مجلة النبأ    العدد  36     السنة الخامسة    جمادى الاولى  1420 ه

                 

البطالة بين أرقام العولمة

  والحل الشامل

                   

عبد الله موسى

وصلت نتائج التقديرات الإحصائية إلى أن ما يقارب (مليار) عاطل عن العمل يتوزعون على مختلف أنحاء الأرض وهذا الرقم المهول بحد ذاته يمثل نذير خطر ومصدر قلق حقيقي لمستقبل المجتمع العالمي الذي ينشده الرفاه الاقتصادي والاجتماعي والسبل الكفيلة بتحقيق القدر المكن من الاستقرار النسبي في المعيشة الحرة.

وقد وضعت جداول وإحصائيات النسب التي تكشف عن مساحة توزيع العاطلين عن العمل وتباين هذه النسبة من حيث خطورتها في بعض المجتمعات حيث تشكل بيئة البطالة جواً ملائماً لنمو الجريمة والعنف وهذا ا يلاحظ بين عدد العاطلين عن العمل في مجتمع ما وبين ارتفاع مستوى الجريمة فيه، في حين ترسم البطالة صورة أخرى للمجتمعات الآسيوية والأفريقية التي تعاني بعض بلدانها من نفس المشكلة تنتج حالات من الانحراف جعلت من بعض هذه الدول تعتمد في اقتصادياتها بالدرجة الأولى على موارد اقتصادية غير مشروعة كأعمال البغاء وتداول صفقات الرقيق البشري الحديثة.

ولم تنحصر نتائج مشكلة البطالة على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية بل تعدى ذلك إلى وقوع دول بالكامل في أسر ا لقوى الغنية سواء كانت هذه القوى أفراداً أو مجموعات أو دولاً حيث أن سوق العمالة خضع هو الآخر للاحتكار من قبل هذه القوى لأغراض سياسية، ولا يعني بالضرورة أن هذه الأخيرة هي سبب في انتشار هذه الظاهرة لتشابك العوامل والأسباب التي أصّلتها ي مجتمع دون غيره.

من حلول الآلة إلى فخاخ العولمة

حمل عصر النهضة في أوربا سمة التقنية الآلية والتي أخذت بدورها تلغي الأيدي العاملة في الكثير من القطاعات الصناعية ممهدة بذلك لبروز مشكلة البطالة كظاهرة اعتبرت إحدى سلبيان هذه النهضة والتي لاقت معارضة شديدة من قبل الحرفيين الذين وجدوا أنفسهم فجأة بدون عمل وتقلص عدد العاملين في المشاغل إلى النصف تقريباً وانجرت هــــذه الحالة على المناجم والمواصلات وغيرها من القطاعات.

إلا أن معدلات البطالة قد خفت نسبياً بعد استقرار المجتمع الأوروبي وحصول نوع من التوازن الذي أملته ظروف التطور الصناعي فلجأ أصحاب الحرف القديمة إلى الانتقال إلى أنماط العمل الجديدة وتحولت ورش العمل المنزلية إلى وسيلة للاكتفاء الذاتي والتي أدّت بدورها إلى انخفاض أسعار المنتوجات الصناعية ثم حدوث الانتعاش الاقتصادي في ما بعد الفترات الأولى لعصر النهضة واستمرت حالة الاستقرار النسبي هذه تتخللها موجات من المد والجزر إلى أواخر القرآن التاسع عشر وظهور رؤوس الأموال الضخمة لتقلب الموازين القديمة رأساً على عقب، فكان التوسع الصناعي والاستثمار غير المتوازن من السمات الرئيسية لبدايات القرن العشرين الميلادي.

وإذا كانت هناك ثمة تاريخ محدد لنشوء ظاهرة البطالة عالمياً فإن عقد العشرينات سجل أعلى معدلات البطالة لفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وبالتحديد في اليوم الذي سمي بـ«الخميس الأسود» تشرين الأول 1929م؛ بعد ضخ كميات كبيرة من الأسهم والسندات والتي تمثل وقتها الرأسمال الأساسي لكبرى الشركات الكبرى العالمية وكانت بعدها قائمة الإفلاسات المتوالية لعدة بنوك ويكفي أن نذكر أنه في العام 1930 أفلس ما يقارب 1325 بنكاً، وقد أحدثت هذه الكارثة الاقتصادية خلالاً كبيراً وراح سوق البطالة بصورة قياسية.

ثم أتت أحداث عام 1971م عندما تخلّت الولايات المتحدة عن قابلية تحويل الدولار إلى ذهب وتلتها أحداث عالمية أخرى منها قرارات مجموعة الدول المصدرة للنفط (أوبك) برفع أسعار النفط والتي ظلت متأرجحة ما بين السنوات 1873-1979 بسبب انفراد بعض الدول بقرارات التأميم غير المدروسة. ونالت الدول المصنفة تحت المعسكر الاشتراكي السابق النسبة الكبرى في العالم حيث وصلت معدلات البطالة فيها إلى 50% ورغم أن غالبية البلدان الإسلامية لم تتأثر بهذه التقلبات الاقتصادية وقتها كونها بعيدة عن مجريات الصراع الاقتصادي الدولي، بيد أن السنوات التي تلت عقد السبعينات نقلت إسقاطات وتداعيات الأزمات الاقتصادية العالمية عليها بعدما حولتها الدول الكبرى إلى سوق استهلاكية دائمة لمنتجاتها وبدت ظاهرة البطالة تبرز بشكل تدريجي فسجلت معدلات متفاوتة في الجزائر مثلاً وصلت النسبة إلى 24% ومصر 17% والأردن18%، وتأرجحت في دول أخرى تبعاً لتأثرها بالأزمات الاقتصادية العالمية وبعد النقلة النوعية في الاقتصاد الدولي في التسعينات والهيمنة الغربية والأمريكية بالذات على منافذ الاقتصاد الدولي وظهور العولمة كقانون يحكم العالم بأسره فقد وجدت بعض الدول فجأة أنها عاطلة عن العمل أو قل عاجزة تماماً عن التحكم باقتصادياتها نتيجة هجرة رؤوس الأموال في هذه البلدان الإسلامية لدخول المقامرة داخل بلاده لعدم توفر وسائل الأمن الاقتصادي وحلول أنواع جديدة من الاستثمار شكلت خطراً داهماً على تركيبة الاقتصاد التقليدية، وفي إطار العولمة الاقتصادية فإن العالم يحكمه نظام غير متوازن ويكفي أن نستعرض بعض الأرقام التي صدرت عن منظمة الأمم المتحدة وفي تقرير التنمية البشرية للعام 1999 للوقوف عند نقاط التناقضات التي أفرزتها قوانين العولمة ومنها:

*خمس سكان العالم في الدول ذات الدخل المرتفع يتحكمون بنسبة 86% من أسواق التصدير و68% من الاستثمارات الأجنبية و74% من الاتصالات التلفونية.

* تتحكم الشركات الأميركية لإنتاج الأفلام السينمائية بـ90% من الإنتاج المصدر إلى العالم في حين أن سوق استيرادها لهذه الأفلام من خارج الولايات المتحدة لا يتعدى 3%، ولا يخفى أن نسبة كبيرة من هذا الإنتاج الضخم موجه بشكل يفرض نوع من الثقافة الأميركية التي تحملها موجة (النظام العالمي الجديد) وفي ثورة الاتصالات التي ميزت عالم اليوم فإن 88% من مستخدمي شبكة الأنترنت هم من الدول الصناعية فقط وإن نسبة المواقع على هذه الشبكة باللغة الإنكليزية ما يقارب 80% من نسبة المشتركين في الشبكة العالمية مع أن شخصاً واحداً يتحدث بالإنكليزية من كل عشرة على المستوى العالمي.

* قدرت خسائر مخلّفات الأزمة المالية التي لحقت بدول النمور الأربع الآسيوية (تريليوني) دولار للفترة ما بين 1998 – 2000.

* قدرت أرباح منظمات الجريمة المنظمة بحوالي 1.5 تريليون دولار والمتاجرة بالنساء والأطفال لأغراض الاستغلال الجنسي بحوالي 7 مليارات دولار.

* قــــدرت ثروة ثلاث أشخاص في العالم بما يـــعادل مجموع دخــــول دول يبلغ تعدادها نحو (600) مليون شخص وان نسبة ممتلكات (200) شخص في العالم للفترة بين 1994 –1998 تضاعفت إلى تريليون دولار!

ولا شك فإن هذه الأرقام المهولة وضعت المستثمر في الدول الإسلامية في متاهة جعلته رقماً هامشياً في السوق الدولية.

الشرخ الاقتصادي والمعالجة الذاتية

لا نستطيع أن نفصل بين البطالة كظاهرة ألقت بظلالها على المجتمع الدولي برمته وبين شكل النظام الاقتصادي الذي تتبلور أساساته والذي يراد له أن يصبح قانوناً لـ«العالم الجديد».

فالعولمة أحدثت شرخاً اقتصادياً تمكن من قهر بعض الإمبراطوريات الاقتصادية وباعد الهوة بين عالم الفقراء والأغنياء بشكل لم يسبقه نظير وإذا ذكرنا مثالاً آخر مستقىً من تقرير التنمية البشرية للعام 1999 والذي يذكر أن ثمن جهاز الكمبيوتر يعادل دخل مواطن بنغلاديشي لثمان سنوات فكيف يتسنى لبعض الدول الإسلامية حماية اقتصادها والقيام بالتنمية في ظل الاحتكارات الدولية المحمية قانونياً؟ هذا ما يجب أن يعكف عليه علماء الاقتصاد في الدول الإسلامية والاستعانة بكل الإمكانات والطاقات الذاتية بما يؤهلهم للدخول للعالم الجديد خصوصاً وإن هذه الدول تملك بعض الشرايين الرئيسية التي تغذي القنوات الاقتصادية الدولية وإن أي استشارة اقتصادية من مدرسة (شيكاغو)(1) أو (التوقعات الرشيدة)(2) أو غيرها لن تعطي الحل الناجع لنا لأنها خلقت لمعالجة اقتصاديات الغرب لا اقـــتصادياتنا، وربما أن بعض ما سنذكره هو نوع من المثالية في الحلول إلا أنها تظل ضمن التجارب التي عاشتها أمتنا الإسلامية والتي سادت العالم اقتصادياً لعدة قرون بسبب السياسة المالية التي كفلها النظام الإسلامي الدقيق لذا فإن العودة إلى قانون الإسلام هو أحد هذه الحلول بعد دراستها ومعاينة تطابقها مع الواقع وتثبيت أركان النظرية الإسلامية الحديثة ويمكن إجمال أهم الخطوات في معالجة المشكلة الاقتصادية عموماً والبطالة بشكل خاص بما يلي:

1- القيام بالإصلاح الاجتماعي وإعادة تشكيل بناءه بحيث يتوافق مع النظرية الإسلامية.

2- دراسة إمكانية تأميم الثروات الطبيعية وجعلها الورقة الرابحة أمام المنافسة الدولية.

أما في المعالجات الخاصة بظاهرة البطالة فتتلخص بالآتي:

معالجة التخلف الذي تعاني منه البلدان الإسلامية وإقامة النهضة الشاملة على أنقاضه.

تسريع عملية زيادة معدلات النمو بشكل متوازن مع النهضة الحديثة.

العمل بنظام التكافل والضمان الاجتماعي للحد من هذه الظاهرة.

دعم القطاع الخاص والارتفاع به إلى مستوى القطاع الخاص في الدول الصناعية مالياً وقانونياً لتمكين من استيعاب أكثر عدد ممكن من العمالة.

أخيراً فإن هذه الأزمة العالمية ستجد يوماً ما الحل النهائي بعدما تستنفذ العولمة مقومات بقاءها لعدم مواءمتها مع الفطرة البشرية ولترطن نظريات «النظام العالمي الجديد» في زوايا المكتبات كأرشيف لتاريخ العالم كما حدث مع الأنظمة التي استسلمت أمام واقع الحياة وذهبت آراؤها أدراج الرياح ولا بد أن يلتفت المسلمون إلى أن النموذج القادم هو النموذج الإسلامي حيث لم يظهر في الأفق غير القانون الإسلامي في قابليته على إدارة شؤون هذا العالم...

(1) مدرسة اقتصادية تعتقد لن حل قضية البطالة يعتمد سياسة نقدية للقضاء على التضخم.

(2) مدرسة اقتصادية تعتمد على التوقعات وتأثيرها في النشاط الاقتصادي.

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 36

الصفحة الرئيسية