الحاكم الجائر في (دائرة حسن الظن)؟!


السيد مرتضى الشيرازي

كيف يجب أن تكون علاقة شرائح الأمة بالسلطان الجائر؟! علاقة الرفض المطلق أم الخضوع المطلق أم الرقابة الصارمة والتعامل الحذر والتصدي عند أي منعطف؟

وما هي انعكاسات هذه الأنماط من العلائق على الأخلاق، الدين، الفكر، العقيدة، وعلى نمط العلاقة الأفقية والعمودية بين شتى أفراد المؤسسات وقطاعات الأمة و...؟

وما هي تأثيرات هذه الأسس الأخيرة على الاتجاه السلوكي والانتخاب النمطي لأية واحدة من تلك العلائق؟ إن هذه البحوث ونظائرها تحتاج إلى مجلد ضخم لاستكشاف رؤية شمولية ومنهج مترابط متكامل. إلاّ أن ما أخذناه على أنفسنا في هذا البحث أن ندرس العلاقة بين الأمة والدولة في إطار دائرة (سوء الظن) فحسب.

والتساؤل هو:

متى يجب أن نحسن الظن بالدولة؟ ومتى يحرم؟ وفي أية صورة علينا أن ننتهج منهج التشكيك والحذر المطلق من أية خطوة أو إشارة أو تصريح أو موقف يصدر من الحاكم الجائر؟ وهل تجري بالنسبة للحاكم الجائر معادلة «احمل فعل أخيك على سبعين محمل»؟ أم لا؟ ولماذا؟

للإجابة على ذلك لابد أن نقول:

أ - إن (الحكمة) في ذلك الردع عن سوء الظن بالمؤمنين هي:

إن الله سبحانه وتعالى أراد أن تتحكم أواصر المحبة وتتوثق عرى الأخوة بين المؤمنين كي يعيشوا الاستقرار والرضى وليتحولوا يداً واحدة تتحرك لبناء مجتمع صالح ومستقبل مشرق وليطهر المجتمع من شوائب الغيبة والتهمة و.. والتي يعد سوء الظن من أكبر عواملها. والأمر على العكس تماماً في المعادلة بين الحاكم الجائر وجمهور الناس، ذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد أن تحكم علاقة معاكسة تماماً لذلك بين الناس والجائر. أراد مزيداً من البعد والحذر والقطيعة والفصام لاعتبارات عديدة منها أن العلاقة مع الحاكم الجائر هي من المشجعات على الظلم، ومن أهم عوامل نسف أسس الصلاح في المجتمع.

قال تعالى:( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) وفي الروايات الدالة على حرمة التعاون مع الظلم حتى بمقدار مدة قلم أو ممن «يرى لهم قلماً أو لاق لهم دواة» وفي قول الإمام الصادق (ع) في رواية يونس بن يعقوب:« لا تعنهم على بناء مسجد».

وفي قضية الإمام الكاظم (ع) وصفوان الجمال الذي ردعه عن إكراء جماله لهارون الرشيد رغم أنه كان يحج بها بيت الله الحرام مؤشر واضح على كل ذلك.

هذا هو(الأصل) ههنا وما عداه استثناء، على العكس من الأصل في عامة الناس، ومما يشهد على أن الشرع الأقدس أراد أن تحكم علاقة البعد والحذر والقطيعة بين الأمة والجائر ما ذكر في المكاسب:«ثمة أن ظاهر الروايات كون الولاية - أي من قبل السلطان الجائر- محرمة بنفسها مع قطع النظر عن ترتب معصية عليه من ظلم الغير».

ولنا أن نقول أن توثيق عرى المحبة إذا كان حكمة في تشريع حرمة سوء الظن فإن العلة في حرمة حسن الظن بالحاكم الجائر هي تكريس الحصانة وإقرار طوق عازل يجنب الأمة الانسياق وراء مغريات السلطان في كل الظروف وهي فرض الحمى باعتبار أن «من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه». قال في المكاسب في تعليل جواز غيبة الظالم :«ولأن في تشريع الجواز مظنه ردع الظالم وهي مصلحة خالية عن مفسدة فيثبت الجواز لأن الأحكام تابعة للمصالح) المكاسب (الثاني: تظلم المظلوم» والأمر في المقام كذلك إن لم يكن أولى.

إن سوء الظن بالجائر هو ذلك الحاجز السميك الذي يحول دون أن يستطيع خداع السذج والبسطاء بأحابيله ودون أن يستطيع تمرير مخططاته لمزيد من السيطرة ومزيد من التحكم والاستبداد ومزيد من الاستئثار بالأموال والثروات ومزيد من مصادرة الحقوق وكم الأفواه.

إن فرض ذلك الحصار الكبير ضد الحاكم الجائر هو الذي يحول دون أن يتخذ العلماء من عبيد الدنيا، حسن الظن بالجائر وسيلة للتغطية على عمق دوافعهم نحو التسبيح بحمد الحاكم والالتفاف حوله وتقبل عدد من المناصب والمسؤوليات والأدوار في دائرته وفي ظله وتحت مظلته، متسترين بستار (الإصلاح) و(المصلحة العامة) وان ذلك هو الطريق الوحيد للخدمة، قال رسول الله(ص):«إياكم وأبواب السلطان وحواشيها فإن أقربكم من أبواب السلطان وحواشيها أبعدكم عن الله تعالى» وقال الإمام الصادق(ع):«ما اقترب عبد من سلطان جائر إلاّ تباعد من الله».

ب - وإلى جوار ذلك قد تكون الحكمة في تشريع قواعد كأصالة الصحة وسوق المسلمين ويد المسلم و... هي قاعدة التسهيل حيث ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) .

وبلحاظ أن الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب، وبلحاظ (ضرب القانون) في مواقفه وقراراته.

وعلى العكس من ذلك المعادلة مع الحاكم الجائر (النوعية) أي التي تترك تأثيراً على جموع من الناس فإن ما قد يبدوا تسهيلاً عند إقرار حسن الظن بالحاكم الجائر هو في جوهره تعقيد وتعصيب وخطأ استراتيجي، ذلك أن العبرة بالمآل والغايات وليس بالحال والرغبات، بل أن الشارع قد صرح بمطلق المقاطعة وإن بدت تصعيباً في العديد من الروايات ومنها في رواية سلمان الجعفري:«إن الدخول في أعمالهم والعون لهم والسعي في حوائجهم عديل الكفر، والنظر إليهم على العمد من الكبائر التي تستحق بها النار».

وكما أن الجهاد صعب في الحال، حلو المذاق في المال، كما قال الإمام علي(ع):«جاهدوا تورثوا أبناءكم عزاً» كذلك سوء الظن بالجائر بما يستلزمه من بعد وفصم، يحمل المرء بعض (العنت) و(المشقة) إلاّ أنه يربحه الموقف كله وسيجني المرء من صبره وصموده أحلى الثمار.

والمعادلة في ذلك كالمعادلة في ( لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولا ليسلطن الله عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم) وكالمعادلة في «صبروا أياماً طويلة أعقبهم راحة طويلة».

وكمن يتجنب وهو في غابة موحشة اللجوء إلى عرين الأسد، حذراً من المبيت في العراء.

إن السلطة الجائرة هي )قطب رحى) الفساد وهي (المغناطيس) التي يجذب بكل قوة وعنف، كل من يقترب منه، نحو مستنقع الرذائل المادية والظلم والضلال والإضلال، ذلك أنها التجسيد الأكبر أيضاً لكل الشهوات الحيوانية الدنيئة.

وتصرفات الطغاة كالأعم الأغلب فيها الانطلاق من هذا المنطلق إذ أنهم (قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله) فكان مقتضى الحكمة عدا تشريع أصالة الصحة(1). في تصرفاتهم النوعية. وكان الظن النوعي العقلائي يذهب إلى أن تصرفاتهم تنبع من قاعدة الطغيان التي أشار إليها جل وعلا بقوله:( إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى) .

وكان مقتضى القاعدة عدا تشريع حسن الظن بأفعالهم وقراراتهم، بل تشريع لزوم الحذر والحيطة وسوء الظن بهم بشكل متكامل.

ج - يقول جل وعلا :( اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم) و(ظن السوء بالحاكم الجائر) ليس من (بعض الظن الذي هو إثم) فليس مشمولاً (اجتنبوا).

والدليل على عدم كون سوء الظن بالجائر إثماً:

أولاً: شهادة العقل والوجدان القاضي بأن حسن الظن بأمثال الحجاج وهتلر وصدام قبيح مذموم وسوء الظن بأفعاله وقراراته المستلزم للاحتياط والحذر منه ودراسة (ما وراء الأكمة) وما الذي يهدف وأي يُبيّت؟ حسن ممدوح.

ثانياً: الآيات والروايات الكثيرة الدالة مطابقة أو التزاماً أو بدلالة الاقتضاء على ذلك وهي على طوائف:

الطائفة الأولى: ما صرحت بعدم حرمة للحاكم الجائر وأصحاب البدع ففي رواة أبي البختري :«ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع، والإمام الجائر، والفاسق المعلن بفسقه» وقوله تعالى :( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق) وقد اتخذها الفقهاء دليلاً على عدم حرمة اغتياب من ظلمك، وهي بالدلالة على عدم حرمة سوء الظن بالظالم أولى وأقوى، للأولوية، كما سيأتي.

ويمكن التمسك بالإطلاق الأزماني والأحوالي لـ(السبيل) وتعضد هذا التمسك سائر الآيات والروايات التي ذكر بعضها في هذا المقال.

الطائفة الثانية: ما دل على عدم حرمة اغتياب أشباه الحاكم الجائر وما دلَّ على استثناء موارد للغيبة منها: ( إلاّ من ظلم) ولنصح المستشير ولإصلاح ذات البين وغير ذلك، كل ذلك بالأولوية القطعية.

الطائفة الثالثة: ما صرح (بوجوب مباهتتهم) كما ورد سند صحيح عن الرسول الأعظم (ص):«إذا رأيتهم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم، والقول فيهم، والوقيعة، وباهتوهم كيلاً يطعموا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم، يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم الدرجات»(2).

ومن الواضح أن بهتان المؤمن والافتراء عليه واتهامه بما ليس فيه من أعظم المحرمات، ومع ذلك كان هذا واجباً -وليس جائزاً فقط- في حق الحاكم الجائر، فكيف بسوء الظن به وهو الذي لا يرقى إلى درجته أبداً بل كونه محرماً من مواطن الخلاف، وكون البهتان من أشد المحرمات مما لا شك فيه.

تبقى هنا الإشارة إلى أشكال قد يتوهم على الآية الشريفة فـ( إن بعض الظن إثم) قضية غير مسوّرة بالاصطلاح المنطقي -مهملة فكيف تقع موقع التعليل لـ( اجتنبوا كثيراً من الظن) ؟ وبعبــــارة أخرى الاشــــتغال اليقــــيني يستدعي البراءة اليقينية ولا اشتغال يقيني ههنا(3).

يجيب السيد الشيرازي دام ظله على هذا السؤال قائلاً:«فإنه من العلم الإجمالي بالحرام في البين إذ لو لم يكن منجزاً لم يحرم (كثيراً من الظن) لأجل البعض الذي هو إثم» (الفقه القواعد الفقهية: ص154).

وذلك في العلم الإجمالي منجز في الشبهات المحصورة، وفي الشبهات غير المحصورة إذا كانت من قبيل شبهة الكثير في الكثير والمقام من هذا القبيل.

وإلى المعادلة مع الحاكم الجائر وسوء الظن به فيمكن القول بالخروج التخصيصي عن دائرة الحرمة بدلالة تلك الطوائف من الآيات والروايات السابقة الذكر. ويمكن القول بعدم تنجز العلم الإجمالي في شأنهم وذلك نظراً لانقلاب المعادلة في حقلهم.

توضيح ذلك: أن تصرفات الحاكم الجائر وقراراته(4) (الداخلة في الدائرة المشكوكة) ليس المطابق منها للشرع من الكثرة بحيث تنطبق عليه معادلة شبهة الكثير في الكثير في أطراف العلم الإجمالي هذا إن لم نقل بأن شتى الأدلة والقرائن المقامية تشهد بعدم ذلك فتأمل.

وهنالك العديد من الأدلة والشواهد الأخرى التي تؤكد ضرورة أن ينتهج المجتمع الإسلامي منهج (سوء الظن) تجاه الحاكم الجائر وأن ننظر إليه وإلى أعوانه ويتعامل معهم كما يتعامل مع الوحوش الكاسرة بل كما يتعامل مع حاملي الأمراض المعدية والمجذومين وأشباههم، وربما ننظر إلى ذلك في مقال قادم إنشاء الله تعالى.

(1) استخدمنا أصالة الصحة ههنا القاصدين الأعم كما لا يخفى.

(2) وممن صرح بكون هذه الرواية صحيحة الشيخ الأعظم في مكاسبه مبحث مستشفيات الغيبة والسيد الخوئي (قدس سره).

(3) أ اشتغال الذمة بوجوب اجتناب سوء الظن حتى يحقق بترك كافة أفراده.

(4) غير المعلوم مطابقتها للشرع سواء كان التزامهم بالعمل على طبق الشرع فيها اضطراراً أو اقتناعاُ أم لغير ذلك.