مجلـــــة النبـــــأ      العــــدد  27       السنــــة الرابعــــة       شعبــــــان  1419 هـ

 الــــلاعنــــف

 ضــرورة .. أم إختيــار


حيدر حسين الكاظمي

إن الدين الإسلامي دين قام على أساس الإيمان بالعقل والوجدان ولا يمكن أن يتم ويتحقّق هذا الإيمان للإنسان عن طريق القهر والإكراه وإنما بالحجة البالغة والبرهان ولذلك قال تعالى:( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة/256.. كما قال تعالى:( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس/99..

وإن روح الإسلام ومبادئه العامة إنما تدعو إلى العفو والتسامح والسلم والمحبة الشاملة قال تعالى:( أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه وليّ حميم) وقال سبحانه:( يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كافة..) البقرة/208..

ومن المعروف أن النفس الإنسانية اقرب للسلم من العدوان وأقرب لتقبّل الحقائق بالقناعة العقلية من القوة والإكراه والعنف... والله أعلم بها إذ قال جل وعلا:( كتب عليكم القتال وهو كره لكم) البقرة/216.. ونتيجة لما تقدم نجد أن الإسلام لا يجيز القتال للعدوان إنما يجيزه دفعاً للعدوان وللظلم وحماية الدعوة ومنعاً للفتنة وقد جاءت الآيات التي تحثُّ على القتال جاءت معها مبيّنة الأسباب التي دعت من اجلها للقتال ومنها: دفع العدوان - حماية الدعوة - حماية المقدسات - إنقاذ المسلمين ... الخ .. والواقع أن غير المسلمين في عهد الرسول (ص) أمعنوا في إيذاء المسلمين فتنة لهم حتى يخرج من دخل في الإسلام وحتى يصدّوا عن الإسلام مـــن يريد الدخول فيه أي أنهم كانوا يعملون على الوقوف في وجه الدعوة والداعين والمستجيبين إليها ولذلك أوجب الله على المسلمين قتال هؤلاء المعتدين وفي ذلك يقول تعالى:( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله) ويقول تعالى:( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين) .

لذلك نرى أن الأصل وقبل كل هذا أن الإسلام عقيدة وشريعة تنطوي إلى نظام اجتماعي معين فهو كعقيدة ذو سبل سلمية لأنه يدعى إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ولأن العقائد لا تدخل في النفوس إلا عن طريق الإقناع والبرهان ولهذا أوجب الشارع المقدس حفظ العقائد ومعرفتها وإثباتها إثباتاً عقلياً وليس تقليداً كما في فروع الدين وأما التشريعات والنظم الاجتماعية فيمكن أن يلعب الإقناع والقوة دوراً فيها حسب طبيعة النظام الاجتماعي المشرع وللحجة أن تقول: «إن هناك عملاً لا يقوم به السيف كما أن للسيف عملاً لا تنهض به الحجة»(1) على أننا لو لاحظنا بدقة هذا التقسيم بين الإقناع والسيف لوجدنا أن أغلبها كانت خاضعة للإقناع بينما كان السيف والعنف هو الاستثناء وما العنف إلا تعبيراً عن خذلان الإقناع والعقل أن يأخذا مجالهما في نفوس الناس إما لضعف الحجة وإما لتوهّم الناس عن أصل الحقائق ومن هنا كانت نهضة الرسول (ص) للإسلام في بدايته جاءت وفق نظرية اللاعنف بينما صار الاستثناء هو القوة ... يقول سيدو الوزير الفرنسي الأسبق وواحد علماء الغرب المنصفين في كتابه )خلاصة تاريخ العرب( والذي تضمّن اعترافاً مشكوراً بما قدّمه المسلمون للعالم من ثمرات نشاطهم العقلي الحر وليس الحربي «أتى النبي(ص) فربط علائق المودة بين قبائل الجزيرة العربية ووجه أفكارهم إلى مقصد واحد أعلى شأنها حتى امتدت سلطانها من نهر التاج المار بإسبانيا والبرتغال إلى نهر الكنج وهو أعظم أنهار الهند وانتشر نور العلم بالشرق والغرب وأهل أوربا إذ ذاك في ظلمة القرون الوسطى وجهالتها»(2).

ومن هنا كانت نهضة الإسلام ولا جدال أن تاريخ الإسلام الأول لم يعرف الاضطهاد لحرية الفكر والعلم الذي عرفته أوربا... ويذكر أن عدد الذين عوقبوا في أوربا بلغ ثلاثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألف أحياء منهم العالم الطبيعي برونو وعوقب العالم الشهير غاليلو بالقتل لأنه اعتقد بدوران الأرض حول الشمس وحبس دي رومنس في روما حتى مات ثم حوكمت جثته وكتبه فحكم عليها بالحرق والقي في النار لأنه قال: «إن قوس قزح ليس قوساً حربية بيد الله ينتقم بها من عباده إن أراد بل هي انعكاس ضوء الشمس في نقطة الماء»، وأصاب جيوفت في جنيف وتايتي في تولوز ما أصاب هؤلاء وَحُرقا شيّا على النار لآراء لا تستوجب حتى التغرير إن لم نقل تستوجب التقدير والاحترام.

ومن هنا نرى أن أوربا لم تبدأ نهضتها الحضارية إلا بعد أن اكتسبت من الإسلام نظرته الحضارية في حرية الرأي والتعبير والتفكير.. وعندما ينتهي ويموت العنف والتسلّط في أي بقعة من الأرض فإنه بلا شك يحيا وتبدأ ثمرات الإبداع بالنمو والظهور على سطح البسيطة.. وما أن بدأ للأسف الشديد العنف يأخذ دوره في سياسة حكام المسلمين الظالمين حتى قضي على حركات الإبداع والتطوّر الذي كان يخدم الإسلام كماً ونوعاً وفي كل زمان ومكان..

ومن الظاهر أن الإسلام وعبر نظريته في حرية الفكر والعقيدة والحياة قدم للإنسانية أروع النظريات التي لا زالت تؤخذ كدستور في كثير من بلدان العالم المتطوّرة فقد بدأت هذه النظرية واضحة المعالم في كثير من صور القرآن الكريم.

ففي مجال الحرية الدينية.. حيث اعتبر أن الإيمان الصحيح المقبول يجيء وليد يقظة عقلية وإقناع قلبي انه استبانة الإنسان العاقل للحق ثم اعتناقه عن رضا ورغبة يقول جلا وعلا:( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (الكهف: 29).. إن الحرية الدينية في هذا المفهوم القرآني لا تعدو الشرح والبيان واستخدام القلم واللسان في تحبيب دينه للناس وترغيبهم في قبوله، وانه حتى وهو يخاطب أعلى سلطة دينية في الأرض متمثّلة بشخص النبي(ص) في أول وحي له خاطبه بلغة لا العقل والبرهان والبيان قال تعالى :( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق أقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم) (العلق: 1-2)، ويرسم لرسوله الكريم خطوطه الواضحة في التبليغ ( نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) (ق: 45)، ويقول له:( لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما اعمل وأنا بريء مما تعملون) (يونس: 22)، ويقول له :( لكم دينكم ولي دين) (الكافرون: 6).. هذه الآيات وأمثالها مما تردَّدَ صداها في صدر الإسلام لتعبّر عن طبيعة السياسة التي سادت آنذاك وظلت هي هي تتردِّد في أواخر العهد المدني ليخاطب بها كل إنسان في الإسلام وهو لم يفرض على النصراني أن يترك نصرانيته أو على اليهودي أن يترك يهوديته بل طالب كليهما -وما دام يؤثر دينه القديم- فإن الإسلام يدعه وشأنه يعتنق من يعتنقه دون تهجم مُر أو جدل سيء أو عنف -كن مسيحياً أو يهودياً- ولكن لا تكن خصماً للإسلام وتتمنّى الشر بالإسلام وتتربّص بالمسلمين الدوائر، وإذا ما استفحل في نفسك الكره لهذا الدين فاحذر أن يتجاوز فؤادك إلى الحياة الخارجية عراكاً مسلماً أو تدميراً للدين فحينها أنت الملوم.. ( قل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) (آل عمران: 2).. والواقع أن الإسلام لم يشتبك في قتال مع النصارى واليهود إلا بعد أن وصل هؤلاء إلى منزلة في السلوك والسياسة عرّت عن حفظ العهد والعدالة وتبعّدت عن مرضاة الله، ومع ذلك فإن القتال الذي وقع لم يشترط الإسلام لانتهائه شروطاً تخرج الناس عن الحق كما يتصوّرونه بل اشترط -العدل - الرحمة - تعاون الأديان - حسن الجوار - وكرم اللقاء- بل أنها تتسع للمؤمنين ولمن لا يدين بدين أيضاً.

إن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض لم يُعرف لها مثيل في القارات الخمس ولم يحدث أن أنفرد دين بسلطة ما ومنع مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار مثل ما صنع الإسلام. إن الجو الذي ينتظر ميلاد الإيمان الصحيح فيه هو -جو- الحرية النبيلة والطمأنينة الشاملة وهو ما ينشده الإسلام للناس كافة قد يؤمن بعض الناس بالرشوة وقد يؤمن البعض الآخر بالسيف والآخر بالسجن والاعتقال والتعذيب، ولكن يبقى المثل الأعلى الذي رسمه القرآن الكريم للإيمان هو التفكير الهادئ والواعي في آفاق الأرض والسماء يعود المرء منه وهو معلّق القلب برب السماء والأرض.

ولقد كفل الإسلام الحرية والكرامة ليس على نطاق الأديان فحسب بل على نطاق أفراده أيضاً فهذا هو المملوك وهو يمثل الطبقة الاجتماعية الأقل امتيازاً في المجتمع نرى أن الإسلام لم ينظر إليه على أساس وضعه الطبقي ولكن نظر إليه على أساس وجوده الإنساني، ووظيفته العملية فنرى الرسول(ص) يعلم أمته وصحابته هذه الدروس في معاملة أصحاب هذه الطبقة وليضع الحد الفاصل بين ظلم وقسوة الجاهلية وعنفها وبين سماحة الإسلام وقيمه النبيلة.

شواهد عملية

روى أبو داود بن سويد، قال: دخلنا على أبي ذر بالربذة فإذا عليه بردة وعلى غلامه مثلها فقلنا: يا أبا ذر لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلّة وكسوته ثوباً غيره؟ قال أبو ذر: سمعت رسول الله(ص) يقول:«هم أخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليكسه مما يكتسي ولا يــكلفه ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فيلعنه» (البخاري: ج1/ص130).

وقال رسول الله(ص): «من ضرب مملوكاً ظلماً قيد منه يوم القيامة» (الطبري: ج1/ص203)، فكانت هذه من أوجه الحرية التي كفلها الإسلام لعامة طبقاته ونبراس عدله فيهم ولم يجعل السيف والسوط هو الحكم - فمتى حمل السيف والسوط حرم الآخرين حرية العقل والضمير- وهذا أمير المؤمنين(ع) له موقف معبّر عن هذه القضية في موقفه مع الخوارج فقد بعثَ إليهم عبد الله بن عباس(رض) فناظرهم فرجع إلى صفوف علي(ع) أربعة آلاف منهم وأصرّ أربعة آلاف آخر على عدم الرجوع فأرسل إليهم قائلاً:«كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دماً حراماً ولا تقطعوا سبيلاً ولا تظلموا أحداً فإن فعلتم نبذت إليكم الحرب .. ثم قال مرّة أخرى: لا نبدأ بقتال ما لم تحدثوا فساداً» (شرح: ج2/ص156). فلقد رغبَ أمامنا (ع) أن يدع هؤلاء الناس ورأيهم -مهما ساء فيه- على أن لا يحدثوا على الدول شغباً وألا يظلموا من الناس أحداً وهذا تصرف حق وما عرفت أعرق الدول حرية مثلها، وهذا هو منطق الفكر ومنطق العقل لدى الإسلام في معالجته لكثير من القضايا التي تعرّضت في مسيرته الإنسانية سواء على صعيد العقيدة أو على صعيد الدين أو على الصعيد الاجتماعي والإنساني، فبينما نرى تلك النظرة الإنسانية إلى المملوك التي أوصى بها الإسلام نرى بالمقابل أن أوربا عندما اتصلت بأفريقيا السوداء كان هذا الاتصال مأساة إنسانية عَرَّضَتْ من خلالها الزنوج لبلاء هائل طوال خمسة قرون.. تقول دائرة المعارف البريطانية:«إن اصطياد الرقيق من قراهم المحاطة بالأدغال كان يتم بإيقاد النار في الهشيم الذي صنعت منه الحظائر المحيطة بالقرى حتى إذا نفر أهل القرية إلى الخلاء تصيّدهم الإنكليز بما أعدو لهم من وسائل. وكان يموت في الشحن حوالي 4.5% و125 في أثناء الرحلة أما الذين يموتون بالمستعمرات فلا حصر لهم فإن مستعمرة جامايكا البريطانية وحدها قد دخلها سنة 1820م ما لا يقل عن 800 ألف رقيق ولم يبق منهم في تلك السنة سوى 340 ألف. وكانت الملكة إليزابيث الأولى تشارك في إعارة التجار بعض أساطيلها وكانت شريكة لـ (جون هوكنز) أعظم نخاس في التاريخ وقد رفعته إلى مرتبة النبلاء إعجاباً ببطولته وكأنه كان يتصيد لها الأسود... وجعلت شعاره «رقيقاً يرفل بالسلاسل والقيود»(3).

الرقيق وحقوق الإنسان

ومن المفارقات الطريفة أن السفينة التي أعارتها لجون هوكنز كانت تسمى (يسوع) لذلك نرى هذه المفارقة الواسعة والشاسعة بين ما نص عليه الإسلام من تعاليم وبين ما كان من أفعال عند غيره في ذلك العصر، وهكذا سبق الإسلام القوانين الوضعية في كل ما ذكر ولم يترك صغيرة ولا كبيرة من تعاليم الحرية واصطلاحاتها لفظاً ومعنىً وتطبيقات إلا بيّنها سواء ما ورد منها على صعيد علم السياسة أو الدساتير الوضعية أو إعلان حقوق الإنسان مع ثلاثة فروق هي:

1- إنّ الإسلام سبق القوانين الوضعية كلها في إعطاء هذه الحريات وبيانها وتقدير العقاب على من عاقبها.

2- إن الإسلام اكثر حرية وأوسع حتى أن الحريات الموجودة فيما يسمى بالعالم الحر لعلها لا تصل إلى عُشر الحريات الإسلامية.

3- إن الإسلام يلتقي مع الدساتير الوضعية في كثير من الأمور ويختلف عنها في أمور أخرى(4)...

أما الأمور التي يتفق معها فدائماً يلاحظ التعبير الإسلامي سواء في القرآن أو السنّة اكثر دقّة وأبعد غوراً وافضل أداءً للمعنى المقصود من التعبيرات الدارجة والمستعملة في عصرنا هذا والتي وضعها جملة من العلماء المفتيين والمشرعين بعد تنقيب واقتباس من الإسلام أيضاً إذ لا يخفى أن القوانين الإسلامية انتقلت بسبب علماء الأندلس إلى البلاد الغربية بالإضافة إلى ما ترجم لهم من الكتب الإسلامية وأما الأمور التي يختلف الإسلام فيها مع القوانين الوضعية فدائماً نجد أن رأي الإسلام هو الأسلم والأصح للفرد والمجتمع فمثلاً جملة من القوانين الوضعية تبيع الزنا واللواط والخمر والقمار واستعمال المخدرات والهيروين مع وضوح أن كل ذلك ضار ضرراً بالغاً حتى أن عقلاء الغرب يرفعون أصواتهم بوجوب الكف عن هذه الأمور ومن هنا نرى أن البلاد الغربية بعضها: تحلل وبعضها تحرّم وحتى أن البلد الواحد أحياناً يحرّم وأحياناً يُحلل.. مثلاً أن أميركا حرمت الخمر مده ثم حللتها تحت ضغوط الرأسمالية المنحرفة ولا علاج للعالم أن يستردّ كرامته وحريته وسيادته وعزته الإنسانية إلا بالرجوع إلى الحريات المقرّرة في الإسلام حســـب الموازين المذكورة في الكتاب والسنة الشريفة(5).

ولقد أعطى الإسلام للإنسان حرية الفكر وحرية القول وحرية العمل لكن في إطار المعقولية ولقد حدّد الرسول(ص) -كل فكر- وقول وعمل بعدم الضرر وقال(ص): «لا ضر ولا ضرار في الإسلام» ومن الروايات المتواترة أيضاً نرى إلزام الإسلام كل أهل ملّة أو دين بما يلزمون به أنفسهم حيث يقر بحرية الدين وما روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال سألته عن الأحكام؟، قال (ع): تجوز على أهل كل ذي دين بما يستدلّون. وفي رواية أخرى عن أبي الحسن(ع)، انه قال: «ألزموهم بما التزموا به»، وقوله (ع): «كل قوم دانو بشيء يلزمهم حكمهم» (الصياغة الجديدة: ص11)، ولذا نرى أن الإسلام لا يتعرّض للمجوسي ونحوه وأن نكح أمه وأخته حيث أن ذلك جائز في دينه - وان كان دينه في الواقع مزيفاً- لأن الإسلام لا يريد الإكراه أيضاً للقاعدة المعروفة (القسر لا يدوم) إنما يريد إعطاء الحرية لكل إنسان فيما يعمل حسب معتقده وإنما يناقشه بالمنطق ولذلك قال الله تعالى:( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) (النمل: 125).

لا إكراه في السلطة

ونرى في القانون الإسلامي أيضاً أن الحاكم لا يحق له إكراه أحد على الاعتراف بل حتى على التكلم والقصة المشهورة في حادثة عمير بن وائل مع أمير المؤمنين(ع) حين أدّعى عمير أن له وديعة عند رسول الله(ص) 80 مثقالاً وحينها علم أمير المؤمنين(ع) بأن هذه خديعة لذلك قال (ع):«مكيدة تعود على من دبرها» ثم أمر بالشهود وحين استجوابهم ودون عنف وقوة فقط كان الاستجواب بالأسئلة وحين اختلفت الأجوبة صاح عمير: وبيت الله ما كان لي عند محمد(ص) وديعة وإنها طبعاً كانت مكيدة دبرها أعداء أمير المؤمنين(ع)، (الصياغة الجديدة: ص312)، ولنطرح هذا السؤال: هل توجد دولة تدّعي الإسلام روحاً وتطبيقاً تستجوب دون تعذيب؟. إن الإسلام إنما جاء لكي ينشر العزة ( فلله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) (المنافقون)، فحين كان الإسلام هو الذي ينشر العدل وحقوق الإنسانية إلى أوربا المظلمة والظالمة آنذاك اصبح الإسلام اليوم وعلى لسان وحال وصور بعض الدول الإسلامية من أولى الدول التي تضعها الأمم المتحدة في قائمة المنتهكين لحقوق الإنسان إنها للأسف الطعنة التي لا يستحقها الإسلام روحاً ومبادئاً وعقيدةً ممن يدعو الإسلام.

وهل قرأ هؤلاء نصاً أو حديثاً عن الرسول(ص) وأمير المؤمنين(ع) بأنه في أيام خلافته قد عذب خارجياً أو ناصبياً أو حتى كافراً بل كان يلقي الحجة تلو الأخرى ويضع العقل أمام كل خطوة والحجة والمقدرة حتى إذا انتهت قابلهم بالسيف الذي هو آخر الدواء وان اغلب القضايا التي عرضت على أمير المؤمنين(ع) إنما انتهى حلّها بواسطة الحكمة والفراسة والعقل. وبدل أن يوظّف أصحاب نظرية التعذيب لإخراج المعلومات بدلاً أن يوظفوا الأموال اللازمة لمعالجة القضايا بالعلم والتطوّر والأسلوب في التحليل النفسي والعقل التجأوا إلى اقصر الطرق وأقلها كلفته أكثرها خسائر السوط والضرب والسيف والتعذيب -حتى يتبين لهم ما يريدون-. بينما نرى أن العالم المتطوّر قد اكتشف حتى معرفة القاتل المجهول والذي لا دليل عليه ولا اثر بواسطة تحليل أشعة وموجات العين المقتول والتي ترسم آخر صورة رآها القتيل والإنفاق على هذا التطوّر هو أكيد أغلى من الإنفاق على سجون مظلمة وارض رطبة وسلاسل حديدية أو سياط أو ما شابه ذلك فعندما تكون قوياً على ضعيف ما فعلى اقل تقدير دع الضعيف يحترم قوتك لا أن يبغضها وتصبح مصدر كابوس له وعلى كل حال نرى أن الحرية واللاعنف يصل إلى حدود الفكر وعدم وضع التهديدات المسبقة قبل أي حوار فلا يكون مفيداً للطرفين وقد يكون معبراً عن وجهة النظر المقابلة .. إنها حرية في البحث في المناقشة في أي شيء وتشمل حتى الحرية الاقتصادية وقد حدد سماحة آية الله العظمة السيد الشيرازي(دام ظله) اكثر من 100 نوع من الحريات في مجالات الاقتصاد التي وفرها الإسلام للمسلمين ناهيك عن الحريات الأخرى الموجودة كدستور ثابت في قانون الإسلام ألا وهو القرآن العظيم وتصل الحرية مداها الأكثر صعوبة في هذه الأيام المظلمة بظلم أهلها إلا وهو القرار السياسي والعلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم وكيف أن الأمة لها حق اختيار الإمام بنفسها طبعاً في عصر غيبة الإمام المعصوم(ع) والذي تراه مناسباً لها وطموحاتها. «فقد روى سليم بن قيس الهلالي في كتابه أمير المؤمنين(ع) انه قال: الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان مهدياً أن لا يعملوا عملاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً وربما عارفاً بالقضاء والسنة يجبي فيئهم ويقيهم حجهم وجمعهم ويجبي صدقاتهم إلى آخر الخبر»(6).

ومن هذا الحديث أيضاً يثبت لدينا مقدار ومدى الحرية المعطاة للأمة في هذا المجال وحتى الحاكم فإنهم لم يُنَصْ على نوع جنسيته عربي أو أعجمي وإنما هي المميزات التي يحظى بها ويتميز بها على سائر الناس المهم الكفاءة وليس اللغة واللون والعرق ( إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم) (الحجرات: 13)... ومن الواضح أن هذا هو الميزان الصحيح العقلي لذا نجد في زعماء الإسلام هذا التنوّع في الجنسيات فربما كان المرجع عراقياً أو إيرانياً وما إلى ذلك، ولم يكن المسلمون يريدون من حكامهم سوى أن يكونوا عدولاً يعملون طبق أوامر الله سبحانه وتعالى، وينبغي على الأمة جميعاً أن تشارك في انتخاب هذا الإمام العادل المنصوص عليه لذلك قال رسول الله(ص): «من مات وليس في عنقه بيعة للإمام فقد مات ميتة جاهلية» وطبعاً حسب قوانين الإسلام الصحيحة التي وضعها الشرع شروطاً في أئمة المسلمين وقادتهم وهي «من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأوامر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» ولم يدع الإسلام وجه وصور اللاعنف تنسحق في هذا المورد فحسب وإنما تجاوز ذلك لتشمل حتى مسألة إقامة الاعوجاج وتصحيح الأخطاء، إنما حثّ عليها بصيغة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( وائتمروا بينكم بالمعروف) (الطلاق: 6)، وقوله تعالى:( وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم لعلهم يتقون) (الأعراف: 164)، وفوق كل ذلك ينبغي لمن يأمر وينهى أن يكون هو عالماً وطبقاً لذلك ( يا أيها الذين لم تقولون ما لا تفعلون كبرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف: 2-3).

ويأخذ اللاعنف صفته الواضحة في مسألة الشورى التي تمثل الحريات في كافة أبعادها في أي بلد ( وأمرهم شورى بينهم) (الشورى: 38)، فما دام الإمام المعصوم موجوداً فلا حق لأحد في ردّه لأنه منصوب من قبل الله تعالى، كما لا حق لأحد في ردّ الصلاة والصيام.. أما في عصر الغيبة الكبرى فإن الحكم يكون للقيادة المرجعية الجماعية المنتخبة من قبل المسلمين (الفقهاء المراجع العدول).

حيث ينتخبهم الناس، فارجعوا إلى رواة حديثنا. وقول الرسول(ص): «اللهم ارحم خلفائي» وقد جعل الإمام علي(ع) حق المشورة عليه بأن يعطوه الرأي قال تعالى:( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) (آل عمران: 159).

استنتاجات

1- لقد اتضح فيما سبق أن العنف هو الاستثناء في قاعدة الدعوة والإرشاد في الدين الإسلامي وان اللاعنف هو القاعدة التي تأخذ الأولوية في هذا المورد.

2- إن موارد اللاعنف هي الأكثر شيوعاً في التطبيق الإسلامي وفي كثير من المجالات وهي لم تحدّد بشروط كما هو الحال للعنف عندما حدد باستخدامه في حالة فشل الإصلاح العقلي ثم تطور الآخر إلى الضرر بالإسلام والمسلمين في جوانب محدّدة حددها الشارع المقدس.

3- إن النتائج التي نجمت عن استخدام اللاعنف وعبر التاريخ هي افضل بكثير من النتائج التي حققها العنف ناهيك عن عنصر الديمومة والبقاء والرسوخ في النفس الإنسانية.

4- إن تطبيق مبدأ اللاعنف يساعد الى حد كبير من تلاقح الأفكار في تبادل المعرفة ويقابله دائماً المنطق والحكمة والعقل أما العنف فإنه لا يؤدي غرضه الروحي في هذا المجال وإن أدّى إلى الكسب المادي لكنه مؤقت ويقابل العنف دائماً الفشل في الوصول للحلول السلمية وعجز العقل عن معالجة ما هو مطلوب وهو أمر في مجمله سلبياً وليس إيجابياً وفي نهاية هذه النظرة السريعة حول مبدأ اللاعنف يتبين لنا أن اللاعنف هو ضرورة في كل الموارد على الإطلاق.

وبهذا نرى أن اللاعنف قد أخذ الجانبين فهو ضرورة وهو اختيار في نفس الوقت ونقول في ختام حديثنا هذا: عندما يستيقظ العنف ينام الإبداع، وحينما يُشهر السيف تموت الحكمة.

1 ـ مبادئ نظم الحكم في الإسلام، د. عبد الحميد متولي، ص268.

2 ـ خلاصة تاريخ العرب: سيدو Sedoo، ص103.

3 ـ دائرة المعارف البريطانية: ج2 ص779 مادة: Slarary.

4 ـ الصياغة الجديدة: لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام - السيد محمد الشيرازي ص345.

5 ـ المصدر السابق: ص346.

6 ـ المصدر السابق: ص314.