مجلـــــة النبـــــأ    العـــددان ( 32 ـ 33 )   السنــة الخــامسـة (محــرم ـ صفـر ) 1420هـ

بين الحريات وحقوق الإنسان

حيدر البغدادي

إن أساس فكرة حقوق الإنسان من نظام القانون الطبيعي والتي تنتهي إلى أن البشر لهم حقوق أساسية معينة تنبع من طبيعتهم البشرية، وإن تمتعهم بهذه الحقوق سابق على قيام الدولة، وينبغي على سلطات الدولة كي تتمتّع بالشرعية في نظر المواطنين أن تقرّ في نظامها القانوني تلك الحقوق التي يتضمنها هذا القانون الطبيعي.

ومفهوم حقوق الإنسان تعبير عن حاجات ملموسة ومصالح واقعية تحرك الإنسان وتبعثه لسدّها وتحقيقها، ويشعر معها بالغبطة والسعادة والأمان الداخلي والسلام الخارجي، وإذا ما حجبت تلك الحقوق عن أصحابها وعدم تمكينهم من ممارستها، فإن ذلك سيخلق آثاراً سلبية وعواقب وخيمة تترتب على معاناة الظلم والاستبداد من حالات تمرد وثورات دموية تواجه همجية المستبدين ووحشية الظالمين، وذلك إن الظلم وإجحاف حق الغير يولد من الطبيعي رد الفعل المعاكس.

معنى الحق ومعنى الإنسان

الحق مفهوم يعني في الأساس الثبوت الذي لا يقبل التغيير حين الاستعمال على الأقل، فالله سبحانه وتعالى هو الحق، حيث الآية القرآنية الكريمة تشير:( وانه الحق اليقين) (1).

أما الإنسان الذي يتلازم معه المعنى الأول أي (حق أو حقوق الإنسان)، فهو الموجود الحي المتميز بالشعور والإحساس الفطري، عن غيره من الموجودات الأخرى والأشياء المادية، ويتمتع بمخزون خاص ودوافع ذاتية معينة، تتطلب بذاته وفي حد نفسها، مسيرة وظروفاً معينة، لبلوغ مراحل تكاملية على أساس من مخطّط مرسوم، ومن هذا يمكن تصور بعض الثبوتات أي الحقوق لمثل هذا الموجود (الإنسان)، ومع اقتران المعنيين الأول والثاني، فإن تعريف حقوق الإنسان، يكون بمعنى الحالات الطبيعية مثل حق التعبّد والتدين وحق الرعاية الخلقية، بل وحق الوصول إلى الدين القيّم، هذا إلى جانب حقوق أخرى يطلق على مجملها بـ(الحقوق الاجتماعية)، كحق الحياة – حق تشكيل العائلة – حق المرأة – حق الطفل – حق التعلّم والتعليم – حق العمل – حق الأمان – حق الملكية – حق المواطنة – وغير ذلك وهذه لا بد أن تتوفر على عنصرين كي يقع ثبوت الحق:

الأول: نشوئها من حالة واقعية (تركيب تكويني).

الثاني: توافق واعتبار شرعي أو عُرفي لها كي تنتظم الحياة الاجتماعية.

وفي مفهوم أو معنىً أدق فإن الحق يعني الثبوت ومطابقة الواقع، والصحة في مقابل الخطأ، والاستحقاق، وما وجب على الغير أو للغير، أي إن ما للإنسان على الناس من التزامات شرعية أو قانونية أو عرفية، وما لهم عليه وكذلك وهي (حقوق الإنسان).

حقوق الإنسان في دستور الإسلام

الإسلام يقرّ بأن من العدل تأتي الحقوق، وتضمن سائر المقررات والحريات المشرعة لبني الإنسان، وإذا ما اغتصبت حقوق الإنسان الأساسية وصودرت حرياته، فإن ذلك يعني تفشي الظلم والطغيان، وما يترتب على ذلك من اضطهاد ومعاناة لأبناء الشعوب والأمم، سواء من المسلمين أو غيرهم، وكل ذلك يعني الإخلال بالسلوك والنظام الإنساني، وتغيب للعدل.

إن جميع الحقوق تستقي من حرية الإنسان، وتصبح مضمونة بتنفيذ الواجبات والتكاليف في الاجتماع، والسياسة، والمجتمع السليم والسعيد هو الذي تكون فيه الحريات والحقوق مضمونة، لقد أعلن الإسلام منذ بزوغه حقوق الإنسان ودعا إلى صيانتها ورفع شعارها في جميع المجالات (الحرية – والمساواة - الإخاء)، كما إنه دعا إلى حرية التفكير في جميع المجالات، ولم يسغ إلغاء الطاقات العقلية التي وهبها الله للإنسان. فهو يقر إقراراً صريحاً وواضحاً بحرية الفكر وانطلاق النفس من كل خرافة ووهم، ودعا بقوة إلى نبذ ما كان عليه السلف الجاهلي من ضلالات وتقاليد وهيمنة جائرة وسياسات ذات طاعة عمياء، فهو قرّر العبودية لله وحده وهي التحرّر الواقعي من الخضوع للغير ( إياك نعبد وإياك نستعين) (2).

الرحمة أدق كلمة استعملها الإسلام للتعبير عن الحريات الإنسانية، التي يوفر الدين للناس، واوسع تعبير يضم تحت جوانحه اكثر حقوق الإنسان، فالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وان لم يستعملا لفظ الحرية ظاهراً للدلالة على الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلد من حيث حرية الرأي والتعبير ونحوها.

فالحرية لكي تصبح حقيقة مثالية يجب أن تغمرها الرحمة واللين والاحترام للإنسان ومبادئه وحقوقه ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) (3)، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (4)، لقد سنّ الإمام جعفر الصادق(ع) قاعدة مشروعة للسياسة السلبية، وهي ما يسمونه باللغة السياسية الحديثة (العصيان المدني) أو (الاعتراض السلمي)، بمعنى سياسة عدم التعاون مع حكومة أو دولة لا تحترم الحقوق أو تسيء التصرف، فتبعث بحرمة قانونية المعاهدات والمواثيق، أو تتحدى قدسية الدساتير وحقوق الأمة (أفراداً وجماعات وشعوب) المشروعة إلى غير ذلك من وسائل الظلم وذرائع الباطل التي تتوسّل بها الحكومات الديكتاتورية، فالإمام الصادق(ع) أوجب على الأفراد عدم التعاون مع ولاتهم الجائرين على اختلاف درجاتهم ومناصبهم من أعلاهم إلى أدناهم، وحرم عليهم العمل لهم، والكسب معهم، وحذر وأوعد الفاعل بالعذاب يوم الجزاء والحساب عند الله، لارتكابه معصية كبيرة من الكبائر، لأن في بذل المعونة للوالي (الحاكم) الجائر، إماتة الحق كله وإحياء للباطل كله، وفي تقويته إظهار الظلم والجور.

يقول النبي الأكرم محمد(ص):«لعمل الإمام العادل في رعيته يوماً واحداً أفضل من عبادة العابد في أهله مائة عام أو خمسين عاماً»(5).

يقول الإمام الصادق(ع):«عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها»(6).

ويقول الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع):«إن صلاحكم من صلاح سلطانكم، وإن السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحبّوا له ما تحبون، واكرهوا له ما تكرهون لأنفسكم»(7).

أقسام أو أصناف الحقوق

في الإسلام فإن حقوق الإنسان ذات مفهوم إنساني واجتماعي واقتصادي وسياسي، بعضها من أعظم مقاصد التشريع قوة، وأعلاها مرتبة كحق الحياة ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق) (الإسراء:33)، وتلك من مستوى الضروريات، وبعضها من المقاصد الحاجية كحرية الرأي، والعمل وهي أصل مقطوع به في الشرع، ومن النظام الشرعي العام الثابت لا يجوز إلغاؤه أو مصادرته.

والجوانب الأساسية للحقوق التي أكد عليها الإسلام هي:

أولاً: الحقوق العامة الأساس:

وهي الحقوق التي تخص الرجل والمرأة، الأطفال، الشيوخ، المرضى، الجرحى، المستضعفين، الأغنياء، والفقراء وغيرهم، وهي حقوق منحها الله لهم باعتبارهم كائنات بشرية، وتشمل:

حق الحياة «ليس لأحد أن يقتل أحداً بغير حق»، وحق العيش بأمان، وحق احترام عفة المرأة، وحق الحرية «ليس لأحد أن يستعبد أحداً»، وحق العدالة ( واذا حكمتم بين الناس فأحكموا بالعدل) النساء/58، وحق الحصول على مستوى مقبول من العيش يضمن كرامة الناس، وحق المساواة المطلقة بين البشر ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) الحجرات:13.

ثانياً: حقوق المواطن في دولة إسلامية:

هناك حقوق تتعلّق بالإنسان الذي يستوطن دولة اسلامية، وهي تشمل: حق ضمان الأمان لحياته وممتلكاته، وحق حماية شرفه، وحق ضمان حريته الشخصية، وحق احترام الحياة الخاصة وضمانها، وحق حرية التعبير، وحق الاعتراض على الظلم، وحق تأسيس الجمعيات، وحق حرية الاعتقاد ( لا إكراه في الدين) البقرة:256، وحق حماية المشاعر الدينية، وحق الحماية ضد الحجز التعسّفي، وحق الحصول على ضرورات الحياة الأساسية، وحق المساواة أمام القانون، وحق تجنب الإثم (كمنع المرأة المسلمة من ارتداء الحجاب).

ثالثاً: حقوق الأعداء:

هنالك في الإسلام قوانين دقيقة ومتقنة تتبع مجموعة من المقررات الأخلاقية حتى في زمن الحرب، بما يضمن بعض حقوق الإنسان للأعداء، بصرف النظر عن سلوكهم، وهي حقوق تختلف بالنسبة للأعداء المحاربين وغير المحاربين.

ومن هذه الحقوق حق حماية الجرحى، ومنع التعذيب ومنع قتل الاسرى، وإحترام ممتلكات أهالي بلد العدو، واحترام جثث القتلى وعدم التمثيل بها، وحق إعادتها إلى ذويها وغير ذلك.

رابعاً: حقوق المرأة:

لقد أصبحت المرأة المسلمة حرة ومختارة في شؤونها الفردية والاجتماعية، فهي مالكة ثروتها وأموالها وأرضها، تتصرّف فيها كيفما شاءت بصفتها عاملة فعالة للاقتصاد والاجتماع، وهي وارثة لميراث أبيها وأمها وعائلتها، ترثهم من غير أن يمنعها أحد، بحجة إنه يدافع عنها ويحمي عرضها وشرفها، وقد أشار القرآن الكريم لكل ذلك في سورة النساء.

أ- الحقوق الإنسانية للمرأة: وهي تلك المتعلقة بخلقها ووجوديتها في عالم الخلق.

ب- الحقوق السياسية للمرأة: وهذه يوضحها دور المرأة في الثورة والحرب وخدمة الإسلام والمجتمع.

ج- الحقوق الاجتماعية للمرأة: وهذه تبرز من خلال دور المرأة في المجتمع وحركته.

د- الحقوق المتبادلة بين الرجل والمرأة: وهي المتعلّقة بالزواج والطلاق ودور المرأة في العائلة.

هـ – حقوق المرأة في تربية جيل المستقبل ورعايته.

فئات الحقوق

ويمكن اجمالها بفئتين:

الفئة الأولى: الحقوق المدنية والسياسية، وتتمثل في حقوق الحياة والحرية والكرامة والسلامة الشخصية المعنوية والبدنية، وضمان العدالة وحرية العقيدة والتعبير عن الرأي والتنظيم المهني والسياسي، وانتخاب الحاكمين.

الفئة الثانية: وهي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مثل حقوق العمل وفقا لأجر عادل، والتعليم والعلاج والدخل المناسب والضمان الاجتماعي.

حق الحياة والأمان

القرآن الكريم يعد إزهاق الروح جريمة ضد الإنسانية كلها( انه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعاً) (8).

إن الحياة الكاملة حق مصون، والاعتداء عليها بالقتل جريمة، وكذلك الاعتداء على جزء منها، وتعريضه للتلف أو التشويه، ومن هذا جاء القصاص في القرآن كردٍّ على العدوان:( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) (9).

لقد وهب الله نعمة الحياة للإنسان وجعل حياطتها كلاً وجزءاً، وصيانتها مادة ومعنى في طليعة الأهداف التي أبرزها للدين، وتحدث فيها الرسل مبشرين ومنذرين، ولا عجب فان إشقاء حيوان وإزهاق روحه ظلماً يعده الله تعالى جريمة يدخل فيها الإنسان النار، فكيف بتعذيب إنسان أو قتله ظُلماً؟!

روي أن رسول الله(ص) قال:«دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض».

الرســـول الكريم(ص) أكّد تشديــده في حرمة دم الـــمـــؤمن استناداً لما أشار إليه القرآن الكريم( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ) (10). وهذا ما تقيد به أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع)، وأمر عماله أن يتقيدوا به، يقول (ع) في عهده لمالك الأشتر عندما ولاه:«إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس من شيء أدعى لنقمة، ولا اعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمه وانقطاع مدّة، من سفك الدماء بغير حقها، والله سبحانه وتعالى مبتدئ بالحكم بين العباد، فيما تسافكوا فيه من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله، ولا عذر لك عند الله وعندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن»(11).

إن مبدأ حفظ حق الحياة وصيانة النفس الإنسانية هو مبدأ طبقه الإمام علي(ع) بكل دقة، لا سيما في مشاكله مع الخوارج، فهؤلاء خرجوا من الكوفة والبصرة، وتجمعوا مسلحين، فلم يبادر الإمام إلى قتالهم وقتل أي منهم، فيما كان يجهز للمسير إلى الشام، فكان جماعته يتخوفون من انقضاض الخوارج على النساء والذراري أثناء غياب الرجال في الحرب، لذلك كانوا يطالبون بضربهم ، ولكن علياً كان يرفض وكان يقول للخوارج:«لا نبدأكم بحرب حتى تبدؤونا به».

ولم يكن علي(ع) بعدالته متقيداً بحرمة دماء المسلمين فحسب بل دماء أهل الذمة ايضاً، عملاً بالمبدأ القائل:«دم الذمي كدم المسلم حرام»، إذ كان(ع) يوصي مالك بن الحارث الاشتر بالرحمة بالناس مسلمهم وذميهم بقوله:«ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فأنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وأما نظير لك بالخلق»(12).

حق التعليم

لا يولد المرء عالماً، بل يبرز إلى الوجود غفل الصحيفة، ثم يستغل حواسه في الاتصال بما حوله، وعقله للإفادة من تجاربه وتجارب الاولين، والانسان يبدأ قاصر المعرفة والفكر، ثم يأخذ على مرّ الزمن طريقه إلى النماء البدني والارتقاء الفكري حتى يبلغ اشده، سبيل ذلك العلم والدين فهما سلّم ارتقاء للانسان، والاسلام رسالة فريدة في رحابتها العلمية والثقافية.

حق الملكية الخاصة

لقد وضعت الرسالات السماوية حدا للحكام في مجال المساس بأموال المواطنين، إذ رسمت حدود الله، ومنعت من تعديها، وهذا ما يؤكده الرسول (ص) بقوله: ولا يحل مال المسلمين ويأمر أن يقاتل الإنسان دفاعاً عن ماله، وكان الإمام علي بن أبي طالب(ع) يوصي عماله بالقول:«ولا تمسوا مال أحد من الناس مصل ولا معاهد»(13).

وأكثر من هذا فإن علياً كان يوصي حتى عند تحصيل الحقوق العامة -الضرائب- أن يصار إلى ذلك بالتؤده واللين، ودون استعمال أي نوع من أنواع العنف على الأشخاص والأموال، فهو يقول لرجل ثقيف أستعمله على الخراج:«إياك أن تضرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج، أو تبيع دابة يحمل عليها في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو»(14).

وقد تكرّرت هذه الوصية لسائر عماله على الخراج، وكان يضيف عليها «ولا تبيعن الناس في الخراج كسوة شتاء لا صيف»(15).

حق العمل

منذ هبط أدم عليه السلام وبنوه إلى الأرض وهم مكلفون بالكدح في ثراها، حتى يستطيعوا العيش، فان أبدانهم لا تتماسك بها حرارة الحياة، ولا تواتيها قدرة الحركة إلا بوقود متجدّد من الغذاء، كلّما نفذ منه مقدار تبعه مقدار آخر، وكل امرئ مطالب بتحصيل هذا الغذاء عن طريق أي عمل يوافق قدرته وملكاته، بغية تأمين عيشه وكرامته هو وذويه، وعندما ذرأ الله الحياة الإنسانية على ظهر هذه الأرض، هيأ شتى العناصر لخدمة الانسان، ثم أمر هذا الإنسان أن يتزود بالخير الذي ينفعه من هذه المصادر المتاحة ( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) ، العمل إذن هو وسيلة للبقاء، والوسيلة تتبع الغاية في شرفها وخستها، فمن كرّس حياته للحق والخير فعمله عبادة، وكلّ قطرة عرق جبين تبذل فيه فهي آية جهاد، توضع في موازين المرء مع صلاته وزكاته، وقد نبه النبي الأكرم محمد(ص) وأئمة أهل البيت (ع)، إلى أن العمل للدنيا من الدين، وإنه شيمة الأنبياء والمرسلين، سواء كان هذا العمل زراعة أو صناعة أو تجارة أو أي حرفة أو وظيفة، ومن هنا اعتبر العمل حقا أساسياً من حقوق الإنسان ومصدراً مقدساً لضمان حياته وكرامته.

الحقوق السياسية

إن الاعتراف بالحقوق السياسية حديث نسبياً، إذ كان الناس في العصور السابقة، يجبرون على اتباع سياسة الملوك والسلاطين، إلى أن جاءت إعلانات الحقوق الحديثة، ومن أهمها في هذا الصدد، مقدمة الدستور الأمريكي في سنة1791م التي اعترفت بحرية الفكر والتجمع، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لسنة 1789 الذي اعترف بحرية التعبير عن الرأي، وأخيراً صدر عن الأمم المتحدة (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) في سنة 1948.

ولكن الإسلام سبق الجميع بحظره على الحاكم أن يتعرّض للحريات السياسية، وهذا ما كرسه الإمام علي(ع) في نهجه عند توليه الخلافة قبل حوالي 14 قرناً مضت.

لقد بدأ علي(ع) بتطبيق هذا المبدأ يوم بيعته، حيث عارضها عدد من المسلمين كعبد الله بن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة الأنصاري وغيرهم، فلم يجبرهم على بيعته.

لقد أعطى الإسلام للإنسان حرية الفكر، وحرية القول، وحرية التعبير وحرية الانتخاب، في حدود ما تسمح به الشريعة، وقد حدّد رسول الله(ص) كل فكر وقول وعمل بعدم الضرر «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، لقد جعل الإسلام في موازينه السياسية (الشورى) كمبدأ، حين لم تكن ديمقراطية في أي بلدان العالم ( وأمرهم شورى بينهم) و( شاورهم في الأمر) .

الحرية السياسية والحقوق السياسية عامة لجميع الناس حتى الكفار وفي مختلف أصعدة الحياة ومجالاتها.

حق الهجرة واللجوء السياسي

من تعاليم الإسلام المقرّرة إنه يوصي المؤمن بمقاومة الطغيان والظلم، فان عجز عن ذلك مادياً، فلن يعجز عنه نفسياً، والمقاومة النفسية أن يقاطع الطغاة ويأبى موالاتهم، ولو عكّروا عليه مقامه، فليس الظلم فقط أن يلطمك معتدٍ أثيم، إن من حق أي إنسان وقع عليه ضيم وظلم في بلد ما، ولم يستطع دفعه، أن يهجر هذا الوطن دفعاً للضرر، وان يلجأ إلى بلد آخر، يجد فيه أمناً وضماناً لحريته وكرامته، والإسلام يقرّ دوافع الإباء التي تجعل الإنسان الحر يرفض قبول الدنيّة، ويهيب بالأحرار من شعوب البلدان الأخرى أن يكرموا وفادته، ويحسنوا مواساته.

تحول الأحرار إلى قطر أو بلد آخر غير بلده التماسا للنجدة، أو أملاً لضمان الأمان والاستقرار سنة حميدة، وقد هاجر المسلمون الأولون طوراً إلى الحبشة، وطوراً إلى المدينة، وهذه الهجرة تمثل اليوم ما يصطلح عليه بـ(اللجوء السياسي)، وقد نوّه القرآن الكريم ببسالة المهاجرين وتضحياتهم، كما نوّه بسماحة الذين آووهم وأحسنوا مثواهم ( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، والذي أووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً، له مغفرة ورزق كريم) .

الحقوق الاجتماعية والاقتصادية

تعتبر الحقوق الاجتماعية والاقتصادية أحدث فئة من فئات حقوق الإنسان، فقد تبلورت بعد الحرب العالمية الأولى، وترسخت وتأكدت بعد الحرب العالمية الثانية، فكانت نتيجة مضادة للفكر الاشتراكي (الشيوعي) والفكر الفاشي، كما أتت لمعالجة ذيول الحرب، ولمواجهة الأزمات الاقتصادية الكبرى التي أصابت النظام الرأسمالي، وآثارها التي أصابت الفئات الدنيا في المجتمع، وأفرزت شرائح واسعة جداً من الفقراء المعوزين، الذين أخذوا يهددون السلم الاجتماعي.

1- الحاقة: 51.

2- الفاتحة: 5.

3- آل عمران: 159.

4- الأنبياء: 107.

5- أبي العبيد: الأموال ص6.

6- جامع السعادات: ج2 ص219.

7- الإمام موسى بن جعفر: ج1 ص228.

8- المائدة: 32.

9- البقرة: 179.

10- النساء: 93.

11- نهج البلاغة: م4 ج7 ص159.

12- شرح النهج: م4 ج17 ص120.

13- أبو يوسف: الخراج ص16.

14- فروع الكافي:ج3 ص540.

15- شرح النهج: م4 ج17 ص116.

إتصل بنا

أعداد سابقة

العدد 32ـ33

الصفحة الرئيسية