...و ليخـــش الذيـــن لـــــو


علي عبد الرضا           [email protected]

يظلّ الملف الشخصي لكلّ فرد مفتوحاً للتحقيق وحاضراً في محكمة العدل الإلهي وهو يتخطّى العوالم الثلاثة (الحياة، البرزخ، القيامة)، فالجزاء لا ينحصر بمرحلة دون أخرى، إنما هناك غربلة منظّمة و متواصلة للأعمال البشرية في جميع هذه العوالم. وثواب الأعمال أو عقابها هو الآخر لايقتصر على يوم الحساب، بل هناك من الأعمال ما تتطلّب ردّاً قوياً في الدنيا على صاحبها أو ما يتعلق به وحواليه، بالإضافة إلى ما يلاقي في عالم البرزخ من محطات استجواب ومضايقة مستمرة.

وأوّل موضوع ينظر إليه عند فتح أي ملف هو (حق الناس) ثم يتلوه مباشرة (حق الله) سبحانه وتعالى، وبعبارة أخرى فإن ذنوب الناس على نوعين، ذنوب ترتبط بالمخلوق ذنوب لها علاقة (بالخالق) عزّ وجل، أي أن العبد يُسأل عن الذنوب التي أقترفها بحق المخلوق، ثم الذنوب التي ارتكبها بشأن الخالق.

وتذكر الروايات المستقاة من أهل بيت النبوّة والعصمة (عليهم السلام) بأن الذنوب التي لها علاقة بالناس تكون أكثر تعقيداً وتحقيقاً وبالخصوص يوم الحساب الأكبر. فيروي الشيخ الصدوق في أماليه: عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال «الظلم ثلاثة؛ ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره الله، وظلم لا يدعه، فأمّا الظلم الذي لا يغفره الله عزّ وجل فالشرك بالله، وأما الظلم الذي يغفره الله عزّ وجل فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله عزّ وجل، وأما الظلم الذي لا يدعه الله عزّ وجل فالمداينة بين العباد»(1).

أما لماذا لا يغفر الله تعالى ظلم الشرك؟، لأنّه لو فعل ذلك لكان ظلماً بالمغفرة التي هي إكرام لا يستحقها إلاّ من كان أهلاً لها.. ومنحها لغير أهلها تضييع الإكرام وإتلاف له، وبالتالي مناف ذلك للعدالة والفضيلة. وأما ظلم الإنسان لنفسه بترك ما أمر الله، أو فعل ما نهى الله، فمن فضل الله أن يغفره.. وقد وعد بالمغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحاً.. {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى}(2). وأما ظلم الناس بعضهم لبعض فمن الطبيعي أن لا يدعه الله حتى يستوفي المظلوم من الظالم كل حقوقه ويرد كل اعتباراته، وهذا مقتضى العقل و(يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم) (3).

«ينقل الحاج النوري رواية عن أحد علماء أصفهان المدعو السيد محمد بأنه وبعد وفاته بفترة قصيرة رآه ولده الذي يعيش في النجف الأشرف في المنام فسأله عن أحواله، فأجاب الأب: إنني الآن أطلق سراحي. فتعجّب ولده من الأمر وسأله: كيف ذلك وأنت العالم المتقي الورع الزاهد؟ فيقول: لقد كان بذمتي دين بمبلغ (18) ثمانية عشر ريالاً إيرانياً للسقا المشهدي رضائي، وقد كتبت جميع ديوني في وصيتي ولكنني نسيت هذا المبلغ البسيط وبقيت معتقلاً طيلة هذه المدّة حتى عفا عني السقا رضائي وأطلق سراحي. وبعد أن استفاق الابن من نومه، كتب مباشرة رسالة إلى أخوته في أصفهان يخبرهم بأنه رأى هذا الحلم ويطلب منهم أن يجدوا رضا السقا.

و فعلاً يذهب الإخوة إليه ويسألونه عن الحادثة فيقول: لقد انتظرت مدّة بعد وفاة أبيكم علّكم تعطوني ما بذمّة والدكم من دين لي، ولكنكم لم تفعلوا، فتضايقت في البداية ولكنّني فكرت ربما نسي الوالد أن يكتب في وصيته هذا الدَّين البسيط فسامحته وتخليت عن دَيني»(4).

يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام):«إن الله تبارك تعالى إذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه فقال: و عزّتي و جلالي لا يجوزني ظلم ظالم، ولو كف بكف، أو مسحة بكف، ونطحة ما بين الشاة القرناء إلى الشاة الجماء، فيقتصّ الله للعباد بعضهم من بعض حتى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة ثم يبعثهم الله إلى الحساب»(5).

للظلم عقوبتان: انتقام في الدنيا، وعذاب في الآخرة. والانتقام في الدنيا، قد يكون في نفس الظالم، وقد يكون في ، قد يكون في، وقد يكون في اثنين منها، وقد يكون في جميعها كلها. ويختلف ذلك باختلاف نسبة الظلم، وحدود الظالم، وحدود المظلوم، والمناسبات الأخرى التي بها  - لمجموعها - يزن الله تعالى بكلّ دقة الأمور، ومنها المظالم.. فقد ورد عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: «من ارتكب أحداً بظلم، بعث الله عزّ وجل عليه من يظلمه بمثله، أو على ولده أو على عقبه من بعده»(6). وفي رواية أخرى أن الإمام الصادق (عليه السلام) قال مبتدئاً:«من ظلم سلَّط الله عليه من يظلمه أو على عقبه، قال الراوي: فذكرت في نفسي، فقلت: يظلم هو، فيسلّط الله على عقبه، أو عقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلم: إنّ الله يقول:{وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذريّة ضعافاً خافوا عليهم، فليتّقوا الله وليقولوا قولاً سديداً}(7)» (8).

و هذا يعني أن الإنسان مرّة يجني ثمرة عمله في نفسه، إن كان محسناً يسعد في حياته، وإن كان ظلوماً يذوق وبال ظلمه {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره}(9). وقوله تعالى:{إن الله تعالى لا يضيّع أجر المحسنين}(10)، {له في الدنيا خزي}(11). إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أن الخير والشر من العمل له نوع انعكاس وارتداد إلى عامله في الدنيا.

ومرّة يكون الأمر أوسع من ذلك، إن عمل الإنسان خيراً أو شراً ربما عاد إليه في ذريته وأعقابه، قال تعالى:{أما الجدار فـــكان لغلامين يتيـــمين في المديــنة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك} (12)، وقال تعالى:{و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم..} (13).

إذن العمل الصالح والطالح، النعمة والمصيبة كثيراً ما يحلاّن على الإنسان بما كسبت يداه وهذا أمر مألوف ومشهود، وأيدي آبائه. ولكنّ السؤال هنا كيف يحمّل الباري عزّ وجل جزاء شخص على شخص آخر؟، وماذا فعل أبناء الظالم حتى يبتلوا بمن يظلمهم، ويتحمّلوا وِزر ما جناه والدهم؟ أليس هذا ما يناقض قوله تعالى في العديد من آياته الشريفة؟ أمثال:

{ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا نزر وازرة وزر أخرى}(14).

{من أهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}(15).

{و لا تزر وازرة وزر أخرى ..} (16) (17) (18).

{كل امرئ بما كسب رهين}(19).

{كل نفس بما كسبت رهينة}(20).

والجواب:

أولاً: إنّ هذه الآيات على اختلافها تشير إلى ما نحن بصدده وإنما هي إما منحصرة في المسائل الإعتقادية (التوحيد، النبوة، المعاد) وإما إنها تشير إلى جانب العقوبة الأخروية وما يكسبه الإنسان في هذه الأمور يكسبه على نفسه فقط ولا يتعدّاها إلى عقبة أو عقب عقبة. فالمشرك بالله والكافر، أو الرافض لتعاليم الرسل والأنبياء أو المنكر ليوم الآخرة سيكتوي بنار اعتقاداته الخاطئة وأفكاره المنحرفة ولا ينال أولاده وأحفاده من ذلك شيئاً.

الله عزّ وجل يقول بحق الأمم السالفة التي عبدت غير الله {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون}(21). بينما الأمم الظالمة يقول عنها:{وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا}(22).

ثانياً: إن الحياة كلّها سلسلة مترابطة الحلقات وتكاليف الإسلام فيها إنما هي تكشف عن ذلك الترابط المتين، الذي كوّن الله الكون على أساسه.. وترابط الآباء مع الأبناء كما هو في النسب، وكما هو في سراية الأمراض، القوّة والضعف، الذكاء والغباء، البياض والسواد، الطول والقصر، ونحوها غالباً، كذلك الترابط الواقعي التكويني بين الآباء والأبناء في معادلة (العدل والظلم في دائرة الحياة الدنيا).. فالأثر الوضعي الكوني لظلم الأب هو ابتلاء أولاده من غير أن يكون ظلماً على الإبن من أحد إلا من أبيه وذلك نظير ما لو شرب الأب الخمر وواقع زوجته فخرج الإبن مريضاً أو صرف الوالد كل أولاده سفهاً فإنه سيحرم الإبن عن الإرث، فظلم الأب يخلّف أثر الانتقام الطبيعي الواقعي في الإبن.

ثالثاً: الله سبحانه وتعالى إضافة إلى توجيهه الأوامر للناس بالترحّم والترؤف على ضعفاء الغير، أرشدهم أيضاً إلى العواقب الوخيمة لأعمالهم وحذّرهم وأخافهم ممّا سيحل على ذريتهم بعد موتهم عندما أحلوا ذلك على ضعفاء الآخرين، وهذا التعبير فيه إثارة قوية لقلوب الآباء المرهفة والحسَّاسة تجاه ذريتهم الضعاف، فيذكرهم بالموت الذي لابدّ منه وحال صغارهم عندما يوكّلون إلى أناس لارحمة لهم و لاعاطفة، فيدعوهم للخشية على ذرّيتهم من خلال المحافظة على حقوق الآخرين وليس الخشية من الله، حيث أن القلوب القاسية الظالمة لاتردع إلا بعد أن تهدَّد في نفسها أو بعزيز لها، وغير ذلك لا يحرّك فيها وازعاً.

رابعاً: إنّ في ذلك إرفاقاً بالأولاد ولطفاً بهم إذ أولاد الطغاة الظالمين إذا ملكوا الأموال والرقاب إقتضت الطبيعة الغالبة على النفس البشرية أن يبقوا ظالمين طغاة كآبائهم {إنّ الإنسان ليطغى إن رآه استغنى}(23)، فالله تعالى جعل كثيراً من أولاد الظالمين فقراء مستضعفين كي لا يظلموا مثل آبائهم فهو في واقع الأمر وجوهره (لطف) وإن بدا (ظلماً)، ويكون هذا الإخبار رادعاً لكثير من الآباء عن الظلم نهائياً، ورادعاً لكل الآباء عن بعض أنواع الظلم، تحنناً على أولادهم.

خامساً: (سنّة الله) هي القانون العام الذي يحكم أفعال البر وسلوكهم، وما يترتب على ذلك من نتائج معينة في الدنيا والآخرة، والسنّة تتسم بالثبات والاطراد والعموم، وهذا هو شأن القاعدة القانونية، فهي ثابتة لا تتغير، قال تعالى:{فلن تجد لسنّة الله تبديلاً ولن تجد لسنّة الله تحويلاً}(24). 

فالآية الكريمة:{و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم..} ليس فيها ما   يثير الاستغراب و السؤال لأن الدار دار مكافأة (كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد)(25)، (من عامل بالبغي كوفئ به)(26) ، ومن يعمل سوءاً يلق جزاءه في نفسه أو ولده، والجزاء بحسب سنّة الله تعالى أثر طبيعي للعمل لا يتخلّف عنه، وسنّة الله تعالى كما هو واضح ثابتة ومطردة وعامة غير مقتصرة على فرد دون فرد ولا على قوم دون قوم، ولولا ذلك لما كان معنى في ذكر قصص وأخبار الأمم السابقة، وطلب الاعتبار بما حلّ بهم، ولما كان ما جرى لهم وعليهم، ويجري على غيرهم إذا فعلوا فعلهم حين ذكر قصصهم وطلب الاعتبار والاتعاظ بها {لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب}(27).

إن المعرفة (سنن الله) من الواجبات الدينية لأنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة حتى لا نقع في الخطأ والعثار، وبذلك ننجو مما حذّرنا الله منه.

سادساً: إن معادلة (التعويض) ترفع أدنى ما يتبقّى من الأذهان من شبهات، فكلّ ما يجري على المؤمن من رزايا ومحن وابتلاءات سبّبها له الغير (سواء كان أباً أو أخاً أو عدوّاً، عن طريق الأثر الوضعي، أو بإرادة أو عمد) فإنّ الله سيعوّضه من الثواب والأجر بما لا يتناهى كماً وكيفاً بحيث - كما في الرواية -: «إن العبد ليتمنىّ - عندما يرى ما أعدّه الله له من الفضل الهائل تعويضاً عن آلامه في الدنيا - أن لو كانت آلامه و ابتلاءاته في الدنيا أضعافاً مضاعفة كي يتضاعف الجزاء أيضاً؛ وذلك مثله كمثل من تجرح يده جرحاً بسيطاً فيعوَّض بملايين الدنانير، مع علم أن جزاء الآخرة أعظم من ذلك والفارق أكبر بشكل لا يتصور».

(1) أمالي الصدوق: ص 153.

(2) سورة طه: 82.

(3) شرح نهج البلاغة: ابن أبي حديد ج 19 ص 256.

(4) المظالم: ص 132.

(5) المحاسن: ص 7.

(6) ثواب الأعمال: ص 243.

(7) سورة النساء: 9.

(8) تفسير العياشي: ج1 ص 223.

(9) سورة الزلزلة: 7- 8.

(10)  سورة يوسف: 90.

(11)  سورة الحج: 9.

(12)  سورة الكهف: 12.

(13)  سورة النساء: 9.

(14)  سورة الأنعام: 164.

(15)  سورة الإسراء: 18.

(16)  سورة فاطر: 18.

(17)  سورة الزمر: 7.

(18)  سورة النجم: 38.

(19)  سورة الطور: 21.

(20)  سورة المدثر: 38.

(21)  سورة البقرة: 134.

(22)  سورة الكهف: 59.

(23)  سورة العلق: 6- 7.

(24)  سورة فاطر: 43.

(25)  شرح نهج البلاغة: ابن أبي حديد ج9 ص 158.

(26)  غرر الحكم و درر الكلم.

(27)  سورة يوسف: 111.