مجلـــة النبـــأ   العــددان (30 -31 )    السنــة الخــامســـة    ( ذو القعدة - ذو الحجـة )  1419

من يصنــع القــرار


علي عبد الرضا

لا تخلو كتب التاريخ من قصص مضحكة مبكية في آن معاً، تكشف عقلية بعض الحكام وحقيقة تصرفاتهم طبعاً ليس المجال محصوراً في مسائل معينة أو سلوكيات محددة، فكل شيء فيهم وحولهم يكشف عن حقائق عديدة، ولعل من أبرزها حب السيطرة، والتفرد بكل القرارات، والاستبداد بمختلف القدرات.

ينقل عن (آغا محمد خان) مؤسس السلسلة القاجارية في إيران انه لم يتوانى في قتل الناس حتى في صلاته!! ففي أحد الأيام وبينما كان (محمد خان) يصلي نقل إليه رئيس الخدم وصول دفعة جديدة من أسرى كرمان، فأشار بيده إلى قتلهم وهو في أثناء الصلاة، فقتلوا جميعاً وكان عددهم يزيد على السبعين شخصاً.

ربما يرى البعض أن مثل هذه القصص أصبحت من الماضي وعالم اليوم من جملة ما يتميز به خضوع جميع قرارات الدول (داخلية وخارجية) إلى سيطرة تامة من السلطات الثلاثة وبعض المؤسسات الدستورية، ومن غير الممكن أن تحدث هكذا أمور وشعوب العالم وصلت إلى مرحلة متقدمة من الوعي والثقافة، ولكننا نصرّ ونقول مع ما يحمل هذا العصر من مزايا وتعقيدات فان اشباه (آغا محمد خان) لا زالوا يحكمون ويتحكمون في رقاب الملايين من البشر.

في عام 1992 وفي مناسبة خاصة التقيت بأحد المسؤولين الكبار من المشرفين على السجون في بلد إسلامي معروف فدار الحديث بيننا عن حقوق السجين والآثار السلبية التي يتركها السجن على نفسيات السجناء، وفي الأثناء سألته عن حدث معين أثر فيه خلال مسؤوليته التي امتدت 7 سنوات، فقال لي وهو يلعن الزمن الذي الجأه الى هكذا وظيفة: قبل سنوات -وقد حدد السنة- عندما امتلأت السجون بالمعتقلين السياسيين واصحاب الرأي والفكر اثر الظروف الصعبة التي مرت بالبلاد، رفعنا عدة تقارير الى اقطاب النظام دعوناهم إلى بناء سجون جديدة أو إطلاق سراح البعض، لان السجون استوعبت اكثر من طاقتها وربما يحدث انفجار لا يمكن السيطرة عليه، يقول: بعد عدة اشهر وصلنا كتاب من رئيس الوزراء يقول فيه بان الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالبلاد تمنعنا من إحداث سجون جديدة، والوضع الداخلي لا يسمح بإطلاق سراح المخالفين والمعارضين، لذا فإنني افضل!! إعدام الأفراد المدرجة أسماءهم في القائمة الملحقة لخطورتهم على أمن النظام وفعلاً.. قام المسؤولون بإعدام كل من ورد اسمه في القائمة!!.

بعدها قال لي هل تريد أن تعرف عدد من اعدموا ؟ قلت: لا فرق عندي فان من يقتل فرداً واحداً يقتل المئات، قال: كان عددهم 169 شخصاً، وإني على يقين بان أغلبهم لا يستحقون حتى السجن فكيف الإعدام ؟!!.

هاتان القصتان تكشفان عن عظم المأساة والفجيعة التي يتم بها اتخاذ القرار في عالمنا الإسلامي، فالأشياء تعرف بامثالها، ومن الصغائر تعرف الكبائر فإذا كان القرار يجري بهذه الصورة والضحية إخوانه وأصدقائه، فكيف يكون القرار والحدث اكبر والمقابل غريب ؟!.

إن القرارات انعكاس للطبيعة السيكولوجية التي عاشها ويعيشها الفرد، زائداً الأجواء السوسيولوجية التي تحيط بصانع القرار وتؤثر عليه سلباً أو إيجاباً، فهي تمتد من البيت إلى قيادة دولة مروراً بالمدرسة والمؤسسة والوزارة التي شغلها وهو يتخطى المراحل، فالذي يتفرد بالقرار ويستبد بالقدرات في الغالب يعاني من عقد نفسية تمنع من الاعتماد عليه وان اظهر عكس ذلك والعقدة النفسية ليست حالة طارئة أو ردة فعل يمكن معالجتها وصقلها وإنما هي طبيعة خطرة نابعة من الذات ومن الدوائر الفاسدة المحيطة بها، فهي تحتاج إلى نقلة نوعية وحركة مستمرة لاعادة صياغتها وتغيير ما يحيط بها من دوائر منحرفة ومريضة.

ولأهمية صناعة القرار والتأثيرات المتبادلة بينه وبين الهياكل والمؤسسات التنظيمية والدستورية وانعكاس ذلك على السياسات الداخلية والخارجية ومسارات الرأي العام، سنقوم بدراسة القرار من حيث الماهية أو التعريف أو نوعية القرارات، وأخطارها، ومشاكلها، وصنّاعها، وردود أفعالها و...

 ما هــــــو القــــرار؟ 

على الرغم من أهمية موضوع القرار وارتباطه بالعلوم الاجتماعية – الإدارة العامة، السياسة، الاجتماع، علم النفس الاجتماعي و... – إلاّ أن الجهود التي بذلها أهل الخبرة والاختصاص في توضيح مفهوم القرار أو تعريفه لم تعط الشمولية المطلوبة والتعريف الجامع والأنسب للقرار، لذلك جاءت اغلب التعاريف التي أوردتها المؤسسات ذات العلاقة أو اساتذة القانون والسياسة الدولية، وهي تحمل ثغرات ونواقص كبيرة لا يمكن الرجوع إليها أو الاعتماد عليها ولعل أدق تعريف للقرار يقول بأنه:(اختيار إجراء معين لمواجهة مشكلة ما).

وهذا التعريف أيضا لا يخلو من مآخذ واشكالات كبيرة ومن أهمها:

1- أن الاختيار غالباً ما يقع في الظروف الاعتيادية والأجواء الطبيعية مع وفرة من الخيارات وسيولة من البدائل، أما وقت الأزمات والحالات الطارئة فكثيراً ما تنقطع السبل وتغلق المسالك ولا يبقى إلا خيار واحد للأخذ به، وبعبارة أخرى هناك عملية حصر ومضايقة في بعض الاحيان لسلوك منهج معين أو اعتماد طريق محدد، خطط له الطرف المقابل أو جاء نتيجة ظروف خاصة.

2- كثيراً ما يكون القرار موجوداً في حالة إحجام الجهة المختصة عن إصداره، لعجز أو تريث، فليس من مهام صنّاع القرار الإصدار والتنفيذ، وربما يترتب على بعض القرارات آثار اشد خطورة مما لو لم يصدر قرار، فالقرار عموماً ليس إجراءً في كل الأوقات.

3- القرارات غير منحصرة في المواجهة، فهناك ما يصنع لا يجاد أزمة وخلق قضية، أو لتنفيذ برنامج ورسم سياسة، وهذا ما يشاهد جلياً في اغلب قرارات الدول، نعم يمكن أن تكون هذه النقطة خاصة لقرارات النزاع بين الدول والصراع بين الأطراف المختلفة.

إذن فتعريف القرار عملية ليست سهلة خصوصاً إذا علمنا أن القرارات لا تخضع إلى أطر خاصة أو قواعد محددة، وغالباً القرارات المتميزة والمؤثرة على مختلف الساحات ولدت من رحم المواجهات المحتدمة والأزمات المشتعلة فلا يمكن اعتبارها مرجعاً جامعاً لعملية صنع القرار وتعريفه.

أنــــواع القـــــرارات

أ - قرارات الفعل:

1- كالمبادرات.

2- تنفيذ الاستراتيجيات الكبرى.

3- للاختبار (جس النبض).

4- للاستعراض (الردع) أو رفع العلم كما كانت تفعل بريطانيا في أوج قدرتها حينما تريد أن تردع الطرف الآخر فتقوم برفع أعلامها على بوارجها وقطعها البحرية قبال المياه الإقليمية لتلك الدولة وهي كناية عن استعدادها لاختبار القوة.

5- الرسائل على طريقة (إياك اعني..) وبتعبير آخر إجراءات تمارس ضد جهة معينة ولكن الغرض منها إيصال رسالة إلى الطرف الآخر المعني.

ب- قرارات رد الفعل:

1- نتيجة ضغوط داخلية.

2- أو تحركات خارجية (إقليمية أو دولية).

ج- قرارات الامتناع عن الفعل:

1- عن ضعف.

2- عن قدرة (استهانة بالطرف المقابل).

3- للتريث.

اخطــــــر القــــرارات

لا يخفى أن القرارات على تنوعها تتفاوت درجة أهميتها وخطورتها، فكل المسائل فيه في عالم الإنسان تحتاج إلى قرار يحدد مواقفه من الأشياء أو الأحداث التي يمر بها بدءاً من إدارة الأسرة مروراً بالمؤسسة والوزارة والدولة ولا فرق أن تكون هذه القرارات تتم بالفعل أو برد الفعل أو الامتناع عن الفعل.

ولكن أخطرها تلك التي تصيب الأداء المعتاد لأسلوب صنع القرار بالاضطراب والخلل والحيرة، بسبب تضافر عناصر المفاجأة وضيق الوقت والشعور بالخطر الداهم، وقلة المعلومات المتاحة، وانعدام الثقة بين المؤسسات والدوائر المحيطة بصانع القرار، وهذه أمور تجعل عملية اتخاذ القرار المناسب شبه مستحيلة.

فالقرارات الهامة والخطرة تتخذ أثناء إدارة الأزمات الملتهبة وسواء كانت الأزمة داخلية أو خارجية، إقليمية أو دولية، سياسية أو عسكرية، المهم فيها خطر واقعي وتصديق تام لنشوب نزاع أو وقوع فتنة عظمى.

وفي مثل هذه الأزمات التي لا تسمح إلا بأوقات محددة للتعامل مع ظروفها المتغيرة، و تتزايد فيها الحاجة إلى الفعل المؤثر، وسط درجة عالية من الشك تحيط بكل الخيارات المطروحة، وتحت ضغط نفسي هائل من احتمال تدهور الموقف وفشل العملية برمتها، تتخذ القرارات المصيرية والخطرة وتحدد المواقف بوضوح وعلانية.

وتنبع حنكة صانع القرار ونبوغه وبراعته عندما يقتطف الأمل من وسط احتمالات الفشل العظيمة، واليأس الكامل، والنجاح في هكذا ظروف هو ورقة عبور إلى صناعة قرارات أخرى اكبر واخطر.

مشكلة صنع القرار

عملية صنع القرار لا تقوم على قواعد نظرية وحسابات منطقية فقط حتى يكون الالتزام بها طريقاً للنجاح، وليس هناك إطار مرجعي متكامل يعتمد عليه عند صنع القرار، فما زال الغموض ونقص المعلومات هو المسيطر على الكثير من القرارات الهامة والمصيرية التي عصفت بالساحة الدولية خلال القرن الأخير، والذين يحاولون دراسة عملية صنع القرار، وحتى بعض المشاركين في قرارات هامة سابقاً خفيت عليهم بعض الحلقات المعقدة والمراحل المظلمة التي مر بها القرار.

فالقرارات التي تظهر أمامنا على شكل وثيقة مثلاً لا يمكن أن نصل إلى حقيقتها اعتماداً على ما هو بأيدينا من وثائق ومعلومات، فكل هذه قد لا تفي بشيء عندما نرجع قليلاً وندرس المسألة بعناية وتركيز، وحتى صنّاع القرار في كثير من الأحيان لا يستطيعون أن يقفوا على كل الظروف والملابسات التي أحاطت بعملية صنع القرار، وحتى لو كانت لديهم الحقيقة الكاملة فأنهم يحاولون اخفائها عن الدارسين حفاظاً على أسماء من شاركوا فيها من أفراد ومؤسسات أو حماية للمصالح الوطنية والقومية العليا، وربما تضيع الحقيقة عندما تكون المعلومات استعراضية مبالغاً فيها وهذا ما يركز عليه الناجحون، في حين يحجم الفاشلون عن تبيان ابسط الأمور، وإن تكلموا فسيلقون المسؤولية على عاتق من ليس لهم دور واقعي في عملية صنع القرار.

ومن رصيد بعض القرارات التاريخية يحق لنا أن نسجل بعض النقاط الإيجابية التي برع فيها العنصر البشري على ابتداع بعض القرارات الخلاقة لمواجهة بعض الأزمات أو إيجاد بعض المواضيع أو صنع بعض السياسات، والإسهام في إحلال المشاكل والخلافات، ولكن من الخطأ اعتبار هذه النجاحات أو جعلها إطارا مرجعياً متكاملاً لدراسة نسق معين من القرارات بحيث يصلح معياراً معتمداً لتقويم هذه الطائفة أو تلك القرارات، أو نحكم على نظام ما، أو أسلوب معين بأنه الأفضل في صنع القرار، إذ أن لكل قرار من القرارات خصوصياته التي قد تشذ عن القواعد العامة لمنهج ما، أو تتفق معه، دون أن يستتبع هذا الحكم بالضرورة سلامة هذا القرار أو خطأه.

وجميع القرارات النموذجية التي أوردتها كتب التاريخ أن دلت على شيء فإنما تدل على قدرة الإنسان اللامحدودة على الصبر وتخطي العقبات والصعوبات، وأن هذه القدرة على النجاح تكشف التفاوت الغريزي بين بني الإنسان، والامتياز الذي خصه الله تعالى للبعض من البشر دون البعض الآخر، إضافة إلى العوامل الأخرى التي تزيد الفوارق بين الأفراد وتقربها أمثال المستوى الثقافي والخبرات الفنية والبيئة الاجتماعية التي خرج منها، والظروف الصحية التي عاشها والطبائع النفسية من قوة الشخصية وانعدام الإحساس بالمسؤولية.

ومن مجمل ما ذكرنا فإن الكلام عن صناعة القرار لا يخرج عن كونه مدخلاً علمياً محدوداً خاضعاً لجميع الاحتمالات والمناقشات وما لا يدرك كله لا يترك جله.

ما يعقــّد القرار

أولاً: كثرة البدائل أو ندرتها: فالقرار ترجيح أحد الخيارات من البدائل الصعبة، والتعامل مع هذه البدائل ليس بالأمر الهين، لأن الاختيار - عادة - يتم تحت ضغوط ثقيلة من الأطراف المتعدّدة التي ستتأثر بالقرار بطريقة أو بأخرى، كما أن قلّة البدائل مسألة لا تقل تعقيداً عن سابقتها حيث تتطلب مهارةً عالية في كيفية التعامل مع خيــــارات محدودة أو الخلاص والتملّص من خيار ربما يكون مفروضاً من الجانب المضاد.

ثانيا: ضيق الوقت: وهو عامل مؤثر في عملية صنع القرار واصداره، وفي اغلب الأحيان يعود فشل بعض القرارات إلى أن الوقت لم يتح لاصحاب القرار الفرصة الكافية لدراسة المعلومات المتوفرة لديهم والواصلة إليهم من مختلف المصادر بصورة متأنية تساعدهم على اختيار البديل الأفضل.

وضيق الوقت يحصل في الظروف الاستثنائية التي تتطلّب قرارات سريعة غير عادية وفي نفس الوقت غير مرتجلة.

ثالثاً: سيطرة الشك والقلق: وهذه مسألة لا تنحصر في مرحلة صنع القرار، وإنما تمتد إلى فترة صدور القرار وتنفيذه، فالشكوك ترهق كأهل صانع القرار كلما تضاربت المعلومات وكلما كثرت أو قلت البدائل، كما أن الخوف من عدم النجاح لا يترك عصباً إلا شدَّه إليه، وإلى ذلك يعود سبب قصر عمر بعض القادة وتدهور أوضاعهم الصحية والنفسية.

رابعاً: الجانب الآخر من التل: ما عندك من قدرات وما تمتلك من معلومات وبدائل متاحة قد لا توصل القرار إلى مرحلة التنفيذ والنجاح وإنما يجب أن يقترن ذلك بنظرة بعيدة تخترق الحجب لتنظر الجانب الآخر من التل، - إذا كانت الأزمة خارجية - كيف يفكر، ماذا يريد، من بجانبه و...، وهذه النقطة بالتحديد تغلبت عليها بعض الدول المتقدمة عندما أوجدت نماذج (بشرية أو تكنولوجية) تفكر وتعمل كما لو كان الطرف الآخر ماثلاً امامهم، وبواسطة ذلك استطاعوا الحصول على معلومات شبه دقيقة وعلى ردود الأفعال قبل صدورها.

خامساً: قلة ونقص المعلومات وعدم وضوحها: من مستلزمات صنع القرار وجود أرضية واسعة من المعلومات عن الواقع، ونقصد بالمعلومات الحقائق الموضوعية لا الرؤية والانطباعات الشخصية التي غالباً ما تكون ناقصة وغير صحيحة، والاميركان لم يضربوا هيروشيما وناكازاكي بالقنابل النووية الا بعد أن تأكدوا من مصادر معلوماتهم الدقيقة بأن الألمان لم يتوصلوا بعد إلى صنع قنبلتهم النووية، ولو كان عندهم أدنى احتمال حصول تقدم للألمان في هذا الجانب لترددوا أو تراجعوا خوفاً من الضربة الثانية.

سادساً: انعدام الرؤية: وخصوصاً في القرارات المتعلقة بالشأن الخارجي، فهي لا تقوم على رؤية واضحة وصورة صافية، وإنما يشوبها ضباب كثيف يغلف الموقف بستائر من الـــغموض والرمادية التي لا تسمح الا لاصحاب البصيرة النافذة والرؤية الثاقبة بالتقرب منها وكشف مكنوناتها واختراقها ومعالجتها بصورة موضوعية، لذلك يرجع في هكذا مسائل إلى أصحاب الخبرة والتجربة الذي افنوا أعمارهم في تفحص حقائق الأمور وخلفيات الأحداث.

مراحل صنع القرار

ما قلناه أنفاً يؤكد أن القرارات لا تخضع دائماً إلى معادلات حسابية أو منطقية، أو خطوات مترابطة ومتسلسلة دقيقة، فالبعض منها يتطلّب عقلية خاصة، تعرف كيف تتعامل وتتصرف مع الأحداث والطوارئ، فكثيراً ما ضرب بعض صناع القرار مراحل صنعه اعتماداً على ما يملكون من تجربة ومعلومات وبدائل متاحة أو أنهم اكتفوا بمرحلة واحدة أو مرحلتين فقط تبعاً لسرعة وبطئ الموضوع أو المشكلة.

غير أننا هنا سنذكر المراحل المهمة من صناعة القرار في إطارها الطبيعي، بعيداً عن أجواء الاضطراب أو فقدان الاستقرار:

- مرحلة تحديد الهدف أو الغرض بمنتهى الدقة (مشكلة أو موضوع).

- مرحلة جمع المعلومات والحقائق التي تتعلق بالموضوع أو الأزمة.

- مرحلة مراجعة الإمكانيات المتاحة (سواء لجانبنا أو الجانب المضاد إذا كانت أزمة خارجية).

- مرحلة عرض ومناقشة الحلول المفتوحة والبدائل والنتائج المحتملة لكل بديل مع بحث تأثير كل منها على الآخر ومزاياها وعيوبها.

- مرحلة ترجيح أحد الحلول... ولماذا وقع عليه الخيار؟.. وهل توجد إمكانيات لتنفيذه؟

- مرحلة إصدار القرار.. من يصدره؟... وفي أي وقت؟.. وهل يكون واضحاً أو غامضاً ؟.

- مرحلة مراقبة المنفذين.. وجمع ردود الأفعال (إذا كانت مشكلة خارجية).

والمرحلتان الاخيرتان ليستا من صلب القرار، وإنما هما لواحـــق أساسية لا يمكن اغفالها أو عدم الاعتناء بها وكثيراً ما تكون آثارها كبيرة على إنجاح القرار أو فشله !.

من يصنع القرار ؟

احتكار القرار من قبل فرد أو مجموعة ظاهرة متفشية في اغلب بلدان العالم الثالث، وفي نفس الوقت هي ظاهرة قديمة ممتدة إلى جذور التاريخ، تمسك بها الضعفاء ومارسها أصحاب النفوس المريضة والمستبدة اعتماداً على ما يحملون من أعذار وحجج واهية وعقيمة تصور لهم الأمور عكس ما هو مطلوب ومستحسن، فسمحوا لأنفسهم بتخطي كل النواميس والقيم الاجتماعية، ولم يتركوا لغيرهم إلا الشكليات والهامشيات، والنتيجة أنهم اضروا بأنفسهم قبل غيرهم، فأجسامهم مريضة، وأعمارهم قصيرة، ودولهم ضعيفة وهكذا المرض يسري إلى كل هياكل الدولة ومؤسساتها المختلفة، ولا فرق بين أن يكون المحتكر فرداً أو حزباً أو دائرة معينة من دوائر الدولة.

أما دلائلهم في احتكار القرار:

- فهم يرون الآخرين ومهما تكن مستوياتهم ليسوا إلا أدوات منفذة لا يحق لها المشاركة في صناعة القرار ولا حتى الاعتراض عليه.

- وهم يرون أن صناعة القرار وإصداره حق يمارسه صاحب العلاقة فقط دون غيره، ودخول الآخرين على الخط تدّخل في شؤون السلطات العليا وهي مرتبة أعلى شأناً من أي منزلة أخرى يتمتعون بها.

- وهم يرون أن عملية صنع القرار من اختصاصهم فقط، وأن رأوا ضرورة في إشراك الآخرين فهذا تفضلاً ومنَّة ويجب أن يشكروا عليها!.

- وهم يرون أن صور الأشياء عندهم أوضح من غيرهم، نظراً للموقع المتميز الذي شغلوه والمعلومات الواسعة المتوفرة لديهم دون سواهم، ومن غير اللائق مساواة من يعلم ومن لا يعلم!!.

- وهم يرون أن استشارة الآخرين يقلل من منزلتهم وشأنهم، والاحتياج إلى المشورة معناه النزول إلى مستوى المستشار أو دونه وهذا ما لا يجب أن يحدث!.

- وهم يرون أن إدخال الآخرين في صناعة القرار أو استشارتهم عامل إضاعة للوقت، واتخاذ القرار كثيراً ما تكون عملية سريعة تتطلب اختزالاً للوقت لا تطويله.

- وهم يرون السرية عامل حاسم في نجاح القرار وفشله، فليس من التعقل كشف جميع الأوراق والنوايا لأي جهة كانت قبل إعلانها، لأن ذلك يفشل عامل المفاجأة.

- وهم يرون أن شراك الآخرين في صناعة القرار عملية غير مجدية، فكل شخص له نصائحه وآرائه ورغباته التي قد تختلف مع الآخر، ومن الصعب التوفيق بين هذه الآراء، مما يجعل مركز صناعة القرار محلاً للنزاعات والصراعات الشخصية أو الفئوية.

- وهم يرون أن التجارب أثبتت أن الآخرين عند اشتراكهم أو استشارتهم لم يعطوا الجديد لصانع القرار غير المصانعة والمجاملة وترديد أو تمجيد ما يرضاه ويريده حفاظاً على مصالحهم وأغراضهم الشخصية.

- وهم يرون أن هناك فجوة كبيرة بين من يحمل الهم ويواجه مختلف الظروف، وبين من يشير وهو ينظر إلى المسائل نظرة مجردة عن ظروفها وملابساتها، مثالية مجردة، وهذا ما يمنع التواصل مع الآخر.

- وأخيراً.. وهم يرون أنهم وحدهم يتحمّلون المسؤولية ويواجهون المشاكل، وتلقى عليهم التبعات، وأن الفشل والهزيمة يتيمة يتنصل الكل من بنوّتها.

ولا يخفى على صاحب البصيرة النافذة والعقل السليم بطلان حجج الداعين إلى احتكار صناعة القرار، وبالإضافة إلى أن بعض النقاط التي تجيب بنفسها على نفسها فإن هناك نقاطاً أخرى سنذكرها لدحض دلائل من يطلبون ترك مهمة صنع القرار إلى فرد أو مجموعة خاصة دون غيرهم:

 توزع القدرة 

- استقرار أية دولة لا يقوم إلا على استقلالية السلطات، وتوزيع القدرة، ووجود المؤسسات الدستورية والشعبية، وإعطاء الحرية الكافية والكاملة لجميع المراكز والافراد لإبداء رأيها وتوضيح مواقفها.

والقرار هو الآخر لا يصل إلى مراميه النهائية وتحقيق غاياته الواقعية، إلا بعد أن يكون هناك توزيع حقيقي ومتوازن لجميع مراكز الدولة ومؤسساتها يضمن مشاركتهم الفـــعّالة والمستمرّة في صناعة القرار، أو على الأقل استشارتهم أو وضعهم في جريانات الامور وتطوراتها.

- إيصال المعلومات الدقيقة إلى مختلف الجهات والقوى المتواجدة على الساحة، عملية حيوية لوضع الآخرين في قلب الحدث، وبداية حقيقية لاشراكهم في صناعة القرارات، على أن لا يقتصر اعطاء المعلومة وحتى الأسرار إلى أهل الثقة، فأهل الخبرة أحق من غيرهم بالحصول على المعلومات الدقيقة والأخبار الجديدة.

- مما لا شك فيه أن العدد زاد أو نقص له تأثير سلبي وإيجابي على القرار، فليس كل زيادة أو كثرة في عدد المشاركين في القرار مدعاة للفشل والخسران، وليس أيضاً كل النجاحات ملازمة لقلّة صنّاع القرار، فهناك قرارات عظيمة لا يمكن أن تتحملها كواهل بعض الأفراد، والعملية تحتاج إلى توزيع للمسؤوليات وجمع للمعلومات، وتفكير بالبدائل ومناقشتها، ومواجهة الطوارئ ومعالجتها، وخلاقية وإبداع في كيفية الهروب من المشاكل والخلاص من الأزمات، وكل هذه الأمور تتطلب إشراك اكبر عدد من مندوبي المراكز والمؤسسات الفاعلة على الساحة العامة.

- القرارات بعضها شأن داخلي، والآخر خارجي، وما يتعلّق بالخارج يجب أن يكون موازياً أو راجحاً على كفة الجانب المضاد من جميع النواحي، ومن أبرزها قوة القرار ومشروعيته، فإذا كانت قرارات الجانب الخارجي منبثقة من واقع مؤسساته الدستورية ومنطلقة من صميم هياكله التنظيمية، فهل يعقل مراجعتها بقرارات تنعدم فيها ابسط الــــنواميس القانونية وتموت بها جميع الاحساسات الوطنية ؟.

- يعود فشل الكثير من القرارات إلى أن المنفذين ليست لديهم القناعات التامة بما جاء في القرار، أو بالأهداف المرجوة منه، فالأفضل كما يرى خبراء الإدارة هو إشراك المنفذين والمسؤولين على سير الأعمال بجميع مراحل صنع القرار، وهذا ما يقوي فيهم الدوافع الذاتية للتحرك، والجدوائية في العمل، والإحساس بالوظيفة، والوصول إلى الغايات بسرعة قصوى.

- بما أن صنّاع القرار لا يرجون إلا نجاحه وتحقيقه، فاللازم إشراك جميع القوى والفاعليات السياسية بما في ذلك المعارضة في عملية اتخاذ القرار، لقطع سبل الاعتراض عليه قبل صدوره، أو إسكات أبواق المنتقدين أو الشامتين عند فشله، فمن يشترك في صناعة القرار سيتفاعل لإنجاحه، وسيسكت وينال بعض أوزاره في حال فشله.

إذن القرارات إجراءات معقدة ودقيقة خاضعة إلى قيود وضوابط ومن الخطأ تركها لفرد أو تحويلها إلى فئة أو دائرة ضيقة، وذلك تجنباً من التورط في أخطاء من الصعب إصلاحها، خاصة إذا كانت القرارات على المستوى الاستراتيجي، فالخطأ التكتيكي يمكن تداركه داخل إطار استراتيجي سليم، أما الاستراتيجية الخاطئة من أساسها فلا يمكن تصحيح مسارها إلا بعد وقت طويل وربما خسائر فادحة.

وعلى هذا الأساس وما قلناه سابقاً فإن (مؤسسة صنع القرار) هي الجهة الأجدر والأقدر والأقل خطأً وضرراً من غيرها، وخصوصاً إذا كانت هذه المؤسسة تتشكل من عدة أجهزة رسمية وهياكل تـــنظيمية تغذي وتدعم المؤسسة بالمعلومات والتحليلات وكل الاحتياجات الضرورية لعملية صنع القرار.

مَنْ نستشير ؟

الاستشارة في عملية اتخاذ القرار ليس لها حدود ثابتة تقف عندها، أو دوائر محددة حمراء يمنع تخطيها، فكلما تعددت خطوط الاستشارة وتنوعت مصادر المعلومات، كانت القرارات سليمة والثغرات قليلة العيوب صغيرة، والنجاحات مؤكدة، والعكس صحيح، وبعض القرارات الهامة والمصيرية يؤكد قبل إصداراها، الرجوع بها إلى الدوائر الأوسع والأكثر شمولية من تلك التي تعتمد عليها مؤسسة صنع القرار وبعضها الآخر يتطلب إجراءات نوعية اكبر كالرجوع إلى المجالس التشريعية أو الرأي العام الداخلي وإجراء الاستفتاء وخصوصاً إذا كان القرار يمس كيان الأمة وعزتها كالحرب والسلم، وأن اقتضت الضرورة التضحية ببعض الموارد والأعذار الأمنية.

فصناعة القرار مرحلة أولية يمكن التغلب على نواقصها وعيوبها من خلال فتح باب الاجتهاد وإبداء الرأي للعديد من المؤسسات والدوائر الرسمية وغير الرسمية، أمثال: الوزارات ذات العلاقة، المجالس والمنظمات الحقوقية والشعبية، الأحزاب والتنظيمات الموالية والمخالفة، رجال الفكر والثقافة، أرباب العمل وأصحاب المال، المراكز الدينية والتربوية، الرأي العام المحلي في بعض القرارات، بعض الدول الإقليمية والصديقة إذا كان القرار ذا صلة بالوضع الخارجي.

وبالنتيجة تتطلب اغلب القرارات استشارة كل من لهم الصلة بالقرار من قريب أو بعيد بنسبهم المختلفة ونوعيتهم وثقلهم على الساحة وارتباطهم بالمجتمع ولو أدى ذلك في بعض الأحيان إلى التضحية بعامل الزمن وعنصر المفاجئة، وأن التفريط بوحدة الأمة وكلمتها بالاعتماد على ثلة قليلة وترك الأكثرية لأنهم ليسوا أهلاً للثقة -كما يزعم البعض- ربما تكون جريمة لا تغتفر وعامل تفريق وتمزيق لصفوف الأمة الواحدة.

مَنْ يصدر القرار؟

بما أن القرارات تختلف في أهميتها وحجمها ونوعيتها، فاللازم اعتماد مصادر مختلفة المستويات عند إصدار القرار، فالاستراتيجي منها يجب أن لا يترك للمستويات الدنيا، كما أن الهامشي يجب أن لا يوضع في سلة السلطات العليا، يجب أن يكون هناك توازن بين القرار ومن يصدر القرار.

والملاحظة الأخرى في هذا المجال أن بعض القرارات تتصف الجمود وقلة الفاعلية وربما تحتاج إلى مراجعة واعادة نظر، وصنّاع القرار لا يتحركون بارادة كاملة على مسرح الاحداث، فهناك ارادات أخرى تتقاطع وتتصادم معهم، مما يجعل مسألة التراجع عن القرار والتنصل منه مسألة يجب أن توضع في الحسبان وفي تقديرات ردود الأفعال، فإذا أنيطت مسألة إصدار القرار برمتها - صغيرها وكبيرها، أساسيها وهامشيها - إلى القيادات العليا، يكون من الصعوبة الهروب من سلبياتها أو التراجع عنها عند الضرورة وخصوصاً أن بعض القرارات اختبارية يراد بها جس النبض، أو معرفة ردود أفعال الأطراف المضادة، ثم أن هيبة القيادة أو المؤسسة يجب أن يلتفت إليها لكي لا تسقط، ولا يبقى احترام يذكر للقرارات اللاحقة.

متى نصدر القرار؟

الوقت هو العمود الفقري الذي يقوم عليه اتخاذ القرار وإصداره، مع ملاحظة أن الوقت يحل كثيراً من المشاكل أو ربما يزيدها صعوبة وتعــــقيداً، فالصبر والتأني مطلوبان في كثير من الأحيان، والاندفاع والسرعة لازمان في أوقات اخرى، مما يدعو إلى الموازنة بين الحكمة والتردد، وبين السرعة والتسرع، وبين المغامرة والمقامرة.

فصدور قرار سليم بنسبة 50% في الوقت المناسب أفضل بكثير من صدور قرار سليم 100% بعد فوات الأوان، غير أن استغلال الوقت المناسب كثيراً ما يكون على حساب التفرّد في اتخاذ القرار، وهذه مشكلة ما زالــــت مستعصية، ولم تحل حتى في الدول المتقدمة والديمقراطية التي تخضع قراراتها إلى محاسبات متوازنة من القوى والسلطات الرسمية، وتخضع إلى مراقبة دقيقة من قبل بعض المؤسسات الدستورية الواقعية والمراكز الإعلامية الحرة.

صحيح أن التفرّد بالقرار في بعض الظروف الحرجة والمتأزمة قد يعطي ثماره المرجوة ونتائجه المطلوبة إلا أن ذلك لا يعني بأية صورة من الصور الالتفاف حول الأعضاء والمؤسسات ذات الصلة، أو طي مراحل اتخاذ القرار دون الرجوع إلى أحد أو استشارة طرف.

السرعة وضيق الوقت كلمات فضفاضة وفي نفس الوقت استثنائية لا تقف عند حد معين ولا تنحصر في مجال محدد وربما تستغلها بعض النفوس المريضة للتفرّد ليس في عملية صنع القرار وإصداره فحسب بل تمتد إلى كافة المجالات الحيوية والقضايا الاستراتيجية.

والمفروض من المراكز والهيئات أو الهياكل المتعاملة مع صنّاع القرار التوافق على برنامج معين في كيفية العمل في الظروف الطارئة والأزمات الحادة، ووضع منهج واضح في طريقة الاستشارة والرجوع إلى القوى الفاعلة في الأوقات الحرجة التي تتطلب سرعة في القرار والاداء، وتخويل جهة واحدة للبت في القرارات، وبهذه الطريقة يكسب القرار مــصداقيته من جميع الأطراف وتتحقق الثقة المتبادلة وتنعدم ردود الأفعال السلبية من الدوائر المحيطة والمراكز الصديقة،.وغير ذلك سيواجه القرار مشاكل وصعاب من الأطراف القريبة، ناهيك عن البعيدة التي تتحين الفرص للتصيد في الماء العكر.

ردود الأفعال

تبقى مسألة أخيرة، وهي أن القرارات (إجراءات أو سكوت) لا تسلم من ردود فعل متفاوتة الدرجات من جميع الأطراف والقوى التي ستتأثر بالقرار سلباً أو إيجابا، وردود الأفعال مسألة طبيعية ومتوقعة، ومدروسة ضمن الإطار العام لصناعة القرار، ولكن الشيء المهم في هذه المسألة هو كيفية منع الآخرين من استغلال ردود الأفعال وتجيرها إلى صالحهم، والشيء الآخر هو أسلوب السيطرة على ردود فعل الرأي العام المحلي الذي يتأثر عموماً بالدعايات والإشاعات وتتسم مواقفه بالتأرجح وعدم الاتزان.

وبالنتيجة تبقى عملية صناعة القرار وإصداره (أي قرار) بمثابة خطوة أولى في حلقة مستمرة، ربما لإصدار قرارات متتالية على ضوء ردود الفعل وسير الأحداث عند التنفيذ والمواجهة، وما على صاحب القرار إلا الصبر والتأني وتحمل الصعاب لمواجهة كل طارئ وجديد، وابتكار ما يراه مناسباً وضرورياً لقيادة سفينته لشاطئ الأمان.