مجلة النبأ    العدد  36     السنة الخامسة    جمادى الاولى  1420 ه

محاولة معكوسة في الربط بين نظرية الحق الأوربية والخلافة 

المحامي حيدر البصري 

تحمل النفس البشرية -بمقتضى تلك التركيبة التي تضمنتها- غرائز كثيرة، وكل غريزة من تلك الغرائز تعد –في واقعها– سلاحاً ذا حدين، إن أطلق له العنان بالانطلاق دون مقاييس معينة فقد توازنه، فكان ضرره أكثر من نفعه، بخلاف ما لو فرض العقل عليه رقيباً يتمكن من توجيهه الوجهة الصحيحة فإن النفع المتولّد عنه يكون مصدر أمن واطمئنان للنفس.

إن هذا المقياس يكاد ينطبق على أغلبية الغرائز التي تحملها النفس. إن ما أود التعرض له من الغرائز هو طلب السلطة أو الرئاسة، تلك السلطة التي يعشقها الإنسان كما يعشق ذاته، بل إنه يحسب أن فيها ذاته فتجد الغالبية العظمى من الناس تهافت في طلبها، وبناء على كونها محط أنظار الناس والذي تهفو قلوبهم لنيله، كان أن فكر الذين توصلوا إلى السلطة في كيفية إيجاد السبيل الذي يصرف عامة الناس عن التفكر بها والتحرك نحوها؛ فتوصوا إلى تأسيس نظريات تعد مصدراً للسلطة، مصدر يضفي صفة الشرعية والقداسة عليها كي ينصرف الناس عن تحديث نفوسهم فيها. وقد نجحوا فعلاً في إيجاد نظريات على مر التاريخ كان لها أثرها البارز في تطوير النظم السياسية في حين كان نصيب البعض الآخر الاندثار ولا أود التعرض هنا إلا لتلك النظريات ذات الدور البارز في التأثير في النظم السياسية:

1) المصدر الإلهي للسلطة:

 فهذه النظربة التي تعد من أقدم النظريات في هذا المجال؛ تعتبر الله هو المصدر الحقيقي للسلطة، فيترتب على كون الحاكم يستمد سلطته من مصدر علوي إنه يسمو على غيره من البشر، وإن إرادته تسمو على إرادة المحكومين. لقد لعبت هذه النظرية دوراً كبيراً في التاريخ، كما أنها اتخذت أشكالاً وصوراً مختلفة من كون اعتبار طبيعة الحاكم من طبيعة إلهية بل هو الإله، إلى الحق الإلهي غير المباشر (العناية الإلهية)، انتهاءً بالحق الإلهي المباشر والتي تعتبر الحاكم واحداً من البشر، لكن الله اصطفاه دونهم وأودعه السلطة فهو يستمد سلطته من الله مباشرة دون وساطة.

2) السيادة الشعبية:

وهي الفكرة تعتبر الشعب صاحباً للسيادة، وهي من الأفكار التي يعود تاريخها إلى عهد أرسطو.

3) نظرية العقد الاجتماعي:

وهذه النظرية هي التي نادى بها جان جاك روسو والتي يفترض فيها بأن السلطة تستند في شرعيتها إلى العقد الذي نشأ بين الحاكم والمحكومين. ذلك العقد الذي تنازل الأفراد الأحرار المتساوون -بموجبه- عن جميع حقوقهم للمجتمع الذي تتمثل إرادته بإرادة الحاكم.

هذه هي النظريات الرئيسية التي حاول الحكام من بني البشر الاحتماء خلفها من احتمالات توجه الرأي العام للتغير في حال اختلاف تصرفات الحكام مع توجهات الشعوب وتطلعاتها.

أما مصدر السلطة في الأديان فهو واضح بيّن تضمنته جميع الكتب السماوية الحقة، فمصدر سلطة الأنبياء وكذلك سلطة خلفائهم هو الله تعالى والذي لا وجود لأي رأي أو اختيار في قبال ما اختار وأراد.

إن مستندنا فيما ندعي نستوحيه من العقل والنقل معاً، إلا أن الغرائز غير المتوازنة في إطلاقها -أعني غريزة حب التسلّط- أبت إلا أن تملي على أصحابها نصب آرائهم في قبالة الرأي الإلهي، وأن تمضي ما اختارت وتضع الاختيار الإلهي جانباً. فإذا لم تكن هناك إمكانية للمساس بالسلطة التي يتمتع بها الأنبياء، فليس هناك مانع من التلاعب في قضية خلافتهم وهذا التلاعب والتأويل في مقابل التنزيل هو الحدث الذي أثر أثره في التاريخ الإسلامي بالخصوص والذي قاد المسلمين إلى المصير المؤسف الذي هم عليه الآن. لقد مورس هذا التلاعب وتغييب الحقائق في عصر يصعب فيه الحصول على الحقيقة على الكثير من المسلمين وذلك لضعف وسائل الاتصال في ذلك الوقت.

إن أهم الأمور التي نالها النصيب الأكبر من التلاعب هي مسألة الخلافة هذه المسألة التي أخرجوها عن إطارها الديني الأصيل – متجاوزين في ذلك النصوص القرآنية والنبوية – ليؤطروها بإطار دنيوي لا دخل لإرادة الله فيه إنما أمره موكول إلى الأمة تحدد فيه من تريد لقيادتها كخليفة لرسول اللهw ولعمري إذا كانت الأمور كذلك وإن الأمر والنهي للأمة فلماذا خالف أحدهم إرادة الأمة بنصه على صاحبه نصاً، وكيف تسنى للآخر أن يصادر حقوق الأمة في توليتها لمن تريد حين وضع الأمر في ثلاثة نفر من المسلمين فقط، لماذا لم تسر نظريتهم الدنيوية في الخلافة على وتيرة واحدة؟

إن هذا المسلسل –مسلسل تغييب الحقائق- لم يكن يخبو حتى يعادونا على مر العصور حتى عاد في هذا القرن وفي عصر التطور التكنولوجي الذي يفوق الخيال بأسلوب هو ضرب من الخيال، ولا أدلّ على ذلك من كتيب أصدره الدكتـــور محمد عمارة بعنوان [الإسلام والسلطة الدينية].

إن الدكتور محمد عمارة لم يكتف بالسيرة على نهج غيره في اعتبار الخلافة أمراً دنيوياً، إنما حاول -بقصد أو بدون قصد- أن يربط إلهية الخلافة بنظرية «الحق الإلهي» التي نشأت في أوربا وذلك من خلال المقارنة التي أقامها بين الأسباب المتشابهة التي أدت إلى نشوء كل من النظريتين تاركاً وراء ظهره النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة واللتين تعتبران الخلافة أمراً إلهياً؟ موكولاً لاختيار الله تعالى والملفت للنظر أن تلك الأحاديث هي من الأحاديث المتواترة من الطرفين في الدلالة على المقام.

فهو يرى أن الظروف التي أحاطت بكلا من النظريتين والتي أدت إلى إبرازهما إلى حيز الوجود هي:

«ففي أوربا الوسطى كان الوضع السياسي هكذا: ملوك وأباطرة يستبدون بالسلطة وشؤون الحكم من دون الناس.. ولتبرير هذا الاستبداد وتأييده وتأبيده قامت نظرية (السلطة الدينية) -الحق الإلهي- كي تضفي الطبيعة الدينية على السلطة الزمنية وتمزج السلطتين معاً في تيجانهم وعروشهم ولتنزع من أفكار الناس أي تفكير عن حقهم في الرقابة والمحاسبة فضلاً عن العزل لهؤلاء الحكام أو الثورة عليهم».

هذا ما ساقه الدكتور عمارة من أدلة أدت إلى ظهور نظرية الحق الإلهي الأوربية. أما تلك المبررات التي قادت إلى نشوء نظرية (الحق الإلهي) عند الشيعة – حسب زعمه – فهي قول:«الدولة الأموية، ذات العصبية القبلية تستبد بالسلطة والسلطان من دون الناس، وعلى يديها قد تحولت الخلافة الشوروية إلى ملك عضوض وهي قد مارست وتمارس الاضطهاد والقهر ضد حركات المعارضة والشيعة من هذه الحركات على وجه الخصوص، فأمام افتتضاح السلوك الشرعي والظالم للخلفاء والولاة وأمام إفلاس السلطة في ستر فضائحها بستار ديني، وفقدان الثقة فيها عندما تكون مقاييس الشرع هي التي تحكم عوامل الثقة أمام هذا الوضع ظهرت نظرية السلطة الدينية -(الحق الإلهي)- عند الشيعة».

إن ما جاء به فضيلة الدكتور يعتبر من العجب العجاب. فهو في الوقت الذي ينكر في كتيبه التشابه بين الظروف التي أحاطت بكل من النظريتين تجده يسوق ظروفاً متشابهة تماماً وهو أمر يثير العجب ممن حاز على شهادة عليا وهي الدكتوراه. ثم أنه نسي أو تناسى كون هذه النظرية حسب المقدمات التي ساقها لها هي نظرية أموية لا شيعية، فالأمويون هم الذين حاولوا -كما ذكرت كتب التاريخ- ترسيخ اصطفاء الله لهم بهذه الخلافة في عقول الناس، فيلصق الدكتور هذه النظرية بالشيعة وصرفها عن أصحابها الذين أنكر عليهم أعمالهم الشنيعة التي لم تكن تستند إلى الشريعة.

إضافة إلى أنه قد غاب عنه بمقتضى عقده للمقارنة بن (الحق الإلهي) الأوربي وبينه في العصر الإسلامي -كما كان يقول- بأنه يجب أن تكون النتيجة واحدة لمكان التشابه -إن لم نقل بوحدة الأسباب- بين العصر الأوربي والإسلامي.فنتيجة أعمال الملوك والأباطرة من استبدادهم بالسلطة ومصادرة الحريات هي تأسيسهم لنظرية الحق الإلهي في محاولة منهم لإضفاء القداسة على حكمهم المستبد وبالمقارنة مع العصر الأموي الذي استبد بالسلطة وصادر الحريات -وهذا ما قاله الدكتور- يجب أن تكون النتيجة واحدة وهي محاولة الأمويين إضفاء الشرعية على حكمهم وهو الواقع الذي تؤيده جميع كتب التاريخ الإسلامي.

ثم على فرض التسليم بإجراء المقارنة بين الأوربيين والشيعة فأين هذا من ذاك فهل خفي على جنابه كون هذا قياساً مع الفارق. فالأوربيون الذين أسسوا لنظرية الحق الإلهي هم الحكام وليس المحكومين في الوقت الذي لم يكن الشيعة -موضع المقايسة الباطلة- حكاماً.

إن الخلافة الإلهية عند الشيعة لم تكن نظرية مستقاة من نفس الظروف التي يعيشها حكام أوربا في ذلك العصر إنما استمدت هذه النظرية من وحي الكتاب الإلهي المقدس -القرآن الكريم- ثم السنة النبوية الشريفة التي امتلأت كتب الفريقين بالأحاديث الدالة على المقام.

أما الحق الإلهي تلك النظرية التي أسسها حكام أوربا فلم تكن مستقاة إلا من وحي النوازع التسلطية التي تملأ نفوسهم، وتملي عليهم وضع الموانع التي تحول دون تدخل الناس في تغيير أمور السلطة.

بعد هذا يذهب الدكتور إلى أبعد من هذا ليقول:«فنحن إذن وبقليل من التأمل أمام شكل قديم من أشكال الفاشية الحديثة، تأليه لفرد يزعم البعض أن له من الصفات والقدرات ما لا يشاركه فيه فرد آخر، بل ولا تشاركه فيه الأمة كلها مجتمعة! والنتيجة هي: احتقار الجماهير.. وهذا الاحتقار هو المقدمة لاغتيال مصالحها لحساب من تخدمهم وتخدم مصالحهم هذه النظريات».

إن قوله هذا هو أعجب من سابقه وأغرب، فالدكتور هنا تنصل عن كونه يحمل شهادة عليا يجب أن تمنحه الأمانة في نقل الحقائق ليضرب بالرمل، نعم يضرب بالرمل مبتعداً عن الحقائق التاريخية التي تملأ بطون الكتب، فبالتجاوز عن المناقب التي تضيق بها الكتب والتي لا يحتملها صدر الدكتور نأتي معه إلى احتقار الجماهير الذي تكلم عنهم، فأي احتقار يعني به يا ترى وليقدم الدليل عليه، لقد حكم واحد من أولئك الذين يشك في صفاتهم سعادة الدكتور فأين مكان احتقار الجماهير الذين يتحدث عنه من صفحات تاريخ المسلمين كي يتسنى لنا الإطلاع عليه ممتنين للدكتور الذي أنارنا بخياله وأحلامه، ألم يمر بصفحات التاريخ التي تروي لنا كيف كان إمام الشيعة يوصل العطاء لمن نصب له العداء إلى داره في الوقت الذي وصل الأمر بمن سبقه في الحكم إلى مصادرة ما كان يملك عليه حتى آل أمره إلى أن يؤجر نفسه ليهودية لقاء قوت يومه فأين احتقار الجماهير هذا ثم إنه يدعي بأن نظرية الشيعة هذه تصب في حساب من تخدمهم وتخدم مصالحهم، فأية مصالح تلك التي يتحدث عنها وأية حسابات وأية مصالح والحاكم يقتات على خبز الشعير في كيس يختمه مخافة أن يغسمه أولاده بالسمن، إني أتساءل!! أين الأمانة العلمية التي تقيد صاحبها بإيصال الحقائق خالية من الشوائب إلى أذهان الناس؟ ولكن من لم يهتد بنور العلم الإلهي يقضي عمره في مهاوي من يظنه علماً. 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 36

الصفحة الرئيسية