذه الفئة –علماء السوء- الضالة المضللة من الحديث المروي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)حيث يقول:«أولئك –علماء السوء- أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي(عليهما السلام)» وسبب الخطر كما أسلفنا سيطرتهم على القلوب حيث يقول الإمام:«فإنهم –أي علماء السوء- يسلبونهم الأرواح والأموال»(39).

بدعة أموية

الاستبداد الديني –أو الحكومات الدينية- ظاهرة أموية ابتدعها معاوية وسارت عليها الحكومات التي تلته، فقد بدأ الاستبداد في العصر الأموي على يد معاوية متأثراً بنظام الدولتين البيزنطية والفارسية وتوسع ليشمل كافة الولاة، فكان الحجاج الذي استعمله عبد الملك بن مروان على العراق رائداً في هذا المضمار وذاع صيته في جميع الأمصار حتى عد السير على خطاه مزية لا يمكن إغفالها عند تعيين الولاة والعمال.

وقد حاول العباسيون كأسلافهم من الأمويين الاستناد إلى نظرية الحق الإلهي أو الحق المقدس فهذا أبو جعفر المنصور يقول في خطبة له بمكة: أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته.

فحذوا حذوهم وفي بعض الأوقات زادوا عليهم حتى وصل الحال إلى أن يترحم البعض على العهد السابق لما رأى من ظلم واستبداد.

وبعد انتقال الحكم إلى العثمانيين أصبح سلاطين الظلم والفسق والجور (ظل الله في الأرض) وغيرهم عبيد لا يستحقون إلا فتات ما يتساقط من مائدة (جليل الشأن) أو (المنعم وولي النعم).

وهكذا ترسّخ الداء وازداد الوباء ليشمل بقية الحكومات والفرق والنحل، والذي ساعد على تثبيته أكثر وإشاعته ليشمل كافة مناحي الحياة سيطرة الاستعمار الغربي على مقدرات الأمور، فكان الاستبداد أفضل وسيلة للسيطرة المستمرة على الأمم والشعوب.

والذي نتلمّسه اليوم من سيطرة للاستبداد السياسي والديني في بعض البلدان لا يخرج عن ما سار عليه الأسلاف من بني أمية وبني العباس وآل عثمان، ناهيك من أنه مخطط دقيق يشترك فيه الجميع -أسياد وعملاء- بعلم أو بدون علم للقضاء على البقية الباقية من السنن الحقة والقيم المثلى.

ولعلّ الرجوع إلى )مذكرات الجاسوس البريطاني مستر همفر( و)مذكرات الجاسوس الروسي دالكوركي( تعطينا صورة ولو متأخرة عن ما جرى ويجري حالياً من خطط ومؤامرات للقضاء على الدين الحنيف.

ويجب أن لا ننخدع بالظواهر والشكليات وبعض المراسم التي تخدع ولا تنفع فمنهم بدأت الفتنة وعليهم يقوم حالياً تنفيذ المؤامرة‍‍!!

أما كيفية مكافحة الاستبداد فهذا ما سنتطرق إليه في مقالنا اللاحق إنشاء الله.

الهوامش

(1) المعجم الوسيط: ج1 ص42.

(2) لسان العرب: ج3 ص81.

(3) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد ج9 ص243.

(4) الصحاح: ج2 ص444 مادة بدد.

(5) القاموس المحيط: ص341 مادة بدد.

(6) طبائع الاستبداد: عبد الرحمن الكواكبي ص30.

(7) المصدر السابق.

(8) موسوعة السياسة: ج1 ص166.

(9) المصدر السابق.

(10) الموسوعة الفلسفية العربية: معن زيادة ج1 ص53.

(11) طه: 24، النازعات: 17.

(12) الذاريات: 53.

(13) القصص: 38.

(14) الروم: 29.

(15) المائدة: 45.

(16) النازعات: 37-39.

(17) الشورى: 42.

(18) آل عمران: 159.

(19) الشورى: 38.

(20) بحار الأنوار: ج75 ص104.

(21) بحار الأنوار: ج78 ص11.

(22) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد ج18 ص382.

(23) غرر الحكم ودرر الكلم: ص347.

(24) نفس المصدر.

(25) نفس المصدر.

(26) غرر الحكم: ص346.

(27) غرر الحكم: 384.

(28) نور الثقلين: ج4 ص584.

(29) غرر الحكم.

(30) جمهورية أفلاطون: ص260.

(31) تلخيص الأبريز: للطهطاوي ص157.

(32) أقوم المسالك: ص130.

(33) العدالة والحرية: ص148.

(34) نفس المصدر: ص279.

(35) الشورى والاستبداد: ص106.

(36) طباع الاستبداد ومصارع الاستعباد: الكواكبي ص34.

(37) تنبيه الأمة وتنزيه الملة: ص212.

(38) الذاريات: 53.

(39) الاحتجاج: للطبرسي ص458.

 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 36

الصفحة الرئيسية