حقائق.. عن الولاية التكوينية لأهل البيت (عليهم السلام)


السيد جعفر الشيرازي

(1)

الغيب هو الحقيقة التي غابت عن الحواس لكن قد يدركها العقل بالدليل. وحيث أن الإيمان بالغيب هو أصل المعتقدات تقدم على إقامة الصلاة والإنفاق والإيمان بما أنزل على الرسول(ص) وبما أنزل على سائر الأنبياء واليقين بالآخرة، قال عزّ من قائل:( هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) (البقرة: 2-4).

فالله والوحي والجنة والنار... من الغيب، وكيف يمكن للإنسان أن يكون مسلماً بدون الاعتقاد بها؟

(2)

الوصول إلى الغيب، قد يكون عن طريق العقل، كما دلت الأدلة العقلية القطعية على وجود الله تعالى، وقد يكون عن طريق النقل الصحيح المتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

وهما الحكَم في موارد الاختلاف.

لأن الكتاب هو الفرقان بين الحق والباطل، وقد ركز أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على هذا الأمر، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام):«ويترك ما خالف الكتاب والسنة»(1)، وعن الكاظم (عليه السلام):«ما وافق كتاب الله عزّ وجل فخذوه وما خالف كتاب الله عز وجل فذروه»(2).

والكتاب نفسه دل على لزوم اتباع الرسول (صلّى الله عليه وآله) قال تعالى:( من يطع الرسول فقد أطاع الله) (النساء:80)، ( وما أتاكم الرسول فخذوه) (الحشر:7)، ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) (النجم:3).

والظاهر أن ضمير (هو) راجع إلى النطق فدلت الآية على أن جميع كلامه سواء كان قرآنه أو غيره هو وحي من الله تعالى، وذلك لحصر النطق في الوحي، وفي حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام):«فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله.. فاتبعوا ما وافق الكتاب، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوهما على سنن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)... فاتبعوا ما وافق نهى النبي (صلّى الله عليه وآله) ونهيه.. وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك».

(3)

هل إن الله تعالى عاجز عن إعطاء أحد من خلقه ولاية تكوينية؟ وهل يلزم من ذلك محذور عقلي؟

الجواب واضح لأن الله تعالى قادر على كل شيء، قال تعالى :( إن الله على كل شيء قدير) (البقرة:20)، وقد تكررت هذه اللفظة في عشرات الآيات، بل الذي يحدد قدرة الله تعالى هو ملعون في القرآن الكريم ( وقال اليهود يد الله مغلولة غُلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) (المائدة:64).

وليس معنى ذلك أن المخلوق له من الأمر شيئاً بالاستقلال، فإن جميع المخلوقين يحتاجون إلى الله تعالى في كل شيء قال تعالى :( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلاّ ما شاء الله) (يونس:49).

بل معنى ذلك إن الله تعالى كما أعطى للإنسان قدرة الحركة والسكون والهدم والبناء و... كذلك أعطى من قدرة سائر الخلق فيتصرفون بإذنه تعالى وليس في ذلك أي محذور.

نماذج من الولاية التكوينية في القرآن الكريم

1- الخلق:

حيث صرح الله تعالى بأن عيسى (عليه السلام) يخلق بإذنه تعالى:( إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله) (آل عمران:49)، ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيه فتكون طيراً بإذني) (المائدة:110).

2- الإحياء:

قال تعالى عن لسان عيسى (عليه السلام):( وأحيي الموتى بإذن الله) (آل عمران:49)، وقال تعالى:( وإذ تخرج الموتى بإذني) (المائدة:110).

3- التصرف في الكون:

ونذكر له نماذج:

أ- إن الريح كانت مسخرة لسليمان (عليه السلام) قال تعالى:( ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر) (سبأ:12).

ب- وصى سليمان آصف أن يأتي بعرش بلقيس في أقل من لحظة قال تعالى:( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي) (النمل:40). ومعلوم أن الرمش يستغرق وقتاً أقل من عُشر الثانية.

جـ- وسليمان ردّ الشمس بعد مغيبها –حسب بعض التفاسير- قال عزّ من قائل :( إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد، فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردّوها عليّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق) (ص:31-33).

د - وموسى (عليه السلام) حوَّل العصا بإذن الله إلى ثعبان، وأخرج يد بيضاء، قال تعالى:( فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) (الأعراف:107-108).

ولو أردنا أن نستقصي الموارد في القرآن لطال بنا المقال فنكتفي بهذا القدر ومنكري الغيب المعاصرين للأنبياء يقولون هذا سحر، وغير معاصريهم يقولون هذا كذب.

(4)

علم الغيب -بل كل شيء في الكون- هو لله سبحانه وتعالى، قال تعالى:( ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله) (هود:123)، وليس الغيب لأحد سواه ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) (الأعراف:188)، لكن كما أعطى الله الإنسان العلم والقدرة وغيرهما، كذلك أطلع على غيبه بعض ممن اصطفاهم من خلقه قال تعالى :( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول) (الجن:26-27).

وهنا نماذج:

آ- علم عيسى (عليه السلام) بالغيب قال تعالى على لسان عيسى:( وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) (آل عمران:49).

ب- ويعقوب (عليه السلام) علم بالغيب قال تعالى:( فلما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون، قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم) (يوسف:94-95) ويمكن جعل الآية ضمن معاجز يعقوب أيضاً.

جـ- آدم (عليه السلام) حيث علمه الله تعالى الأسماء كلها، قال تعال: ( وعلّم آدم الأسماء كلّها) (البقرة:31).

د- الملائكة علموا بالغيب حيث قالوا :( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) (البقرة:30)، حيث أن الملائكة كانوا يعلمون الإفساد وسفك الدماء والله تعالى لم ينف ذلك بل قال :( إني أعلم ما لا تعلمون) حيث أن في هذا الخلق مصلحة لا تعلمونها.

(5)

لله تعالى في خلقه سنن ولن يغير الله تلك السنن ( ولن تجد لسنّة الله تبديلا) (الأحزاب:62)، ( ولن تجد لسنة الله تحويلا) (فاطر:43).

ومن تلك السنن أنه تعالى جعل أمور الكون عبر الوسائل التي ارتضاها مع أنه كان قادراً على جعلها مباشرة. وكل تلك الوسائل تعمل بإذنه تعالى مثلاً:

آ- تكوين الإنسان جعله عبر الوالدين، قال تعالى:( أفرأيتم ما تمنون، ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون) (الواقعة:58-59).

ب- الرزق جعله عن طريق الزرع قال تعالى :( أفرأيتم ما تحرثون، أءنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) (الواقعة:63-64).

جـ- الأمانة حيث أن الأمر بيده تعالى قال عزّ من قائل :( الله يتوفى الأنفس حين موتها) (الزمر:42)، لكنه جعل ملك الموت وسيلة لذلك قال تعالى:( قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بكم) (السجدة:11) وملك الموت له أعوان قال تعالى:( حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) (الأنعام:61).

ولا تنافي بين الآيات الثلاث إذ أن الأمر بيد الله وجعل الوسيلة هو ملك الموت وجعل له أعواناً.

د- نظام الكون بيد الله تعالى، قال عزّ من قائل:( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) (فاطر:41).

هـ- إن الله قادر على جعل العرش محمولاً من غير وسيلة لكنه خلق ثمانية لحمل العرش قال تعالى ( ويحمل عرش ربك فوقهم ثمانية) (المائدة:35).

و- إذا أردنا الوصول إلى الله تعالى يجب علينا ابتغاء الوسيلة قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) (المائدة:35). وأخوة يوسف (عليه السلام) حينما أرادوا التوبة جعلوا أباهم الوسيلة، قال تعالى:( قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف أستغفر لكم ربي) (يوسف:97-98).

(6)

دلت الأحاديث الصحيحة على أن الله تعالى اصطفى محمداً وآله (عليهم الصلاة والسلام) وجعلهم الوسائل لفيضه وذلك عبر مراحل نذكر أربعة منها، ونقتصر في الاستدلال بزيارة الجامعة التي رواها الشيخ الصدوق في الفقيه والشيخ الطوسي في التهذيب وهما من الكتب الأربعة، وإن كانت الأدلة على هذه الأمور قد بلغت حدّ التواتر بل فوقه. ومن أراد التفصيل فليراجع كتاب (فقه الزهراء) للإمام الشيرازي(دام ظله).

المرحلة الأولى:

إن الله تعالى خلقهم قبل الخلق فكانوا أنواراً محدقين بعرشه، في الزيارة :«خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين».

وفضلهم على جميع خلقه، ففي الزيارة :«فبلغ الله بكم أشرف محلّ المكرمين وأعلى منازل المقربين وأرفع درجات المرسلين حيث لا يلحقه لاحق ولا يفوقه فائق ولا يسبقه سابق ولا يطمع من إدراكه طامع..».

ولا يرد السؤال القائل: لماذا اصطفاهم الله سبحانه ولم يجعلنا مثلهم؟ وذلك لأن إيجادنا لم يكن عن استحقاق لنا بل هو لطف منه تعالى وكل ما لنا فهو من نعمه تعالى علينا، فلم نكن نستحق هذا المقدار من الوجود فكيف يحق لنا طلب المزيد، وكما فضل الله الذهب على التراب والإنسان على الحيوان كذلك فضل بعض الناس على بعض وهذا بحث طويل ذكر في الكتب الكلامية والروائية فمن أراد التفصيل فليراجع )من فقه الزهراء( للإمام الشيرازي.

المرحلة الثانية:

جعل الله تعالى الرسول وآله (عليهم الصلاة والسلام) الوسائل للخلق بإذنه تعالى كما جعل عيسى (عليه السلام) وسيلة لخلق الطير بإذنه تعالى، وفي الحديث:«نحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائع لنا»(3)بإذنه تعالى، وفي نهج البلاغة «فإنا صنائع ربنا والناس بعد صنائع لنا»(4).

وجعلهم الله تعالى وسائل للنظام في الكون، كما أن الشمس واسطة لحفظ نظام الكون وكذلك الجاذبية واسطة لاستمرار الحياة والنظام، وكما أن بعض الملائكة وسائط لتدبير الأمور حيث قال تعالى:( والمدبرات أمراً) ، كذلك الرسول وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام) وسائل لحفظ النظام، ففي الزيارة :«بكم فتح الله وبكم يختم وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه وبكم ينفس الهم ويكشف الضر». والباء للسببية كما ثبت في محله.

المرحلة الثالثة:

مَنّ الله تعالى علينا بهم فأهبطهم إلى الأرض ففي الزيارة :«خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين حتى منَّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه».

وأمرنا باتباعهم لأنهم لا ينطقون إلاّ بما أراد الله تعالى ففي الزيارة «وغرائمه فيكم» وفي الحديث أنهم «أوعية مشيئة الله» و«إن الله أدَّب نبيه بأدبه ففوض إليه دينه»، فقال عزّ من قائل:( وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (الأنعام:153)، وفي الزيارة الجامعة :«أنتم الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء» وفيها «من أراد الله بدأ بكم ومن وحده قبل عنكم ومن قصده توجه بكم» وفيها «بموالاتكم علمنا الله معالم ديننا» «كلامكم نور وأمركم رشد».

المرحلة الرابعة:

جعل الله تعالى الحساب في يوم القيامة عليهم، والشفاعة بيدهم، فلا يشفعون إلاّ لمن ارتضى والجنة منوطة بموالاتهم والنار لأعدائهم.

ففي الزيارة الجامعة :«وإياب الخلق إليكم وحسابهم عليكم» وفيها «وشفعاء دار البقاء» وفيها «من اتبعكم فالجنة مأواه ومن خالفكم فالنار مثواه».

وقد دلّ على هذه المراحل صحاح الروايات ومتواترها لم نذكرها هنا للاختصار وفي الزيارة الجامعة كفاية.

1 ـ أصول الكافي، ج1، ص67.

2 ـ أصول الكافي، ج1، ص8.

3 ـ الغيبة للطوسي، ص173، ج7 ــ والبحار ج53، ص178.

4 ـ نهج البلاغة، الكتاب رقم28.