الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ

ملف عاشوراء

 
عاشورء الحسين 1432 هـ
عاشوراء الحسين 1431هـ
عاشوراء الحسين 1430هـ
عاشوراء الحسين 1430هـ
 عاشوراء الحسين 1429هـ

  عاشوراء الحسين 1428هـ

  عاشوراء الحسين 1427هـ

  عاشوراء الحسين 1426هـ

  من نبض عاشوراء 1425هـ

  من نبض عاشوراء 1424هـ

  عاشوراء في ذاكرة النبأ

 صور عاشوراء

اتصل بنا

 

 

الدَّوْرُ الإعلامِيّ فِي القِيَادَةِ الزَيّنَبِيَّةِ

محمّد جواد سنبه

ما برح التاريخ بعد واقعة الطفّ، إلاّ أنّ يفتح صفحة جديدة معنونة باسم عقيلة الهاشميين، السيّدة زيّنب بنت علي بن أبي طالب(عليهما السلام)، كقائدة لمرحلة ما بعد اسشهاد الإمام الحسين(ع). من المعروف تاريخياً، إنَّ أيّ ثورة تخسر يكون الطرف المنتصر عسكرياً، هو الذي يتملك مواداً وادواتا اعلامية (ولو آنيّاً على أقلّ تقدير) اكثر من الطرف الخاسر. فيبدأ بفرض سيطرته على الرأي الجماهيري العام، (ولو إلى حين)، لغاية أنْ تستفيق الجماهير، سواء من صدمة الحدث، إذا كانت من الجماهير المؤيدة للثوة، أو من نشوة النصر التي تعتري الجماهير المؤيدة للسلطة المعادية للثورة.

لقد كانت الدعاية اليزيدية/الاموية، فاعلة في نفوس الشاميين الذين ظلوا تحت تأثيرها لعدة عقود من الزمن. مع ذلك، فالانتصار الاعلامي الذي كان يحلم به يزيد بن معاوية، ورموز سلطته الطاغية، لم يتحقق كما كانوا يتوقعون، بسبب تصدي السيدة زينب(ع) لقيادة مرحلة مابعد استشهاد الامام الحسين(ع). لقد استطاعت هذه القيادة الميدانية من مسك زمام الأمور بشجاعة وجلَدّ منقطع النظير. بحيث نجحت في قلب نتائج المعركة رأساً على عقب، وهنا تتكشّف الإجابة عن التساؤل الذي كثيراً ما يطرح: لماذا الحسين(ع) لم يترك عياله في المدينة المنوّرة أو مكّة المكرمة، ويذهب زاحفاً بأنصاره إلى كربلاء للقاء جيش يزيد؟.

يجب أنّ نعرف إنَّ قيادة الإمام الحسيّن قيادة معصومة، مسدّدة من لدن العليم الخبير(وإثبات ذلك خارج عن سياق البحث). وهذه القيادة لها دور تاريخي مرسوم، وقد أخبر رسول الله (ص)، بما يحصل لأئمّة الهدى(ع) من بعده. والحسيّن(ع)، يعلم جيداً بما سيكون عليه الأمر في المستقبل. و إنّ الإصرار على المضيّ بتنفيذ الثورة، يعدّ تنفيذاً لسنّة إلهيّة اقتضتها الحكمة الربانيّة المتعالية(هذا هو الجانب الغيبي من القضية). وعملياً يجب ربط الأسباب بمسبباتها، حتى لا تنفصل القضيّة عن قيمتها الواقعيّة، وتتحول إلى طرح غيبي صرف. إنّ القصد من إمضاء هذه السنن هو الإعتبار والاستذكار،( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).

إنَّ الحسيّن(ع)، ترك من عياله في المدينة ابنته فاطمة الصغرى، ولم يستصحبها معه ضمن عياله لمرضها، لكن لماذا لم يترك ولده الإمام زين العابدين(ع)، بالرغم من اعتلال صحته أيضاً، ومعه الأبطال الأشاوس؟. علماً أنَّ استصحاب المريض في السفر، يرهق المريض والقائمين عليه. في حين أنَّ الحسيّن(ع)، لم يأخذ معه عبد الله بن جعفر (زوج العقيلة (ع))، وأخيه محمد بن الحنفية. إنه ترك هذين الرجلين الفاضلين المشهود لهما بالإخلاص والوفاء، للرسالة المحمديّة، كي لا يترك فراغاً إثر رحيله من المدينة المنورة، وكي تبقى امتدادات قيادته الميدانيّة، متصلة بالجماهير المحبّة لآل البيت (ع)، دون ترك أيّ فجوة بينهما، حتى لا يتمكن الحزب الأمويّ من استغلال تلك الثغرة وتعبئتها لصالحه.

أمّا استصحابه للإمام السجّاد(ع)، فذلك لحكمة جليلة، فالإمام الحسين(ع)، يريد أنْ يُعلّم خَلَفَهُ المعصوم، الدّرس الواقعي للحدث بكلّ تفاصيله، ليكون شاهدَ عيان وبيان على الواقعة، ليتسنى له نقل وتوثيق كلّ تفاصيل معركة الإمام الحسيّن(ع)، مع طواغيت الحكم الأمويّ. وأمّا استصحابه للنساء والأطفال في هذا السفر الطويل، فكان له أسبابه المستقلة. وقد كَشف النقاب عن ذلك، استفسار محمد بن الحنفية من أخيه الإمام الحسيّن(ع) عن ذلك قائلاً: فما حَمَلَكَ على الخروج عاجلاً؟.

قال له الحسيّن(ع): قد أتاني رسول الله (ص)(يقصد في عالم الرؤيا)، بعدما فارقتك، وقال:(يا حسين أُخرج إلى العراق فإن الله شاء أن يراك قتيلاً مخضباً بدمائك)، فقال محمّد: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. فقال محمّد: فإذا علمت أنك مقتول فما معنى حملك هؤلاء النساء معك؟. قال له الإمام الحسيّن(ع): (إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا، وهنّ أيضا لا يفارقنني مادمت حيا)(كتاب زينب الكبرى من المهد إلى اللحد/السيد كاظم القزويني). ويمكن إجمال النقاط التي جعلت الإمام الحسيّن(ع) يدرك بحكمته العصمويّة، وجوب استصحاب أهله معه كما يلي:

1. إنّ ترك النساء خلفه يشكل نقطة ضعف في مفصل قيادته للمعركة، فيزيد بن هند آكلة الأكباد و زبانيته، لا يتورعون من إلقاء القبض على عيال الحسين(ع)، و وضعهم في قبضة النظام الأمويّ، كرهائن يساومون بهم الحسين(ع)، كورقة ضغط وتأثير. لذا قرر الإمام (ع)، إصطحاب عياله ليتخلص سلفاً من هذه المناورة الدنيئة. وحتى لا يقع (ع) أثناء الثورة تحت أيّ تأثيرات تأتي من خارج ساحة المعركة، تؤدي إلى عرقلة الهدف المرسوم للانتفاضة.

2. هناك حتم إلهي بتلازم القيادتين معاً، ليكمّل إحداهما عمل الأخرى، فالقيادة الحسينيّة سيقف دورها في الميدان بعد ظهر يوم العاشر من محرم. وبعدها ستبدأ القيادة الزينبيّة بالعمل، وفي ساعة الصفر المعدة لها، للإنطلاق بقيادة الصفحة الثانية من المعركة، بعد استشهاد أبي عبد الله(ع).

3. كما كان للقيادة الأولى دور في ساحة الوغى، فللقيادة الثانية دور لا يقل أهميّة عن دور القيادة الأولى. فإنّها بمثابة محطة إخباريّة متنقلة، تعلن بين الناس مكانتها من رسول الله (ص). هذه المكانة التي عمل النظام الأمويّ التقليل من شأنها، وتعبئة الرأي العام الشاميّ ضدّها على مدار سبعة وأربعين سنة(منذ تولي معاوية امارة الشام عام 14هـ، حتى واقعة الطفّ عام 61 هـ).

4. إنَّ القيادة الزينبيّة المتمثلة بالحوراء، والإمام زين العابدين(ع)، قد خرقت حاجز الخوف و الإرهاب اللذيّن كانا تفرضهما السلطة الأمويّة على الجماهير، من خلال الخطب الثوريّة المباشرة، التي واجهت بها العقيلة والإمام السجاد(ع)، الحكّام الأمويين في مجالسهم، ففضحا الوجه المزيف للحكم الأمويّ، الذي يتستر بستار واهٍ من القدسيّة والشرعيّة المصطنعتان، اللتين يخلعهما عليّه جهازه الإعلاميّ المسيّس، الذي كان يجنّد لصالحه رجال الدين الأفاكين والمدلسين للحقائق والوقائع.

5. كانت الحوراء(ع) تبلغ من العمر خمساً وخمسين عاماً(ولدت(ع)،عام ستة من الهجرة)، قضت منها أربع سنوات في الكوفة (فترة خلافة أمير المؤمنين)، وهي تقيم المجالس الفقهية والعقائدية والفكرية والثقافية لنساء الكوفة. فالسيّدة الحوار(ع)، خطيبة مصقعة، و بليغة مفوّهة، قد عاشت مع جدها رسول الله (ص)، وأمها وأبيها وأخيها الحسن(ع). فهي صاحبة تجربة سياسيّة ثرّة، وامرأة موسوعيّة ذات رصيد معرفي ضخم، يستند إلى حقائق تاريخيّة دامغة، يجهلها الكثير من الناس. يضاف إلى جانب هذه العالمة الفاضلة، بقيّة النساء العالمات العارفات من عائلة الإمام الحسين(ع)، فضلاً عن وجود الإمام السجاد(ع) بين ظهرانيّ ركب السبايا. هذه المجموعة المباركة العارفة بالحقّ وأهله، ستلعب في ما بعد دوراً ريادياً تقلب موازين العملية برمتها، من خلال توعية الناس وتبصيرهم بحقائق الأمور.

6. في واقعة الطف كان عُمر الإمام السجاد (ع) ثلاثة وعشرين سنة، وكان(ع) قد فتكت به العلّة. وأراد الإمام الحسيّن(ع)، من استصحابه معه، أنْ يعلن عن إمامته بعده، حيث قال(ع) قبل استشهاده: (يا زينب، ويا أم كلثوم، ويارقيّة، اسمعن كلامي، واعلمن أنَّ إبني هذا خليفتي عليكم وهو إمامٌ مُفتَرَض الطاعة). والأمر الآخر أنْ يكتسب الامام السجاد (ع) خبرة و دراية ميدانيّة، من خلال معايشة الوقائع ساعة بساعة، ليكون (ع)، أحد شهود العصر على مأساة آل محمّد (ص).

ومثلما كان الإمام الحسيّن موفقاً ومسدداً باختيار القيادة التي ستخلف قضيته، كذلك كان بانتقاء المقاتلين الذين كانوا معه، فالسيدة زينب(ع)، تسأل قائدها(ع)، هل هو متأكد من رباطة جأش المقاتلين معه؟؛ فقال لها(ع):(ما والله لقد لهزتُهم(أي خالطتهم) وبلوتهم، ليس فيهم إلاّ الأشوس الأقعس(أي الجرئ والثابت)، يستأنسون بالمنيّة دوني إستيناس الطفل بلَبَن أُمّه). وتأكيداً من الإمام الحسيّن(ع)، جمع أصحابه ليلة المعركة وقال لهم: (أما بعد، فإنى لا أعلم أصحاباً أصلح منكم، ولا أهل بيت أبرّ ولا أفضل من أهل بيتى، فجزاكم الله جميعاً عنى خيراً، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتى، وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يريدون غيرى).

فلما خَبرَ(ع)، إصرار أصحابه على البقاء معه، حمد الله تعالى وأثنى عليه. لقد بيّن سيّد الشهداء (ع)، خطة أعدائه بقوله(ع): (ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنين، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، و نفوس أبيّة، من أن تؤثر طاعة اللئام، على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الاسرة الآسرة، مع قلّة العددّ وخذلة الناصر).

في ليلة العاشر من محرم، أوصى الامام الحسيّن(ع)، بطلة كربلاء السيدة زينب(ع)، التي ستحمل لواء قضيّته من بعدة، فتحدث معها سراً في تلك الليلة، وتنقل المصادر لنا بعض ماتحدثا به، حيث قالت السيدة الحوراء لأخيها(ع):

(وا أخاه أُشاهد مصرعك، وأُبتلى برعاية هذه المذاعير من النساء؟؛ والقوم كما تعلم ما هم عليه من الحقد القديم، ذلك خطب جسيم، يعزّ عليّ مصرع هؤلاء الفتية الصفوة، وأقمار بني هاشم). لقد وضّح قائد الثورة (ع)، لقائدة المرحلة اللاحقة، السيّدة العقيلة(ع)، كلّ التفاصيل الدقيقة لمنهجيّة الدور الذي ستقوم به، والمرحلة التي ستقودها. وأخيراً أوصاها:(يا أختاه، تعزيّ بعزاء الله، فإن لي ولكلّ مسلم أسوة برسول الله، ثم قال: (إني أقسم عليك، فأبري قسمي، لا تشقي عليَّ جيباً ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور)(المصدر السابق). قالت بعد ذلك في وداعها الأخير لسيّد الشهداء(ع): (يابن أمي طِبْ نفساً وقرّ عيناً فانك تجدني كما تُحبّ وترضى). وفعلاً برّت و وفّت(ع) ما عاهدت عليه إمامها(ع). عندما وصلت قافلة السبايا أرض الكوفة وكان يتقدمها رأس الإمام الحسين(ع) مرفوعاً على رمح طويل، بادرت السيدة العقيلة(ع)، بمخاطبة أهل الكوفة قائلة:

(الحمد لله والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار. أمّا بعد، يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر...(وأخذت السيدة العقيلة(ع) تعنّف وتؤنّب أهل الكوفة الذين لم يوفوا بعهودهم)... إلى أنْ قالت: فلقد خاب السعي وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضبٍ من الله، وضربت عليكم الذّلّة والمسكنة، ويلكم يا أهل الكوفة، أ تدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فريتم، وأيّ كريمةٍ له أبرزتم، وأي دمٍ له سفكتم، وأيّ حرمة له انتهكتم، ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء- خرقاء-، شوهاء، كطلاع الأرض أو ملء السماء، أ فعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفّنكم المهلُ، فإنّه لا يحفزهُ البِدار، ولا يخاف الثأر، وإنَّ ربكم لبالمرصاد)(سيرة رسول الله (ص) وأهل بيته(ع) ج2/مؤسسة البلاغ).

إنّ أول مواجهة حصلت بين قائدة ركب السبايا(ع)، وطاغية الكوفة ذلك العتلّ الزنيم عبيد الله بن زياد، عند وصول السبايا إلى قصر الإمارة. فقد ابتدأ(لعنه الله) الكلام قائلاً: (الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب احدوثتكم). لم ترتهب القائدة الباسلة(ع)، من جبروت إبن زياد ومجلسه فردّت عليه بكلّ إباء وأنف وكبرياء: (الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وطهّرنا من الرجس تطهيرا، إنما يفتضح الفاسق، ويكذّب الفاجر، وهو غيرنا).

فقال ابن زياد متهكماً: (كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟).

قالت إبنة الكرار(ع): (كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتختصمون عنده، فغضب ابن زياد واستشاط، فقال عمرو بن حريث: إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها). أراد ابن زياد أن ينال من كبريائها(ع)، عندما همّ بقتل الإمام السجاد(ع)، إلاّ أنّ العقيلة (ع)، ردعته بشمم العزّة قائلة: ( يا ابن زياد، حسبك من دمائنا، (واعتنقت الإمام السجاد (ع))، وقالت: والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها ساعة وقال: عجبا للرحم، والله إني لأظنها ودّت أني قتلتها معه، دعوه فإني أراه لما به مشغول)،(إشارة لمرضه(ع)). مرت قافلة السبايا في عدة مناطق وقرى في طريقها الى الشام، تتقدمها رؤوس الشهداء المحمولة على الرماح، الأمر الذي كان يثير استفسار سكان تلك النواحي عن هوية السبايا، وكانت الحوراء زينب(ع) تبين لهم حقيقة الأمر.

وكان المشهد المثير للحوراء(ع)، الذي يُحصَر فيه الفحول، يتكرر وهي تدافع كاللّبوة الجسورة، دونما أيّ إنكسار أو انخذال، وترد الكلام بأبلغ منه.

وصلت قافلة السابيا إلى الشام على أصعب مركب، وأرثّ حال، فقال يزيد(لعنه الله) ذلك الإرهابي المتوحش، للسيدة زينب(ع)، عندما وصلت إلى دار الحكم في الشام: (إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك). فقالت له العقيلة زينب(ع): (بدين الله ودين أبي وأخي اهتديت أنت وجدك وأبوك إن كنت مسلما). قال (لعنه الله): (كذبت يا عدوّة الله). قالت(ع): (أنت أمير تشتم ظالماّ، وتقهر بسلطانك). فكأنه(لعنه الله) تفاجأ وسكت. فقامت زينب بنت علي(ع) وقالت:

(الحمد لله ربّ العالمين، و صلى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ)، أ ظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً و بك عليه كرامة؟، وإنَّ ذلك لِعِظََمِ خَطّرِك عنده؟، فشمخت بأنفك، و نظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلا، أ نسيت قول الله تعالى: (وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)، أ من العدل يا بن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءَك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، يستشرفهنّ أهل المناهل والمعاقل، ويتصفح وجوههنّ القريب والبعيد، والدّنيّ والشريف، ليس معهنّ من حماتهنّ حميّ، ولا من رجالهنّ وليّ؟؛ وكيف يرتجى مراقبة مَنْ لفظَ فوهُ أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء. وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشَّنف والشنآن، والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم و لا مستعظم: (فأهلوا و استهلوا فرحاً *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل).

منحنيا على ثنايا أبي عبد الله، سيّد شباب أهل الجنة، تنكتها بمخصرتك، و كيف لا تقول ذلك؟، و قد نكأت القرحة، و استأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذريّة محمّد صلى الله عليه وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، و تهتف بأشياخك، زعمت أنّك تناديهم، فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودّنّ أنّك شللت و بكمت، ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، اللهم خذّ بحقنا، و انتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءَنا، وقتل حماتنا. فوالله ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، ولتَرِدَنَّ على رسول الله صلى الله عليه وآله، بما تحمّلت من سفك دماء ذريّته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمُّ شعثهم، ويأخذ بحقهم(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون).

وحسبك بالله حاكماً، وبمحمّد صلى الله عليه وآله خصيماً، وبجبريل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك ومكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شرّ مكاناً، وأضعف جنداً. ولئن جرّت عليّ الدّواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك واستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى. ألا العجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفرها أُمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدنّا قريباً مغرماً، حين لا تجد إلاّ ما قدمت يداك، و ما ربّك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى و عليه المعوّل.

فكد كيدك واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، و لا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند، وأيامك إلاّ عددّ، وجمعك إلاّ بددّ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين. والحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، و لآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، و يحسِن علينا الخلافة، إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل). (سيرة رسول الله (ص) وأهل بيته (ع) ج2/مؤسسة البلاغ).

إنّ المقام لا يتسع لتتبع جميع خطب السيّدة الحوراء والإمام زين العابدين(ع)، وما تلك إلاّ مقتطفات سريعة، لرسم صورة مبسطة، لتلك المرأة المجاهدة من أجل إظهار الحقّ في سبيل الله تعالى، وبقت على هذا الصمود تروي مأساة الطف حتى وافاها الأجل عام ثلاثة وستين من الهجرة الشريفة.

خلاصة البحث:

إنّ سياسة الإرهاب الأمويّة التي مورست بكلّ بشاعة ووحشية مع الإمام الحسين واصحابه(ع)، دونما أي وازع من دين أو ضمير أو إنسانيّة، تمنعهم من تنفيذ ذلك العمل الشنيع بأهل بيت رسول الله (ص)، كان القصد منها إرعاب كلّ المناوئين للحكم الأموي البغيض. إلاّ أنّ النتائج العمليّة أتت على غير ما خطط له الأمويون، فقد قلبت خطب السيدة زينب والإمام السجاد (ع)، في مجالس ابن زياد ويزيد لعنهم الله، إلى مآتم عزاء عرّت جريمة الأمويين، من كل الادعاءات التي نسجها إعلام الدولة الأمويّة ضد الثورة والثوار. وأظهرت تلك الخطب الأفاعيل الإجراميّة لتلك الدولة المغتصبة لحق آل محمّد، والظالة الظالمة في سياستها التسلطيّة على رقاب الناس.

ولأجل تدارك الأمر أوعز الحكام الأمويون، إلى وعاظ البلاط وكتّابه أن يكتبوا في كتبهم ويشيعوا في خطبهم ومجالسهم، أن يزيد قد بكى على الحسين(ع)، لما شاهد رأسه الشريف حتى اخضلت لحيته بالدموع، وإنّه استنكر فعل ابن زياد فلم يأمره بذلك. هذه محاولة لتزييف التاريخ تبغي تجميل صورة الواقع الأموي البشعة، ولكن هيهات فلات حين مناص.

إنَّ ديناً و منهجاً يصنع هكذا نماذج، لا ينفكّ مطلقاً عن الحقّ، فحريّ بنسائنا وبناتنا، فضلاً عن رجالنا وشبابنا، أن ينهلوا من هذه الموارد الثوريّة المعطاءة، ليتسلحوا بالحكمة والإيمان، مضافاً إليها حركيّة الثورة والدفاع عن كيان الإسلام المجيد، لنكوّن جميعاً منبتاً لأرضيّة الجماهير الثوريّة الصالحة، التي سينطلق بها الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً وجورا، والعاقبة للمتقين.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 11/كانون الثاني/2012 - 17/صفر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م

[email protected]