مجلـــة النبـــأ      العــدد 29      السنـــة الرابعـــة      شـــوال 1419

إدارة الأزمــــات ...

الإدارة و الحلــول


فاضـل الصفار

إن العديد من الذين دخلوا في النزاعات كأطراف أو وسطاء لاحظوا أن هناك قواسم مشتركة في أكثرها. بعضها يساهم في تأجيجها وبعضها يمكن أن يساهم في حلها إذا عرف المتنازعون كيف يتعاملون معها.

ولعل من يدخل في النزاع دخول الحاذق الفطن سيلتفت إلى الأسباب والدوافع التي كانت وراء تأجيجه وإذا درس الأسباب سيتوصل إلى طرق جيدة للحل أيضاً فإن قانون السببية الحاكم في الأشياء يقضي بعدم وجود مشكلة لا تقبل الحل أو التحجيم. لكن إذا عرفت الأسباب والدوافع..

القواسم المشتركة

1- إن العديد من الناس يتخوف من النزاع ويعده شكلاً من أشكال الحرب والقتال مع الآخرين هذا التخوف من أهم الاسباب التي تتوفر في أكثر النزاعات وتزيد من تأجيجها لأن في الحرب ينقسم الأطراف عادة إلى قسمين.، طرف منتصر وآخر مهزوم.،.، وفي أكثر الحروب يدوس الأطراف على المبادئ والقيم ويخرقوا القواعد الأخلاقية النبيلة من أجل كسب النصر.، لأن الهدف الأولي الذي يريده كل طرف محارب هو التحكم بالآخر وفرض إرادته عليه وهذا يتطلب أن يستخدم الأطراف كل الطرق المتاحة لتحطيم الخصم والقضاء عليه شخصاً أو شخصية (إلاّ القليل طبعاً).

وعلى هذا الاحساس تنمو مشاعر الخوف والقلق وتزداد الحاجة إلى رفع مستوى القدرة كما تزداد الوسوسة والتشكيك بكل خطوة يخطوها الطرف الآخر عديم القيم والأخلاق في نظر الخصم ومع هذا الخوف والقلق تتوالد التراكمات النفسية والعصبية وتكبر الضغائن التي سرعان ما تنفجر بأدنى ملامسة أو إحتكاك.، هذا أولاً.،.، وثانياً.،.، (تأجيج النزاع)

2- في الغالب لا يوجد طرف واحد يتحمل مسؤولية تصعيد النزاع وعليه تقع كل تبعاته ويبقى الطرف الآخر خال من أي ذنب أو تقصير بل تؤكد التجارب والدراسات الميدانية للأزمات أن النزاع لا ينشب مالم تكن هناك عوامل مساعدة.،.، تنضم إلى الدوافع والأسباب فتزيد فيه اشتعالاً.،

قد توجد بعض الأطراف تحمل دوافع نفسية للنزاع والخلاف وقد توجد بعض الأطراف تجد مبررات للنزاع سواء في المصالح أو الأفكار إلا أن صاعق التفجير يبقى بيد الطرف الآخر الذي يتعامل معها.،.، فان العديد من الأفراد يهيئون للآخرين الفرص السانحة لإعلان الحرب.،.، وبذلك يكونون قد ساهموا في تأجيج المعركة بدلاً من حلّها.،.، فأن من الواضح ان كل طرف يحب مصالحه واهدافه ويسعى لتحقيقها.،.، ومع انه قد يجد أن الطريق الوحيد أو المناسب (على الأقل) للوصول إليها هو الحرب إلاّ أنه يبقى يتخوف من ويلاتها ومضارها وما يترتب عليها من التبعات والمسؤوليات.، ومن هنا فإنه يترقب الأحوال ليتجنب قرار البدء والتفجير.،.، فإذا وجد الأرضية المناسبة دخل المعركة وعندها سيجد لنفسه وللآخرين مبرر النزاع ويلقي باللوم على خصمه لأنه هو الذي سبب ذلك.، ولعلَّ القاعدة المعروفة التي تقول: أن السبب أقوى من المباشر.،.، تنطبق في بعض هذه الحالات فأنك إذا لاحظت

العديد من النزاعات تجد أن المتنازعين يتذرعون بهذه وأمثالها من الحجج وبالتالي فأن الذي قدح الشر واستفزّ كوامنه يدخل سبباً من أسباب الحرب بصورة وبأخرى.، صحيح أن بعض المعارك بدأت من طرف واحد وكان فيها طرف ظالم وآخر مظلوم.، إلاّ أن الغالب الذي نجده في العديد من النزاعات ان المظلوم اعطى بيد الظالم سلاح المعركة وهيأ بعض الأجواء للدخول فيها.، فعلى الوسطاء المصلحين أن يدرسوا محفزات النزاع أيضاً عند دراستهم للأسباب.، ليمسكوا بمفاتيح الحل بشكل أفضل.،

التفكير في البدائل

3- ان العديد ممن خاض النزاع لم يخضه حبّاً به أو شوقاً إليه.،.، إلاّ أنه وجده طريقاً وحيداً أو مناسباً لتلبية الأهداف والطموحات ولعلهُ لو وجد طريقاً وسطاً يضمن له المصالح ويجنبه اضرار الحرب لما دخل فيه.،.، وهنا قد تجد المقولة المعروفة في (قواعد الحرب) مصداقيتها.، المقولة التي تقول: (أن الحرب قد تكون سبباً من أسباب السلام أيضاً) ومعناها: ان الحرب سلاح وليست نهجاً.،.، ووسيلة وليست غاية والعديد من الأطراف عندما تغلق أمامهم طرق الحوار أو تعجز لغة المنطق تكون الحرب الوسيلة الوحيدة للتفاهم فيما بينهم إذ لا يجدون امامهم طرقاً أخرى أو طرقاً أفضل.،.، ومن هنا نجد أن وراء أكثر الحروب المستمرة اطراف تتحاور وتتفاهم، ونحن وإن كنّا لا نؤيد هذه المقولة بشكل عام إلاّ أنه لا مجال لإنكار أن النزاعات في الغالب تنشأ بسبب عجز الأطراف عن الحلول السلمية إذ تتصاعد الأزمة وتزداد الدوافع ثم تنفجر بشكل أو بآخر ليفرض كل طرف ارادته على الآخر بالعنف مهما أمكن.، ولذلك علينا أن نلتفت إلى ان العديد من الأطراف ليسوا بذاتهم عدوانيين أو عديمي الأخلاق والقيم فيميلون الىالحرب دائماً بل قد يدخلون الحرب لأنهم يجهلون الطرق الوسطى (أو سبل الوصول اليها) التي تجنبهم ويلاتها وفي نفس الوقت تضمن لهم مصالحهم أو تحقق لهم أهدافهم وما دامت هناك طرق سلمية لمعالجة الأزمات فأن الحرب آخر الدواء في نظرهم.،

وعليه ينبغي أن نفكر دائماً (كأطراف أو وسطاء) في البدائل الصحيحة ونضع أمامنا خيارات عديدة مفتوحة على السلام.، فربما يضمن الإنسان نفسه في أنه لا يتخذ قراراً في الحرب مهما كانت النتائج أما نكراناً للعنف أو تجنباً لاضراره أو قل أنه قد يعرف كيف يتعامل مع الازمة بطريقة حكيمة إذا انسدت في وجهه الأبواب إلاّ أنه لا يضمن هذه الحكمة في طرفه الآخر.،.، ولا يعرف بالضبط

كيف سيتعامل الآخرون مع الامور إذا وجدوا الطرق مسدودة أمامهم.،.،

إذن وضع الخيارات العديدة والتفكير في البدائل الســــلمية ومحاسبة الاحتمالات في الفعل ورد الفعل يسدّ على الحرب أبواباً ويفتح أبواباً واسعة للسلام.،

خطوات وحلول

* لعل من الصعب أن نتصور وجود جماعة بلا اختلاف.،.، كما أن من الصعب أن نرى العالم متطوراً متكاملاً بلا وجود صراعات في بُعديها الإيجابي أو السلبي فان الصراع غالباً ما يحفز الدوافع للثبات والوقوف بقوة وتصميم وإرادة ولولاه لفترت كثير من الهمم وتعطلت الكثير من الطاقات والإبداعات.،فأن من الواضح أن التطور والنجاح يتوقف على الإرادة الحديدية وهي لا تنمو وتكبر مالم تشدها الإبتلاءات والمحن والمصاعب.،.، فان مواقف الصراع بشكليه يفجر مخزوناً كبيراً من الطاقة لدى البشر يمكن أن يكون قدرة عظيمة إذا وجهت بالإتجاه الصحيح كما أن محاولات التوفيق والمصالحة بين المصالح والحاجات والأهداف الكبرى يشكل منبعاً أساسياً للأفكار الخلاَّقة والحلول المبدعة والإرادة القوّية.،.، وعليه فأن من الحكمة أن ننظر إلى الصراع نظرة إيجابية متفائلة إذا خططنا لتوجيهه واستثماره بالشكل المطلوب.، وعندما نخاف من مخططات الصراع أو نتعامل معها كما نتعامل مع الحرب فأننا نكون قد فقدنا إمكانية

التعرف عليه حقاً فضلاً عن إستثماره.، وهذه أول خطوة بإتجاه الفشل.،.، اترى يوجد اشدّ من النار ضراوة ووطأة.، إلاّ أن التخوف والهروب منها يزيدنا خسارة فوق خسارة إلاّ أن التعامل معها بشكل إيجابي صحيح يعطينا من الأرباح الشيء الكثير.، والأمر نفسه يجري في الدواء وغيره وهكذا.، إذن.،.، علينا أن نفكر في أسباب الصراع ودوافعه قبل أن نحكم عليه،.، وعلينا أن ندرس سبل توجيهه وإستثماره قبل أن نخوض فيه .، وبذلك نكون قد خطونا أول خطوة باتجاه الحل.،

إدارة الأزمة

* والخطوة التالية.،.، ان نعرف أن منبع الصيغ المختلفة للمعارك والمنازعات بين الأطراف والخطوط والجماعات ليس التعددية والاختلاف في الآراء والمذاهب بل المنبع هو أساليب التعامل مع الإختلاف وطرق إدارته.،.، فإن التنوع والإختلاف أمر لا مهرب منه (كما قلنا) وعلينا أن نفكر كيف نتعايش معه ونديره ثم نستثمره للأفضل بدلاً من الهروب منه أو الخوض في تأجيجه.،.،

ولعل من أهم مقومات إدارة الصراع التوفر على قسط كبير من الثقة والطمأنينة بين الأفراد والجماعات فأن الكثير من حالات الإنفصال والخصومة ناشئة من إنهدام جدار الأمان والوثاقة بين الأطراف.،.، فإذا وفرناها سنكون قد هيأنا فرصاً أكبر للحلول.،.، ومن الواضح أن الوثاقة بالخصم لا تحصل من الهواء بل لا بد أن تجتمع مجموعة ضخمة من خصال النبل والفتوة فينا وفي أصدقائنا حتى نتمكن من زرع الثقة في الأوساط.،.، وربما في خصومنا أيضاً (لان بعض الصفات موروثة).، ولعل من أهمها.،.، التدليل على صدق النوايا والواقعية.، بنهج واضح مستقيم وبتطبيق للمبادئ والشعارات والمشي المتواصل في سبيل الأهداف المثلى وعدم الإنجرار وراء هذه أو تلك من هوامش الامور وصغائرها أما ما يظهرنا بصورة المتراجعين فإن من أكثر ما يزيل ثقة الأفراد بنا ثم ثقتنا بأنفسنا فضلاً عن ثقة أطرافنا الأخرى فأن نكون على نهجين أو صورتين .،.، يمنع ثقة الناس بنـــا ويقودنا بالتالي الى الخسران.،

فان من الصعب على الناس ان يوائموا بــيــــن حالتين تبدوان متناقضتين أو متضادتين وإن كنا نجد لهما ما يبررهما ويفسرهما بالوجهة الصحيحة.،فان نكون واضحين في الخطوات والأهداف أفضل من أن تكون صورتنا مبهمة تثارحولها التساؤلات والشكوك.،.، وإن عاد علينا الوضوح ببعض الخسائر لقاء ما نحظى به من أرباح مادية ومعنوية وبالتالي فأن من يحتدم مع طرف واضح النهج والسلوك يجد للقيم مكانتها سيحصِّل ضمانا جيداً للنتائج وطرقاً مناسبة للحلول وان إحتدم النزاع وطالت مدته بعكسه اذا كان مبهماً غامضاً يتقلب مع الأمور كيفما إتفق.،

ومن الواضح.،.، ان هذه ليست قاعدة مطردة تجري في كل مكان ومع كل خصم إذ هناك إستثناءات تمليها طبائع النزاعات وخصوصيات بعض الخصوم.،.، فان بعض الخصوم لا يصح أن نكون معه واضحين من كل الجهات لأن هذا من شأنه أن يوفر له فرصة أكبر وافضل لضربنا والتأثير بنا.، والبعض الآخر يعدّ هذا ضعفاً وهزيمة فيتمادى في العدوان ويجرّ النزاع إلى التصعيد اكثر إلاّ أن هذا ليس قاعدة عامة أيضاً لذا فإنَّ من الحكمة بمكان أن ندرس جيداً طبيعة النزاع واسبابه وخصوصيات أطرافه مع أخذ شرائط الزمان والمكان والظروف العامة بنظر الاعتبار.،ولكن ينبغي أن لا ننسى أيضاً بأنه لازال العديد من المدراء والقادة والموجهين بل والدول أيضاً يعملون بحسن سمعتهـــم وقوة إعتــبارهم وحنكتهم ويتمتعون بدور فاعل في الأوساط واستطاعوا أن يحققوا الكثير ولم ينفقوا مالاً ولم يرفعوا سلاحاً سوى سلاح الرؤية الحاذقة والسيرة الحسنة والحكمة والتدبير.،

الشجاعة والوضوح

* لعل الكثير منّا خاض في بعض مراحله تجارب إصلاحية قام فيها بأنهاء نزاع أو تخفيف حدّته أو نجح في إصلاح بين طرفين متخاصمين.،.، وإذا تتبعنا بعض الخطوات الناجحة في هذا الإتجاه سنجد أن هناك نحوين من الشعور ينتاب اطراف النزاع عادة:

الأول: يحثهما إلى التواصل والتلاقي فان ضرورة معرفة الطرف الآخر وبِمَ يفكر وكيف يفكر وماذا يريد؟ تدعوهما إلى الحفاظ على بعض خيوط الربط مهما أمكن.،.،

الثاني: شعور بالرضا والسعادة بعد الصلح يحثهما نحو الإيجابية والتفاؤل والأمل من جديد بعد أن عاشوا أجواءاً من القلق والخوف ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا ان هذين الإحساسين يلازمان أكثر حالات الصلح والتفاهم الأول تفرضه أجواء النزاع والخصام والثاني تفرضه اجواء الصلح والسلام ويرى بعض علماء النفس: ( إن كثيراً من الأزواج يشعرون بالحب والتفاهم الأكبر مع شركاء حياتهم إذا إتفقا على الحل وصفّا العوالق بعد فترة خصام.،.، لأن الخصام قد يدعو كل طرف للتعبير عما يدور بداخله من هواجس وافكار وشعور بالنقص أو الحاجة.،.، أو الشعور بالشكوك والآلام حيال الآخر ومن ثم سيكون هذا الهيجان بوابة للحل إذ يتوصل كل طرف إلى تقدير مشاعر الآخر ورعايتها بالشكل المناسب للوصول إلى توافق تام وحل مشترك يرضي الجميع) وحيث أن الطبيعة البشرية واحدة لذا قد لا يختلف الأمر في الأسرة أو في المؤسسة أو ساحة العمل وإن اختلفت في بعض الأمور الاخرى ومع أن هذه ليست قاعدة عامة (كما أن هناك طرقاً أخرى للتعبير عن المخاوف والشكوك غير التصعيد والمشاحنة) إلاّ أنها تحمل بعض الحقيقة عند بعض الأفراد فإن الأحاسيس الكبيرة والمسائل المعقدة والخطيرة التي يحملها تجاه الآخرين إذا لم تجد فرصة للظهور فانها ستتراكم ثم تنفجر بشكل سلبي يصعب علينا تحجيمها أو تجاوزها.،

صحيح أن تجنب أو تأجيل المناقشات في بعض المشاكل والازمات واستيضاح جذورها وحلولها يوفر علينا في بعض الأحيان اعصاباً وجهوداً ونغطي على بعض العيوب وبالتالي فان التجاوز وغض النظر من أهم مقومات الإدارة الناجحة إلاّ أن مما يؤسف له أنه لا يصح الإعتماد عليه دائماً لأن تجاوز الخلاف وتجنّبه لا يحقق هدفه إلاّ إذا كان مدروساً ومتوازناً ومحسوباً في معادلات إدارية موثوقة أو لا يتمكن من إنجاحه إلاّ بعض المدراء الذين يملكون قلوباً كبيرة ونفوساً رحبة مع حنكة وقدرة جيدة على إزالة الضغائن ومحو آثار الخلاف وقليل من المدراء الذين يملكون هذه القدرة الكبيرة، لذا فان من الحكمة بمكان أن نمتلك شجاعة الفحص بصراحة ومنطقية عن الأزمات وندرس أسبابها وسبل حلّها ثم نقوم بشرحها وتوضيحها إلى الأطراف الأخرى لكي نغلق أمامهم وأمامنا طرق التصعيد أو المواجهة قبل الانفجار فان مواجهة المرض في أوائله ثم معالجته يؤمن لنا خطورة المواجهة بعد الإستفحال كما يوفر لنا جهوداً وفرصاً كثيرة نصرفها في البناء والتطوير.،.

التواصل ضرورة لابد منها

* وحتى نتمكن من تحقيق هذا الهدف (أي القضاء على الخلاف قبل أن يكبر) ينبغي أن ننفتح على أطراف الخلاف ونتواصل معهم (تواصلاً مدروساً) ونبادلهم الرأي في موارد الخلاف أو نقاط الإثارة.،.، فان القطيعة التامة وكتم الأمور في زوايا القلوب يحبس العقد ويزيد من تفاقمها ثم يسبب لنا ولخصومنا تراكماً كبيراً من الإنفعالات السلبية التي من شأنها أن تنفخ في نار الصراع.،

وقد أثبتت بعض التجارب ان حبس المشاعر وتجنب إثارة الحديث عن الصراع يسبب في العديد من الأحيان إلى ان ينحى تفكير الأطراف منحاً سلبياً يغيب فيه المنطق ويحكم الغضب فأن من طبيعة بعض الناس أن يصنع عن خصومه صوراً شديدة في مخيلته واوهامه وهذه الخيالات والأوهام قد تكون أشد خطراً وضرراً عليه من خوض النزاع نفسه.،.، لأنه سيكون صورة مكبرة ومضخمة عنه.،.، إن بمقدور كل واحد منّا أن يتذكر العديد من المنازعات التي خاضها بنفسه هو أو خاضها غيره وكيف بدأت تكبر ثم تكبر حتى خرجت عن حدها الواقعي بسبب القطيعة المستمرة وعدم التنفيس والتواصل.،.،

فأن كل طرف أخذ يحسب لطرفه الآخر ألف حساب ويخطط له مخططاً تلو الآخر ويتصور عنه تصورات هي في الكثير من الأحيان من نفخ الشيطان ووساوس إبليس إلاّ أنها زالت لدى أول لقاء أو حوار أو مفاتحة إن الارتياح الذي يحس به أطراف النزاع لزوال المخاوف والشكوك بعد المصالحة أجدى وربما اكبر من توترات القلق قبلها.،

لنترك الأوهام

 

* إذن بدلاً من أن نحسب لأطرافنا الأخرى ألف حساب وحساب قبل التثبت الدقيق ومدارسة الأمر فلنحسب للأوهام والهواجس بعضاً من الحساب لأنها في كثير من الأحيان تصنع من النملة جملاً ومن الحبة جبلاً.، وعندها توقعنا في شراك الأخطاء الكبيرة وتدفعنا للمشي في طريق لا يستحق المشي أو مقابلة الفعل أو رد الفعل بما هو أكبر وأخطر منه دون شعور وإلتفات.،.، وبذلك نكون قد خسرنا ليس في بعد واحد بل في أبعاد مختلفة بعد أن نكون قد سلمنا الخصم فرصاً كبيرة للأضرار بنا من حيث لا نحتسب فلنعط إذن كل شيء مقداره ونحسب للأشياء حسابها ولكن بحجمها الواقعي لا اكثر ولا أقل لأن الأوهام التي لا يتم تمحيصها ودراسة واقعها من خيالها ومقارنتها مع الواقع المدروس هي أيضاً ستصبح بعد فترة بسيطة مخاوف ودواعي قلق كبيرة خارجة عن قدرتنا وحكمتنا وبالتالي نفقد السيطرة عليها أو ضبطها كما نريد وهذه الهاوية التي نكون قد وضعنا أقدامنا باتجاهها باختيارنا نتيجة التسرع والارتجال.،

ولو لاحظنا العديد من النزاعات الشخصية أو الجماعية سنجد أن للأوهام دوراً فاعلاً في تناميها لأنها غالباً ما تكون وراء أحكام كل طرف على طرفه الآخر كما هي وراء تفسيره المنحاز ضد أفعال وتصرفات الآخرين الأمر الذي يدعو إلى إتخاذ مواقف أو قرارات تضر به وبالآخرين معاً.،.،

بينما نجد أن المحادثات المفتوحة والتي تتمتع بالصراحة والوضوح كانت سبباً في العديد من الأحيان لإكتشاف كل طرف طرفه الآخر وتفهم وضعه وتقدير مشاعره ومصالحه.،.، وكلنا نعرف كم من النتائج الأيجابية التي سنحصل عليها جرّاء هذا التواصل والإنفتاح.،.،فأن أول ما يصنعه التواصل والحوار المفتوح هو أنه يقطع الطريق أمام الشكوك والأوهام ويزيل الكثير من المخاوف.،.، ويذكرنا دائماً ان الأطراف الذين تأزمنا معهم هم أشخاص عاديون مثلنا، لهم أفكارهم وطموحاتهم ولهم نوايا طيبة ويريدون الإصلاح والخير للجميع والقليل النادر هو الذي يخرج كما تصورناه في بادئ الأمر من سوء النية وخبث السريرة والإندفاع نحو العدوان وقد أكدت القواعد الشرعية في الآيات والروايات والسيرة الشريفة بأن الأصل هو الصحة في الأقوال والأفعال إلاّ ما أخرجه الدليل.، فليس من الحق ان نحكم على الآخرين بأحكام مسبقة ونتجنب مواجهتهم والتحادث معهم للتعرف على حقائق الأمور عن قرب دون تثبت ويقين.،.، ولعل من المناسب أن نقترح.،.، إلى الذين إبتلوا بالأزمات ودوّختهم نــــزاعاتها.،.، أن يقوموا بين آونة وأخرى بزيارات أو يجتمعوا بالأطراف المتعاملة معهم من قريب أو بعيد سواء للمجاملة والإحترام أو لتبادل الآراء والتداول في الأمور التي يرونها مناسبة فإن هذه الزيارات والإجتماعات ستكون صمام أمان أو قناة تنفيس عن تراكمات الهموم والأوهام ولو بعض الشيء والفوائد التي ستترتب عليها عديدة يمكن إختصار بعضها في:

1- انها ستوضح لكل طرف حقيقة آرائه ومواقفه وبذلك يزول الغموض والقلق.،.،

2- إنها تحول دون إنفجار النزاع أحياناً قبل أوانه وربما تقضي على جذوره أحياناً أخرى بعد ان يطمأن كل طرف بحقيقة ما جرى ويجري.،

3- انها تهدئ من شدّة النزاع وتخفف وطأته على الطرفين.،

4- ربما تعطي فرصاً جيدة للتفاهم ثم التعاون والتنسيق وبذلك نكون قد بدلنا الحرب إلى سلام والخلاف إلى توافق.،.، 

والتشاور ضرورة أخرى 

*قد يستصعب البعض ان يفتش عن الحلول عند الآخرين اذا وجد نفسه عاجزاً عنها.،.، ولعل البعض يعدّه نوعاً من الهزيمة والضعف.،.، والأغرب منهما من يعدّه نقصاً أو عيباً إلاّ أن العاقل اللبيب هو الذي يفتش عن الحكمة أينما وجدت فأن الحكمة ضالة المؤمن.،.، وعلى الطرف النقيض من هؤلاء نجد الآيات والروايات الشريفة لأنها تدعو إلى التشاور ومشاركة الرجال في عقولها وايضاً السيرة المستمرة لعلماء المسلمين بل وسيرة العقلاء وذوي الشأن والبصيرة فأنهم لا يستصعبون على أنفسهم أن يسألوا الآخرين عن الحلول في مواقع الحيرّة كما لا يجدون أي حرج من إشراك الآخرين في البحث عن الخطوات الصحيحة والطرق السليمة الموصلة ليس إلى إنهاء النزاع فقط بل إلى كل أمر ذي شأن وخطورة.،.، وهذا ليس عيباً ولا ضعفاً بل النقص أن نخوض في نزاعات تجرنا إلى الهوامش وتبعدنا عن الجذور.،.،

والعيب أن ننشغل في أمور قد تشابه أعمالاً ليست من شأننا أو أخلاقنا وقيمنا.،.،ولا ننسى أن العديد من النزاعات تخوض في الباطل وفي مجالسها توجد شبهة مجالس البطالين.،.،

وعليه فإن اللبيب هو الذي يبحث عن الحل.،.، فأن عجز عنه كُلاً أو بعضاً.،.، فإن الحكمة والعقل يدعوان إلى عقد مجالس مشاورة وتداول مع اطراف أخرى محايدة أو منصفة من كلا طرفي النزاع للوصول إلى الحل ومضافاً إلى هذا لا تخفى علينا النتائج المربحة الكبيرة التي سنحصدها جراء هذه المشاورات لأنها ستعود علينا:

1- بإظهار حسن النية والجدّية في طلب الحل وهذا امر من شأنه أن يعكس نظرة إيجابية إلى الطرف الآخر أيضاً فيهدئ من قلقه ويطفي بعض ضغائنه.،

2- أنها قد تدعو الطرف الآخر للتفكير جديّاً أيضاً من أجل إيجاد صيغة مقبولة للحل وبهذا نكون قد هيأنا دافعين في الطرفين إلى التقارب والتفاهم مما يزيد من نسبة النجاح.،

3- وإذا لم يتحقق كل ذلك نكون نحن قد حصلنا على وسطاء جيدين أو أعوان قد يفهموننا جيداً ويحترمون ما نريده ونتطلع إليه الأمر الذي يعطينا قدرة أكبر على مواجهة الأزمة بثقة وإطمئنان ومن المعروف بين أهل الرأي والمشورة ان اصعب الأزمات وأكثرها خطورة تسهل أمام أهلها إذا خاضوا فيها جماعة بعد تشاور وتداول والعكس صحيح أيضاً لأن الأشياء تعرف بأضدادها.،

كيف نعالج الأزمة؟

* إنّ من أهم طرق معالجة الأزمات.،.، إدارتها.،.، ولعل أول خطوة بأتجاه إدارة الأزمة هو توجيهها ولا نعني بالتوجيه المعنى السلبي وان كان هو الآخر سلاحاً أيضاً يمكن أن تستخدمه الأطراف التي تميل إلى السلبية أو ترى مصالحها في تأجيج النزاع.،.، إلاّ أننا نقصد به التوجيه المثمر فعلاً في حل النزاع.،.، التوجيه الذي يمارسه ذوو الحكمة وأصحاب الأهداف الكبرى الذين يسعون للإصلاح والبناء والتقدم.،.،

مما لاشك فيه أن التوجيه الإيجابي هو المتسم بالعقلانية والإيجابية والإنصاف.،.، ويبدو أن من يمارس العواطف ويحكّم الانفعالات في خطواته وتصرفاته لم يدقق النظر في إدعائه الإيجابية.،.،

ومن يقوم بدور المهزوم الذي يثبط العزائم وينظر إلى الأمور بنظرة سلبية متشائمة لا يحمل القدرة على الحل، أو الآخر الذي يدّعي أن الحق حقّه فقط وأن الباطل مع غيره فقط هو الآخر مثله.،.، صحيح أنهم يديرون نزاعهم إلا أنه بطريقة معكوسة تبتعد يوماً فيوماً عن النهاية.،.، ومن الواضح أن إدارة النزاع بطريقة سلبية أمر لا يكلف الكثير من الحكمة والبصيرة فأن العواطف والإنفعالات سريعة الإثارة إلاّ أننا ينبغي أن نعرف أنها خطيرة العواقب أيضاً.،ولا اظن أحداً من العاملين المخلصين يميل إلى التوتر وإثارة الشحناء أو يحب أن يصرف عمره في أمور قد تضر دينه أولاً ثم دنياه.،لذا ينبغي أن نفكر بطريقة إيجابية فيها من الحكمة والتدبير أكثر مما فيها من العواطف والأحاسيس.، والحكمة وحسن التدبير لا يتوفران في الأجواء المتنازعة مالم يحكم فيها التعقل والإيجابية والإنصاف.،.، وأن كل شخص فينا ينظر إلى ما له وما عليه وما هو الصحيح وما هو الخطأ وما هو المقرِّب إلى الهدف وما هو المبِّعد منه وبالتالي التفكير فيما يصب في الصالح العام ومصلحة المجموع.،.، هذا أولاً.،

أمور لابد أن نعرفها

* وثانياً: علينا أن نوفر في أنفسنا القدرة الرشيدة على إدارة النزاع.،.، ولا نقصد من القدرة قدرة الإنجاز والتنفيذ أو قدرة إستثمار الأموال أو النفوذ من أجل مواصلة أو إنهاء النزاع.،.، بل نقصد القدرة التي تتسم بالنضج والواقعية وتتحكم بالأمور بلا خسائر واضرار أو مع الأقل منهما.،

وقد تكون أول خطوة في هذا الإتجاه أن نعرف أولاً:

ماذا نريد نحن وماذا يريد الخصم؟ وماذا يهمنا وماذا يهم الخصم واين مربط الفرس الذي شب النزاع من أجله.،.، فأن معرفتنا بماذا نريد يوفر لنا فرصاً جيدة لتفهم طرق الحل لأنه سيساعدنا كثيراً على تشخيص الأولويات في حساباتنا وما هو الأهم وما هو المهم وبالتالي يعرفنا أين نقف بثبات واين نكون مرنين.،.،

أين نركز في حديثنا وأين نمر مروراً وعلى هذا الأساس من المعرفة والتشخيص سيكون لنا قدرة جيدة على تقديم هذا الخيار أو ذاك.،كما ان تشخيص ماذا يريد الخصم.، سيعرفنا على أولوياته وما يضره وما ينفعه والنتيجة أنه سيوفر لنا بدائل جيدة للتفاوض معه وطرح الخيارات التي تساعد على التفاهم وإرضائه أو إقناعه بها.،

إذن.،.، إذا عرفنا ماذا نريد وماذا يريد طرفنا الآخر سنستنتج افكاراً مبدعة وقواعد ناجحة في التخطيط الخلاّق تدلنا على أفضل الأساليب في التدبير والعمل على إنهاء النزاع بطرق سلمية وناجحة ترضي الطرفين وربما تبدل الخلاف إلى تعاون وتنسيق إذا درسنا جوانبها الأخرى.، ليس هذا فحسب بل أن تشخيص أولويات الخصم قد يساعد كثيراً على حسن تخطيطنا لأنفسنا ويزيد من قوتنا ونجاح مشروعنا وعملنا.، ويختصر امامك الطريق للوصول إلى القدرة الكبرى والمستوى الأرقى فان من يريد السلام مع خصم كبير يخشى الحرب يوفر له مجالاً جيداً لإستخدام دبلوماسية منطقية ضاغطة مع استعراض للقوة يغمز بالـــسيطرة والقدرة والعلو وإن كان لا يعتقد بالعنف ولا يؤمن بأنه الطريق الأفضل إلى الحل.، ولعل في قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة...) وغيرها بعض الإشارات إلى هذا المضمون.،.،فأن الأستعداد بذاته قوة وان كنا لا نميل إلى ممارستها.،.، هذا من جهة ومن جهة أخرى فأن هذا الاستعداد سيدعونا الى الظهور بالمستوى اللائق الذي يعطينا مكانة ونفوذاً كبيرين وهو الآخر سيدفعنا إلى العمل على رفع مستوى القوة والقدرة عندنا في مجال التنظيم والإدارة والمزيد من ترابط المؤسسات وجبهوية العمل وغيرها من وسائل القوة فضلاً عن الوسائل الأخرى النافعة في سياسة الردع.،.، كما أن الخصم العنيد والواسع المنتشر الذي يتخفى وراء سمعة جماهيرية كبيرة يمارس من وراءها سياسة سلبية ظالمة، سيعطينا هو الآخر مجالاً لممارسة دبلوماسية مع قوة إعلامية يمكن ان تنزل إلى حلبة المعركة فتزيل عنه أقنعة كثيرة بذل الكثير من اجل إيجادها فلننظر:

ان هذه المعرفة وفـّرت لنا مجالاً أكثر للتعرف على اسلوب عملنا أيضاً إذ ينبغي في هذه الصورة التركيز على المؤسسات الإعلامية وإيجاد علاقات مع صحفيين وصحف وإذاعات أو تأسيس بعضها إن أمكن وهكذا وبالتالي فإنّ الخصم والخصومة قد تدلنا على نقاط ضعفنا ونقاط قوتنا وتضع أقدامنا بالاتجاه الصحيح في الأساليب والتكتيكات.. ونستخلص من هذا إذن أن التعرف على ما نريد نحن.. والتعرف على ما يريده الخصم يوفر لنا مجالاً أكثر للتعرف على أسلوب عملنا ويوصلنا إلى طرق إيجابية تمكننا من إدارة النزاع والتحكم فيه بشكل إيجابي يقودنا جميعاً إلى الحل المرضي الذي يضمن للكل حقوقه..

ومن هنا يرى البعض أن الصراع بشقيه (الإيجابي والسلبي) قد يقود إلى التطور والتكامل، إذا عرفنا كيف نتعامل معه..