مجلـــــة النبـــــأ    العـــددان ( 32 ـ 33 )   السنــة الخــامسـة (محــرم ـ صفـر ) 1420هـ

أنصار الحسين

تجلّيات الحب الصاعد نحو الموت

حيدر شمسي


( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منا زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) (1).

حين توضأت الزهراء تغسل بالماء الطهور، طهوراً فوق جسدها باركه الله في نطفة التكوين، تستقبل القبلة وتأخذ رقادها اللذيذ آمنة مطمئنة، «حبلت وردة الشمس وارتسمت فوق الشفاه آلاف من تباشير فجر وأضواء»..

هل حدثته في وحدتها؟

تترقب صرخته الاولى، ومثلها يترقب الكون وتترقب السماء.. كان يخطو فوق عتبة الدار وباحته.. وفوق الرموش.. وأهداب العين.. يرقب بعيونه كيف يصير عطر الأمومة دعاءاً.. ويتسرب دموعاً وبكاءً في محراب الله.. تحفّ بها ملائكة الرحمن، وتؤمّن على كل حرف من ابتهال أو مناجاة.. يمرض الصغير -لهف أمه عليه- وتنذر للخالق الرحيم الشافي، ومن في الدار... صوماً يستحيل لغة من شكر وامتنان... يقترض أبوه ما سيفرش به مائدة الإفطار.. زهداً وكفافاً.. يجيء فرحاً.. يقّبل العيون التي ترمقه.. بسم الله.. لا تصل اللقمة إلى فمه.. وطرقات الباب تفصح عن قادم ينزرع وجهه بؤساً وألماً من جوع كافر لا يرحم.. يحمل زاد الصبية.. ودمعة في العين تستعصي على الخروج.. ناموا الآن بسلام.. دثاركم أيثار.. وظل شجرة اصلها ثابت وفرعها في السماء.. وكان رغيفاً ثانياً.. ليصبح الجوع طاحونة من ألم ممض..

وكان رغيفاً ثالثاً.. استلب الدمع من عيون النبوة شفقة ورثاء.. وكان الله ينظر بعين رحمته لهذا الإنسان الذي لم يكن شيئاً مذكوراً.. تلك الناسكة الصفية.. والصدِّيقة البهية.. بارك الله أمومتها.. وجعل ما حملت به بطنها.. وارضعه صدرها.. عنواناً لاسلامنا.. وأخلاقنا.. وسلوكنا.. نفتقده في صراع رغباتنا وأهوائنا.. هل رضع صلابة كحد السيف ورقة تدعو لقاتله خوف النار؟

كان رغيف الخبز ذاك خطوة في مشوار طويل.. أضحى في قعده الخامس معمداً بالغبار.. وأنقى دماء..

نحتفي بعميد الثوار وسيد الشهداء.. نحاول الاقتراب منه.. أنا في رحابك كلما ضاق الزمان... أو ضاع مني الثبر أو تاه الأمان.. جئنا إليك لنشتكي في زمن الهوان..

لازالت قطرات الدم نديات بحرارتها.. والدم ثمن الوجود والبقاء.. كان أبوه المسيح في زهده.. وأيوب في صبره.. وكان خلاصة الأوصياء.. وكانت أمه.. تلك المباركة.. صفوة الطهر.. وكان بيته مباركاً بالحضور الملائكي.. تحرسه عين الله التي لا تنام.. أيّ الازاهير قطفها من دوحة القدس الطهور وخبأها في فراشه أو دسّها بين ثيابه يشمّ أريجها وعرفها المتضوع.. يصبغ حناياه منها عنبراً وحناء..

كانت نشأته ما بين حضن جده ومحراب أمه.. يروح ويغدو.. وشفاه الشيبة الوقور تتمتم إذا تراه يتعثر بخطوة.. اسم الله يا قرّة عيني.. فكانت صورة الحسين (إنسانية) ارتقت إلى نبوة «أنا من حسين» ونبوة هبطت إلى إنسانية «حسين مني» فسلام عيه يوم ولد(2).

تلك السطور كانت تحية وسلام.. ونستأذن الآن للدخول إلى مدرسة الشهادة الحسينية وندخل أحد صفوفها.. وهو صف الأصحاب والأنصار..

في المستوى الأول 

دعونا نطالع.. الصاحب: الملازم إنساناً كان أو حيواناً أو مكاناً أو زماناً.. ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن وهو الأصل والأكثر أو بالعناية والهمّة وعلى هذا قول أبي العتاهية:

أما والذي لو شاء لم يخلق النوى          لئن غبت عن عيني لما غبت عن قلبي(3)

وفي العرف: الصاحب: من كثرت ملازمته.. ويقال لمالك الشيء هو صاحبه وكذلك لمن يملك التصرف فيه.. قال تعالى:( قال له صاحبه وهو يحاوره) (4) وقوله تعالى:( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم) (5).

والمصاحبة والاصطحاب ابلغ مِن الاجتماع حيث اقتضاء المصاحبة طول اللُبث، وقوله تعالى:( ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جُنّة) (6) وقد سُمِّي النبي(ص) صاحبهم تنبيهاً أنكم صحبتموه وجربتموه وعرفتموه ظاهره وباطنه ولم تجده به خبلاً وجنة..

والأصحاب للشيء: الانقياد له واصله أن يصير له صاحباً..(7)

ويا صاح: أي يا صاحب: وهو المرخَّم من الصاحب لكثرة الاستعمال وطوله..

ومثله يا صاحب الزمان، والنصر والنصرة: العون، قال تعالى:( نصر من الله وفتح قريب) ..(8).

ونصرة الله للعبد ظاهرة.. ونصرة العبد لله هو نصرته لعباده والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده واعتناق أحكامه واجتناب نهيه، قال تعالى:( وليعلم الله من ينصره) ...(9) والانتصار والاســـتـــنـصـار: طلب النصرة، قـــــال تعالى:( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) (10).

والنصر أخصّ من المعونة لاختصاصه بدفع الضرّ، ونصر الغيث الأرض: عمّها بالجود وغاثها(11)...

ومنه: المطر نصرة الأرض..

في المستوى الثاني..

تكون مطالعتنا كالآتي:

كانت هموم أبي تذوب بركعتين كل الذي يبغيه في الدنيا صلاة في الحسين أو دعوة لله، أو أن يرضى عليه جدّ الحسين..(12).

نذهب في رحلة تمتد من القلب إلى القلب.. نحو خفقة.. حين يصير لغة للعشق لا يملك عنواناً لما يحتضنه غير لون الدم.. والجراح..

في البدء كان الحب.. طرّز الوجود الإنساني منذ بدء الخليقة، ويبقى حتى قيام الساعة.. حب بين الخالق والمخلوق.. رحمة وارفة الظلال من رحمن رجيم يفرض حبه وكرمه.. تقابلها لوعة تستحيل رغبة في الفناء في ذات المحبوب..

رفيقان متلازمان.. واحد يخاصر الآخر.. الحب والموت.. نقرأ لنوفالس:

«إن الحب لا يكون عذباً شيء قدر ما يكون في الموت، وإنّ الموت بالنسبة لمن يحب ليلة زفاف وسر مملوء بأعذب الغرائب والأسرار...»(13).

ولع المحب والرغبة في الموت.. كيف يجتمعان في نبض واحد.. وفي وريد واحد يحمل نفس الدماء؟

نقرأ المشاهد حينما تغزو قلبه عاطفة حب عميقة تنشأ في الآن نفسه رغبة رخيّة باطنة في الموت.. لعلّ العلّة أن الوجود يبدو حينئذٍ مقفرّاً وكأنه العدم إذا لم يغمره الحب العميق فينشد المرء الحب مدفوعاً بهذه الصورة الجديدة للوجود ولكنه لا يستطيع أن يجد هذا النوع من الحب العميق الشامل فيعتريه القلق، ويلحّ القلق كلما ألحّتْ الرغبة في الحب العميق المطلق فيكون هذا مصدراً للجزع والعذاب لا ينقطع إلا بالفناء التام إذ لا راحة إلا فيه.. وهكذا ينتهي الشعور بالحب إلى نشدان الموت (14).

نسائل ... هل قرأ ليوبردي ملحمة الحسين وأصحابه، أم أنه توصّل إلى المعرفة وحده بحسّ الإنسان.. والمحب؟ وهل قرأت القدّيسة المتصوفة تيريزا وجد الحنين في كلمات جون الزنجي وهو يخاطب الحسين.. دمي أسود.. ونسبي وضيع.. لكني محبُّ حتى الثمالة.. فدعني أرتشف هذا الكأس بين يديك.. لتصافحني نشوة السكر.. هل كان جون الزنجي يناجي الحسين أم ربّ الحسين؟

نقرأ.. «ما أقوى هذا الحب الذي هو كياني.. هلمي أيتها الحياة فغادريني.. إني أريد أن أفقدك لكي أكسبك.. فهذا ما بقي في مقدوري على ما أنا عليه من ضعف.. تعال إليّ إذاً أيها الموت عذباً رقيقاً كالنسيم.. لأني أموت من كوني لا أموت»(15).

هل بحث هذا الزنجي.. المتقد ثورة وشموخاً عن وجد شخصي يؤسّسه على رمال الطف وعطش الهجير.. أم أنها جذوة الحب اشتعلت ضراماً في قلبه.. وأراد أن يطفئ لوعته في مديات من يحب؟

وهل بحثت أيها الثائر عن خلاص لهذا الجسد الأسود تعطيه قرباناً تتناهشه السيوف بين يدي من تحب؟ وهل سمعت قول السيد المبجّل.. «أمرنا صعب مستصعب لا يعلمه إلا عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان»(16).

أما انك في لحظات الوجد الراعف استوعبت من ثغر القرآن الناطق «إن أكرم الموت القتل.. والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على الفراش في غير طاعة الله»(17).

وكان الله يرقبك أيها الثائر في موقف التجلّي هذا.. إنه قد اتصل بالله وكان الحب الذي جمع بينه وبين الحسين قوياً.. حاراً حرارة الدم والموت عنواناً لهذا الحب الإلهي كي يتحقق الاتصال الكامل بين المحب والمحبوب فينعم ثائرنا الزنجي بالوحدة المطلقة في حياة أبدية.. من كوّة التاريخ نبصر الآتي..

في ليل يفترس ما تبقى من ضوء على ذرات الرمال.. يضيء وجه الحسين.. ينير لمن معه جلستهم الموعودة بالتشريد والقتل.. يطالعنا صوته.. محباً.. دافئاً.. وحنوناً.. سويعات وندنو من الموت في اشتباك السيوف وأسنة الرماح.. صوت جدّي يحفر في أسماعي.. غداً ملتقانا فتهيأ لرحلة السفر.. قد أذنت لكم يا خيرة صحبي.. وخيرة البقية من أهلي.. فاتخذوا ليلتنا هذه جملاً.. هي قتلة واحدة سيد الجود.. وحتى لو كانت سبعون قتلة ومثلها احرق في كل مرة.. ما فارقتك حتى أصافح موتي دونك.. ذاك صوت سعيد بن عبد الله الحنفي..

ألف مرة أقتل.. وألف مثلها أنشر.. أدفع بألف طعنة في جسدي القتل عن نفسك.. فو الله للموت معك احبّ إليّ من الخلد معهم.. هذا صوت زهير بين القين..

يتهدّج صوت الحسين.. ثناءً على الله وحمداً بجميع محامده على السرّاء والضرّاء.. ودعا ربه.. «اللهم أنت ثقتي ورجائي.. في كل همٍّ أنزلته بك وشكوته إليك.. رغبة مني إليك عمن سواك.. فأنت اللهم وليّ كل نعمة ومنتهى كل رغبة».

في المستوى الثالث..

نستمع إلى صليل السيوف.. واحتدام الضجيج على نقع الدم النازف.. وقد قطرة الماء أضحت سراباً يعادل حياة إنسان.. وكلٌّ تجهَّز للسفر.. واحد نحو شواطئ الطمأنينة والآخر نحو ضفة الدمار..

أول مغادر.. يهرع إليه الحسين.. يحتضنه ضمّا إلى صدره.. يضع خده.. دفئ النبوة.. على خده.. تحشرج آخر نبضة في جسده.. يفتح عيناه.. ترتسم ابتسامة عاشق على شفتيه.. محبّ يتزوّد من حبيبه بآخر نظرة هوى.. تحرره نظرة من يعوى من أسره وعبوديته.. جسد ابن رسول الله يصافح جسدي..

هل بلغ الشعور بالعشق عند أسلم -مولى الحسين- أوجه ووصلت رغبته في الموت بين يدي الحسين أشدها؟ خلف اللوحة..

قاتل.. قد كان يمشي على الأشلاء فتشياً

وحوله عصبة الجرذان تأتمر

من أين تأتي لوجه القبح مكرمة

وأنهر الملح هل ينمو بها الشجر (18)..

الآخر يرجو حين الوداع.. أوصيك بهذا.. سيد الحضور والغياب.. من دمائي أطرز منديلاً.. فخذه وأمسح به على جراحه.. فالجرح مسك وكافور.. وحكى صوت الشاعر..

«كانوا رجالاً.. وكانوا قبساً.. وجذوةً من ضمير الحق تشتعل..

لم يبق شيء لنا.. من بعد ما غرب شمس الرجال.. تساوى اللص والبطل (19)..

حمل الحسين قلق المعذبين في مشارق الأرض ومغاربها.. واستشهد نيابة عنهم لتكون قاماتهم مرفوعة بوجه الباطل والجبروت.. أتسائل في نهاية المطاف..

هل نستحق أن نكون تلاميذ في مدرسة الشهادة الحسينية نلمّ التراب المتطاير من نَعْليْ الحسين وأصحاب الحسين؟

(1) النساء: آية 1.

(2) تاريخ الحسين: عبد الله العلايلي ص47.

(3) عيون الأخبار: ج4 ص86.

(4) الكهف: 34.

(5) الكهف: 9.

(6) سبأ: 46.

(7) مفردات الراغب.

(8) الصف: 13.

(9) الحديد: 25.

(10) الأنفال: 72.

(11) أقرب الموارد.

(12) حبيتي لا تدصلي، فاروق جويدة، بالرغم منا قد نضع.

(13) الموت والعبقرية،:ص27-31.

(14-15) الموت والعبقرية.

(16) نهج البلاغة: خطبة 189 صبحي صالح.

(17) كذا خطبة 123.

(18) كانت لنا أوطان: فاروق جويدة، مرثية ما قبل الغروب.

(19) المصدر السابق.

إتصل بنا

أعداد سابقة

العدد 32ـ33

الصفحة الرئيسية