اتصبو بنا

ملف المناسبة

الصفحة الرئيسية

 

 

الكتاب في المشروع النهضوي للإمام الشيرازي

حسن آل حمادة

مدخل:

قبل عام كنت قد نشرت كتابي المعنون بـ(الكتاب في فكر الإمام الشيرازي)[1]  وتناولت فيه دراسة ما يتعلق بالكتاب والمكتبة والكتابة، في فكر الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدست نفسه الزكية)، مستعيناً في ذلك على جزء يسير مما تيسر لي من كتاباته، التي يصعب على الكثيرين تعداد عناوينها؛ فهل يحفظ أحدنا أكثر من ألف عنوان لكاتب واحد..؟!

وكان من أسباب كتابتي لذلك الكتاب: ارتباطي المبكر بفكره وكتاباته، وإعجابي ودهشتي لغزارة إنتاجه، مقارنة بضيق وقته، نظراً لما يتحمله من دورٍ كبير في توجيه وارشاد وقيادة الملايين من جماهير الأمة الإسلامية. والحمد لله أن الكتاب قد لاقى صدى طيباً عند الكثيرين وعلى رأسهم الإمام الراحل؛ حيث أخبرني ابنه آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (حفظه الله) أنه وجد نسخة من الكتاب لديه، وقد أكد لي استحسانه للكتاب، وقد أسعدني ذلك كثيراً.

وفي الحقيقة أن الحديث عن الكتاب في فكر الإمام الشيرازي لا يمكن أن يلمه كتابٌ واحد؛ لذا فكرت أن أضيف إليه في طبعته الثانية العديد من النقاط والأفكار التي وجدت من اللازم إضافتها، وكم كنت أتمنى أن تخرج الطبعة الثانية[2] من الكتاب سريعاً؛ لأسلمها للإمام الشيرازي بيدي، ولكن لا راد لقضاء الله.

وقد لا نعدو الحقيقة لو قلنا بأن الإمام الشيرازي: هو نابغة الدهر[3]  ونادرة التأليف، بل هو سلطان المؤلفين، كما وصفه بذلك الدكتور أسعد علي أخيراً، فقد تجاوزت مؤلفاته الألف إصدار، بين موسوعة وكتاب وكتيب وكراس، فسماحته لا يفتأ عن مسك القلم ليكتب ما فيه خير وصلاح لهذه الأمة. وقد "لا نخطئ إذا قلنا أن الهدف الذي نستنبطه من كتابات الإمام الشيرازي... يكاد لا يتجاوز تحقيق سعادة الناس، ووحدة المجتمع الإسلامي. ولكنه يعطي لمفهوم سعادة الإنسان بُعداً أخروياً، أي أنّ الهدف هو رضوان الله جلّ وعلا"[4].

ومما الأمور التي تتناقل عن سماحته، أنه دائماً ما ينصح زائريه بضرورة الكتابة والتأليف خاصةً في مجال تخصصاتهم، وفي معظم الأحيان يقدم لمريديه وبيده الكريمة، بعض مؤلفاته المناسبة لهم، والتي تتلاءم غالباً مع ثقافتهم؛ فالكثير من زواره لم يخرجوا من بيته، إلاّ وفي أيديهم ما يناسبهم من كتبه. والإمام الشيرازي لا يكتفي بتأليف الكتاب ونشره، بل يشجع أفراد الأمة على الإسهام في ذلك، كل من موقعه؛ ففي الوقت الذي يؤلف فيه كتاباً ويقوم بنشره؛ فهو يشجع الآخرين على التأليف والنشر؛ لعلمه بأهمية الكتاب ودوره المؤثر في الارتقاء بفكر المجتمع وسلوكه. فسماحته ينظر للكتاب على أنه "من أهمّ ما يحفظ الأمم واستقلالها وصمودها أمام غزو الأعداء، ولذا نرى الأمم الحّية دائماً تهتم بالكتاب كلَّ الاهتمام، بينما الأمم الميتة لا تهتم به أي اهتمام"[5].

 المسلمون والكتاب:

لو نظرنا لأمتنا الإسلامية وطبقنا عليها مقولة الإمام الشيرازي، التي يقول فيها بأن "الأمم الحّية دائماً تهتم بالكتاب كلَّ الاهتمام، بينما الأمم الميتة لا تهتم به أي اهتمام"[6] ؛ لعرفنا السر في كونها أمة ميتة، وما ذلك إلاّ لأنها أمةٌ نبذت الكتاب وراء ظهرها واشترت به ثمناً قليلاً؛ فبئس ما تشتري. فقد "ضعفت علاقة المسلمين بالكتاب بالرغم ممّا له [من] تأثير في تطوير اللغة ونشر المعارف والعلوم وبالرغم من أنه أهم وسيلة لتثقيف وتوعية الأمّة، وهو الوسيلة الوحيدة التي تمتلكها الأمّة، بينما سائر الوسائل التثقيفية بيد الحكومات"[7].

"إن المسلمين -اليوم- في فقر مدقع من جهة الإعلام والنشر والتأليف، بينما الفئات المضادة للإسلام أخذت بهذه الأزمة، فخنقت الإسلام حتى في وطنه وبين أهله، ولذا نرى أن أكثر شباب المسلمين لا يعرفون من الإسلام إلا الاسم. فالواجب تظافر الجهود المخلصة لإنقاذهم وإنقاذ سائر المسلمين"[8].

ومما يؤسف له أن أغلب الحكومات في بلداننا العربية والإسلامية تخلت عن دورها المأمول، الذي يتمثل في قيامها ببث الثقافة والعلم والكتاب، وما هي إلاّ محاولات منها لقتل الوعي في صفوف الجماهير، اللهم إلاّ قيامها بتقديم القشور والفتات، والتي يُخّيل للمرء أنها الماء الزلال، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً!!

فماذا يشاهد المواطن العربي والمسلم، غير المنع والكبت وتكميم الأفواه؟ ومصادرة الكتب والأفكار؟ وزج مؤلف الكتاب وحامله في قعر السجون والمعتقلات؟ إن لم يصل الأمر لدرجة الإعدام والاغتيالات!! ومما يحز في النفس ويبعث على الأسى، أن يُجابه المواطن العربي في بعض حدود بلداننا العربية، بكلمة مفادها: أن (الكتاب أخطر من المخدرات)، من قبل مسؤول في الجمارك انغمس في الجهل إلى أن ملأه من رأسه حتى أخمص قدميه، وهو لا يكاد يُحسن قراءة عنوان كتاب!!

فالكتاب بعد لم يرقَ عندنا إلى منزلة الرغيف؛ فنحن لا نزال نعيش حالة من التخلف الحضاري، والدولة في بلداننا تتحمل مسؤولية كبيرة تجاه هذا الوضع. فالدولة التي تحرص -كما يفترض- على الارتقاء بفكر مواطنيها من خلال ربطهم بالكتاب، بإمكانها أن تلعب الدور الأكبر في هذا الشأن، فهي القادرة على استنهاض الرغبة في المطالعة لدى كافة أبناء الشعب، -إن هي أرادت ذلك- بما تمتلك من قدرات وإمكانيات هائلة، لا يمتلك المجتمع الأهلي منها إلاّ النزر اليسير، إضافةً إلى أن معظم المؤسسات الرسمية في أوطاننا هي بيد الدولة لا بيد الشعب.

فلو قارنّا بين وضع الكتاب في بلداننا الإسلامية، ووضعه في البلدان الأخرى، التي تحترم الإبداع وتقدر الكتّاب؛ لرأينا العجب العُجاب؛ فالدولة في الغرب مثلا،ً "تعلم تمام العلم أن سر التقدم والتفوق يقوم على الإبداع، وأن ما من شيء يؤمن استمرارية هذا الإبداع سوى تشغيل العقل النقدي بالقراءة الدائمة والمجددة للأفكار. فالمطالعة، من هذا المنطلق عادة حيوية للذهن تحثه على تخطي نفسه باستمرار، فمن هذا المنطلق بالذات تقع على الدولة المسؤولة مهمة السهر على عدم تراجع القراءة عند أبناء شعبها، وبخاصة عند شبابها، حيث أنه بذهاب القراءة يذهب الإبداع، ومعه تذهب القدرة على المنافسة والصمود"[9].

إننا كشعوب ننتظر بفارغ الصبر ذلك اليوم الذي تقوم فيه حكوماتنا بإهدائنا المزيد من المكتبات العامة، التي تعد في الغرب من أهم مراكز الإشعاع الثقافي والتربوي. كما إننا كشعوب ننتظر أيضاً ذلك اليوم الذي نرى فيه الدولة تدعم الباحثين والعلماء والمحققين؛ ليقدموا أفضل نتاج للأمة، بدلاً من تهميشهم والتضييق عليهم. "ولو راجعنا تاريخ العثمانيين الذين حكموا خمسة قرون لرأينا أنهم أداروا ظهورهم للكتاب، وعلى يدهم سقطت الدولة الإسلامية في حال كان الغرب في زمانهم يسعى سعياً حثيثاً للتقدّم العلمي؛ هذا ما حدث في السابق أمّا الآن فمن الضروري الاهتمام بالكتاب النافع، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً"[10].

 لماذا الكتاب؟

ولأهمية الإجابة على هذا السؤال، أجاب عليه سماحة السيد الشيرازي بكتابٍ مستقلٍ، بيَّن فيه أهمية الكتاب وفائدته الكبرى، قائلاً: بأن (الكتاب من لوازم الحياة)، وقد صدرت الطبعة الأولى لهذا العمل عام 1420هـ، فسماحته يضع الكتاب على درجةٍ واحدةٍ مع رغيف الخبز؛ فكما أن الخبز يشكل ضرورة بالنسبة لحياة الإنسان؛ فالكتاب أيضاً يشكل ضرورة هامة، إن لم تكن أهم؛ فالإنسان بغير الكتاب يعيش الجهل مما قد يؤدي به إلى التعثر في مواجهة متطلبات الحياة.

ويرى الإمام الشيرازي، "ضرورة أن يكون الكتاب أرخص من رغيف الخبز، لأن الكتاب معناه توعية الأمة وتثقيفها، والتوعية تساوي الحرية، والحرية هي التي تصنع الخبز كما تصنع التقدم والازدهار"[11]. "على أنه ليس ثمة شك في أن الثقافة تطعم خبزاً، وخبزاً طيباً أيضاً، شرط أن توضع في محلها المناسب... إن دول العالم التي تقدمت علمياً، أصبحت غنية وقوية، وقادرة على توفير رفاهية العيش لأبنائها، لكن ذلك مرهون بتحول الثقافة من النخبة إلى العامة، وخروجه من وراء الأسوار العالية للجامعات ومراكز البحث المحدودة إلى الشارع، حتى لا تعود غريبة على الناس البسطاء الذين لا زالوا يظنون أنها لا تطعم خبزاً"[12].

فمن خلال ما ذكر من حديثٍ، نصل لنتيجة مفادها أن الكتاب بمقدوره أن يطعم خبزاً، بل هو قد أطعم خبزاً للكثير من الشعوب والمجتمعات التي ارتبطت به سابقاً وحديثاً. والأمة الإسلامية في هذه المرحلة لا يمكنها النهوض والتقدم للحاق بركب الدول المتقدمة إلاّ بالكتاب، تماماً كما حدث ذلك في الزمن السابق؛ فالمسلمون الذين أبهروا العالم بسر تقدمهم، "انطلقوا من الكلمة (اقرأ) إنهم في عصرهم كانوا أقرأ الناس وأشدهم اتصالاً بالقراءة والكتاب والعلم الذي يطلبونه في كل مكان ومن كل مصدر"[13]. "ودراسة سير العلماء ترشد إلى أنهم كانوا قُرّاء نهمين، واسم كتاب المسلمين القرآن من القراءة، وقراؤه الذين زينوا القرآن بفعالهم"[14].فـ"الحضارة الإسلامية حضارة كتاب.. حضارة قلم.. حضارة علم ومعرفة؛ فحضارتنا الإسلامية مصبوغة بالصبغة العلمية المعرفية.. ويكفينا للتدليل على ذلك أن نقول بأن أول آية نزلت في آخر رسالة هي أمر بالقراءة... فَقَبْل أن يؤسس القرآن لأي نظرية اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية.. وجَّه أنظارنا إلى أمر هو غاية في الأهمية، إذ وجه الخطاب لنا بصيغة الأمر بقوله عز من قائل ﴿ اقْرَأ ﴾. فالقراءة، هي إيذان بمحو عصر الأمية! القراءة، هي مفتاح العلم والمعرفة! القراءة، هي سبيلنا نحو الرقي والتطور! القراءة، هي ينبوع العطاء!"[15].

وعندما عمل المسلمون حينها بتلك الآية الكريمة، واتجهوا نحو الكتاب، المتمثل في القرآن الكريم والأحاديث النبوية في ذلك الوقت، فتحوا شرق الأرض وغربها، وقد ملأت كتبهم بما فيها من علوم ومعارف مختلفة؛ جميع نواحي المعمورة. حتى أصبحت كتابات المسلمين من المصادر الأساسية للفكر الإنساني العالمي. وقد سمعنا عن مسيحيين لطالما كانوا يأتون من مختلف البلاد الأوروبية قاصدين الأندلس (أسبانيا) وغيرها من المدن الإسلامية للتعلم والدراسة في جوامعها ومدارسها العلمية المتعددة.

فالمرء والحالة هذه، بحاجة لأن يعي أهمية القراءة والكتاب ودورهما الكبير المؤثر في الارتقاء بفكره وسلوكه وحياته، وهذا ما نفتقده، فنحن للأسف الشديد ما زلنا حتى الآن نجهل أهمية القراءة وفوائدها الكبرى، وليس غريباً أن نسمع من أبناء أمتنا من يقول إننا أمة لا تقرأ، وأبرز مثال على ذلك أن الناشر العربي لا يطبع أكثر من (3000) نسخة للكتاب الواحد في أمة يتجاوز عدد أفرادها (250) مليون نسمة!!

فمما لا شك فيه -كما يقول الإمام الشيرازي- "إنّ من أسباب قوّة المسلمين الأوّلين قوّة الكتاب والعلماء عندهم، حتى أنّه خلال قرن من الزمان نبغ في المسلمين خمسة آلاف عالم، وكان لنصير الدين الطوسي مكتبة تضم أربعمائة ألف كتاب وكتب أربعمائة كتاب أغلبها لازالت مخطوطة. كما إنّ من ضعف الفرس إبان بزوغ شمس الإسلام أنّهم كانوا أعداء العلم والتعلّم إلاّ لطبقة الحكّام... والغرب إنّما نهض لاهتمامهم بالكتاب. ولم يصلوا إلى مدارج الحضارة إلاّ بالكتاب"[16]. و"ليس معنى الاهتمام بالكتب ترك غيرها من الوسائل التعليمية كالإذاعة والتلفزة والصحف والإنترنت والأشرطة وما أشبهها من الوسائل الثقافية السمعية والبصرية، وحتى اللمسية بالنسبة إلى الأعمى، بل كل ذلك مهم، وإنما ذكرنا الكتب من باب أنها الأيسر الممكن في كل زمان ومكان عادة"[17].

فنحن بحاجة ماسة، لكل الوسائل المتاحة التي يمكننا من خلالها إيصال الكلمة الهادفة والفكر الرسالي الخلاّق، لأبناء الأمة الإسلامية قاطبةً ولنظرائنا في الخلق كافةً. إذ ليس من المعقول الاكتفاء بالكتاب والاستغناء عن الوسائل التكنولوجية الحديثة التي برع في استخدامها أعداء الإنسانية لنشر أفكارهم الهدامة وسلوكياتهم البهيمية؛ فهذا منطق الجهلة الذين لا يفقهون متطلبات العصر وضرورات المرحلة وما أكثرهم! فـ"مثلما يستخدم أعداء الدين هذه الوسائل للترويج للقيم المنحلة والأفكار الهدامة، فبمقدور المسلمين أيضاً استخدامها للهداية والإرشاد. كما بمقدور المسلمين أن يحصلوا على الأقمار الصناعية ويستخدموها لنشر ثقافتهم الإسلامية والترويج للدين الإسلامي في بقاع الأرض. لكن تقاعس المسلمين أدىّ إلى احتكار الغربيين لهذه الأجهزة واستخدامها في أهدافهم المعادية للقيم والأديان"[18]. فالكتاب ضرورة: لتهذيب السلوك، وإرشاد العقول، وإزالة الديجور. وهو من أهم الوسائل للنهوض بالأمم.

 لمن نوجه الكتاب؟

عندما نمسك بالقلم رغبةً منا في الكتابة، فلمن نكتب ولمن نوجه خطابنا؟

هل خطابنا موجه للعامة؟ أم للخاصة؟

هل خطابنا موجه للطالب الجامعي؟

أم للطالب الحوزوي؟

أم لكليهما؟

وهل فكَّرنا في كتابة خطاب خاص بالمرأة؟

وهل فكرنا بكتابة ما يناسب عقلية الطفل الصغير؟

فكرنا بكتابة الكتب الموجهة للناشئة من الشباب؟ أم أن في ذلك تقليل من المكانة العلمية للكاتب؟ خاصةً عندما يكون الكاتب في مرحلة علمية وقيادية متقدمة؟

هذه بعض الأسئلة المهمة التي ينبغي للكاتب أن يعيها قبل أن يمسك بالقلم؛ فتحديده للجهة المُخَاطَبة بكتاباته، تعني التركيز في صياغة الأفكار، وتمثل ضرورة لنجاح الكتاب.

وهنا يطرح سؤال مهم: هل يتيسر لكل عالم أو كاتب مُخَاطبة أكثرية الشرائح الاجتماعية؟

وهل يتيسر للعالم أو الكاتب الكتابة في معظم المعارف والعلوم؟

في إجابتنا عن هذا السؤال، نقول: كلا.

فالكتابة بحد ذاتها عملية شاقة قد لا تتأتى للكثير من المتعلمين والعلماء! ولو بكتابة كتاب واحد وفي مجال تخصصاتهم أيضاً! فكيف ونحن نتساءل عن مُخَاطبة أكثرية الشرائح الاجتماعية؟ وفي مختلف العلوم والمعارف؟

ولكي يكون كلامي واقعياً وبعيداً عن الوهم اذكر للقارئ هذه القصة التي جرت للعلامة المرحوم (الشيخ محمد جواد مغنية) وهي مذكورة في الكتاب المعنون بـ (تجارب الشيخ محمد جواد مغنية بقلمه... وأقلام الآخرين)، يقول الشيخ مغنية، "قال لي أخ فاضل وكريم من السادة الأشراف: نحن وأنت في سباق مع الفارق في الميدان.. أنت تكتب ونحن نقرأ.. ويضيف (مغنية) وأنا بدوري سلخت أعواماً مديدة في القراءة.. أنقّب عن شوارد الأفكار ونوادرها، أُدرّب بها ذهني على النمو والتفكير، وأرمم ما فيه من ثغرات وفجوات قبل أن أمسك بالقلم... لأن ترميم البيت أولاً، ثم السكنى"[19].

خلاصة ما أود قوله أن الكتابة بطريقة شمولية موسوعية لا تتأتى إلاّ لمن حباه الله بسطةً في العلم والعزم والهمة، فعندما نتوجه بسؤالنا هذا (لمن نوجه الكتاب؟) ونقف أمام البحر المتلاطم الأمواج (الإمام الشيرازي) تأتينا الإجابة مختصرة، وجهوا خطابكم للكل إن استطعتم! وجهوا خطابكم لمن يقرأ! وليغرف كل واحدٍ منكم غرفةً بيده ليروي العطاشى الباحثين عما يبردون به قلوبهم وأرواحهم.

نعم، لقد استطاع الإمام الشيرازي الذي دامت رحلته مع (القلم) و(التأليف) و(الكتابة) أكثر من نصف قرن من الزمن، أن يوجه خطابه لأكثر الشرائح المعنية؛ فمؤلفات الإمام الشيرازي تنوعت من حيث المادة العلمية لتشمل: الفقه، الأصول، العقائد، الفلسفة، الكلام، البلاغة، النحو والصرف، المنطق وسائر العلوم الحوزوية من جهة.

والسياسة، الاقتصـاد، الاجتماع، النفس، الحقوق، الإدارة، القانون، الدولة الإسلامية، البيئة، الأخلاق، والتاريخ وسائر العلوم الإنسانية والمستحدثة من جهة أخرى.

ولقد تنوعت مؤلفاته من حيث المستوى ولغة الخطاب فهو يخاطب أساتذة الخارج والعلماء الأعلام في (الأصول) و(الفقه)... وهو يتحدث إلى طلاب السطوح العليا في (شرح منظومة السبزواري) و(الوصول إلى كفاية الأصول) و(إيصال الطالب إلى المكاسب) و(الوسائل إلى الرسائل). كما يتكلم مع أساتذة الجامعات وطلابها في (الفقه: القانون) و(الفقه: الحقـوق) و(الفقه: السياسة) و(الفقه: حول العقل) و... و يجاري سماحته النشء والبراعم المتفتحة في (القراءة الإسلامية) و(هل تعرف الصلاة) و... ومؤلفاته تتنوع تبعاً لذلك بين ما هو شديد العمق كـ(الأصول) و(الفقه: البيع)، وما هو شديد الوضوح كسلسلة (هكذا الشيعة، واعرف الشيعة...)

وبعبارة مختصرة: تراوحت مؤلفات الإمام الشيرازي بين الموسوعة الضخمة (الفقه 150 مجلداً في أكثر من 60 ألف صفحة)، والكتاب والكتيب والكراس[20].

 خطاب للشباب المبتدئين:

الإمام الشيرازي وكما أسلفنا تنوعت مؤلفاته وكتاباته لتشمل مختلف المستويات العلمية والاجتماعية، وكان يهدف من كل ذلك إيصال رسالة محددة لفئةٍ معينة مع كل كتاب يسعى لتأليفه. فقد كتب للشباب المبتدئين ما يناسبهم من كتب ومؤلفات، وفي الأسطر التالية سأقتبس شيئاً من مقدمة كتابه المعنون بـ(كيف عَرِفت الله..؟) المُؤلّف عام 1973هـ. ليتضح للقارئ كم كان سماحة السيد هادفاً ودقيقاً عند اختياره للجهة المعنية بالكتاب (الخطاب).

والكتاب المشار إليه: هو عبارة عن بحث قصصي رائع، اتبع فيه المؤلِف الأسلوب الحواري القصصي؛ ليتحدث من خلاله عن أصول الإسلام الخمسة على ضوء العقل البشري والفطرة الأصيلة.

يقول في مقدمة كتابه ما يلي:

"جرف التيار الغربي الشباب المسلم، إلى حيث الإلحاد، والرذيلة وقد كان هذا من خطط الإستعمار الدقيقة! فأي مسلم يقدم بلاد الإسلام لقمة سائغة إلى الكافرين -وهو يؤمن بالله واليوم الآخر- إن الرجل يرحب بالمستعمرين إذا نزع عنه الإسلام..

ولذا صب الاستعمار جهده لإلحاد الشباب المسلم، وقد نجح في هذه الخطة المشؤومة أكبر نجاح.

وقد رأيت من الواجب أن أقدم إلى المبتدئين من شبيبتنا طرفاً يسيراً من أصول الإسلام، بأبسط صورة رداً على هذا الاعتداء الأثيم على الإسلام والإنسان"[21].

من يقرأ هذه المقدمة يُشّخِص سريعاً الجهة المعنية بالكتاب. فالإمام الشيرازي لم يكن عاجزا،ً أو ناشداً للراحة عندما ألف كتابه هذا. بل مد يده (كتابه) من واقع شعوره بالمسؤولية الدينية ليصافح بها أيادي (عقول) الناشئة، كي لا ينجرفوا في طريق الإلحاد؛ خصوصاً وأن الناشئة توجد لديهم القابلية لتلّقف أي فكرة جديدة بعكس من شب على قيم وأفكار الدين؛ فقابليته بطيئة إن لم تكن معدومة.

فإذا لم تكتب المعارف الدينية للناشئة وهم في مقتبل العمر؛ لتنمو عقولهم وهم مرتوون منها، فمتى ستكتب لهم؟ هل إذا شبوا وهم يتنفسون الإلحاد؟

 خطاب للجماهير وعموم المثقفين:

كتب الإمام الشيرازي الكثير من كتبه بلغةٍ سهلة وبسيطة، وهي في نفس الوقت لا تخلو من عمقٍ فكري. بما يُعرف في اصطلاح الأدباء بطريقة السهل الممتنع، وقد لاقت كتبه التي تصنف ضمن هذا النوع الرواج المتزايد وطبعت طبعات عديدة.

وعن سر اختيار سماحته لهذه الطريقة يقول في خاتمة كتابه المعنون بـ(أنفقوا لكي تتقدموا) ما يلي: "إني في هذا الكتاب - كسائر كتبي التي أكتبها للجماهير أختار الأسلوب البسيط، وأجعل الكتاب (كالتكلم) في التفاهم والسلاسة، حتى ينفذ إلى الأعماق، ولعل الله ينفع به... وقد شجعني على هذا الأسلوب -أسلوب الكلام الهادئ- الإقبال المنقطع النظير الذي لاقيته على كتبي التي أكتبها للجماهير، بالإضافة إلى ما ذكر في علم النفس من: ضرورة تحريك الجماهير بلغتهم، وقد اقتطفت من هذا الأسلوب - سواء في البيان أو القلم - ثماراً طيبةً"[22].

 المثقف والكتاب:

عُرِف عن الإمام الشيرازي دعوته وتشجيعه وتحفيزه للمثقفين والمسؤولين والقيادات الإسلامية، من أجل أن يتحملوا مسؤولياتهم في نشر العلم والثقافة في الأوساط الاجتماعية، فقد سمعنا الكثير من القصص والمواقف التي نُقلت عنه في هذا الشأن، وهذا ما يؤكد الحرص الذي يوليه سماحة السيد لجعل مسألة: (إشاعة العلم)، مسؤولية محورية ينبغي أن تكون ضمن أولويات الجميع دون استثناء، وإليك هذا النص لبيان ذلك، يقول سماحة السيد: "زارني إدريس البرزاني [أحد القيادات الكردية، توفي عام 1407هـ] في مدينة قم المقدسة، وقد تحدثنا بشكل مفصَّل حول مختلف القضايا، وقد دعوته ليكرّس جلّ اهتمامه من أجل تثقيف الشعب الكردي، لأن الحروب المستمرة التي عصفت بالشمال، وسياسة التجهيل التي استخدمتها الحكومات التي تعاقبت على العراق حالت دون تثقيفهم ومواكبتهم للحضارة.

قلت له: يجب عليكم أن تكثروا من المدارس والمعاهد وتجعلوا التعليم إلزامياً، كما يجب الإكثار من المكتبات العامة والإكثار من طباعة الكتب وتوزيعها لنشر العلوم والمعارف في الشمال، فإن الشمال مر بمحنة نتيجة سياسة التجهيل التي استخدمتها الحكومات التي توالت على العراق، فعمدوا إلى سد نوافذ العلم والمعرفة عن الشعب الكردي، وقد آن الأوان لكي ينهض هذا الشعب من سباته ويبدأ بالتهام العلوم. وقد آليت على نفسي أن أقوم بتأسيس المكتبات في أربيل والسليمانية وصلاح الدين، مكتبات تحتوي على كتب باللغة الكردية واللغة العربية، لأن هناك مجموعة كبيرة تجيد اللغة العربية"[23].

فالمثقف بناءً على ما تقدم من حديث، ينبغي له أن يتحمل مسؤوليته من أجل بث الوعي والثقافة في صفوف الجماهير، عن طريق تصديه لنشر وتوزيع الكتاب الهادف.

ولتوصيف بعض الأدوار التي ينبغي للمثقف القيام بها في هذا الشأن، سأذكر لاحقاً بعض نشاطات الإمام الشيرازي التي تُعنى بالجانب الثقافي لكونه صاحب دور ريادي وتجربة عريقة امتدت لأكثر من نصف قرن من الزمان. ولا ننسى في هذا المقام، تبيان ضرورة مشاركة أبناء المجتمع (رسمياً وشعبياً)، في إنشاء المكتبات العامة: المخصصة للقراءة والبحث والإطلاع. من أجل بث الوعي، والعمل على زيادة الحصيلة الثقافية والفكرية لدى أبناء المجتمع. ولا يُكتفى بذلك بل يلزم العمل على المساهمة في تطوير المكتبات، من أجل الترويج للكتاب، وغرس عادة القراءة، في المجتمع ما أمكن. وكذا السعي لتأسيس دور النشر: التي تُعنى بصناعة الكتاب ونشره وتسويقه. ويُفضّل تأسيس اللجان المتخصصة: التي تُعنى بطبع ونشر وتوزيع الكتب المجانية، للتأثير على أكبر عدد ممكن من الناس. وقد كان للإمام الشيرازي نصيب وافر في تأسيس مثل هذه اللجان؛ فقد طبعت إحدى اللجان التي أُسست بإشرافه في الكويت، لطباعة وتوزيع الكتب المجانية، "حوالي (60) كتاباً منها: كتاب المراجعات، في أكثر من مائة ألف نسخة في طبعات متعددة"[24].

وبما أن العلماء والمثقفين يُنظر إليهم كقدوات لأبناء المجتمع -وهم كذلك- فيلزم أن يقوموا بدورٍ فاعل لنشر الثقافة والكتاب على أعلى نطاق ممكن، ويمكن أن يمارس هذا الدور عن طريق إقامة الندوات والمحاضرات التي تركز على هذا الموضوع المهم، وأيضاً عن طريق إقامة المسابقات الثقافية المشجعة، كمسابقة أفضل عرض لكتاب، وغير ذلك من الأساليب، كقيام المثقفين من أبناء المجتمع بإعارة كتبهم لمن يطلبها؛ والعمل على إهداء ما توافر منها بالنسبة لميسوري الحال منهم؛ فزكاة العلم تعليمه لمن لا يعلمه.

جدير بالذكر أن الإمام الشيرازي كان له دور فاعل ومؤثر في تفجير النهضة الثقافية في الأمة الإسلامية -بل هو رائدها- على مختلف الأصعدة فقبل أن يهاجر من العراق -"في ظروف صعبة وبشكل سرّي وذلك لأن النظام البعثي زاد من ضغوطه وطوّق بيته وذلك تمهيداً لاغتياله أو إعدامه"[25] - أسهم إسهاماً كبيراً في الشأن الثقافي وقد يتجاوز إسهامه ونشاطه الكثير من المرجعيات الدينية والجهات الفاعلة؛ فالدارس لحركة الإمام الشيرازي، يلحظ أنه اهتم اهتماماً فائقاً بالكتاب، وللتدليل على ذلك سأشير لبعض إنجازاته ونشاطاته المطردة، في أوج نشاطه المتزايد على الساحة العراقية (1375-1391هـ). وسألمح في الصفحات القادمة لبعض نشاطاته سواءً في الكويت أو في إيران أو على مستوى العالم الإسلامي قاطبةً.

 من نشاطاته الثقافية:

(أ) المكتبات العامة: فعلى صعيد تأسيس المكتبات العامة كان للسيد الشيرازي اليد الطولى في ذلك؛ فلقد أسس حوالي أربعين مكتبة عامة إحداها مكتبة القرآن الكريم للمطالعة، ولقد كانت هذه المكتبات موزعة في المساجد والمدن والقرى[26].

(ب) دور النشر: منها (دار القرآن الحكيم)، "ولقد كانت مخصصة لنشر وبيع الكتب الإسلامية ولقد كانت لها فروع في المدن العراقية وصلت إلى سبعين فرعاً... ولقد كان طموح السيد (دام ظله) أن يمد فروعها إلى ألف فرع ولكن الظروف السياسية حالت دون هذه الأمنية"[27].

إضافةً للعديد من اللجان التي أُسست بتوجيه من السيد الشيرازي، وكان من جملة أهدافها وأدوارها طباعة الكتب التثقيفية والدينية ونشرها بين كافة الأوساط؛ كهيئة شباب التبليغ، وهيئة شباب التبليغ السيّار رقم (1)، وهيئة شباب التبليغ السيّار رقم (2)[28].

(ج) المجلات الإسلامية: بادر السيد الشيرازي وبالتعاون مع جمع من علماء ومفكري وطلاب الحوزة العلمية الكربلائية بإصدار مجموعة من المجلات نذكر منها: الأخلاق والآداب، القرآن يهدي، نداء الإسلام، صوت المبلغين، أعلام الشيعة، مبادئ الإسلام (باللغة الإنجليزية)، صوت العترة، ذكريات المعصومين، صوت الإسلام، أجوبة المسائل الدينية، منابع الثقافة الإسلامية.

مضافاً إلى مجلات ومنشورات أخرى ولجان عديدة، لا يسعني سردها هنا. ومنها: لجان التمثيل، ولجان تأليف الكتب، ولجان إرسال المبلغين، ولجان نشر الكتب المجانية!.. ولمزيد من التفصيل، ولأن هذه المقالة لا تعنى بدراسة شاملة لأبعاد العمل الإسلامي النهضوي الحركي الذي خاضه الإمام الشيرازي ولا يزال، يمكن للقارئ مطالعة كتاب (أضواء على حياة الإمام الشيرازي)، الذي شارك في إعداده جماعة من العلماء، أو كتاب (الإمام الشيرازي: فكره، منهجه ومواقفه)، للكاتب عبد الحليم محمد، وغيرهما من الكتابات والدراسات التي عنيت بدراسة أفكاره وسيرته المباركة.

 التشجيع على الكتابة والتأليف:

الإمام الشيرازي وكما تحدثنا عنه في الصفحات السابقة لم يكتفِ بتأليف الكتاب ونشره؛ وإنما قام بتشجيع الآخرين على الكتابة والتأليف أيضاً. ومن اللجان التي عمل على تأسيسها في الكويت بعد هجرته إليها عام 1391هـ، (لجنة التأليف) وكانت تهدف إلى "تربية الشباب المثقف [القادر] على التأليف ونشر الوعي الإسلامي بواسطة القلم الأدبي"[29]، وقد أنتجت اللجنة ومن شباب الكويت بالذات، وخلال فترة قصيرة عشرة كتب...[30].

ومن ثمار غرس وتشجيع الإمام الشيرازي على الكتابة، "أحدث تلامذته -الذين زادوا على الألف في العراق والكويت فقط موجة تثقيفية كبرى في العالم الإسلامي حيث كان الكثير منهم: حملة أقلام، وخطباء، وأئمة مساجد، وقيادات حركة إسلامية، ومؤسسين لمختلف المؤسسات الدينية والاجتماعية والخدماتية"[31]. "وقد تجاوزت الكتب والكتيبات التي كتبها تلامذته وتلامذة تلامذته [وزملاؤه]: الألفين وخمسمائة كتاب كتبت نتيجة تربيته وتخطيطه أو تشويقه وتحريضه"[32]، "ومن جانب آخر فإن المجلات والجرائد اليومية والنشرات والصحف الأسبوعية و... التي يصدرها أتباعه ومقلدوه في شتى أنحاء العالم قد زادت على المائة جريدة وصحيفة باللغات العربية والفارسية والأردية والإنكليزية وغيرها"[33].

فالإمام الشيرازي طالما حثّ وشجّع وحرّض على الكتابة والتأليف والنشر. يقول سماحته في تقديمه لكتاب (الصوم مدرسة الإيمان)، الصادر عام 1394هـ، وهو باكورة المؤلفات المطبوعة لسماحة العلامة الشيخ حسن الصفار -وقد كتب بتشجيع ورعاية الإمام الراحل-: "أرجو أن يكون [هذا] الكتاب فاتحة ما لا يقل عن مائة كتاب، في مختلف الجوانب الإسلامية، فان المسلمين -اليوم- في فقر مدقع من جهة الإعلام والنشر والتأليف، بينما الفئات المضادة للإسلام أخذت بهذه الأزمة، فخنقت الإسلام حتى في وطنه وبين أهله، ولذا نرى إن أكثر شباب المسلمين لا يعرفون من الإسلام إلا الاسم. فالواجب تظافر الجهود المخلصة لإنقاذهم وإنقاذ سائر المسلمين"[34].

وقد ذكر سماحته من جملة أهداف كتابته لكتابه (الكتاب من لوازم الحياة)، ما يلي: "وهذه الأوراق التي كتبتها تحمَّل مثقفينا مسئوليتهم اتجاه الكتابة، وهي تحرضهم على الكتابة وعلى طبع الكتب ونشرها وتوزيعها. وتحمَّل تجارنا مسئوليتهم اتجاه المساهمة في طباعة الكتب"[35].

ويتحدث سماحته مشجعاً على التأليف قائلاً: "وما أكثر المثقّفين القادرين على الكتابة في بلاد الإسلام سواء كان المثقّف حوزوياً أو أكاديمياً، وما أكثر المثقّفات القادرات على تأليف الكتب وإن كن أقلّ من الأوّل، فكان لا بدّ من تشجيع الطائفتين على الكتابة وتسهيل طبع الكتاب لهم... إنّ الحوزة العلميّة في قم المقدّسة وحدها -في الوقت الحاضر مع قطع النظر عن حوزات سائر البلاد- تشمل زهاء أربعين ألف طالب علم -كما يقولون- ولنفرض إنّ كلّ واحد منهم يؤلّف كتاباً لا أكثر، يصبح لدينا أربعون ألف كتاب، ولو طبع كلّ كتاب ألف نسخة يكون الحاصل أربعين مليون كتاب، أليس هذا شيئاً كثيراً؟"[36].

وقد عُرِف عن الإمام الشيرازي حثه الدائم لطلبة العلوم الدينية على لزوم التأليف؛ فهو يعُد الكتابة والتصنيف من مسؤولياتهم وواجباتهم. إضافةً لحثه عموم المثقفين على ممارسة الكتابة من أجل التغيير.

 المرأة والتأليف:

ومما يحسن ذكره هنا أن الإمام الشيرازي لم يكن غافلاً يوماً ما عن دعوته للمرأة أيضا،ً على أن تشق طريقها في مجال الكتابة والتأليف، وصناعة الفكر الهادف، بما تمتلك من أفكار وتجارب، قد يفتقر إليها الرجال عادةً؛ وذلك خدمةً منها لأهداف الأمة الإسلامية وتطلعاتها.. فالمرأة وكما هي مطالبة بتعلم العلم؛ فهي أيضاً وعلى نفس المستوى مطالبة بنشره. ويؤكد سماحة الإمام الشيرازي على أن "أولّ مؤلفة في الإسلام هي السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فلها كتاب هو مصحف فاطمة"[37]. والمرأة في المجتمع المسلم حريٌ بها أن تقتدي بسيدة النساء.

وبفضل تشجيع الإمام الشيرازي ورعايته وتوجيهه ودفعه للمرأة، رأينا بعض النتاج لنسوة من خريجي مدرسته الفكرية. وبما أن الإمام الشيرازي أثَّر على المرأة المسلمة هنا وهناك؛ فلا بد وأن يكون له تأثيرٌ على أسرته المباركة في هذا الجانب، وبالفعل فلقد تسنى للعديد من نساء أسرته فضل المشاركة في التأليف. فقرينته كانت من صاحبات القلم حيث أمدت الساحة ببعض الكتب منها (من كلمات الإمام الحسين عليه السلام)، و (من كلمات الإمام العسكري)، و (الأخلاق). وزوجة ابنه السيد محمد رضا الشيرازي كتبت (مائة قصة)، و (فاطمة الزهراء  أسوة المرأة المسلمة). ولزوجة ابنه السيد مرتضى الشيرازي كتاب (في رحاب الإمام الصادق عليه السلام)، وكتاب (روائع من حياة الإمام الكاظم عليه السلام)؛ لزوجة ابنه السيد جعفر الشيرازي. هذا علاوة على ما كتبته ابنة الإمام الشيرازي كذلك..

إن هذا الكم من التأليفات التي جاءت بها المرأة من أسرة الإمام الشيرازي، تعكس بوضوح الواقع الذي تعيشه المرأة في ظل رعايته (حفظه الله)، ومدى العناية التي يوليها للمرأة[38].

 المكتبة المنزلية:

لم يغفل الإمام الشيرازي الحديث عن الدور الذي ينبغي للأسرة أن تلعبه من أجل توفير الكتب المناسبة لأفرادها. "فمن اللازم،-كما يرى- الاهتمام بإنشاء المكتبات... الخاصّة حسب الإمكان، وأن يكون في كلّ بيت مكتبة ولو من مائتي كتاب، فإنّ المكتبة جمال بغض النظر عن إنّها مبعثٌ للعلم وإشعاعٌ للفكر... فالمفترض أن نجعل من الكتاب جزءاً من حياتنا حّتى تكون النهضة الصحيحة لبلاد الإسلام وإلاّ فالجهل لا يبعث التقدم"[39].

وفي هذا المضمار شجع الإمام الشيرازي الكثير من أبناء المجتمع الإسلامي، على إنشاء وتأسيس المكتبات المنزلية الخاصة. وقد أُسست بفضل توجيهه، حوالي مائتي مكتبة أثناء تواجده في الكويت.

ولا يخفى على أحدٍ الدور الذي تلعبه الأسرة في التأثير على شخصية الطفل، سلباً أو إيجاباً. ومن المعلوم أن المراحل الأولى التي يمر بها الطفل، هي مرحلة تقليده للناس، وهو بأسرته أحرى بالتقليد؛ فلو فتح الطفل عينه على الحياة ورأى أباه أو أمه أو أحد إخوانه محتضناً لكتاب يقرأ فيه بين الفينة والأخرى، فإن تلك الصورة لن تغيب عن الابن حتماً، وسيعمل إن عاجلاً أو آجلاً على محاكاتها.

وبما أن الأمر بهذه الكيفية؛ فلا بد أن تستشعر الأسرة مسؤوليتها وتقوم بدورها على أحسن وجه وأفضل صورة ممكنة، وذلك من خلال وضع الحوافز المادية والمعنوية، من أجل تشجيع أبنائها على القراءة واحتضان الكتاب.

ومما يساعد على تحقيق هذا المطلب، قيام الأسرة بتخصيص جزء من ميزانيتها لتعمل على إنشاء مكتبة خاصة بالطفل توفر فيها الكتب والمجلات والإصدارات الثقافية الأخرى المناسبة لمستواه؛ فليس من الصحيح إطلاقاً أن تقول الأسرة لأبنائها.. تناولوا طعام الغذاء وهو لم يعد بعد! وشيءٌ جميل ورائع للغاية، لو عملنا على مكافئة أبنائنا بكتابٍ، بدلاً من قطعة الحلوى التي اعتادوا عليها!![40].

حري بالذكر أن الإمام الشيرازي، كتب الكثير من الكتب التي يخاطب فيها البراعم المتفتحة، من قبيل (هل تعرف الصلاة؟) و (القراءة الإسلامية) و (ماهو الصوم؟).. وغيرها.

ومن الجميل أن نلمح هنا بأن الإمام الشيرازي يدعو إلى إنشاء مكتبة في كل مكان، فتحت هذا العنوان يقول سماحته: "يلزم إنشاء المكتبات الإسلامية، في كل مكان: [في] المسجد، والحسينية، والمدرسـة، والدار، والدكـان، والنادي، وحتى المواصلات وغيرها. فإنها زينة، وتوجب نشر الثقافة، وتشجع المؤلفين ووسائل التثقيف"[41].

 ولقد فعل الإمام الشيرازي ما يدعو إليه هنا بنفسه. يقول سماحته: "لقد عملنا هذا الأمر في كربلاء المقدّسة بالنسبة إلى الكشوانيات للحرمين المقدّسين وللمساجد والحسينيات ولعيادات الأطبّاء ولمكاتب المحامين وللمقاهي ولغيرها، لكنّ الحكومة منعت كلّ ذلك. نعم، فعلنا مثله في الكويت، وهي باقية إلى الآن والحمد لله، وأسأله أن يديمها وأن يزيدها"[42].

 جمع المال لطبع الكتب وتوزيعها:

أشار الإمام الشـيرازي في أماكن عديدة من كتاباته وأحاديثه لمسألة جمع المال؛ لغرض طباعة الكتب التوعوية ونشرها على مستوى العالم. فقد ورد عن المعصوم: "لولا مال خديجة وسيف علي عليه السلام لما استقام الإسلام"، هذا بالنسبة إلى المال قبل أربعة عشر قرناً، فكيف المال بالنسبة لهذا العصر، الذي أصبحت الكلمة العليا فيه للمال؟[43].

ولبيان أهمية المال والدور الذي لعبه في تقدم الإسلام والمسلمين فيما مضى يوم كان المسلمون يدفعون المال بلا منةٍ ولا بخل ولا... نشر الإمام الشيرازي كتابه (أنفقوا لكي تتقدموا)، "وهو -كما يقـول- حقيقة مائة في المائة، فـ "لولا سيف عليّ ومال خديجة لما تقدم الإسلام" ولولا بذل الأغنياء وتنظيم المال لصرفه في المصالح العليا، لم يتقدم الإسلام ولا الأغنياء من المسلمين"[44].

وفي كتاب حديثٍ له يؤكـد سماحته على أن "من اللازم جمع المـال للكتاب حتّى يؤمن الناس به ويندفعوا إلى الكتاب بأنفسهم كاندفاعهم في الحال الحاضر إلى مجالس الاحتفالات والأعراس ومجالس الفرح حيث صارت جزءاً من حياتهم"[45]. أمّا عن صفات الإنسان الذي يجمع المال ويصرف المال لأجل الكتاب فـ"يجب أن يكون نزيهاً وعند ذاك ينهال المال عليه"[46]. ويشدد الإمام الشيرازي على ضرورة تشكيل الهيئات التي تُعنى بجمع المال لأجل طبع الكتب وتوزيعها، كما أشار لذلك في وصاياه العشر، وفي العديد من كتبه الأخرى؛ فهو يدعو بأن يكون (لكل شيء منظمة)[47]، وعن الطرق الملائمة لجمع المال يمكن للقارئ مطالعة كتاب (نحو يقظةٍ إسلامية) فقد أفرد سماحته لذلك فصلاً بعنوان (أساليب جمع المال للمشاريع).

 الكتاب الصغير الحجم:

من الصور الحضارية للمجتمعات المتقدمة أو المثقفة، كثرة إقبال أفرادها بمختلف مستوياتهم العلمية والفكـرية والاجتماعية على القراءة، حتى أصبح الفرد منا يتصور بأن تلك المجتمعات مصابة بمرض نفسي نستطيع أن نطلق عليه مرض التعطش للقراءة -إن صح التعبير- وهو في الحقيقة ليس مرضاً، إنما هو حالة صحية قوتها الدافعة حب الاستطلاع والمعرفة عند الإنسان، فنجد الواحد منهم لا يبرح عن مكانه إلا وفي يده كتاب ما، مما ساعد على انتشار "كتب الجيب" بصورة كبيرة في تلك المجتمعات[48].

وقد تحدث الإمام الشيرازي عن هذه النوعية من الكتب في كتابه الصغير الحجم الموسوم بـ(الكتاب من لوازم الحياة)، وسأنقل هنا نص مقالته المطولة حرفياً لتتم الفائدة، يقول سماحته في هذا الشأن: "من خصائص الكتاب الصغير: صغر الحجم، اتساع الانتشار وسهولة المطالعة، وقلّة تكاليف الطبع، وسهولة الحمل. وربّما كان من أسرار توزيع القرآن الكريم إلى سور صغيرة هو ميل الناس إلى مطالعة القطع الصغيرة التي تنتهي بسرعة، بينما إذا كان كلّ القرآن متّصلاً على شكل قطعة واحدة لم يكن لقراءته هذا الشوق عند عامّة الناس. ثمّ إنّ للقرآن الكريم مفصّلات ومتوسّطات وصغريات أمثال سور (عمّ يتساءلون) وذلك حتّى لا يكون لأحد عذرٌ في عدم قراءته، إلى غير ذلك من الأسرار التي ذكروها. وقد دعت إسرائيل -كما في كتاب بروتوكولات حكماء صهيون- إلى ضرورة جعل الضريبة على مثل هذه الكتب لأهميّتها وخطورتها.

فهذه الكتب كـ(السندويشة) التي يسهل تناولها، فقد نقل لي أصدقاء سافروا إلى أوربا أن من عادة المجتمع الأوربي صرف أوقاتهم في المطالعة، فتجدهم وهم في القطارات أو الحدائق أو في عيادات الأطباء أو في أي مكان عام وبأيديهم كتبٌ صغيرة يطالعون فيها. فهذه الكتب لها قدرة الانطباع في ذهن الإنسان، وحتّى لو نَسِيَ ما يقرأ، إذ الإنسان يبقى في نفسه الأثر وإن نسيه، وذلك الأثر المنتقل إلى اللاوعي هو الذي يصبغ حياة الإنسان بذلك الاتّجاه. مثلاً: إذا عقدت مجلساً حسينيّاً في بيتك أو في المسجد تستطيع أن توزّع في اليوم الأخير عدداً من الكتب الصغيرة، فإنّ تكاليف طباعتها قليلةٌ بالقياس إلى الكتب الكبيرة. فإذا اعتاد أصحاب المجالس على توزيع الكتب خصوصاً في مواسم التبليغ تصبح الفائدة أكثر. وربّما غيّرت مجرى الأمم في مدّة عقد من الزمان أو أقل، وما ذلك على الله بعزيز"[49].

ولاقتناع الإمام الشيرازي بالفائدة المرجوة من خلال نشر مثل هذه النوعية من الكتب، فقد بادر سماحته بكتابة وإصدار العشرات منها، وكان بعضها يُطبع بسبع لغات حية، ككُتيب: (أفكار الشيعة)[50]، وقد كان لهذه الكتيبات التي أصدرها سماحته ثمارٌ طيبة، يقول أحد المسلمين السُنة بعد قراءته لكتيب (مَن هم الشيعة؟)، "فالشيعة إمّا هم المسلمون وحدهم أو هم أحد المذاهب الإسلامية"[51]. نعم فكُتيب واحد أحدث هذا التحول الكبير في نفس وعقلية هذا الإنسان الذي رمى الكتاب بكلّ انزعاج على الأرض، في البدء بعد أن رأى اسم (الشيعة) عليه!! ولكنه بعد أن قرأه قال ما قال.

وهناك فوائد عديدة يمكننا تحقيقها من خلال نشرنا للكتب صغيرة الحجم. ومن جملتها العمل على الترويج لعادة القراءة في الأوساط الاجتماعية الغير قارئة؛ فمن السهل أن تُقنع إنساناً بقراءة كُتيب لا تتراوح عدد صفحاته (50) صفحة. لكن، من الصعوبة بمكان أن تُقنع إنساناً لم يتعود يوماً احتضان الكتاب أن يقرأ كتاباً من (300) صفحة. أليس كذلك؟!

وفي هذا الصدد لا يسعُني إلاّ التأكيد على ضرورة وأهمية المساهمة الجادة من قبل العلماء والمثقفين من أبناء الأمة، وأولئك الحريصين على مستقبل الأجيال؛ للعمل على تأليف أكبر قدر ممكن من كتب الجيب، والكتيبات الصغيرة الحجم، على أن تستهدف مخاطبة مختلف الشرائح: العمرية، والعلمية، والاجتماعية. مع مراعـاة: العمق في المضمون، والسلاسة في الأسلوب، والجاذبية في الشكل والإخراج.

 الكتاب والرقي:

أي كتابٍ نريد؟

ولأي كتابٍ ندعو؟

تحدث الإمام الشيرازي في الكثير من كتاباته وأطروحاته -كما أسلفنا- حول ضرورة أخذ المسلمين بناصية الكتاب، إن هم أرادوا الرقي والتقدم. لكن، أي كتابٍ هذا الذي يُشير إليه سماحته ويعنيه؟

إنه بلا شكٍ يدعو المسلمين إلى (العودة إلى القرآن الكريم) وإلى تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) بدرجةٍ أولى، انطلاقاً من حديث الثقلين المروي عن الفريقين متواترا،ً والذي يقول فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً"[52]. "فإنه إذا لم يكن التمسك كان الضلال وهذا مفهوم كلمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)"[53]. ومن ثم يدعونا سماحته جميعاً للأخذ من أي كتابٍ نافعٍ كان، عملاً بالمقولة المعروفة: "خذ الحكمـة من أي وعاءٍ خرجت"!

 لماذا ندعو للعودة إلى القرآن؟

يجيب الإمام الشيرازي على سؤالنا هذا بقوله: "القرآن هو كتاب هداية لجميع الناس ﴿ هُدىً لِلنَّاسِ ﴾، فهو ليس لقومٍ دون قوم، ولا لجماعة خاصة، لا لزمانٍ معين ولا لمكان محدد.. بل هو للناس أجمعين. فالإسلام ليس كاليهودية التي حصروها بقوم خاص هم الإسرائيليون، وليس كالمسيحية التي جاءت لفترة محددة من الزمن. ثم تأتي جملة ﴿ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ (البقرة:2)، في آية أخرى لتؤكد أن المستفيد من القرآن هم جماعة واحدة، هم "المتقون"، وإن كانت قابلية الهداية موجودة لدى جميع البشر بلا استثناء. فلام "المتقين" هي للانتفاع لا للملك الخاص"[54].

فسماحته يرى أنه من اللازم "أن نرجع إلى القرآن وإلى تطبيق قانون الإسلام إذا أردنا الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك إلاّ بالوعي لمليارين من المسلمين، فإن الوعي أول التقدم... ويضيف قائلاً: القرآن الكريم يضمن هيمنة المسلمين على العالم إذا عملوا بقوانينه، قال تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ (سورة المائدة: 48)"[55].

"فالقرآن كتاب المسلم الأول، الذي يلزم سعادته في الدنيا والآخرة"[56]. "وقد رأى الجميع -كما يشير سماحته- أن الغرب لّما عمل ببعض تعاليم القرآن الكريم من: الشورى والحرية وما أشبه ذلك، تقدم ذلك التقدم الهائل، وقد قال علي (عليه السلام): "الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم" أي غير المسلمين. وإني أذكر جيداً أنه قد مضى نصف قرن تقريباً على الغرب في حالة من الاستقرار والهدوء، وذلك لعملهم ببعض أحكام القرآن، ولو عملوا بكل القرآن لكانت بلادهم جنة عدن. بينما وقع المسلمون في أكثر المشاكل وأكبرها منذ نصف قرن حيث تركوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم. قال تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾(سورة البقرة: 101)"[57].

ويقول تعالى -على لسان رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)-: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ (سورة الفرقان:30).

"هذا هو حال المسلمين اليوم، حياة تحتضر، وظـلام دامس، واضطراب وضنك، فإذا أردنا الحياة السعيدة ذات العزة والشرف والكرامة، وإذا أردنا أن يرفرف السلام فوق رؤوسنا، فلابدّ أن نعود إلى كتاب الله... لابدّ أن نقرّر العودة إلى القرآن... فمن الضروري أن نجدد عهدنا بالقرآن العملي بعد العلمي، لعلّ الله يخلصنا من هذه الهوة السحيقة التي سقطنا فيها يوم تركنا القرآن كمنهج للحياة"[58].

فالكتاب الذي نريد.. هو كتاب الله جل جلاله.والكتاب الذي ندعو إليه.. هو كتاب الله جل جلاله.﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾(سورة المائدة:15-16).فـ"الرسالة السماوية نور وكتاب، نور لأنها توقد في ضمير البشر مشعل العقل فيمشي في ظلمات الحياة بصيراً سوياً.

إن رسالات السماء تذكر الإنسان بربه، وتفتح نوافذ بصيرته على آيات الله في الكون، إنها تذكره بعقله، وتحذره من الهوى والشهوات والغضب والغفلة، وبالتالي من كل ما يسد عليه أبواب المعرفة، ويحجب عنه أنوار العقل. وإذا فُتِح عقل الإنسان، واستثيرت بصيرته، فإنه سيعرف الكثير من خفايا الحياة، سواءً تلك التي أوضحتها الرسالة السماوية وفصلتها، أم لا. بيد أن الله لا يكتفي بإعطاء البشر نوراً، بل يكمل عليهم النعمة، بأن يرسم لهم خريطة متكاملة لدروب الحياة، ويوضح لهم المسالك المهلكة، والصراط المستقيم، وذلك عبر تشريعات مفصلة، وواضحة يسميها بـ(الكتاب)"[59].

فالإنسان بغير الكتاب يبقى في الدرك الأسفل من الجهل. "ولو راجعنا تاريخ العثمانيين الذين حكموا خمسة قرون لرأينا أنهم أداروا ظهورهم للكتاب، وعلى يدهم سقطت الدولة الإسلامية في حال كان الغرب في زمانهم يسعى سعياً حثيثاً للتقدّم العلمي؛ هذا ما حدث في السابق أمّا الآن فمن الضروري الاهتمام بالكتاب النافع لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً"[60].

نعم، "إنّ من أسباب قوة المسلمين قوة الكتاب والعلماء عندهم"[61]. ثم ألم تسمع دعوة رب الأرباب لي ولك أيها القارئ العزيز عندما أمرنا جميعاً بقوله عز من قـائل: ﴿ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ (مريم: 12) فإن لم تأخذ بالكتاب وتتمسك به فلن يكون لك شأن. فالله قد ﴿ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ (العلق:4- 5)، فما عليك -أيها الإنسان- إلاّ أن تقرأ: ﴿ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾(العلق:1).. نعم، ﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ﴾ (العلق: 3). فالأكرمون في هذه الحياة الدنيا هم أولئك الذين اتجهوا نحو الكتاب وتمسكوا به، فإذا أردت الرقي -أخي العزيز- فما عليك إلاّ أن تقرأ.. وتقرأ.. وتقرأ.. لتربح الحياة الدنيا والآخرة.

 الكتاب والرقابة:

استهل الإمام الشيرازي حديثه عن الرقابة بقوله: إن "الرقابة على الكتب هي عادة الحكومات الاستعمارية والاستبدادية، وقد رأيناها في العراق منذ قيام الجمهورية في انقلاب عبد الكريم قاسم[62]  إلى هذا اليوم، حيث يمرّ أكثر من أربعين سنة وشبح الرقابة جاثم على الصدور... والهدف من الرقابة واضح فهي تريد خنق الإسلام"[63]. فبسبب الرقابة المحكمة على الكتاب، انحسر الإبداع وتقلص في الكثير من الإصدارات الثقافية والفكرية الحديثة.

فكيف يتسنى للكاتب أن يبدع في أفكاره، وأطروحاته، ومعالجاته، وهو مقيد بإشاراتٍ حمراء لا يحق له المرور عليها؛ فضلاً عن تجاوزها؟ فهو -الكاتب- يقف عند الكثير من المحطات التاريخية حائراً! لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة! فأنى له أن يتحدث عن الأحداث المعاصرة والمعاشة؟!

وكيف يُطالب البعض من الكاتب أن يُبدع في كتاباته وهو لا يأمن حتى المبيت في منـزله إن هو تحدث عن أمرٍ لا يرتضيه الحاكم؟ أو إن تحدث ناقداً لممارسة اجتماعية أو دينية يرى أنها خاطئة؟!

وكيف نطالب بالإبداع في بلدان لا تقر بشرعية الرأي الآخر؟!

ومما يؤسف له أنك لا تجد مناخاً من الحرية يؤهلك لأن تكتب ما تشاء عّما تشاء! خاصةً إن كنت تعيش في بلدٍ إسلامي!! ومن المفارقات أن مثل هذه الفرصة قد تتاح لك إن عشت في بلاد من لا يدينون بالإسلام؟ وهذه مصيبةٌ كبيرة قد ابتلينا بها!!

فالرقيب في أوطاننا يرتعش خيفةً من يقظة النائم! فهو لذلك يعمل على تكثيف حالة الجهل، وفي ذلك مصلحته الكبرى؛ لأن الخفافيش ليس باستطاعتها أن تعيش مع ضوء الحقيقة.

 حرية البيان والقلم:

فنحن والحالة هذه بحاجة لمزيد من أجواء الحرية (حرية البيان والقلم)، حتى يتسنى لنا أن نبدع فيما نقول ونكتب. أما الأدلة التي أقيمت على لزوم هذه الحرية، - كما يعددها الإمام الشيرازي - فهي الأدلة الأربعة، مثل الكتاب العزيز، حيث يقول سبحانه: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ (سورة الأعراف:157)، وإجماع علماء المسلمين وإطلاق السنة في الحرية، كقول الإمام علي (عليه السلام): "وقد جعلك الله حراً".

أما العقل فقد استدل به على حرية التعبير بوجوه:

(1) لو لم يكن البيان والطبع حراً، لم تطلع الحكومة على مواضع النقص فيها، كما لم تطلع على احتياجات المجتمع، مع لزوم رفع الحكومة لمواضع النقص، وإعطائها الاحتياجات، فاللازم على الأفراد أن يكونوا أحراراً في كل ما يقولون، وفي كل ما يكتبون، بحيث لا يخافون من مطاردة السلطة لهم، وحينذاك يقولون ويكتبون فتطلع الحكومة على الحاجات والنقائص، وفي الحديث: "خير الإخوان من أهدى إلي عيوبي".

(2) إذا لم يكن البيان والطبع حراً، لم يتربَ الناس تربية سياسية، لأن التربية السياسية إنما تتولد من المناقشة وبيان الفضائل والرذائل، والحسن والقبيح، فينظر الناس إلى الأقوال المتضاربة والآراء المختلفة، ويختاروا الحسن ويتركوا القبيح...

(3) إذا لم يكن البيان والطبع حراً، بأن صار الكبت والإرهاب حول ذلك، أوجب الانفجار، إذ الناس جبلوا على مقاومة الكبت، كما جبلوا على التحقيق والتعمق في الأمور الممنوعة، وفي المثل: "الضغط يوجب الانفجار"، كما أن الكفاءات تظهر في جو الاحتكاك، لأن الغالب كون الإنسان يسمو بنفسه عن النقد، وفي الحديث: "من أصلح فاسده أرم حاسده".

(4) عدم حرية البيان والطبع يؤدي إلى ديكتاتورية الحكام، إذ المعارضة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي التي تقف دون سير الحاكم في طريقه الذي تمليه عليه أهواؤه وشهواته، وحتى إذا كان عادلاً في نفسه، إذ كل حزب بما لديهم فرحون، وفي الحديث: "لن تقدس أمة لا يؤخذ من قويها حق ضعيفها غير متمتع".

أما حدود هذه الحرية؟ فاللازم أن تحد بما لا يوجب ضرراً على الغير، ولا كذباً، سواء كان الغير فرداً، أو مجتمعاً لأنها تعد (تجاوزاً) وليست حرية، ويكون حالها، حال القتل والسرقة وانتهاك الأعراض...[64].

وعلى أيّ حال فالإمام الشيرازي يرى بأن: "الأصل في الأشياء الإباحة إلاّ إذا ظهر انحرافه لا العكس، كما إنّ الأصل هو حرّية الإنسان في سَيره، وإذا ظهر إنّه لصّ، فهل يمنع التجوّل لوجود بعض اللصوص؟ وكذلك بالنسبة إلى الكتب والمجلاّت وما أشبه إلاّ إذا كانت مفسدة، هذا بالنظر الشرعي أمّا بنظر القانون الغربي والعرف الغربي فالكتاب والمجلّة والجريدة هم من ضروريات الحياة التي لا يمكن لأية قوّة من منعها.

فالمهم إلغاء الرقابة، وذلك لا يكون إلاّ بأن تتسلّح الأمّة بالوعي الكامل حتّى تستطيع أن تواجه الانحراف"[65].

"ويبلغ الإمام الشيرازي الذروة في تقييم حرية الفكر عندما يقرر بجرأة أن حرية القلم والبيان غير خاضعة لحدود أو قيود. نعم، حدودها وقيودها وعدمها يكمن في الضرر.. أي أن الحدود هنا ذات طابع سلبي، فهي عندما تتحول إلى حالة من السلب يجب أن تتوقف، ولكن من الذي يقرر (الضرر) الداعي إلى الكف والمنع؟!

يجيب الإمام الشيرازي بما يلي: "إن النافع والضار أمران عرفيان كسائر المواضيع العرفية..."[66]. "وفي الواقع هذه لفتة بارعة في الجمع بين الحرية والعرف... ونعتقد أن اهتمام الإمام الشيرازي بحرية البيان أكثر من اهتمامه بغيرها [كالحرية الاجتماعية، أو الحرية السياسية، أو الحرية الاقتصادية] يعود إلى أهمية هذه الحرية في صياغة الإنسان، وفي ترشيد مسيرة الحكم الصالح. إن الذي لا ريب فيه هو أن حرية الفكر أو البيان منطلق تنظيري لكل ألوان الحريات الأخرى، ولذا تخاف الأنظمة الاستبدادية من الحرية الفكرية أكثر من أي لون من ألوان الحرية الأخرى. فالمجتمع من خلال حرية الفكر ينطلق في مسارات رائدة من الحياة على كافة الأصعدة... فالحرية الفكرية أولاً"[67].

ثم "إن وجود الحرية في بعض فترات التاريخ الإسلامي -كما كان في عهد الإمام علي  مثلاً- قد أدى إلى ازدهار العلوم والثقافة، وامتلاء المكتبة الإسلامية بالذخائر الثقافية المختلفة... مما ساهم في تقدم البشرية خطوات كبيرة على طريق البناء الحضاري، وقد كان ذلك التقدم العلمي أساساً في إقامة النهضة الأوربية الحديثة"[68].

فقد "كان الخلفاء أنفسهم يتحمسون للكتاب ويهتمون به، إذ أنهم يشجعون العلماء على ممارسة العلوم ويحضّون الكتّاب على كتابة مؤلفاتهم. وكان هؤلاء أيضاً يشجعون كثيراً على جمع ودراسة مؤلفات الكتّاب اليونانيين القدماء. وهكذا فقد شاركت أعداد كبيرة من الناسخين والمترجمين والمزخرفين والمثقفين في إنتاج الكتاب، وفي ترجمة وتفسير النصوص المختلفة. وقد كان من الأهمية بمكان ما قام به هؤلاء من محاولات لجمع مؤلفات الكتّاب اليونانيين القدماء، حيث وصل إلينا عدد كبير من هذه المؤلفات بفضل الترجمات السورية وبفضل الترجمات الأخرى التي جرت في نهاية العصر القديم والعصر الوسيط. إلا أن بغداد لم تكن تجمع فقط مؤلفات الكتاب اليونانيين القدماء بل كان يصل إليها أيضاً مؤلفات الكتاب من البلدان المجاورة كالهند وغيرها"[69].

 ثلاثة مليارات من الكتب:

هذه الأطروحة هي من آخر أطروحات الإمام الشيرازي المختصة بشأن الكتاب، وقد نَظَّر لها في بعض إصداراته الأخيرة؛ ككتاب (مطاردة قرنٍ ونصف). وكللها أخيراً بكتيبٍ له يحمل نفس عنوان الفكرة؛ وهو (ثلاثة مليارات من الكتب)، يدعو فيه المسلمين لنشر هذا العدد، وذلك للأسباب التالية:

1- توعية المسلمين.

2- الرد على الاعتداءات الفكرية.

3- عرض الإسلام بصورته الصحيحة.

 و(ثلاثة مليارات من الكتب) كما يقول الإمام الشيرازي، هي حيلة العاجز وأقل الإيمان لمن يريد إنقاذ المسلمين من هذا السقوط الذي لا مثيل له في تاريخ الإسلام الطويل، وإلا فالوسائل الحديثة من الآلات السمعية والبصرية والصحف والمجلات والانترنيت والأقمار وما إليها، كلها وسائل العصر للثقافة والإعلام ومن الضروري الاستفادة منها، ولكن:

إذا لم تجـد غير الأسنة مركباً    فما حيلة المضطر إلا ركوبها[70]

 مواضيع هذه الكتب:

يتحدث الإمام الشيرازي عن ذلك قائلاً: إن ما نواجهه في الوضع الحالي من المشاكل يُلزمنا أن نهتم بالكتابة في مواضيع ثلاثة، لما تحتل من مكانة خاصة، ونجعل لكل موضوع ملياراً من الكتب، وهي ما يلي:

(أ) توعية المسلمين:

من اللازم طبع ونشر ما لا يقل من مليار كتاب لتوعية وتفهيم المسلمين ما هو الإسلام؟ وكيف يمكن تطبيقه في الحال الحاضر؟ وهذا أضعف الإيمان، حيث أن المسلمين ملياران حسب الإحصاءات الأخيرة، فإذا طبع مليار، كان معنى ذلك إعطاء كل فردين كتاباً واحداً.

(ب) الرد على الاعتداءات الفكرية:

كما يلزم أن تقوم بعض المؤسسات الدينية بطبع ونشر ما لا يقل عن مليار كتاب لرد الاعتداءات التي توجه ضد المسلمين فكرياً بسبب الكتب ومختلف وسائل الإعلام، فقد شوهوا سمعة الإسلام والمسلمين واخذوا يحرّفون التعاليم الإسلامية، ولكن القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة وعترته الطاهرة (عليهم السلام) هي الأساس في معرفة الإسلام.

(ج) صورة الإسلام الصحيحة:

والقسم الثالث من الكتب التي يجب أن تطبع وتنشر بقدر مليار، هي الكتب التي تعرف الإسلام الحقيقي للغرب، حتى لا يتصوروا -كما يتصورون الآن- أن المسلمين قتلة متوحشـون فيجب إفناؤهم، حسب ما هو انطباعهم عن الحكومات الأموية والعباسية والعثمانية ومن إليهم، وتطبع هذه الكتب على مختلف المستويات وبمختلف اللغات من الإنكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات الحية في عالم اليوم[71].

ولتحقيق هذا المطلب يتحدث الإمام الشيرازي قائلاً: "إننا بحاجة إلى ثلاثمائة دار طبع واسعة في مختلف البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، لتطبع وتنشر كل دار عشرة ملايين كتاب، بمختلف اللغات العالمية والمحلية، وفي خلال ثلاث سنوات، حتى تنشر: ثلاثة مليارات من الكتب التي تبين للمسلمين ما هو الإسلام التقدمي الذي يواكب كل عصر وزمان، والذي (يعلو ولا يعلى عليه)؟، كما قاله الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) فهذه الكتب هي التي تبني الأمم والأجيال، فتسمو بها على سائر الأمم، قال تعـالى: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون).

وقال نبي المسلمين تقــدموا    وأحب إلينا أن نكون المقدما"[72]

كما يدعو سماحته إلى ضرورة تأسيس "منظمة إعلامية عالمية، همها الأول حمل هذه الفكرة ونشرها، كما يجب على هذه المنظمة استيعاب كل المنظمات والأحزاب الموجودة الآن، إذ بدون هذه المنظمة العالمية الحاملة للأمانة لا يمكن إيصال الصوت -بالشكل المطلوب- إلى العالم"[73].

ومن الضرورة بمكان أن "تقوم هذه المنظمة بإعداد ما لا يقل عن مائة شخص من المثقفين دينياً ودنيوياً على المستوى اللائق وتجعلهم متفرغين لذلك لأجل أن يسافروا إلى مختلف البلاد الإسلامية وغير الإسلامية لأداء الرسالة وجمع الكلمة ورأب الصدع"[74]. "ويجب أن يتصف هؤلاء جميعاً باللاعنف... والهمة الرفيعة... وشرح الصدر"[75].

 الكتاب ليس بديلاً عن العمل:

مع غزارة مؤلفات الإمام الشيرازي وتنوعها، ومع دعواته المستمرة والمتكررة للكتابة والنشر؛ إلاّ أنه لا يعول على التأليف ونشر الكتاب لوحده كممارسة كفيلة للعمل على إنقاذ الأمة مما هي فيه. فهو (حفظه الله) يدعو المسلمين أينما كانوا للعمل في مختلف الجوانب والحقول، وذلك عبر تأسيس الهيئات واللجان عملاً بمقولة أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) والتي يقول فيه "ونظم أمركم"، ومقولته الأخرى الخالدة ونصها "الله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم"، ومن أراد التفصيل فليراجع كتاب سماحته المعنون بـ (نحو يقظةٍ إسلامية) المُصنف عام 1392هـ والذي أقترح فيه تأسيس ما يعادل (150) منظمة وهيئة رأى كونها (مرشداً متواضعاً، للخلاص إذا طبقت في الحياة العملية)، وعد منها (منظمة نشر الكتب والنشرات).

ولا بأس بذكر القصة التالية، التي سيتضح من خلالها كيف أن الإمام الشيرازي لا يرى أن تأليف الكتاب ونشره يعد بديلاً عن العمل. يقول سماحته في هذا الشأن: "وقد رأيت إنساناً في اضطرابات العراق أيام الشيوعيين وقلت له ألا تعمل؟ فقال: إني أديت رسالتي، ولما تحققت عن ذلك تبين أنه قد ألف كتاباً من مائة صفحة في شأن من الشؤون الهامشية فتصور أنه قد أدى رسالته بهذا الكتاب الصغير الهامشي بينما كان من اللازم عليه أن يؤدي خدمة كبيرة لما كان يتمتع به من مكانة اجتماعية رفيعة"[76].

نعم، فالتأليف كما عده الإمام الشيرازي يعد مفردة واحدة فقط من عشرات المفردات التي ينبغي لعلماء الدين ومثقفي الأمة القادرين القيام بها.

"وعليه فاللازم على من يريد ممارسة التغيير عدم هدر الطاقات وعدم تشتيتها وعدم الاكتفاء ببعضها [كالتأليف ونشر الكتاب] وعدم الانحراف في توجيهها وإنما يلزم تفجير كل الطاقات والإمكانات في الوجهة الصحيحة، وذلك ليس بالشيء الهين بل هو بحاجة إلى كثير من العلم وكثير من التواضع وكثير من البحث حتى يظهر الحق كما أنه بحاجة إلى كثير من التعب والنصب، حتى يتمكن الإنسان من الوصول إلى الهدف المنشود"[77].

 توصيات:

لم يبقَ لي إلاَّ التأكيد على جملةٍ من التوصيات، وهي:

1- ضرورة قيام المهتمين بشأن الكتاب، وخاصةً الحوزات العلمية، والمراكز الإسلامية، ودور النشر؛ بتبني فكرة عمل مكتبات خاصة بمؤلفات الإمام الشيرازي -أو إفراد قاعة محددة في بعض المكتبات المتوافرة- تجمع فيها جميع كتبه سواء كانت مطبوعة أو مخطوطة، ليتسنى للجميع الإطلاع عليها بسهولة ويسر. ولعلّ "مكتبة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)"، التي أنشأها سماحته في الكويت، -كمثال- تتسع لأفراد قاعة خاصة لهذا الغرض.

2- عقد المؤتمرات والندوات المتخصصة لدراسة أفكاره ونظرياته -التي سبق بطرحها الكثير من المرجعيات الإسلامية- وتحليلها بطريقة موضوعية، بعيداً عن المنهجية الاحتفائية والمدائحية.

3- المسارعة في طباعة كتبه المخطوطة، لا سيما العناوين المتميزة منها، ككتاب: (الفقه: السلام)...إلخ.

4- إعادة طباعة موسوعته الفقهية البالغة (150) مجلداً كدورة كاملة، وإرسالها للمكتبات العالمية الهامة.

أخيراً أقول: إن القيام بما ذكر من توصيات يُعد تكريماً للإبداع، ومحاولةً لإبراز علوم عَلَمٍ من أعلام الشيعة الكبار -الذين لا يتكررون- ومفخرة من مفاخر المسلمين والإنسانية.

..................................

المصادر:

[1]  صدر الكتاب في طبعته الأولى، عن دار الخليج العربي، في بيروت، عام 1421هـ. وهذه الدراسة الحالية مستلة من كتابي: هكذا ربانا الإمام الشيرازي، ط2، (الكويت: هيئة محمد الأمين، 1424هـ)، وسبق أن نشرتها في مجلة النبأ البيروتية.

[2]  صدرت الطبعة الثانية من الكتاب عن هيئة محمد الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم)، في رحيل الإمام الشيرازي بأسابيع.

[3]  نابغة الدهر، كلمة أطلقها الفيلسوف، آية الله السيد إبراهيم الزنجاني، على الإمام الشيرازي في كتاب له اطلعت عليه قديماً. كما وصفه بها البعض من العلماء.

[4]  إياد موسى محمود. دراسات في فكر الإمام الشيرازي.ط1، (الكويت: مكتبة جنان الغدير، 1420هـ). ص 12- 13. ومما يجدر الإشارة إليه هنا أن الدكتور (إياد) وهو أستاذ لعلم الاجتماع بجامعة سسكس في لندن، قد أثبت في مؤلفه هذا الذي جاء في 477 صفحة، بأن علماء الغرب قد تأثروا بفكر وكتابات الإمام الشيرازي، وأخذوا منها ما يناسبهم من أفكاره وأطروحاته.

[5]  الشيرازي، السيد محمد. الكتاب من لوازم الحياة.ط1، (بيروت: مؤسسة الوعي الإسلامي، 1420هـ). ص 11-12.

[6]  نفس المصدر، ص 11.

[7]  نفس المصدر، ص 11.

[8]  حسن الصفار. الصوم مدرسة الإيمان. ط1، (بيروت: دار التراث الإسلامي، 1393هـ). ص7-8. من تقديم الإمام الشيرازي للكتاب.

[9]  فردريك معتوق. "الشباب الجامعي والكتاب في العالم العربي". استطلاع للرأي قامت به (جريدة الحياة) في لبنان والسعودية ومصر والكويت وسورية (4 من 4) ع 12523 (صفر 1418هـ) ص 20.

[10]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة، ص 16.

[11]  السيد محمد الشيرازي. الوصول إلى حكومة واحدة إسلامية. ط1، (بيروت: دار النخيل، 1416هـ)، تعليق الناشر. ص 20.

[12]  توفيق السيف. هوامش نقدية على واقعنا الثقافي. ط1، (بيروت: دار الكنوز الأدبية، 1996م). ص 110.

[13]  جودت سعيد. اقرأ وربك الأكرم. (دمشق: د.ن، 1408هـ)، ص 26.

[14]  نفس المصدر. ص 31.

[15]  حسن آل حمادة. أمة اقرأ... لا تقرأ: خطة عملٍ لترويج عادة القراءة. ط1، (السعودية: دار الراوي، 1417هـ)، ص 11.

[16]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة. ص 12-13.

[17]  السيد محمد الشيرازي. ثلاثة مليارات من الكتب، (د.ص). الاقتباس من هذا الكتاب تم عن موقع الإمام الشيرازي على الإنترنت لذا لم توضع أرقام الصفحات -وإنما استعضنا عنها برمز (د.ص) أي دون صفحة- وسنتبع نفس الطريقة عندما نقتبس معلومات أخر من كتبه المتاحة على شبكة الإنترنت.

[18]  السيد محمد الشيرازي. الأفلام المفسدة في الأقمار الصناعية: وقاية وعلاجاً. ط1، (بيروت: مؤسسة الوعي الإسلامي، 1415هـ). ص 6- 7.

[19]  عبد الحسين مغنية (إعداد). تجارب الشيخ محمد جواد مغنية بقلمه... وبأقلام الآخرين.ط1، (بيروت: دار الجواد، 1400هـ)، ص 126.

[20]  الإمام الشيرازي نادرة التاريخ في التأليف. مطوية بمؤلفات السيد الشيرازي، أعدها مركز الرسول الأعظم  للتحقيق والنشر - بيروت، 1419هـ.

[21]  السيد محمد الشيرازي. كيف عَرِفت الله..؟ ط1، (بيروت: مؤسسة الوفاء، 1404هـ). ص 7-8. علماً بأن الكتاب جاء في 243صفحة.

[22]  السيد محمد الشيرازي. أنفقوا لكي تتقدموا. ص 137-138.

[23]  السيد محمد الشيرازي. تلك الأيام: صفحات من تاريخ العراق السياسي. ط1، (بيروت: مؤسسة الوعي الإسلامي، 1420هـ)، ص251-252.

[24] جماعة من العلماء. أضواء على حياة الإمام الشيرازي.ط1، (بيروت: دار المنهل، 1413هـ). ص 66-67.

[25]  نفس المصدر. ص 63.

[26]  نفس المصدر. ص 39.

[27]  نفس المصدر. ص 39.

[28]  نفس المصدر. ص 44-45.

[29]  جماعة من العلماء. أضواء على حياة الإمام الشيرازي. ص 68.

([30] ) محمد نديم الطائي. أيام في الكويت.ط 1، (الكويت: مكتبة الرسول الأعظم، 1393هـ).. ص 15.

[31]  جماعة من العلماء. أضواء على حياة الإمام الشيرازي. ص 30.

[32]  نفس المصدر. ص 78.

[33]  نفس المصدر. ص 87.

[34]  حسن الصفار. الصوم مدرسة الإيمان. ص 7-8. جدير بالذكر أن مؤلفات الشيخ تجاوزت الخمسين، بعد هذا الكرَّاس الذي كتب برعاية الإمام الشيرازي.

[35]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة. ص 14.

[36]  نفس المصدر. ص 44-45.

[37]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة، ص 44...كما يؤكد سماحته أيضاً على أن أول مؤلف في الإسلام هو الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام فقد ألّف كتاباً يسمى بكتاب علي  أو (الجامعة). نفس المصدر والصفحة.

[38] حيدر البصري. "المرأة في فكر الإمام الشيرازي ورعايته". مجلة الكلمة الطيبة. (ضمن موقع الإمام الشيرازي على الإنترنت (www.alshirazi.com) زاوية مقالات. ع2 (جمادى الأولى 1421هـ).

[39]  نفس المصدر. ص 53.

[40]  حسن آل حمادة. أمة اقرأ... لا تقرأ: خطة عملٍ لترويج عادة القراءة. ص33-35.

[41]  السيد محمد الشيرازي. إلى نهضة إسلامية ثقافية. ط1، من موقع الإمام الشيرازي على الإنترنت.

[42]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة. ص 53.

[43]  السيد محمد الشيرازي. نحو يقظةٍ إسلامية. ط1، (بيروت: دار العلوم، 1407هـ)، ص 123.

[44]  السيد محمد الشيرازي. أنفقوا لكي تتقدموا. ص 6

[45]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة. ص 38.

[46]  نفس المصدر. ص 39.

[47]  السيد محمد الشيرازي. نحو يقظةٍ إسلامية. ص 52- 54.

[48]  حسن آل حمادة. أمة اقرأ... لا تقرأ: خطة عمل لترويج عادة القراءة، ص 15.

[49]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة. ص 34- 35.

[50]  يقول الإمام الشيرازي في مقدمته لهذا الكتاب المنشور عام (1393هـ)، ما يلي:"منذ إحدى عشرة سنة ونحن نصدر كل سنة بياناً يعنى بتعريف الشيعة على من جهلهم لتخفيف حدة التوتر بين الطوائف الإسلامية وإيقاف التراشق بالتهم التي يزرعها فيما بينهم ولا يجني ثمارها سوى الأعداء. وبما أن الله جعل موسم الحج مؤتمراً عاماً للمسلمين حتى يتنادوا إليه من أطراف الدنيا ليشهدوا منافع لهم، وجدنا أنه أفضل مجمع لتوزيع هذا البيان بلغات متنوعة من أجل إعطاء صورة عامة عن أفكار الشيعة في مختلف المجالات مساهمة منا في جمع كلمة المسلمين على التقوى، والله سبحانه هو المسؤول أن يوفق الجميع لما فيه خيرهم ورضاه وهو الموفق والمستعان". ص 2- 3.

[51]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة. ص 18.

[52]  السيد محمد الشيرازي. متى جُمع القرآن؟ ط1، (الكويت: لجنة الإمام المهدي، 1420هـ)، ص 20.

[53]  السيد محمد الشيرازي. الفقه: العقائد، ط1، (بيروت:مؤسسة الإمامة، دار العلوم، 1421هـ)، ص 210.

[54]  السيد محمد الشيرازي. شهر رمضان شهر البناء والتقدم، ط1، (بيروت: مؤسسة الوعي الإسلامي، 1415هـ)، ص7.

[55]  السيد محمد الشيرازي. لماذا يحاربون القرآن. ط1، (بيروت: مؤسسة الرسول الأعظم،، 1419هـ)، ص42- 43.

[56]  السيد محمد الشيرازي. إلى الوكلاء في البلاد. الفصل الثاني، عن موقعه على الإنترنت.

[57]  نفس المصدر. ص 11.

[58]  السيد محمد الشيرازي. شهر رمضان شهر البناء والتقدم، ص 31- 32.

[59]  السيد محمد تقي المدرسي. من هدى القرآن. مج2.ط2، (بيروت: دار البيان العربي، 1407هـ)، ص 335.

[60]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة. ص 16.

[61]  نفس المصدر. ص 12.

[62]  كان ذلك في السادس والعشرين من ذي الحجة سنة 1377هـ (الرابع عشر من تموز 1958م).

[63]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة. ص 26- 27.

[64]  السيد محمد الشيرازي. الفقه: السياسة. مج2. ص 221- 222. وللتفصيل عن حدود حرية البيان والقلم، وعن كتب الضلال، يمكن مراجعة الصفحات: 222- 225، من نفس الكتاب.

[65]  السيد محمد الشيرازي. الكتاب من لوازم الحياة، ص 29.

[66]  محمد غالب أيوب. ملامح النظريَّة السياسية في فكر الإمام الشيرازي.ط1، (بيروت: دار المنهل، 1411هـ)، ص29- 30.

[67]  نفس المصدر. ص 30- 31.

[68]  عبد الله اليوسف. شرعية الاختلاف: دراسة منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي، ط1، (بيروت: دار الصفوة، 1417هـ)، ص 34.

[69]  الكسندر ستيبتشفيتش. ترجمة: محمد م. الأرناؤوط. تاريخ الكتاب. القسم الأول. ط1، سلسلة عالم المعرفة: 169. (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1413هـ)، ص 238- 239.

[70]  السيد محمد الشيرازي. ثلاثة مليارات من الكتب، من موقعه على الإنترنت.

[71]  نفس المصدر.

[72]  نفس المصدر.

[73]  نفس المصدر.

[74]  نفس المصدر.

[75]  نفس المصدر.

[76]  السيد محمد الشيرازي. ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين. ط1، (بيروت: د.م، د.ن، 1412هـ)، ص 77.

[77]  نفس المصدر. ص 119.

شبكة النبأ المعلوماتية- الجمعة 19 تشرين الاول/2007 -7/شوال/1428

اتصبو بنا

ملف المناسبة

الصفحة الرئيسية

 

 أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 6

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1428هـ  /  1999- 2007م

[email protected]