مجلـــة النبـــأ   العــددان (30 -31 )    السنــة الخــامســـة    ( ذو القعدة - ذو الحجـة )  1419


منهجية العفو ... في التعامل الإداري


السيد جعفر الشيرازي

قال الله تعالى:( خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين) .

لا شك أن العفو والسماحة قمة في التعامل الأخلاقي وسمو في السياسة والإدارة على مختلف أبعادها، وقد لا يختلف على أهميته ودوره الفاعل في تثبيت أسس الأعمال وتنمية بناها وثمارها.. إلا أن السؤال الذي قد يخطر في بال البعض هو: هل أن سياسة العفو دائمة أم هناك استثناءات؟ وما هو رأي الناس بهذا المنهج؟.

طبعاً قد تختلف الآراء في بعض موارد العفو والسماحة وخصوصاً في مجالات السياسة والإدارة إلا أن الشيء الذي قد نتفق عليه هو أن العفو فضيلة، ومن أرقى الفضائل، ولذا نرى ألسنة الناس تلهج بمدح من عفى حين المقدرة، وتشمئز من الذي يطيح بأعدائه انتقاماً أو تشفّياً وتعده نوعاً من الانحطاط في النفس وفي الأسلوب.

فالعفو يكشف عن سموّ النفس والغلبة على الهوى، فإن الإنسان بالعفو يقدر على السيطرة على النفس وضبط هياجها وهو أمر ليس باليسير إلا انه مهم ومهم جداً فإن من امتلك ملكة العفو وضبط النفس سيكون على ضبطها في موارد أخرى اقدر.

والآية الشريفة تقول ( خذ العفو) كأنه شيء لا يعطى للإنسان وإنما يحتاج إلى اخذ، كالحق الذي يؤخذ ولا يعطى، وذلك لصعوبة العفو وشدة التمرس عليه.

فوائد العفو

الإنسان قد تعتريه حالات ضعف، تخرجه عن طوره وتؤدي به إلى ارتكاب بعض المخالفات أحياناً، لكنه سرعان ما يعود إلى رشده وينتهي عن غيّه ويصحح مساره، ومن افضل طرق التصحيح أن يفتح على العفو باباً..

ليكون طريق الرجعة خلفه مفتوحاً، لكي يتمكن من ذلك، وبعكسه الغضب والانتقام فإنه يغلق أمامه الأبواب الآمر الذي قد يضطرْ إلى الاستمرار في نهجه الخاطئ مما يجرّ المصائب والويلات على نفسه وعلى مجتمعه.

ولذا فإن الله تعالى فتح باب التوبة فيمكن للإنسان التوبة إليه تعالى والاستغفار عن ذنوبه مهما كانت عظيمة وجسيمة.

واليأس من رحمة الله تعالى هو من اشد المحرمات والكبائر وقد قال تعالى:( انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) .

فينبغي فتح الطريق للعصاة والمخالفين وإرشادهم لكي يعودوا عن غيّهم والعفو هو الطريق المثالي لذلك إذ:

1- الخاطئ يجد الفرصة المناسبة ليصلح ما أفسده.

2- العفو يزيل الضغائن والأحقاد ويمنع من نموها، فإن الإنسان حتى إذا كان مذنباً ولاقى عقابه العادل، فإنه قد يشعر بالحقد والضغينة تجاه من أجرى عليه العقوبة.

لكنه إذا عُفي عنه فإن الضغينة تزول عنه في اكثر الأحيان، ويفتح صفحة جديدة، بل العفو يوجد المحبة، لان المعفى عنه يحس بعظيم المِنّة عليه.

ومن هذا المنطلق نرى أن القرآن الكريم في نفس الوقت الذي يعطي الحق في القصاص يقول:( وان تعفوا اقرب إلى التقوى) .

3- يوجب ثقة الناس وقوة ارتباطهم بالحق والفضيلة، لأن الناس حينما يرون أن هذا الشخص تغلَّب على هواه وعفى عن ظالميه فإنهم يرون أنه جدير بالثقة ويمكن الاعتماد عليه.

ولذا نرى أن الإسلام انتشر بسرعة فائقة بعد فتح مكة وكما قال تعالى:( إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) وذلك بعدما رأى المشركون أن الرسول(ص) عفا عن رؤوس الشرك الذين أثاروا ضده الحروب، فلما كان يعدهم الرسول(ص) بالأمان كان يثقون به ويلقون السلاح، وكلّ من كانت له جريمة أو حرب رأى أن جريمته أهون من أفعال مشركي مكة، فإذا عفى الرسول عنهم، فيعفو عنه بطريق أولى.

موارد العفو

في الشريعة هناك موارد يجب فيها العفو ولا تجوز العقوبة، منها:

1- حين الشبهة ينبغي الالتجاء إلى العفو، سواء كان منشأ الشبهة الحكم أو القاضي أو الشاهد، أو غير ذلك، مما فعله الفقهاء العظام في كتبهم الفقهية، لان كرامة الإنسان أسمى واجلّ من أن تخدش لأجل شبهة قد تتطابق مع الخطأ.

وقد ورد في الحديث الشريف:«لان يخطأ القاضي في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة»، وقد ورد عن رسول الله (ص):«ادرؤوا بالشبهات».

2- لو تاب المذنب قبل المقدرة عليه، إذا كان في حقوق الله، فإن الله تعالى رؤوف رحيم، وقد فتح الطريق أمام المذنبين ليعودوا إلى رشدهم قال تعالى:( وقابل التوب) .

فأراد أن لا يعيش المذنب حياة قلقة فاراً عن العدالة، وليكون الطريق مفتوحاً له ليعود من جديد إلى المجتمع، دون ان يعيش العزلة أو الانغلاق.

3- لو كان الذنب في حال الكفر.

وفي الحديث الشريف عن الرسول(ص):«الإسلام يَجُبُّ ما قبله» وذلك:لجذب الناس إلى الإسلام وارشادهم إلى سماحته وعفوه، وأيضاً فإن جعل الملفات مفتوحة يثقل كاهل المسلمين ويحيي فيهم مشاكل سابقة قد يكون الأفضل عدم احياءها، فإن الإسلام يريد حلّ جميع المشاكل وأحياناً يكون العفو افضل طريق للحل...

وقد قام الرسول(ص) خطيباً بعد فتح مكة ومن جملة ما قال:«إن كل دم كان في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين» أي أيها الناس.. لندع الثارات والعصبيات جانباً ونتعامل بالعفو.

ومن هذا المنطلق نرى أن بعض الدول تعلن العفو العام في بعض الأحيان ليتسنّى تناسي المشاكل السابقة وفتح صفحة جديدة.

وهكذا في بعض القوانين الوضعية يغلقون ملف الجريمة نهائياً بعد مرور عشرين عاماً عليها، وهذا القانون وان كان مخالفاً للاسلام، لان الاسلام يقول:«لا يقوى -أي لا يضيع- حق امرءٍ مسلم» كما في الحديث الشريف وان مضى عليه دهر طويل، ولكنا ذكرناه لتبيين أن العقلاء أيضاً يحسون بلزوم إغلاق الملفات القديمة -وإن أخطأوا التطبيق-.

فإن الإسلام يعفو في اغلب المجالات إلا ما كان في حقوق الناس لأنه أمر يعود إلى الناس أنفسهم ومع ذلك حثهم على العفو تجاوز الأخطاء وحتى في موارد القصاص والقتل قال:( وان تعفو اقرب للتقوى) ..

4- لو كان لمصلحة أهم.

إن العقوبة إنما جعلت لمصلحة المجتمع، ولكن لو كان هناك مصلحة أهم فينبغي تقديمها على العقوبة.

وقد اجمع الفقهاء بان الحدود لا تجري في بلاد الكفر، بمعنى أن المسلم إذا ارتكب ما يستوجب عقوبته ثم هرب إلى بلاد الكفر، أو ارتكبها في بلاد الكفر فانه لا يصح إجراء الحد عليه، وذلك لمصالح يراها الإسلام أهم من إجراء الحد، ذكرها الفقهاء في كتاب الحدود في الفقه.

نماذج رائعة

نرى في تاريخ الرسول(ص) وأهل البيت(ع) نماذج رائعة من العفو، ينبغي علينا أن نتبعهم فيها لأنهم القدوة.

* حينما فتح الرسول مكة المكرمة عفى عن الجميع مع انه كان يمكنه الانتقام منهم، بل لو أخذهم بجرائمهم لم يكن ملاماً.

لأنهم أثاروا الحرب ضد الإسلام وقتلوا جمعاً كثيراً من المسلمين، وهذا وحشي قاتل حمزة(ع) رغم عظم جرمه قبل الرسول إسلامه وعفى عنه.

* وأمير المؤمنين(ع) حينما انتصر على جيش الجمل أمر بان لا يتبع فار ولا يقتل اسير، ومع علمه بمكان رؤوس الجيش المهزوم غضّ الطرف عنهم.

والخوارج الذين أثاروا القلاقل، وحالوا دون القضاء على جيش الشام في صفين، واستغلوا كل فرصة للتنديد بالإمام علي(ع) وتكفيره، لم يحرك أمير المؤمنين(ع) أمامهم ساكناً وكان يصفح عنهم، حتى انه لم يقطع عطاياهم من بيت المال، ولم يحاربهم إلا حينما بدءوا بالقتال فاضطر الإمام(ع).

* وكان والي المدينة من اشد الناس عداءً للإمام زين العابدين(ع) وأهل المدينة وحينما غضب عليه الخليفة عزله وأمر بتقيده بشجرة ليأتي الناس وينتقموا بالضرب والشتم، فجاء الإمام(ع) وفك قيده وأكرمه.

* وأحد قادة جيش هارون العباسي هجم على دار الإمام الرضا(ع) وسلب ما فيه وحينما صار الإمام(ع) ولياً للعهد رآه في مجلس المأمون وشاور المأمون في العفو عنه.

ولو أردنا استقصاء جميع تلك الموارد لاحتاج إلى مجال وسيع فنكتفي بهذا القدر.

أماكن لا عفو فيها

العفو وان كان فضيلة إنسانية واسلامية كبرى، لكن هناك موارد تستثنى عن الاصل العام ولا يصح العفو فيها منها:

تضييع الحقوق:

لا يصح العفو إذا استلزم تضييع الحقوق - سواء كان حقوق المسلمين أو غيرهم- لان من أسس الديانات وخاصة الإسلام تطبيق العدل في جميع مجالات الحياة، فالفضائل يؤخذ بها إذا لم تتعارض مع العدل، وإذا عارضت العدل تنقلب إلى رذيلة.

فالكرم -مثلاً- مطلوب لكن إذا كان من المال المسروق فانه رذيلة لا فضيلة.

والتواضع فضيلة، لكنه إذا كان أمام الطغاة لمساعدتهم في الاستمرار في ظلمهم كان رذيلة وكذلك سائر الفضائل.

وهكذا العفو...

فلو رأينا غاصباً غصب الناس حقوقهم لا يصح أن نغض الطرف عنه بعنوان العفو ونتركه ليستمر في نهجه بل يلزم المطالبة بحقوق الناس وإرجاعها إلى أصحابه، فإن العفو في هذا المورد يخرج عن كونه عفواً بل وفضيلة.

ولذا نرى أن أمير المؤمنين(ع) يطالب بقطائع عثمان ويقول انه لو وجدها وقد جعلت مهوراً للنساء لاسترجعها، لأنها كانت ملكاً للمسلمين اجمع وإبقائها بحالها تحت يد الغاصبين يعد استمراراً للظلم والعدوان وهو غير جائز.

تشويق الظلم:

هناك بعض الناس غلبت عليهم الشقوة، فلا تؤثر فيهم أية فضيلة، وصاروا مصداقاً لما ورد في الحديث الشريف:«اتّقِ شرَّ من أحسنت إليه»، فكلما زاد إكرامهم، زادوا طغياناً وظلما.

حتى انهم إذا دخلوا جهنم طلبوا من الله أن يعيدهم ليعملوا صالحاً لكنهم يكذبون كما قال الله تعالى: ( ولو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وانهم لكاذبون) لذلك فإذا علمنا بأن العفو عنهم لا يسبب طغيانهم ولا يزدادون بسببه غياً بل يجرهم إلى الحق ويهديهم إلى الصواب فالظاهر انه لا شبهة في لزوم العفو والصفح عنهم كما فعل رسول الله(ص)، وأهل بيته الأطهار.

ولكن قد يكون العفو سبباً لاستمرارهم في الطغيان وترغيباً لهم لاستصغار الجرائم مع الأمن من العقوبة فإن العفو عنها يعد خطئاً كبيراً.

ولذا فإن الإسلام جعل الحدود والتعزيزات لردع الناس عن المخالفات والمعاصي، ومع أن شرائط تطبيق تلك الحدود صعبة جداً إلى حدّ التعسر لكنها تكفي رادعاً للعصاة عن اقتحام تلك الأمور.

وقد ذكر الفقهاء أن المحارب إذا هرب لا يتبع إلا إذا كانت له فئة يرجع إليها، فيزيدهم قوة فإنه لا يصح تركه يهرب بل يلزم اتباعه، لذا ينبغي للعاملين أن يشخصوا أولاً أين يكون العفو فضيلة لا بد منها في حسن الإدارة وقوة التدبير وأين ينبغي أن يعد توانياً في اخذ الحق...

والسؤال الذي نختم به الكلام:

ماذا ينبغي أن نعمل لنجعل من العفو ملكة تلازم أخلاقنا وسلوكنا الفردي والاجتماعي..؟

وكيف نتوصل إلى إدارة حكيمة يحكم فيها العفو قبل الانتقام والرحمة قبل الغضب...