المعـــــــــــارضـــــــة

 إستســلام .. أم عنــف إنفعـــالي .. أم .. !؟


علي عبد الرضا

قد يرى البعض أننا ذهبنا بعيداً عندما قطعنا خطوط التواصل والحوار والانفتاح مع الحاكم الظالم لأنه يعتقد أن ضرورات المرحلة أو العمل وغيرها من الأمور تفرض علينا التواصل والتنسيق ولو بأقل المراتب فهناك أعداء يتربصون بنا، وعقيدة (مذهب) محاصرة من عدة جهات، وساحة عمل ينطلق منها الجميع لا نقاش في حمايتها، مع ملاحظة أن بعض الظروف تتطلب في الكثير من الأحيان أن يدخل(الفرد-المجموعة) مع هذا الحاكم أو ذاك في علاقة عمل أو حوار ولو جزئياً حفاظاً على بعض الأهداف المشتركة أو استجابة لبعض المتطلبات الاستراتيجية العليا خصوصاً أن الذي يتلمس - على حد رأيه- منهجية أهل البيت (عليهم السلام) في علاقتها مع الخلفاء والحكام الظلمة الذين كانوا لا يملكون شرعية الخلافة يجد أنها كانت علاقة مرونة وانفتاح في حركة الأسلوب والفكرة معاً، فكانوا يلتقون بهؤلاء الظلمة في أكثر من موقع وساحة عمل بل ويقول البعض أيضاً: لعل مواقف أمير المؤمنين (عليه السلام) من الخلفاء والسيرة الواردة عنه تذكر أنه سكت عنهم وعن حقه، سايرهم، زارهم، واشترك هو والحسنين (عليهم السلام) في فتح بعض البلدان في زمانهم، وهذا يعني أنه صب كل المكاسب في سلتهم حتى عدت امتيازاً مهماً في صحائف أعمالهم، حتى ذهب البعض إلى أبعد من ذلك واعتبر أن الإمام قصّر في طلب الخلافة عند بيعة أبي بكر، وقد كان اجتمع له من بني هاشم وغيرهم من أفناء الناس ممن يتمكن بهم من المنازعة وطلب الخلافة، فقصّر عن ذلك لا جبناً، لأنه كان أشجع البشر، ولكن قصور تدبير وضعف رأي(1).

أو ذلك القائل للإمام: ما منعك يا ابن أبي طالب‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! حين بويع أخو بني تيم وأخو بني عدي وأخو بني أمية أن تقاتل وتضرب بسيفك وأنت لم تخطبنا مذ كنت قدمت العراق، إلاّ قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر:«والله إني لأولى الناس، وما زلت مظلوماً مذ قبض رسول الله(ص)» فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟(2).

أليس السكوت نوعاً من الرضى عنهم، والالتقاء معهم في أكثر من موقع يعد اعترافاً بشرعيتهم ونحن لسنا بأكثر من ذلك؟!

وقبل أن نجيب يجب أن نفهم أن لكل واقعة تاريخية ظروفها الزمانية والمكانية وأهدافها الخاصة والعامة التي يرسمها كل طرف، فأمير المؤمنين وهو الرائد في قراءة المستقبل بجميع أبعاده كانت له أيضاً ظروفه الزمانية والمكانية واستراتيجيته البعيدة المدى وأهدافه النبيلة المقدسة. إذن الإجابة على تساؤلات تاريخية لم نعايشها وتفصلنا معها مئات السنين قد يكون أمراً صعباً، إضافة إلى ما تحمل كتب التاريخ من تزوير وتحوير، ومع كل ذلك سنجيب على هذه التصورات والتساؤلات بالاستعانة ببعض الوقائع والروايات التي وصلت إلينا عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) لنلقي بعض التصور على وضعنا ومستقبلنا وهذا ما توصلنا إليه، والله العالم بخفايا الأمور:

أولاً: أنه عليه السلام موصى

عندما رجعت فاطمة الزهراء (عليها السلام) من مسجد أبيها بعد أن حاججت الخليفة الأول حول قضية فدك ووصلت إلى دارها واستقرت فيها قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام) تستنهضه لفلسفة وحكم خاصة: «يا ابن أبي طالب اشتملت شملة الجنين وقعدت حجرة الظنين...» إلى أخر الخطبة. فقال أمير المؤمنين في مقطع من جوابه:«فما ونيت عن ديني ولا أخطأت مقدوري..» أي أنني مأمور بالصبر والسكوت فالصبر لم يكن تهاوناً وتراجعاً، بل كان جزءً من المخطط وعلى حساب مقتضى المصلحة العليا، وليس غصب فدك والعوالي بأعظم من غصب الخلافة والاستيلاء على السلطة بالقوة، إنه أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وأمر رسول الله واجب الاتباع ( وما كان لمؤمن ومؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة في أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينا) (3). كما ورد عن رسول الله(ص) روايات عديدة تدعو علياً بالصبر، منها الرواية التي ينقلها العلامة المجلسي عن الاحتجاج والتي يخاطب فيها رسول الله(ص) أمير المؤمنين(ع) قائلاً له:«يا عليّ! الصبر.. الصبر.. حتى ينزل الأمر ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، فإن لك من الأجر في كل يوم ما لا يحصيه كاتباك..»(4). نعم فقد جرت الأمور وسارت الأحداث كما أخبر بها رسول الله(ص) وما كان لأمير المؤمنين(ع) إلاّ العمل وفق المهمة والوظيفة الموكلة إليه ولو كان غير ذلك لكان واجباً عليه محاربة أولئك ولو أدى ذلك إلى إراقة دمه الشريف.

علماً أن العيون التي كانت تترصد حركات أمير المؤمنين(ع) وسكناته وبالخصوص النسوة اللاتي كن في بيت رسول الله(ص) هن أول من أخبرن عليّة القوم بالاتفاق الذي حصل بين رسول الله(ص) وأمير المؤمنين(ع) والعهد الذي أعطاه الوصي للرسول بالصبر والسكوت، وإلاّ لم يتجرأ أحد من دخول بيت فاطمة (عليها السلام) وإخراج الكرار، فاتح خيبر وهو مكتفاً بحمائل سيفه. كما يكشف خروج الزهراء (عليها السلام) ومطالبتها القوم بإطلاق أميرا لمؤمنين(ع) وهي مازالت مصابة أن الأمير(ع) لا يجرد سيفه وإن قتل حفاظاً على العهد الذي قطعه إلى رسول الله(ص)، فدافعت عنه لعلمها الكامل بأن الموت يهدده بجد.

ثانياً: الخوف على الإسلام والمسلمين

الإمام (عليه السلام) إذا نهض لأجل القضاء على تلك الأفراد فمعنى ذلك وقوع الفتن والاضطرابات الداخلية واتساع نطاق الفتنة. وخاصة وأن هناك أفراداً يتربصون بالإسلام وينتهزون الفرصة للإطاحة بذلك الدين(5) الذي كان غضاً جديداً لم تستقر أركانه بعد، ولم يضرب بجبرانه الأرض، إذن فالأفضل الصبر والسكوت عن المغتصبين رعاية للسلام وحفظاً للدين من الضياع والانهيار(6).

وإلى هذا المقصود أشار (عليه السلام) في مواضع مختلفة، فقال في موضع:«وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه...»(7).

وفي موضع قال:«فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثوا عهد بالإسلام والدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلف»(8).

وفي كتابه إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها قال:«فو الله ما كان يلقي في روعي ولا يخطر ببالي، إن العرب تزعج هذا الأمر من بعده عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلاّ انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه»(9).

أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يعرف جيداً الظروف بمختلفها وبالتحديد تلك التي كانت تحاصر وتضغط على عاصمة الدولة الإسلامية التي أسسها رسول الله(ص) فأدى وظيفته الشرعية ومسؤوليته السياسية بأفضل وجه، ويظهر ذلك جلياً من حرص أبي سفيان على محاولة تهييج وتحريك الإمام للثورة ضد أبي بكر ومن رد الإمام الحاسم له وقوله له مازلت تكيد للإسلام وأهله!!

ثالثاً: قلة الأعوان

الذين اعترضوا على صبر وسكوت الإمام(ع) أو أولئك الذين بايعوه وعاهدوه على الوقوف معه عند القيام بالأمر، قد يعدون بالمئات في حساب الأقوال، ولكن عندما حان العمل وحددت ساعة الصفر، سكتت الأصوات ولم يظهر منهم أحد غير بعض الحواريين ممن دخل الإيمان في قلوبهم.

ففي بعض الأيام حين خرج أمير المؤمنين(ع) من المسجد ومرّ بصيرة فيها نحو ثلاثين شاة قال:«والله لو أن لي رجالاً ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياة لأزلت ابن آكلة الذبان عن ملكه، قال: فلما أمسى بايعه ثلاثمائة وستون رجلاً على الموت، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): اغدوا بنا إلى أحجار الزيت محلقين، وحلق أمير المؤمنين(ع)، فما وافى من القوم محلّقاً إلاّ أبو ذر والمقداد وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وجاء سلمان في آخر القوم، فرفع الإمام يده إلى السماء، فقال: اللهم إن القوم استضعفوني كما استضعفت بنو إسرائيل هارون، اللهم إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين، أما والبيت والمفضي إلى البيت والخفاف إلى التجمير، لولا عهده إليّ النبي الأمي(ص) لأوردت المخالفين خليج المنيّة ولأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت، وعن قليل سيعلمون»(10).

وعن الهيثم بن عبد الله الرماني قال: سألت الرضا(ع) فقلت له: يا بن رسول الله أخبرني عن علي(ع) لِم لَم يجاهد أعداءه خمساً وعشرين سنة بعد رسول الله ثم جاهد في أيام ولايته؟ فقال: لأنه اقتدى برسول الله(ص) في تركه جهاد المشركين بعد النبوة ثلاثة عشرة سنة وبالمدينة تسعة عشر شهراً وذلك لقلة أعوانه عليهم، وكذلك علي(ع) ترك مجاهدة أعدائه لقلة أعوانه عليهم، فلما لم تبطل نبوة رسول الله(ص) مع تركه الجهاد ثلاثة عشرة سنة وتسعة عشرة شهراً كذلك لم تبطل إمامة علي(ع) مع تركه الجهاد خمسة وعشرين سنة». إذا كانت العلة المانعة من الجهاد واحد(11).

الإمام(ع)كان يعلم أن الذين يحاولون تحريكه وإثارة الفتنة ليسوا صادقين فيما يقولون وإنما لهم أهدافهم الخاصة ومنافعهم الشخصية، وبهذه الطريقة سحب الإمام البساط من تحت أرجلهم وعراهم أمام الملأ ودحض حجتهم وأسكت ألسنتهم.

ولا نعجب أن نرى هذه الحالة متفشية ومترسخة عند الكثير وبادية للعيان في كل زمان، فطبيعة البعض الاعتراض على كل شيء وتحريك كل ساكن فلا ترى لهم وجوداً في ساحة لعمل ولا بادرة خير في أي مجال وربما كان البعض منهم عوناً للظالم ووسيلة للحاكم. ولو كان صادقاً في دعواه لشمّر عن ساعده وعمل وفق الوظيفة الشرعية المترتبة على كل مسلم، ولما انتظر هذا أو ذلك!!

رابعاً: حفظ خط الإمامة

إن الأمر عندما يدور بين المحافظة على (الخط) عبر الحفاظ على القادة أنفسهم من الإبادة الكاملة، والمحافظة على (المنصب) أو محاولة استرجاعه عبر العنف، فلاشك أن المحافظة على الخط والامتداد وادخار القادة لمرحلة لاحقة هو المتعين. فأراد الإمام(ع) من عدم الثورة الحفاظ على القيادة الإسلامية المتمثلة بشخصه الكريم وأبنائه البررة من القتل المحتم، الذي لا تعقبه النتيجة المطلوبة فتراه يصف حاله قبل البيعة فيقول: «فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت»(12).

وفي خطبة أخرى يقول (عليه السلام) للذين اعترضوا على مبايعته لأبي بكر:«ألا إن الحق أن تأخذه وفي الحق أن تمنعه.. فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن المنية»(13).

وهذا لا يعني أبداً أن الإمام علي وسائر الأئمة (عليهم السلام) يفضلون الحياة والدعة مع سلطان جائر ظالم على الموت شهداء. فمواقفهم معروفة وبطولاتهم مشهودة، مع الظلمة وفي الحروب، ولكن طبيعة بعض الناس الاستشكال على أي موقف يتخذه المصلحون والعاملون دون دراسة وتفهم للظروف الموضوعية، وإلى هذه الحقيقة أشار أمير المؤمنين(ع) فقال:«فإن أقل، يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت، هيهات بعد اللتيا والتي والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه»(14).

وأهل البيت (عليهم السلام) مهما تنوعت أدوارهم واختلفت أساليبهم فإن هدفهم يبقى واحداً لا يتغير وفكرتهم ثابتة لا تتزلزل، ينظرون إلى الظروف المختلفة وجوانبها المتشعبة، وعلى غرارها تكون الوسيلة والعمل والتحرك ولا فرق في أن يكون هناك صبر وسكوت أو صلح وهدنة، أو قيام وثورة، أو ولاية عهد وخلافة، المهم رضى الله ومصلحة الأمة.

خامساً: فرصة لكشف النيات

من الواضح أن انحراف الحكام عن منهج الرسول(ص) لم يظهر كاملاً بعد، إلاّ في بعض المواقف الجزئية فيما الأمة كانت تخوض غمار الحرب ومتوجهة إلى أمور أخرى، والذي انكشف منهم لم يكن كافياً لإقناع أمة جديدة العهد بالإسلام حتى نطلب منها معارضة الحاكم وتنحيته، فالناس عقولهم في عيونهم لا يمكن أن يحكموا على هؤلاء أو يعارضونهم قبل أن تطفوا سياستهم على السطح وينشر غسيلهم على الملأ العام، ولا نستبعد أن يكون هذا أحد أهداف الإمام(ع) عند تركهم بعدما اعتلوا المنصب عنوة لتنكشف للأمة نياتهم وحقيقتهم، فينحازوا لجانب المعارضة الواقعية الشرعية التي يمثلها الإمام، ويميزوا بين حاكم عادل وحاكم ظالم، وبذلك يكون قد رسم ميزاناً ومقياساً علمياً عملياً متكاملاً لكل الأجيال على مرّ التاريخ للتمييز بين المنهجين والجبهتين، ولأجل ذلك بقي منهج أمير المؤمنين(ع) معياراً ومحكاً تقاس به الحكومات ورجالاتها.

وصبر الإمام على طخية عمياء فكان أن أثمر الصبر بعض الشيء عندما تدافع الناس عليه ليبايعوه بعد طغيان عثمان ومقتله، وهذا يوضح الدرجة التي وصل إليها وعي الأمة بحيث يجعلها تتجمع حول بيت الإمام وتطالبه بتولي الخلافة عنوة «ومجتني الثمرة لغير وقت ايناعها، كالزارع بغير أرضه»(15).

سادساً: تعرية الحاكم

لقد بذل الإمام(ع) جل جهده في تعرية السلطات وفضحها، كما وقف ضد مراكز الفساد والاستبداد المتمثلة بالحكام وزبانيتهم، ولم يقصر أو يتوان عن تحصين الأمة ضد الانحراف وتأهيلها لحمل التعاليم السماوية، وزرع الثقة في نفوس أفرادها لمعارضة الحاكم وفضح مساوئه وكشف عيوبه.

تارة بالتهديد الذي كان يعني تحدياً سافراً للحكومة عندما قال لأبي بكر إن أخطأت قومناك بسيوفنا، وكذلك موقفه الشجاع هو وأبناؤه مقابل عثمان عندما اتخذ قرار نفي أبي ذر الغفاري إلى الربذة فجهر الإمام بالاعتراض وخرج لتوديعه رغم أن عثمان منع الناس من مشايعته.

وأخرى بالأسلوب العلمي حيث كان يجهر بآرائه الفقهية والسياسية وغيرها في قبال الخليفة وفي مجمع الجماهير رغم معارضتها الصريحة لـ(فتاواهم) حتى أخذ البعض يردد بأن الخلافة أحق بمن يعلم ويجيب على المسائل والمعضلات. ونظراً لهيمنة الإمام العلمية وقوة منطقه واستدلاله وخضوع الرأي العام لذلك، كان لابد لعمر أن يقول «لولا علي لهلك عمر» و«لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن» و«لا يفتين أحد في المجلس وعلي حاضر»(16) مجاراةً وتخوفاً من أنة الجموع المؤمنة يما لو أصرّ على ما ظهر بطلانه وكذلك مواقفه ومعارضته وإرشاداته وتوجيهاته لعثمان في مواطن كثيرة(17).

سابعاً: تربية الكادر

وعندما ابتعد الإمام(ع) عن الخلافة بتلك المؤامرة المعروفة، أصبح أمام خيارين.. إما مواجهة رموز المعارضة والدخول في صراع يؤدي إلى هزيمة الإسلام وإبادة العترة الطاهرة، أو الصبر والاستفادة من جميع الإمكانات والظروف والموقع المتميز الذي يشغله للحد من نسبة المساوئ والانحرافات إلى أقل نسبة ممكنة، إضافة إلى تربية جيل عقائدي يحمل الفكر الإسلامي الأصيل حيث أن الإسلام حضارة شاملة، والحضارة بحاجة إلى مستويات فكرية وعلمية جبارة تحافظ عليها وتكون الجسور بينها وبين الناس، حيث لم تترك ضغوط قريش وحربهم الاجتماعية والاقتصادية ثم الحروب العسكرية الفرصة الكافية لتربية المقدار الكافي من الكوادر، إلى جوار ذلك أن الحروب قضت على مجموعة من خيرة العناصر.

وهكذا كان ابتعاد الإمام عن مهام السلطة طوال خمس وعشرين عاماً أفضل فرصة لنشر العلوم والثقافة والفكر الإسلامي أولاً، ولتربية جمع من كبار الصحابة والتابعين وتثقيفهم ثانياً.

ونجد في نهل أمثال ابن عباس كنموذج: ليلة إلى الصباح قضاها يتعلم منه قطرة من بحار تفسيره لنقطة باء بسم الله الرحمن الرحيم، أفضل شاهد على النقطة الأولى، كما نجد في امتلاك الإمام ونصبه لألف قاضي في طول البلاد الإسلامية وعرضها إبان حكومته، بلغ بعضهم من المثالية درجة (أبو الأسود الدؤلي) حتى أنه استحق عزل الإمام عن القضاء لمجرد أنه كان يعلو صوته صوت الخصمين في مجلس القضاء قد يشير إلى النقطة الثانية.

الثامنة: الدين قبل كل شيء

الإمام علي(ع) كان باستطاعته تصفية رموز المؤامرة جسدياً وبمختلف الأساليب والسبل، ولكنه أبى ألاّ يكون أكبر من هذه الالتواءات والتعرجات، لأنه كان يهدف إلى توعية الأمة وتربيتها أولاً وقبل كل شيء، ثم أن هذا السلوك لو أخذ به لأصبح سنة ومنهاجاً تلتزم به القيادات المعارضة باعتباره أسهل الطرق وأقصرها، ولا مانع من أن يكون هوة سحيقة لا يعرف مدى عمقها ودرجة خسائرها على كل الأطراف! ومن هذا المنطلق نرى الإمام(ع) يقف بقوة مع ابنيه الحسن والحسين (عليهم السلام) للدفاع عن عثمان عندما هاجمته الجموع الثائرة. وقد سبق هذا الموقف من الإمام تحذير شديد من قبله(ع) لعثمان وحاشيته لكي يلبوا مطالب المعارضة الثائرة ويقطعوا كافة السبل أمام فتح باب غير محمود العواقب ربما أدت إلى قتل عثمان وهكذا جرى.

والذي يستفاد من مجموعة من خطب الإمام(ع) وكلماته يجد تأكيده الشديد على أنه كان يعرف الفرص والوسائل والأسباب إلى بلوغ الملك والسلطان ولكنه لا يستعملها على حساب دينه، فإنه(ع) لا يحب النجاح والظفر على حساب مرضاة الله والعمل بالحق وهو مستعد لن يضحي بالنفس والملك وبكل عزيز ليبلغ هذه الغاية أليس هو القائل: ما معاوية بأدهى مني لكنه يغدر ويفجر ولولا التقى لكنت أدهى العرب.

جاء رجل إلى الإمام الصادق(ع) وقال له: أصلحك الله ألم يكن علي(ع) قوياً في دين الله عزّ وجل؟ قال: بلى، قال: فكيف ظهر عليه القوم؟ وكيف لم يدفعهم؟ وما منعه من ذلك؟ قال الإمام جعفر الصادق(ع) آية في كتاب الله عز وجل منعته، قلت: وأيّ آية؟ قال: قوله:( لو تزيّلوا لعذبنا الذين كفروا عذاباً أليما) (18)، إنه كان لله عز وجل ودائع مؤمنين في أصلاب قوم كافرين ومنافقين فلم يكن عليّ (عليه السلام) ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع، فلما خرجت الودائع ظهر على ما ظهر فقاتلهم. وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبداً حتى تظهر ودائع الله عز وجل فإذا ظهرت ظهر على من ظهر فقتله(19).

التاسعة: طالب حق

لاشك ولا ريب أن الإمام علي(ع) لم يخطر بباله لحظة من اللحظات التفكير بحكومة أو سلطان لذاتها، بل كان يرى الخلافة وسيلة كالوسائل الأخرى لإقامة الحق ودفع الباطل، فيقول في كلام له يبين فيه سبب طلبه الحكم وواصفاً الإمام الحق:«اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحكام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك»(20). هذا هدف الإمام من الحكومة، فهو لم يكن يوماً من الأيام طالب سلطة ومحب منصب، ولم يكن عنده الحكم شهوة بل كان وسيلة لتحقيق العدالة وإجراء الأحكام والعمل بالقوانين، ولو كان كذلك لسعى إليها يوم الشورة عقيب وفاة عمر حينما حاول عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه على كتاب الله وسنة رسوله وسنة الشيخين، فقال لعبد الرحمن مستهيناً بالخلافة والفكرة التي طرحها، ومبدياً معارضته الصريحة لخلافة عمر وأبي بكر: بل على كتاب الله وسنة نبيه واجتهادي، ولو كان كذلك لكان أشد ما يكون سعياً وراء الحكم عندما جاءه المسلمون بعد مقتل عثمان يقولون له البيعة.. البيعة فيقبض يده حتى جذبوها بقوة، فقال لهم:«دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولن أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خيراً لكم مني أميراً»(21).

وفي موضع آخر وبعد البيعة مباشرة يخاطب البعض فيقول لهم:«والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها»(22).

العاشرة: توافق أم تعايش

الخلط بين مفهوم التوافق والتعايش قد يجعل الصورة والفكرة لدى البعض مشوشة وغائمة وربما معكوسة وفي كثير من الأحيان مما يحمل البعض على استنتاجات بعيدة كل البعد عن الحقيقة ولا تمت إلى واقع الأحداث بصلة. فالتوافق أو التأييد، هو اللقاء في الفكرة والنظرية، والتحرك من منطلق اعتقادي واحد لأهداف مشتركة، بينما التعايش: هو التواجد على أرض مشتركة مع بقاء خطوط الاختلاف عمودية لا تلتقي في نقطة معينة.

والإمام أمير المؤمنين(ع) عمل ومنذ البداية على فرز الخطوط وتميز الألوان حتى لا تقع الأمة في التباس وضياع، وجاهد لمنع إيجاد أرضية التوافق والتأييد للحاكم الجائر، وركز اهتمامه على إقامة فواصل عازلة بين ما يحمله وما يدعو إليه وبين ما ينادي به الآخرين ويرغبون به. وهذا ما يشاهد جلياً وبوضوح في مواقف الإمام وتحركاته طوال الخمسة وعشرين عاماً التي قضاها بعيداً عن الحكومة. ولا نستبعد أن تكون فكرة الحزب العلوي أو شيعة علي(ع) تشكلت في ذلك الوقت وبرزت فيما بعد بصورة أشمل وأوسع، حتى أن الشخص عندما يمر في أحد الأزقة يشار إليه بأنه من جماعة علي (حزب علي) أو يحسب على الخط الفلاني.

نعم كان الإمام(ع) ينطلق من مساحة واحدة أو ما ينطلق عليه - التعايش على أرض الواقع- فقط وهو لا يعني شيئاً مما ذهب إليه البعض بأنه تأييد للحاكم واعتراف بشرعيته وإنما هو تعدد في مراكز القوى المتعارضة، والتعدد الذي أوجده الإمام هنا يشكك في شرعية الحاكمين ويثير التساؤلات أمامهم ويحرك الرأي العام بوجههم لجرهم إلى الحق وإنصاف الرعية وإرجاع الحقوق إلى أهلها وشتان بين أن أتعايش مع الحاكم من أجل مراضاته ومصادقته والسكوت على أفعاله وربما إسنادها وبين أن أتعايش من أجل إلزامه بالحق وتقويم انحرافه!!

الحادية عشر: المعارضة الهادفة

لا يخفى أن الأمة (أفراداً وجماعات) مع وجود حاكم مستبد طاغي ستسلك عدة سبل:

بعضهم يهرب من الواقع ليلقي بنفسه في زاوية مهملة من زوايا الحياة يقطع بها صلاته وتواصله مع أفراد مجتمعه والاهتمام بشؤونه.

وبعضهم يسقط بأحضان السلطة (خوفاً أو طمعاً) فيعيش حالة خاصة من التملق والتزلق والانجرار وراء الماديات والمناصب.

وبعضهم يعلنها حرباً لا هوادة فيها ولا يرى أي ضير في استعمال كافة وسائل القوة في إسقاط الحاكم وإن أدى ذلك إلى عواقب وخيمة عليه وعلى الجميع.

وبعضهم الآخر يحمل راية المعارضة ويثبتها في وجدان الأمة ولكن بالطريقة التي يريدها هو بالحكمة والحنكة السياسية المدروسة التي تلتزم بجميع الضوابط والقواعد مع طرح البدائل المنطقية الصحيحة..

وبتعبير آخر هناك: قسم يهرب من كافة الالتزامات ليستسلم للواقع.

وقسم يسقط في مستنقع الظلمة فيستسلم للحاكم.

ربما توجد أسباب ودوافع خاصة أو عامة ضغطت على القسمين ليستسلما ولكن مهما تكن الأعذار يبقى الاستسلام استسلاماً ولو بررناه بشتى التبريرات.

وقسم ثالث يبتعد عن الهدف العام ويتمسك بالعنف والتصعيد المتواصل ليحصل على مكاسب آنية، وهو خيار غير مجدي في الغالب وله مردوداته العكسية والسلبية الكبيرة على القائمين به وعلى الفكرة التي يحملونها إن كانت سليمة في الأساس.

وقسم رابع وأخير يعارض ولكن بحكمة وموضوعية، بصبر وتأني يراعي بين الأهم والمهم، ويوازن بين الضعف والقوة، ينظر إلى مختلف الظروف (الإقليمية والدولية) ويحسب للمستجدات والطوارئ، واضعاً هدفه العام نصب عينيه، وقبل ذلك كله مصلحة الإسلام الحقيقية..

ونعود إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) لنرى أي الطرق اختار، وماذا سلك بعد غصب حقه؟ طريق الاستسلام التبريري.. أم العنف الثوري كما يسمى؟

إنه لم يختر أي الطريقين.. لأن الطريق الأول كان يعني المواجهة الشاملة وإثارة معركة داخلية لا ينتفع منها إلاّ الفرس والروم والطابور الخامس الذي كان يترصد كل صغيرة وكبيرة للقضاء على الإسلام وهو ما زال يافعاً، ولو أن البعض مارس ضغوطاً عديدة ومختلفة لجر الإمام إلى معركة معروفة النتائج والأهداف إلاّ أن ذلك مفضوحاً عنده (عليه السلام) ويعرف دوافعه ونواياه.

والطريق الثاني كان لا يعني إلاّ أن يلبس الحق بالباطل ويلبس الباطل بالحق، ويجعل من الإمام وسيلة لإرضاء الخصوم وإسكات العموم، لذلك نجده يقول في الشقشقية:«..وطفقت أرتئي أن أصول يد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه! فرأيت أن الصبر على هاتان أحجة فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا..» لهذا اختار الصبر والمعارضة المدروسة دون الاستسلام، والتوعية وتربية الكادر الملتزم دون العنف الثوري وكل ذلك وفق أسلوب هادف هادئ رصين استطاع أن يعطي ثماره المرجوة.

والنتيجة الإمام(ع) عارض من سبقوه ولم (يجاري أو يستسلم)، ومعارضته لم تكن حمل سلاح لأن المعارضة لها صور عديدة قد يكون حمل السلاح أحد صورها وهو في الغالب أسوء الخيارات، بل تجلت معارضته بحركة إعلامية قوية لم يساوم فيها ولم يسكت أو يهادن ولم يفعل ما يقوي الحاكم ويشجعه على ظلمه بل فضح رموز المؤامرة وميز بين الحق والباطل وعرف الناس الصحيح من الخطأ وأين يقع مصيرهم من النهجين وأعطى من خلالها البديل الأمثل، فكانت حقاً حركة تراقب عن كثب مخالفات القادة وأخطاء الريادة ودعوة الجميع إلى الإسلام ونهجه القويم مهما كلف الثمن أليس كذلك؟!

(1) شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد، ج10 ص254.

(2) بهج الصياغة في شرح نهج البلاغة: ج4 ص519.

(3) الأحزاب: 36.

(4) بحار الأنوار: ج29 ص435 عن الاحتجاج: ج1 ص196.

(5) يلاحظ المتتبع للتاريخ أن الروم كانوا يتربصون بالإسلام الدوائر وكانت أية معركة داخلية كفيلة بفتح المجال أمام جيوش الروم لاقتحام بلاد الإسلام والقضاء عليه وهو في المهد.

(6) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: للقزويني ص361.

(7) شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد ج1 ص307 وبحار الأنوار: ج32 ص61.

(8) المصدر السابق: ص308 والبحار: ج32 ص62.

(9) نهج البلاغة: صبحي الصالح ص68.

(10) الروضة من الكافي: للكليني ص23.

(11) علل الشرائع: ج1 ص148 وعيون أخبار الرضا(ع): ج2 ص81.

(12) نهج البلاغة: صبحي الصالح ص68.

(13) المصدر السابق: ص263.

(14) المصدر السابق: ص52.

(15) المصدر السابق.

(16) شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد ج1 ص18.

(17) انظر نهج البلاغة: صبحي الصالح ص234.

(18) سورة الفتح: 25.

(19) إكمال الدين وإتمام النعمة: ج1 ص641 علل الشرائع: ج1 ص147.

(20) نهج البلاغة: صبحي الصالح ص188.

(21) شرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد ج1 ص165.

(22) نهج البلاغة: صبحي الصالح ص321.