مجلـــة النبــــأ       العددين (23 ـ 24 )       السنــــة الرابعــــة       ربيع الثاني ـ جماد الأول  1419 هـ

بين الحــق و البـاطـــل ... ميــــزان

علي عبد الرضا[email protected]

الإنسان تارة يكون له ميزان فكري دقيق، فيحكم على الأشخاص وعلى الأفكار من خلال الميزان الذي يحمله، فإذا تراءت أمامه فكرة ما أو شخص معين، يضع ذلك في الميزان، فإذا حكم الميزان على الفكرة أو الفرد بالإيجاب فحينئذٍ لا مناص عن تقبل ذلك عن رحابة صدر ورضا كبير.

وتارة لا يكون للإنسان ميزان فكري محدّد، فكل ما يعرض عليه من أفكار وأشخاص يحكم عليها بشكل عشوائي وسريع، أما إرضاءً لرغباته وأهوائه أو رغبات أصدقائه وأقربائه.

مثلاً: فكرة الرأسمالية الغربية، عندما يقرأها رجل غني قد يحكم عليا بالإيجاب والصلاح، وإذا طُرحت على رجل فقير فسرعان ما يلفظها بشدّة وربما يثور عليها بأساليب شتى، ترى من هو المخطئ ومن هو المصيب هنا؟. الغني والفقير كلاهما لم يحكما على الفكرة بميزان الإسلام وأحكامه وإنما حكما عليها بهوى أنفسهما ورغباتهما، أما مبادئ الإسلام وتعاليمه فهي مسألة ثانوية ربما تأتي في مراحل لاحقة إن هي صبّت في مصالحهما.

الفرد المسلم له ميزان فكري محدّد وهو الإسلام، فإذا امتلك هذا المقياس فيجب عليه أن يحكم بما يمليه عليه، لا أن يتخلّى عنه عندما تضرب مصالحه أو تتحقّق تبعاً للظروف والضغوط والأجواء المحيطة به.

وعند هذه النقطة يمكن التوقف لتمييز المسلم الحقيقي من المسلم غير الحقيقي، فالمسلم الملتزم من لا يعطي أي اهتمام لأفعال وأقوال الآخرين الخاطئة وإن كانوا أكثرية فالحق لا يترك لقلة سالكيه كما أن الباطل لا يؤخذ به لكثرة مريديه، فهناك مقياس معين هو الذي يحدّد المسير والطريق الأسلم وإن جلب المصائب وربما القتل.

علي (ع) مع الحق

الذين سمعوا قول رسول الله (ص) وهو يردّد: «عليٌّ مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار» ربما يكونوا بالآلاف، فلماذا تناسوا هذا الحديث وغيره من الأحاديث الواردة في حق أمير المؤمنين (ع)في وقعة صفين إلا عمار بن ياسر وثلّة قليلة من الحواريين؟

ما هو الميزان الذي سار عليه أولئك الذين اختاروا طريق معاوية؟

وعلى أي مقياس بنى عمار بن ياسر قراراته وهو يسلك طريق علي (ع)؟

الطرق كانت سالكة وواضحة ولا تحتاج إلى عناية وجهد؛ فمن كان همّه المال والمنصب والجاه والحضور عند السلاطين ولعق موائدهم فهو بصف معاوية وإن كان بعيداً عنه، والحالة هذه لا تنحصر بمعاوية وزمانه ففي كل زمن هناك أمثال معاوية وهناك من يتمسح على أعتاب أبوابه.

بينما الذي يطلب الحق يهون عليه أن يراه وحيداً وإن جرّه ذلك القرار إلى ضيق المعيشة وعزلة المجتمع، وهذا بالتحديد الميزان الذي ارتكزت عليه مواقف عمار بن ياسر وأصحاب علي (ع).

سنوات الجهاد والعاقبة..

طلحة والزبير جاهدا في سبيل الإسلام نصف قرن تقريباً، وجهادهما كان جهاداً شاقاً ومتعباً، فقد نصرا الإسلام في الوقت الذي كان الإسلام يحتاج إلى مثل هؤلاء وبأمسّ الحاجة، ولكن في أواخر أيام حياتهما خرجا على إمام زمانهما وقاتلاه بعد أن بايعا في الغدير وفي يوم تسلّمه الخلافة، ولو كنا نحن في ذلك الزمن ماذا كان موقفنا تجاه طلحة والزبير؟

البعض ينزل بكل ثقله ويقول لك إنهما يمتلكان مخزوناً هائلاً من الجهاد المرير!

والإسلام يقول أنهما خرجا على إمام زمانهما الحق فانحازوا إلى جهنم.

فعلى أي الفقرتين نشطب؟ وماذا كنا نفعل لو كانت لنا معهم صلات قرابة؟

العمق التاريخي للفرد وما يحمل من ألقاب ونياشين ومآثر وبطولات قد تمحى بزلة قدم واحدة فقط ويهوي صاحبها إلى الحضيض، لأنّ التفاضل بين الأفراد ليس في هذه الأمور، وإنما المقياس اتباع الفرد للإسلام والأخذ بمبادئه وتعاليمه وإن كانت صفحات سجله خالية من الأوسمة والشهادات.

ربّ تالٍ للقرآن..

هناك صورتان لعبد الملك بن مروان: صورة قبل اعتلائه الحكم وصورة بعد ذلك.

الأولى: صورة الإنسان الزّاهد المواظب على قراءة القرآن!

والثانية: صورة الحاكم المستبد الذي لايتورّع في ارتكاب الموبقات والمفاسد.

بماذا نحكم على قارئ القرآن هذا؟ وهل يصدّق المجتمع إن هذا الحاكم يقوم بممارسات في منتهى الوحشية؟ وبعد أن ترسّخت صورته الماضية وما تحمل من زهد وتقوى وورع مزيف في أذهان العامة؟.

مصيبة البعض أنه عندما يحمل صورة أولية عن شخص ما فمن الصعوبة محوها أو إزالتها إذ تبقى محوراً في الحكم على هذه الشخصية في جميع الأعمال اللاحقة، حتى إذا تيقّن إلى وجود انتهاكات للقوانين والأعراف تراه يحمل الآخرين ويبرّئ المقصّر لأن الأخير كان قارئاً للقرآن!!

الإسلام يعطينا قاعدة عامة في التعامل مع هكذا نماذج وأشكال ويقول لنا العبرة ليست في كثرة القراءة والمطالعة لكتاب الله وإنما العبرة في التمعّن والتفكر والتدبّر بكلامه سبحانه ومن ثم العمل بأحكامه والآخذ بهديه، فربّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه.

وما أكثر من يلعنهم القرآن هذا اليوم حيث أصبحت تعاليم السماء شعارات توضع على الجدران بينما التطبيقات تأتي من الخارج في قوالب جاهزة.

حمامة المسجد

والمثال الآخر في هذا المجال عبد الله بن عمر الذي لازم مسجد رسول الله (ص) وداوم على الصلاة فيه حتى عُرف بـ(حمامة المسجد) لكثرة مكوثه في المسجد وعدم الخروج منه حتى للمسائل الضرورية، يقول عنه التاريخ أنه وفي آخر سنين حياته بايع طاغية العراق الحجاج بن يوسف الثقفي حيث دخل عليه وكان مشغولاً في الأكل فأخذ قدم الحجاج وصافحها وقبّلها ليبرّئ ذمته قبل أن يموت لأنه سمع رسول الله (ص) يقول مَنْ مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية!!

لماذا لم يتذكّر الحديث مع إمامه الحق ولم ينصره عند خروجه إلى كربلاء؟

كيف اختلطت الموازين على صحابي!! بحيث جعلته يتخبّط لا يعرف أبسط ملامح وصفات الحاكم المسلم، أليست الأهواء والميول الشخصية هي الحاكمة والمسيطرة على ذهنية عبد الله بن عمر وتصرّفاته؟ وأين ذهبت كثرة عبادته وصلاته؟ وهل العبرة في الكثرة لرسم الفاصل بين المسلم الواقعي والمسلم المزيف والحديث الشريف يقول لا تنظروا لكثرة صلاة الرجل وانظروا إلى عمله؟.

الرسول (ص) القدوة

حمزة سيد الشهداء هذا الرمز العظيم الذي بفقده بكى رسول الله (ص) وعياله أشدّ البكاء ، وانهدّ ركن أساسي من الأركان التي كان يحتمي ويستند عليها النبي (ص) في تبليغ الرسالة السماوية، وفي ظروف مصيرية صعبة جداً، ناهيك عن عظمة الشخصية وتألّقها وما تحمل من مثل وأخلاق عالية.

ماذا نحكم على قاتل هذا القائد الفذ عندما يأتي إلينا تائباً معلناً إسلامه؟ ربما العاطفة وحالة التشفّي تضغط بقوة لقتل هذا الرجل أو التمثيل به!! في حين أن الإسلام له رأي آخر ( وإن تعفوا أقربُ للتقوى) ومنهج النبي (ص) يدعو للعفو عما سلف وإن كان قاتلاً لحمزة سيد الشهداء.

ومن هنا تنبع وتظهر عظمة رسول الرحمة والإنسانية، فلم يحدّثنا التاريخ القديم والحديث ولم نسمع في الوقت الحاضر عن قائد عفا وصفح عن خصومه وأعدائه بعد ما ظفر بهم بقدر ما فعل رسول الله (ص) على الرغم من أنه كان يمر في ظروف عصيبة جداً.

ولعلّ قصة حاطب بن أبي بلتعة مثالاً آخر يظهر الروح العظيمة التي كان يحملها نبي الرحمة (ص). فعندما كان رسول الله (ص) يجهز جيشه ويستعد للتوجّه نحو مكة لفتحها، قام حاطب بإرسال كتاب إلى أهل مكة بواسطة إحدى النساء يحذّر فيه أهل مكة من هجوم النبي (ص) المرتقب، فنزل جبرائيل وأخبر الرسول (ص) بالقصة، فبعث علياً (ع) مع جماعة فلحقوا بالمرأة وهي ما زالت في الطريق ففتشوها وأخذوا الكتاب منها فأرسل الرسول (ص) في طلب حاطب وقال له: هل تعرف الكتاب؟ فقال: نعم. قال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنّ أهلي هناك وخفت عليهم.

ماذا يصنع الساسة غالباً مع هذا الشخص عندما يقع بين أيديهم وهم يمرّون في ظروف حرب والاستعدادات قائمة على قدم وساق للتوجه للمعركة الحاسمة؟. أليس القتل هو أهون الإجراءات التي يتخذونها تجاه حاطب كما فعل عمر عندما جرّد سيفه مخاطباً النبي (ص) قائلاً له دعني أضرب عنقه؟

إن القرارات السريعة والطائشة لا تخرج وفق ميزان الإسلام وحساباته في الغالب وإنما تنبع من ضعف أو حقد أو هوى يضغط بقوّة ليجر صاحبه إلى النار.

رسول الله (ص) عندما عفا عن حاطب قائلاً لعمر وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فغفر لهم. استطاع أن يصنع من هذا الإنسان الخائف (الجاسوس) في نظر البعض شخصاً آخر حمل فيما بعد رسائل النبي (ص) إلى الملوك والزعماء لينقل إليهم مبادئ الإسلام، وهل هناك رسالة أخرى للسماء غير إنقاذ البشرية من دياجير الظلام إلى شاطئ الأمن والسلام؟ وهل هناك محور آخر في حركة الرسول (ص) يفوق رعاية الإنسان وتهذيبه واحترام حقوقه؟

نهج علي (ع)

الذين يعلنون أنهم ينهجون نهج علي (ع) وينهلون من فكر علي (ع) لا بدّ وأن نتوقف عندهم كثيراً لنعرف حقيقتهم ونواياهم وأهدافهم، وبما أن نهج علي (ع) هو عصارة تعاليم السماء وسيرة الأنبياء والصلحاء، والأنموذج الأوحد للحكومة الإسلامية الواقعية، فمن غير الممكن أن نتقبّل كل فكرة أو أطروحة أو مشروع يطرح باسم علي (ع) دون أن نعرضها على (المحك) وهو نهج علي (ع) فإذا وافقته نأخذ بها وإن كانت ضارة بمصالحنا وأهدافنا وإن خالفته فنلفظها وإن خرجت من اتقى الأتقياء. ومن جملة ما يتميز به نهج علي (ع):

ـ إنه لا يعرف المساومة على المبدأ ولا يأخذ بإنصاف الحلول وإن كانت تصب في دوام حكومته.

ـ إنه لا يرضي الآخرين على حساب الحق ولو كان الآخر أخوه من دمه ولحمه.

ـ الناس عند علي (ع) صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق فلا وجود للحواجز النفسية والقطرية في دولته.

ـ علي (ع)كان دائم المشاورة مع أهل الخبرة والدراية من رجال العلم والفضيلة ولا يرضى بمشاورة أصحاب النفوس المريضة الذين يلتفّون حول الحاكم دائماً ليجرّوه إلى مصالحهم وأهدافهم..

ـ علي (ع) كان يسدّ رمقه بخبز الشعير وبعض الملح لكي يواسي أهل الحجاز ومن لا عهد له بالشبع.

ـ علي كان أخاً للشعب وأباً رحيماً يبادلهم المحبة والعطف والوفاء والإيثار.

ـ علي لم يكن في يوم من الأيام عقبة كبيرة في طريق رفاه الشعب وسعادته ولم يكن سيفاً مسلّطاً على رقابهم ولم يكن (ع) ممن يطلب النصر بالجور والحكم بالسجون والدماء والكذب والخداع.. هذه بعض ملامح نهج علي (ع) وهي المعيار في تقييم الحكومات والأفراد.

بنو الحسن (ع)

لقد ثار أحدهم في إحدى البلاد الإسلامية، وحين مرّ عليه أحد تلامذة الإمام الصادق (ع) فسأله: هل أتيت من المدينة وهل رأيت جعفراً؟ قال الراوي: نعم أتيت من المدينة وقد رأيت الإمام، ثم سأله: وهل قال لك شيئاً يتعلّق بي؟، فتهرب الراوي عن إخباره بنتيجة ثورته وقال له: اعذرني، فقال الثائر: بالله عليك قل لي ماذا قال؟ قال: قال لي الإمام أنت تمرّ في هذه المناطق وترى فلاناً وتقول له أنت تثور وثورتك غير نافعة وتقتل. قال الثائر: نفس هذا الكلام سمعناه من والد الإمام من قبل، فيقول له الراوي: فلماذا لا تتبع هذا الإمام؟ فيرد عليه الثائر بكلمات نابية ويتّهم الإمام بالحسد والجبن رغم اعترافه بارتباطه بالسماء؟!

وواضح أن هذا الثائر لم يكن يتبع ميزان الإسلام المخالف لرغباته، إن الله أراد تكريس الزعامة في أهلها ومن هم كفؤ لها وهذا الثائر لم يقبل هذا الوضع فاصبح معانداً، ووصلت الحالة إلى ضرب الإمام الصادق (ع) في بعض المرّات وحبسوه يوماً وقتلوا عمه.

نفس الشيء يجري في ا لوقت الحاضر وربما بشكل أكثر مرارة، فهناك أشخاص وأفكار نحبها والإسلام يرفضها فما هو موقفنا؟، وهناك أفكار وأشخاص نكرهها والإسلام يحبها فماذا يكون موقفنا؟.

توجد امتحانات كثيرة والإنسان يجب أن يمرّن نفسه على أن يكون مع الحق ولو كان مخالفاً لرغباته؛ نعم هناك قضايا مهمّة ولكن القضية الأهم والأساسية هي أن أمرّن نفسي على أن لا أعرف غير ميزان الإسلام يقول أمير المؤمنين (ع): «كنا على عهد رسول الله (ص) نقتل آباءنا وإخواننا» وهذه الحالة قد لا أستطيع تحصيلها من كتاب أو محاضرة أو طريقة جاهزة وإنما أحصلها من الواقعية والمبدئية وتعويد النفس على الحكم على الأشياء والقضايا التي نواجهها من خلال المقياس الإسلامي والاقتداء بأصحاب النفوس العالية الذين كانوا مثالاً في هذا المجال.

( وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون ثم تردون إلى عالمِ الغيبِ والشهادةِ فينبِّئكم بما كنتم تعملون) .