مجلـــة النبـــأ   العــددان (30 -31 )    السنــة الخــامســـة    ( ذو القعدة - ذو الحجـة )  1419

المجتمع الأهلي

المشروع المغيب.. و دور السلطة


عبدالله موسى

إن تسمية المجتمع الأهلي تعني المجتمع الذييرتكز في بنيته على أسس الوعي للتوازن وإنسجام الرؤى وتوحدها في إطار عام يرسم لهذا المجتمع الشكل الحضاري الذي يبتعد عن شكل آخر من تسميات المجتمع روالذي قد يشتبه على البعض مع إنها تعطي نفس المعنى غبر أن تسمية المجتمع المدني، درجت على عملية إذابة جميع الانتماءات بما فيها الدينية والمذهبية مما ينطوي على ذلك إاغاء لبعض القوانين الحاكمة في هذه المجتمعات.

ووجه الاختلاف بين المصطلحين واضح كون الصيغة الثانية هي فكرة وافدة علينا من مجتمعات لا يمكن بأي شكل من الاشكال أن تنسجم ورؤيتنا الدينية والاخلاقية والاجتماعية في حين أن اصطلاح (المجتمع الأهلي) ومفهومه الذي يعني مجتمع المؤسسات الذي يقترب كثيراً من طبيعة وتأريخ المسلمين حيث بدأ الإسلام دعوته عبر تنظيم مؤسساتي واستطاع بذلك أن يبدع في تشكيل حضارة انسانية وضعت المجتمع الإسلامي في أعلى درجات الرقي المدني في الوقت الذي كانت فيه العواصم الغربية تعيش أدنى المستويات الحضارية حيث التخلف والأمية والفقر والحرمان.

وكانت عملية(النسيير الذاتي) قد بدأت تنظم شؤون هذا المجتمع منذ تكوين أول مؤسسة أهلية في الإسلام والمتمثلة بالمسجد النبوي الشريف الذي كان يؤدي دوراً مزدوجاً في نشر التوعية الدينية من جهة وكونه مركزاً للتنمية الاجتماعية حيث تنطلقالهيئات واللجان من بين أعمدته لتنظيم شؤون هذا المجتمع المتحول من مفهوم الانتماء للقبلية إلى عقيدة الانتماء للمسجد.

المؤسسات والتسيير الذاتي للمجتمع

لم يتأثر المجتمع الإسلامي بمظاهر الانحطاط الذي أصاب دولته لعدة قرون بسبب تأصل مفاهيم المجتمع الأهلي(المدني) في ثقافته وتداخله مع دورة حياة المجتمع الإسلامي الذي تسيره والتي تعتبر من آليات إنمائه وديمومة نهضته الحضارية ومن هذه الآليات:

1- المسجد:

ويعتبر أولى المؤسسات التي التصقت حياة المسلمين بها حيث لا يمكننا أن نفصل بين المسلم والمسجد الذي يضم كل أنواع النشاط الاجتماعي والديني للمسلمين، فمن الصلوات الخمس اليومية إلى المعاملات الاجتماعية وحلقات التعليم إضافة إلى مناقشة أمور المسلمين في خطبتي صلاة الجمعة إلى غير ذلك من نشاطات هذه المؤسسة التي تمتلك الاستقلالية عن السلطة رغم وجود قادة الدولة ضمن هيكليات وتشكيلات مئسسة المسجد الجامع.

2- مؤسسة الصدقات:

وتأتي أهمية مؤسسة الصدقات كالاخماس والزكوات ونحوها من أنها الأداة الأولى في عملية التسيير الذاتي للمجتمع الاسلامي، حيث أن هذه المؤسسة الاقتصادية هي أهلية مئة في المئة لأنها ترتبط بعقيدة المسلم وطبيعة العلاقة بينه وبين ربه، بحيث يكون تدخل السلطة أمراً إجرائياً وتنظيمياً فقط، وتعتبر الصدقات ومن أهمها الزكاة عماد الاقتصاد اسلامي وبذلك فهي تحتل المراتب العليا في أولويات أسس تكوين الدولة.

3- مؤسسة الاوقاف:

أن أولى مهام الدولة هي اقامة المشاريع الخدمية والتنموية بما يرفع من البنية التحتية لها، وتعتمد هذه الدول غالباً على إجراءات فرض الضرائب وتوفير الأموال لإقامة مشاريع مثل المستشفيات والمدارس والمؤسسات، في حين تكفل المجتمع الإسلامي بتشييد هذه المرافق الهامة عن طريق تخصيص الاوقاف لها بحث يتحمل المجتمع الإسلامي هذه المسؤلية كاملة، ولا تزال الاوقاف حتى العصور رالمتأخرة وفي عصرنا الحالي شاهداً على هذا التكافل الاجتماعي البعيد عن سلطة الدولة الأمر الذي يعطي هذه المؤسسة دورها الفاعل في إنماء المجتمع الأهلي وزيادة أواصر التلاحم والوحدة بين أعضاءه.

4 ـ (مؤسسة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر):

ولهذه المؤسسة دور إجتماعي متميز فقد أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن حقوق الناس، ولان هذا الأمر هو ركن من أركان الإسلام يتعبد به المسلم لله فقد تولت مؤسسة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حمل هذه المسؤلية وفصلها عن السلطة في إطار نفس عملية التسيير الذاتي لهذا المجتمع..

إنماء المجتمع الأهلي وثقافة الأمة

إن الحديث عن إنماء المجتمع الأهلي دوت الخوض في تفاصيل إنماء ثقافة الأمة وخصوصيتها يبعدنا كثيراً عن دراسة كيفية التي يمكن بها القيام بالنهضة التنموية للمجتمع الأهلي وذلك للارتباط الوثيق بين أرضية ثقافة هذا المجتمع وقيام مؤسساته على أساس هذه الأرضية، فنحن لا نذيع سراً إن قلنا أن الامة الإسلامية تمر بمرحلة مخاض عسيرة للخروج من أزمتها الحضارية الخانقة حيث لم تتح لها معطياتها الخاصة فرز نموذجها الحضاري المعاصر وجيلولة المعوقات التاريخية والظروف التي مرت بها عبر الحقب الزمنية التي تعهاقبت على الدولة الإسلامية جعلت من امكانية النهوض الحضاري أمراً عسيراً.

ولا تزال الاجابات متعثرة في مسألة حسم النزاع الذي طال أمده في ميدان الحداثة والتنمية والخصوصية الثقافية وأزمة الهوية، حتى أن المشروع الحضاري الإسلامي لم يتحدد بعد، رغم تعدد التجارب الحديثة وبروز الحركة الفكرية التي سميت فيما بعد بالنهضة أو الصحوة الإسلامية التي ما زالت تتخبط في قدرتها على إمكانية الإصلاح والتنمية حيث التصادنم بين شروط التغيير وشروط التنمية، ويظل الحديث حول إيجاد توليفة توفيقية بين مسألة الإنماء الاجتماعي والأرضية الثقافية لهذا المجتمع تخضع لمعادلات قيمية تختزن في مفرداتها مكانية تجاوز الأزمة واستشراف آفاق المشروع المغيّب.

المؤسسة الخيرية ودورها في الإنماء

تعرّف المؤسسة بأنها (مجموعة الأحكام والقوانين الثابتة التي تحدد السلوك والعلاقات الاجتماعية في المجتمع) (1) وزيد على ذلك (بأن المؤسسة يمكن أن تشبّه بالعضو أو الجهاز الذي ينجز وظائف مهمة للمجتمع) (2)، بينما يعطيها (سنمر) تعريفاً آخراً بقوله (إنها وليدة الفكر والهيكل وبأن نمو المؤسسات ناتج عن السلوك الشعبي للتغير والذي يتحول إلى عادات اجتماعية لا تلبث أن تتحور إلى عرف اجتماعي الأمر الذي يحولها إلى أحكام وقوانين ثابتة تفسر طابع المؤسسة الاجتماعية) (3).

ويميز بعض علماء الاجتماع بين المؤسسة والمنظمة كما يذكر ذلك كتاب (النظام الاجتماعي) لـ(بيرستاد) بأن للمنزمة بقعة جغرافية تستقر عليها بينما ليس للمؤسسة مثل هذه البقعة الجغرافية ويضيف بأن استعمال مصطلح المنزمة يساعدنا في التمييز بين المؤسسة والسلوك الشعبي (4)، وكذلك يبرز من خلال بعض التعاريف أن المنظمات كذلك تنقسم إلى منظمة رسمية ومنظمة غير رسمية حيث تنحصر الأولى بتأييد حكومي بينما تختص الثانية بتشكيلها الشعبي وهناك اختلاف بين تركيبة هذه المنظمات والمؤسسات من حيث عملها بحسب الجغرافية وطبيعة المجتمعات فالمؤسسة الإسلامية تحكمها الكثير من الضوابط التي تحدد أهدافها واهتماماته وكذلك عمل المؤسسات الكنسية في الشرق يختلف في آليته في الكنيسة الغربية.

وبينما تختص بعض (الهيئات الدينية) بإدارة أعمال اجتماعية معينة إضافة إلى وظيفتها الرئيسية تأخذ طابعاً خاصا بها تختص أخرى بإقامة مشاريع تحددها طبعة حاجة المجتمع في أي بقعة جغرافية.

وتزداد أهمية المؤسسات الخيري عندما يختل النظام العام نتيجة للكوارث الطبيعية أو السياسية فتدخل (بحياديتها) لإرساء قواعد النظام وإغاثة المناطق المنكوبة وقد تصاحب مثل هذه الظروف الطارئة منشوء (هيئات مؤسساتية) تطوعية تضع على عاتقها مهمة إدارة مناطق الأزمات فيكون بذلك دورها رئيسياً بعد غياب السلطة غاو الوسائل الاعتيادية لمعالجة حالة الطوارئ (وهي ماتسمى بالقدرة المتمركزة في وحدات اصة فرداً كانت أو فئة في ضمن الجماعة) (5)، وقد عرف العالم نماذجاً من هذه التشكيلات ظلت عبارة عن ردود فعل تنتهي مهمتها بانتهاء موجبات وجودها مما يفقدها صفة الدوام كالمنظمات شبه الرسمية العاملة فيمثل هذه الظروف والتي أخذت صفة الدوام كالمنظمة الصليب الأحمر والهلال الأحمر وغيرها من المنظمات الإنسانية، ويبقى هذا العمل في جميع ظروفه رهينة الخطط السياسية الناضجة للمجتمع الأهلي...

التجارب الإسلامية والإنماء الفوقي

لقد جاء الدين الإسلام بمبادئ هي أسمى من أن تحصر في إقليم جغرافي أو حقبة زمنية محددة لذلك فإن فاعلى نظريته تتجدد كلما نضجت عوامل الوعي لدى الأمة وكلما وجدت الأسلوب المتناعم مع تطبيقاتها التي أرسى قواعدها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام علي (عليه السلام) ودراسة التجارب الإسلامية الحديثة تجعلنا نقف عند أكثر من نقطة ف مسيرتها الإنمائية، فقد حكمت أغلب هذه التجارب سلوكيات اعتباطية قامت على نظريات اجتهادية منفردة غمطت حق النظرية الإسلامية الانفتاحية التي اعتمدت على مبدأ الشورى حيث كان الرسول الكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يشاور صحابته ويأخذ بمشورتهم في العشرات من الحوادث السياسية والوقائع الحربية لأن إنماء النظرية الإسلامية يكمن في هذه الشورى بينما تظل نظرية امتلاك السلطة وممارسة افماء فوقياً عملية متعثرة كما دلت على ذلك الكثير من التجارب السياسية الإسلامية الحديثة.

السلطوية وإفساد مشروع المجتمع الأهلي

إن أهم أمراض المجتمع التي تنخر جسده وتهدده بالانهيار الكامل هو مرض السلطوية، حيث أن تدخّل هرم السلطة المباشر يجعل من المستحيل على المجتمع أن يستجمع قواه ويؤسس لنهضته الحضارية، وحيث أن الآثار التي طبعت المجتمعا الحديثة من تفشي الفقر والمجاعة والمرض يعود إلى الحالة الاستكبارية التي تفشت في هذه المجتمعات ففي أكثر البلدان تقدماً نجد أكثر من خمسة وعشرين مليوناً من الجياع في الولايات المتحدة وحدها وهذه النسبة آخة بالازدياد فما بالك الدول التي تعاني من آثار الفقر اصلاً.

ومع هذا فإننا نلاحظ كثرة المنظمات والمؤسسات الأهلية في هذه البلدان، غير أن هذه التشكيلات قد أخذت طابعاً من من الرسمية مما جعلها مسيّرة من قبل هذه السلطات الممولة لها فأصبحت وجهات إعلامية واستخبارية لها في بلدان أخرى.

وبهذا نعود إلى أساس تشكيل الحكومات فيصوّر الإمام الشيرازي (دام ظله) آثار الحكومات الشعبية على المجتمع بأنها لا تعاني من الفصل بينها وبين المجتمع حيث (لا تفاضل ولا استضعاف ولا استثمار (للمصالح الخاصة) وحينذاك لا تحتاج الحكومة إلى ضرائب باهظة والى جمارك مرهقة) (6)، ويقول سماحته (إن السلطة الاستعلائية والشعبية الواقعية صفتان متناقضتان متعارضتان بينهما بون بعيد ولا مكن أن تؤدي إلى الأخرى ولا يمكن للصفات والعمليات الواقعية أن تؤدي إلى السلطوية وكذلك العكس) (7).

وبناء على ما ذكر فإن مفهوم الإنماء الاجتماعي يظل رهين النظرية السياسية والمشروع الثقافي والنظام الاجتماعي التعددي الذي يفتح الآفاق لمشروع النهضة أن ينمو بطرق سلمية كما إن نفس هذا المشروع (إنما المجتمع الأهلي) لن يرى شكله النهائي في منطقتنا دون اقترانه بمفاصل التنمية الأخرى التي تكون رديفة له وبهذا نظل ونحن يحدونا الأم بولادة مشروع إسلامي يأخذ على عاتقه صياغة مشروع إنمائي متوازن يكفل إقامة وتأسيس مجتمع المؤسسات المدنية...

1 ـ مبادئ علم الاجتماع: هربرت سبنسر.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ السلوك الشعبي: وليام كراهام سمنسر.

4 ـ معجم علم الاجتماع: البروفسور ديفكن ميتسل، ط2 1986م ص127.

5 ـ السياسة: الإمام الشيرازي ج1 ص217.

6 ـ السبيل إلى انهاض المسلمين: الإمام الشيرازي ص378.

7 ـ المصدر السابق: ص379.